أبو العلاء المعري

 

مقدمة

حكيم الشعراء وشاعر الحكماء، شاعر عباسي لم يقل الشعر كاسباً، ولا مدح أحداً راغباً، وهو مع علو كعبه في الشعر كان ملماً باللغة متبحراً في فنونها واشتقاقاتها والنحو. درس الأدب والتاريخ والفقه والأديان وصاغها في أدبه وشعره ورسائله وأفكاره، وامتاز عن باقي الشعراء بالقصد المبهم واللفظ الغامض وبفلسفته ودخوله إلى أعماق الأمور بوجهات نظر غريبة عن العوام في زمنه، فهو قامة فكرية عالج الدنيا بحكمته، وشاعر مارس هذه الحكمة قولاً وسلوكاً.

 

اتهم بالزندقة وقيل إنه كافر، لكن كل الدلائل تشير إلى أن الرجل ظلم وحمّل ما لا صلة له به. كان زاهداً من الصنف الرفيع، وعرف عنه تقشفه، وتجنبه اللحاق بالأهواء وارتكاب المعاصي، ولم يعاقر الخمر، ولم يقرب النساء، كما ابتعد عن أكل اللحوم رحمة بالحيوان فعاش نباتياً.

هو الشاعر الكبير أبو العلاء المعري واحد من كبار الأدباء العرب في العصر العباسي، ذلك العصر الذي يعد مـن أخصب العصور الأدبية وأثراها من حيث عدد الأدباء وغزارة نتاجهم الأدبي، وقد عد مؤرخو ونقاد الشعر، المعري من أكثر الشخصيات الأدبية عمقاً وثراء في اللفظ والمعنى، إذ تفرد الرجل بميزات عديدة كحدة ذكائه وحساسيته العالية وعقليته الفذة وسعة اطلاعه، فضلاً عن ميراثه العلمي كونه من بيت علم وقضاء. ويُنقل عنه قوله: «أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي وأحسن بي إذ كفاني رؤية الثقلاء البغضاء».

 

نسبه

 


أبو العلاء المعري

أحمد بن عبد الله بن سليمان بن داود بن المُطَّهَر بن زياد بن ربيعة، ينتهي نسبه إلى قضاعة، وعند تيم اللات تجتمع أنساب تنوخ من أهل معرة النعمان، وهو من بيت علم وفضل ورياسة. تولّى قوم من أقاربه القضاء وكان منهم العلماء الأعلام والشعراء المطبوعون، ويقول ابن العديم «وأكثر قضاة المعرة وفضلائها وعلمائها وشعرائها من بني سليمان». فقد تولى أجداده قضاء المعرة وضم إليها جده أبو الحسن سليمان قضاء حمص أيضاً، وعرف بالفضل وكرم النفس، ومات سنة 290هـ، فولي بعده ابنه أبو بكر محمد بن سليمان عم أبي العلاء الذي قصده الشعراء بالمدح. يقول الصنوبري فيه:
بأبي يا ابن سليمان لقد سدت تنوخا..|..وهم السادة شباناً لعمري وشيوخاً
فلما مات ولي القضاء بعده أخوه عبدالله بن سليمان والد أبي العلاء، واختلف في سنة وفاته، وله من الولد، غير أبي العلاء، أبو المجد محمد بن عبدالله وأبو الهيثم عبدالواحد ابن عبدالله، وكانا شاعرين وخلّفا طائفة من الأولاد تولوا القضاء. واستمر مجد الأسرة حتى أواخر القرن السادس الهجري.

 

جدته لأبيه هي أم سلمة بنت أبي سعيد الحسن بن إسحاق المعري، كانت تروي الحديث وعُدّت من شيوخ أبي العلاء الذين سمع الحديث عنهم. أما أمّه من بيت معروف من بيوتات حلب الشهباء، وجده لأمه هو محمد بن سبيكة، وخالاه هما أبو القاسم علي وأبو طاهر المشرف، وكانا من ذوي الشرف والمروءة والكرم، ومن أرباب الأسفار طلباً للمجد والجاه. يقول أبو العلاء في رثاء أمه:
وكم لك من أب وسم الليالي..|..على جبهاتها سمة اللئام
مضى وتَعرُّف الأعلام فيه..|..غني الوسم عن ألف ولام

ويقول في خاله علي:
كأن بني سبيكة فوق طير..|..يجوبون العزائز والنجادا
أبالإسكندر الملك اقتديتم..|..فما تضعون في بلد وسادا

