صيد الكزبرة البرية

من يفتح البراد في مطبخ بيتنا ، لن يجد تفسيراً واضحاً لكمية ” الكزبرة” الموجودة فيه ، ولا للطرق المبتكرة التي تفعلها زوجتي للحفاظ على نضارة ” باقة الكزبرة” لأقصى مدة ممكنة .

تعترف زوجتي أن الكزبرة لم تكن ضيفاً دائماً على مائدة أهلها ، وأنها تعلمتْ التعامل معها منذ فترة قريبة عندما وجدتُ هذه الثروة في محل عربي لبيع الخضروات والفواكه .

تعرف زوجتي أنها ستجد ” باقتين كزبرة” على الأقل بين الأكياس في كل مرة تطلب مني أن أُحضر أي شيء من عند ذاك المحل ، و لم تتذمر يوماً ، و أعرف أنها تقضي وقتاً لا بأس به كل يوم ، في فرز الأوراق الصفر عن الخُضْر في الباقات المتراكمة في البراد.

السرّ في الرائحة والطعم ، فأنا أملك ذكريات مع ” الكزبرة ” / الكسبرة/ أكثر لذة و سعادة مما أملكه مع كثير من الأشخاص ، أنا الطفل والمراهق والشاب الذي كان ينتظر شهر نيسان ليذهب لجَنيِ أكياس من هذا النبات السحري ” الكزبرة البرية” ، وأعود بفخر كبير إلى البيت كمنتصرٍ عاد بميدالية ، خصوصاً عندما أرى أخوتي وأهلي يصنعون ” عرائس اللبن والكزبرة” و يأكلونها كوجبة لا تُضاهيها وجبة .

حسب ذاكرتي ، أظن أن المرة الأولى التي خرجتُ فيها من القرية إلى السهول البعيدة المجاورة ل ” صيد الكزبرة البرية” كان في يوم أول مناولتي في الصف الرابع لأني أردتُ أن أقدمها هدية ثمينة للزوار القادمين من دمشق ، هؤلاء الذين يعرفون أكثر من غيرهم ما الذي يعنيه ” كمشةٌ” من الكزبرة البرية .

نعم ، كان الأمر كالصيد ، فليس كل من خرج لجني الكزبرة يعود منتصراً ، فللصيد هنا مهارة خاصة لأن هذه النبتة لا تنبت أينما اتفق ، بل في أرض لها صفاتها الخاصة حيث تكون في أغلب الأحيان أرضاً لم تُستَخدم السنة الفائتة ، وهي عادة أرضٌ بعيدة عن القرية .

كنت أرفض أن أعود خالي الوفاض و قد يستمر البحث لنهار كامل .
ما زلت أعيش للآن تلك اللحظة التي وقعتُ فيها على ” شقفة أرض بعيدة” كانت أملي الأخير قبل أن أرفع راية الاستسلام و أعود مهزوماً ، كيف استلقيتُ من تعبي على التراب الأحمر فوق حديقة كاملة من الكزبرة البرية ، وكيف قطعتُ رؤوس بعضها الذي بدأ بالنضج و صرتُ أشمّه كمن يشمّ أجمل العطور ، كنت حينها سيد العالم .

آخر مرة أكلت فيها الكزبرة البرية كانت منذ أربع أو خمس سنوات ، مفاجأة حضرتها لي خالتي أم حنا في قريتي بصير .

أما تلك الكزبرة البرية التي تُباع في أحياء دمشق ، فلم تكن بالفعل برية لأن طعمها لم يكن بتلك ” الحدية” التي تُفرِح القلب .

لا تعترض زوجتي أبداً على سلوكي ” التعويضي ” الذي يملأ البيت ب ” شبه كزبرة” فرنسية ، بل بالعكس صارت تذكرني بها و قد تستعملها مرات لتنقذني من نوبة حنين عارمة .

في الغربة ، أصير هشاً جداً ، فأنا وكما أظن ، ما زلت طفلاً صغيراً لم يثيره بعد أكثر من مشوار لصيد الكزبرة البرية ، ذاك المشوار الذي صنع في شخصيتي الكثير وأعطاني وأكثر من أي شيء آخر .. إحساساً حقيقياً بالبطولة .