وكانت صلته بهم طيبة، كما كانوا به بررة يعينونه ويصلونه. وخاله أبو طاهر هذا هو الذي أعانه على رحلة بغداد، ولذا كان يكثر من ذكرهم، وله معهم مراسلات ومنها قصيدة بعث بها إلى خاله أبي القاسم علي، وكان قد سافر إلى المغرب فطالت غيبته:
تفدِّيك النفوس ولاتفادى..|..فأدن الوصل أو أطل البعادا

وكان المعري شديد التعلق بأمه يتحدث عنها بعاطفة مشبوبة متقدة، ولما رحل إلى بغداد كان حنينه إليها متصلاً وطيفها لا يفارقه، وتصحبه الهواجس والظنون، وبقي طوال عمره يذكرها ولم ينسها على مر الأعوام. يقول ـ وهو شيخ ـ لابن أخيه القاضي أبي عبدالله محمد:
أعبد الله ما أُسدي جميلاً..|..نظير جميل فعلك مثل أمي
سقتني درها ورعت وباتت..|..تعوذني وتقرأ أو تُسمي

 

حياته

ولد أبو العلاء في المعرة بسورية عام363هـ/973م، وأصابه الجدري سنة 367هـ فقد على إثره بصره في الرابعة من العمر، ولم يبقَ من ذكريات ما رآه إلا اللون الأحمر. قال: «لا أعرف من الألوان إلا الأحمر، لأني ألبست في الجدري ثوباً مصبوغاً بالعصفر، لا أعقل غير ذلك»، وقد أثر ذلك على حياته ومنهجه تأثيراً بليغاً وخلق منه -بالإضافة إلى عوامل أخرى محيطة- رجلاً ذا نظرة ثاقبة متميزة تختص بحدين؛ حد فلسفي وآخر واقعي.

 

بدأ أبو العلاء صغيراً في تلقي العلم على أبيه، وأول ما بدأ به علوم اللسان والدين على دأب الناس في ذلك العصر، وتُلمح الفائدة التي جناها من هذه الدروس إذ بدأ يقرض الشعر وله إحدى عشرة سنة؛ ثم ارتحل إلى حلب ليسمع اللغة والآداب من علمائها تلاميذ ابن خالويه. وكانت حلب في ذلك العصر إحدى حواضر العالم الإسلامي الكبرى تضم جمعاً من العلماء ممن استدعاهم سيف الدولة الحمداني إبان عنفوان دولته، ولم تذهب نهضتها بموته بل استمرت بعده. وفي حلب شهر تبريز المعري وروايته للأدب والشعر. فقد روي أنه صحّح رواية شيخه ابن سعد لبيت المتنبي:
أو موضعاً في فناء ناحية..|..تحمل في التاج هامة العاقدْ
فقال أبو العلاء: «أو موضعاً في فتان ناجية»
ولم يقبل شيخه ذلك حتى مضى إلى نسخة عراقية للديوان فوجده كما قال أبو العلاء، أيضاً تلقى أبو العلاء دروساً في السنة عن يحيى بن مسعر.

توجه من حلب إلى أنطاكية، وكانت بها مكتبة عامرة تشتمل على نفائس من الكتب فحفظ منها ما شاء الله أن يحفظ، ثم سافر إلى طرابلس الشام ومرّ في طريقه باللاذقية، ودرَس العدد من الأديان من المسيحية واليهودية، إضافة للمجوسية والهندية والمذاهب المختلفة، وصاغها في أدبه وشعره ورسائله وأفكاره، وعُدَّ فيلسوفاً حكيماً مفكراً ناقداً مجدداً.

ولما وصل أبو العلاء إلى طرابلس وجد بها مكتبة كبيرة درس منها ثم عاد إلى المعرة. تردد في طور لاحق في مكتبات بغداد ودور العلم بها. كان استعداده للعلم عظيماً وذكاؤه ملتهباً.

أشار ابن العديم إلى قوة حفظ أبي العلاء برواية حكاية عن ابن منقذ ذكر فيها أنه يقرأ عليه الكراسة والكراستين مرة واحدة فيحفظهما، ولم يعلم له من شيوخ بعد سن العشرين، وذكر هو نفسه أنه لم يحتج إليهم بعدها.

 

وفاة والده

اختلف المؤرخون في السنة التي مات فيها أبوه، فيذكر ياقوت أنه توفي سنة 377هـ بحمص، وبهذه الرواية يأخذ بعضهم ويبني عليها رأيه في نبوغ أبي العلاء الباكر وعبقريته الفذة. ويقول ابن العديم: إنه توفي سنة 395هـ بمعرة النعمان. ويؤيد جمع من الدارسين روايته لأسباب منها أنه كان يذكر أسانيد رواياته، وأغلب رواته من بني سليمان أو من تلاميذ المعري ومعاصريه، ويذكر طرق الرواية قراءة أو سماعاً أو مكاتبة، هذا فضلاً عن تخصصه واقتصاره على أخبار أبي العلاء بخلاف ياقوت في كتابه الجامع المانع. ومنها أن القصيدة التي رثى بها أباه شديدة الأسر محكمة التركيب فيها درجة من النضج الفني والفكري يصعب أن يتصف به ابن أربع عشرة سنة، وقد وصفت بأنها من عيون الشعر في الديباجة والأغراض والمعاني.

 

لقد خلفت وفاة والده جراحاً غائرة وأسى عميقاً في نفسه لعظم عطاء الوالد البر الذي كان اعتماد أبي العلاء عليه كبيراً في كثير من شؤونه، فأحس بعده بأنه مهيض الجناح ضائع أو شبه ضائع، وهذا الحدث أمده بكثير من الآراء التي عظمت عنده من سوء رأيه في الحياة ويقينه بفسادها.


ضريح أبو العلاء المعري في معرة النعمان

رحلته إلى بغداد

كان أبو العلاء فقيراً، وكان لا يتكسب بشعره، وكان له ثروة ضئيلة لا تتجاوز ثلاثين ديناراً في السنة جعل نصفها لخادمه. ويرى بعضهم أن الذي منعه من التكسب أمران: أولهما أن عزة النفس التي ورثها عن أسرته تمنعه من إراقة ماء وجهه، وتصده عن ذل السؤال، وثانيهما فطرته السليمة ودراسته الفلسفية اللتان صانتاه من الابتذال وصوغ الأكاذيب في الأمراء. والكذب عنده بشع قبيح، ثم إن المال الذي يأخذه عن طريق التكسب مال حرام استحل ظلماً وأولى به شيخ كبير وعجوز فانية وأرملة مهيضة الجناح وأطفال زغب.

 

كانت أمه تمانع في سفره أول الأمر، ولكنه أقنعها فأذنت له، وأعد له خاله أبو طاهر سفينة انحدر بها إلى الفرات حتى بلغ القادسية، وهناك لقيه عمال السلطان فاغتصبوا سفينته واضطروه إلى أن يسلك طريقاً مخوفة إلى بغداد، وعند وصوله نظم قصيدة قدمها إلى أبي حامد الأسفراييني واصفاً سفره وجور عمال السلطان طالباً مودة أبي حامد ومساعدته في رد سفينته. ويتظرف فيها واصفاً سفره البري باصطلاح الفقهاء:
ورب ظهر وصلناها على عجل..|..بعصرها من بعيد الورد لمّاع
بضربتين لطهر الوجه واحدة..|..وللذراعين أخرى ذات إسراع
وكم قصرنا صلاة غير نافلة..|..في مهمه كصلاة الكسف شعشاع

كان خروج المعري إلى بغداد في أواخر سنة 398هـ في منتصف الثلاثينات من عمره ودخلها في أوائل سنة 399هـ، ولم يأتِ بغداد مغموراً بل سبقته شهرته إليها، ولا يذكر المؤرخون أسباباً لرحلته تلك سوى أنها للسياحة وطلب العلم والحرص على الشهرة بمدينة السلام، وربما أشاروا من طرف خفي إلى فقره وطلبه الغنى، ولكن القفطي والذهبي ينصان على أن عامل حلب كان قد عارض أبا العلاء في وقف له، فارتحل إلى بغداد شاكياً متظلماً. وقد يكون الاضطراب السياسي في الشام آنذاك أحد الأسباب التي أخرجته وبغضت إليه المعرة فتركها ليقيم ببغداد مدينة العلم ودار الخلافة وحاضرة الإسلام ومركز الحضارة وتلاقح الفكر وملتقى الأشراف والتجار والأدباء والمثقفين، حيث ازدحم الناس على بغداد من كل أطراف الدنيا وسميت «دار السلام» حيث يقصدها الشعراء والأدباء والعلماء في شتى الفنون والمعارف والآداب، فكانت بغداد كعبة العلم والأدب فيها ماء عذب وظل ظليل وعلم جم وأدب ثرى وكل ما تشتهيه الأنفس، كما يصف حسين بغداد عندما رحل إليها المعري، قائلاً «كانت بغداد كباريس اليوم فلا ترى في العالم الإسلامي شاباً أتم الدرس في بلده إلا وهو يتحرق شوقاً إلى الرحلة إلى بغداد ودراسة العلم فيها من أصفى موارده وأعذب مناهله…). وكانت بغداد أيضاً مقصد صيادي الثروات من المرتزقين بالشعر عند أبواب الخلفاء والأمراء ولكن المعري كان عف النفس زاهداً لم يرتزق بشعره، ولقد رد شعراً على من غمزه بمظنة السؤال قائلاً:
أنبئكم أني على العهد سالم..|..ووجهي لما يبتذل بسؤال
وأني تيممت العراق لغير ما..|..تيممه غيلان عند بلال