د.رفيف المهنا

‏صيد الكزبرة البرية</p>
<p>من يفتح البراد في مطبخ بيتنا ، لن يجد تفسيراً واضحاً لكمية " الكزبرة" الموجودة فيه ، ولا للطرق المبتكرة التي تفعلها زوجتي للحفاظ على نضارة " باقة الكزبرة" لأقصى مدة ممكنة .</p>
<p>تعترف زوجتي أن الكزبرة لم تكن ضيفاً دائماً على مائدة أهلها ، وأنها تعلمتْ التعامل معها منذ فترة قريبة عندما وجدتُ هذه الثروة في محل عربي لبيع الخضروات والفواكه .</p>
<p>تعرف زوجتي أنها ستجد " باقتين كزبرة" على الأقل بين الأكياس في كل مرة تطلب مني أن أُحضر أي شيء من عند ذاك المحل ، و لم تتذمر يوماً ، و أعرف أنها تقضي وقتاً لا بأس به كل يوم ، في فرز الأوراق الصفر عن الخُضْر في الباقات المتراكمة في البراد.</p>
<p>السرّ في الرائحة والطعم ، فأنا أملك ذكريات مع " الكزبرة " / الكسبرة/ أكثر لذة و سعادة مما أملكه مع كثير من الأشخاص ، أنا الطفل والمراهق والشاب الذي كان ينتظر شهر نيسان ليذهب لجَنيِ أكياس من هذا النبات السحري " الكزبرة البرية" ، وأعود بفخر كبير إلى البيت كمنتصرٍ عاد بميدالية ، خصوصاً عندما أرى أخوتي وأهلي يصنعون " عرائس اللبن والكزبرة" و يأكلونها كوجبة لا تُضاهيها وجبة .</p>
<p>حسب ذاكرتي ، أظن أن المرة الأولى التي خرجتُ فيها من القرية إلى السهول البعيدة المجاورة ل " صيد الكزبرة البرية" كان في يوم أول مناولتي في الصف الرابع لأني أردتُ أن أقدمها هدية ثمينة للزوار القادمين من دمشق ، هؤلاء الذين يعرفون أكثر من غيرهم ما الذي يعنيه " كمشةٌ" من الكزبرة البرية .</p>
<p>نعم ، كان الأمر كالصيد ، فليس كل من خرج لجني الكزبرة يعود منتصراً ، فللصيد هنا مهارة خاصة لأن هذه النبتة لا تنبت أينما اتفق ، بل في أرض لها صفاتها الخاصة حيث تكون في أغلب الأحيان أرضاً لم تُستَخدم السنة الفائتة ، وهي عادة أرضٌ بعيدة عن القرية .</p>
<p>كنت أرفض أن أعود خالي الوفاض و قد يستمر البحث لنهار كامل .<br />
ما زلت أعيش للآن تلك اللحظة التي وقعتُ فيها على " شقفة أرض بعيدة" كانت أملي الأخير قبل أن أرفع راية الاستسلام و أعود مهزوماً ، كيف استلقيتُ من تعبي على التراب الأحمر فوق حديقة كاملة من الكزبرة البرية ، وكيف قطعتُ رؤوس بعضها الذي بدأ بالنضج و صرتُ أشمّه كمن يشمّ أجمل العطور ، كنت حينها سيد العالم .</p>
<p>آخر مرة أكلت فيها الكزبرة البرية كانت منذ أربع أو خمس سنوات ، مفاجأة حضرتها لي خالتي أم حنا في قريتي بصير .</p>
<p>أما تلك الكزبرة البرية التي تُباع في أحياء دمشق ، فلم تكن بالفعل برية لأن طعمها لم يكن بتلك " الحدية" التي تُفرِح القلب .</p>
<p>لا تعترض زوجتي أبداً على سلوكي " التعويضي " الذي يملأ البيت ب " شبه كزبرة" فرنسية ، بل بالعكس صارت تذكرني بها و قد تستعملها مرات لتنقذني من نوبة حنين عارمة .</p>
<p>في الغربة ، أصير هشاً جداً ، فأنا وكما أظن ، ما زلت طفلاً صغيراً لم يثيره بعد أكثر من مشوار لصيد الكزبرة البرية ، ذاك المشوار الذي صنع في شخصيتي الكثير وأعطاني وأكثر من أي شيء آخر .. إحساساً حقيقياً بالبطولة .</p>
<p>د.رفيف المهنا‏

من almooftah

اترك تعليقاً