وكرر هذا في رسائله لأهل المعرة ولخاله أبي القاسم جاء فيها «ورعاية الله شاملة لمن عرفته ببغداد فقد أفردوني بحسن المعاملة وأثنوا علي في الغيبة وأكرموني دون النظراء».
هو القائل: لنا ببغداد من نهوى تحيته..|..فإن تحملتها عنا فتحييتا
كذلك: متى سألت بغداد عنى وأهلها..|..فإنى عن آل العواصم سآل
إذا جن ليلى جن لبى وزائد..|..خفوق فؤادى كلما خفق الآل

كما نفى نفياً قاطعاً أن يكون خروجه ليستزيد من العلم: «ومنذ فارقت العشرين من العمر ما حدثت نفسي باجتداء العلم من عراقي ولا شامي. وانصرفت وماء وجهي في سقاء غير سرب، لم أرق قطرة منه في طلب أدب ولا مال». مع أنه كان أمراً مألوفاً في عصره أن يرحل الرجل ليستكثر من لقاء الشيوخ وكانت بغداد مما يقصد إليها الشعراء واللغويون والفقهاء والمحدثون. وقد صرح أبو العلاء بسبب سفره في بعض رسائله أنه أتاها قاصداً دار الكتب بها، وكان يسميها دار العلم. ويذكر أنه لما دخل بغداد طلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائنها. وأنه حضر إلى خزانة الكتب التي بيد عبد السلام البصري وعرض عليه أسماءها فلم يستغرب شيئاً لم يره من قبل بدور العلم بطرابلس إلا ديوان تيم اللات فاستعاره.

أبو العلاء المعري كان يحب بغداد كثيراً وقد دعاه البغداديون إليها، بعد أن ظلمه أمير حلب حتى كتب «والله يحسن جزاء البغداديين فقد وصفوني بما لا أستحق وعرضوا عليّ أموالهم ودعوني إلى بلادهم»، وقد وجد البغداديون المعري غير جذل بالصفات ولاهش إلى معروف الأقوام، وعشق بغداد وماءها، قائلاً:
شربنا ماء دجلة خير ماء..|..وزرنا أشرف الشجر النخيلا

إن وجوده في بغداد كان سبباً في الكثير من الأحداث والمنازلات الأدبية والدينية والمذهبية والفلسفية والفكرية في جو المدينة المشحون أصلاً بشتى المدارس والنزعات الأدبية والعقائد الدينية والتيارات الفكرية، وقد صادف يوم وصوله موت الشريف الطاهر والد الشريفين الرضى والمرتضى، وحصلت قصص ووقائع منها إنشاد الأشعار في المتوفى شاعراً بعد آخر، حتى قام المعري بقصيدته الرائعة ومطلعها:
أودي فليت الحادثات كفاف..|..مال المسيف وعنبر المستاف
وما أن سمع الشريفان ذلك، حتى هزت كيانيهما، فنزلا إليه إجلالا سائلين: «لعلك أبا العلاء المعرى»، قال «نعم»، فأكرماه وقدماه ورفعا مجلسه ثم استأثرا به.

مع ذلك كله كانت بغداد تمتحن الوافدين وهكذا كان الإمتحان صعباً مستصعباً في المعري لكنه نجح بتفوق وتميز نادرين، فينتزع منهم وهو الأعمى الاعتراف بقدراته التي تفوق قدرات المبصرين، فسمّوه منفرداً «أعجوبة الدهر وفريد العصر»، وذكره ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار: «احضروا دستور الخراج الذي في الديوان، وجعلوا يوردون عليه ما فيه مياومة وهو يسمع إلى أن فرغوا، فابتدأ أبو العلاء وسرد عليهم كل ما أوردوه له»، وأقروا له بالحفظ والعلم، والشعر معاً إذ قرأوا عليه ديوان سقط الزند.

عُرضتْ عليه كتب بغداد من «مدينة العلم» و«بيت الحكمة» وكثير من خزائنها فكان كما قال ابن الفضل «جعل المعري لايقرأ عليه كتاب إلا حفظ جميع ما يقرأ عليه». حضر المعري المجالس الكثيرة المتنوعة في بغداد، فجالس الأدباء وحاور الفلاسفة وأصحاب الملل والمذاهب ولم يكتف بالقراءة عنهم بل كان يذهب إليهم ويحاورهم مباشرة بتحدٍّ جرئ وحوار صريح وجدل علمي، ومن أهمها حواراته الجدلية مع إخوان الصفا ببغداد.

ويقول في مجمع سابور بن أردشير الذي كان يحضره:
وغنت لنا في دار سابور قينة..|..من الورق مطراب الأصائل ميهال
ويحضر مجمع عبد السلام البصري يوم الجمعة ويقول فيه:
تهيج أشواقي عروبة أنها..|..إليك ذوتني عن حضور بمجمع

ورغم هذا الحضور وتلك المشاركات العلمية الاجتماعية الحافلة إلا أن المقام لم يطب له ببغداد، وحدث له من الحوادث ما آلمه وزهده فيها. من تلك الحوادث ما يروى من أنه عثر يوم إنشاده المرثية في الشريف الطاهر برجل لا يعرفه، فقال له الرجل إلى أين يا كلب؟ فأجابه: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً. وأشد من هذا وقعاً على نفسه موقف الشريف المرتضي منه لما جرى ذكر المتنبي في مجلسه، وكان المرتضي يكرهه ويتعصب عليه ويتتبع عيوبه، فقال المعري: «لو لم يكن له إلا قوله: «لك يا منازل في القلوب منازل»، فغضب المرتضي وأمر بإخراجه فسحب برجله وأخرج، ثم قال المرتضي لجلسائه: «أتدرون لم اختار الأعمى هذه القصيدة دون غيرها من غرر المتنبي؟»، قالوا: لا. قال: إنما عرض بقوله:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص..|..فهي الشهادة لي بأني كامل

وحاول المعري حضور مجلس إمام النحو ببغداد أبي الحسن علي بن عيسى الربعي، ولما قصده واستأذن عليه قال أبو الحسن: ليصعد الاصطبل، وتعني الأعمى بلغة الشام، فانصرف من فوره مغضباً، ثم قرر المعري الانسحاب من بغداد، وما كان هيناً على البغداديين مفارقته فكانوا لرحيله كارهين ولفراقه محزونين وودعوه باكين. وودعهم بقصيدته المشهورة:
نبي من الغربان ليس على شرع..|..يخبرنا أن الشعوب إلى الصدع
ويذكر أبو العلاء سببين لرحيله هما فقره ومرض أمه:
أثارني عنكم أمران والدة..|..لم ألقها وثراء عاد مسفوتا
ويقال إن من أسباب خروجه أن فقهاء بغداد تعرضوا له في بيتين هما:
يد بخمس مئين عسجد وديب..|..ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له..|..وأن نعوذ بمولانا من النار

ولما عزموا على أخذه بهما خرج من بغداد طريداً منهزماً ورجع إلى المعرة ولزم منزله فكان لا يخرج منه. ولا يذكر معاصروه شيئاً من هذا ولا المعري نفسه، الذي كان يقظاً في تسجيل ما يمر به من أحداث، بل إن إحدى رسائله تشهد بعكس هذا إذ يقول فيها: «يحسن الله جزاء البغداديين فقد وصفوني بما لا أستحق، وشهدوا لي بالفضيلة على غير علم، وعرضوا أموالهم عرض الجد».

ويذكر بعضهم أنه فارق بغداد كارهاً لها، زاهداً فيها، ولكن رسائله تبين أنه أحبها حباً جماً وفارقها مكرهاً، وكان يتمنى المقام بها وكأن مقامه بها كان يقتضيه أن يبذل ما لا يستطيع بذله من خلقه وعزته وأنفته، وما كان باستطاعته تغيير طبعه وقد شب عن الطوق. وتبين التائية شيئاً من عاطفته تجاه بغداد:
يا عارضاً راح تحدوه بوارقه..|..للكرخ سلمت من غيث ونجيتا
لنا ببغداد من نهوى تحيته..|..فإن تحملتها عنا فحييتا
يا ابن المحسن ما أنسيت مكرمة..|..فاذكر مودتنا إن كنت أنسيتا
سقياً لدجلة والدنيا مفرقة..|..حتى يعود اجتماع النجم تشتيتاً

وله من قصيدة أخرى:
متى سألت بغداد عني وأهلها..|..فإني عن أهل العواصم سآل
وتظهر على لسانه فلتات في ذم أهل بغداد في اللزوميات، لعلها أثر من آثار ما لقي من أذى فيها، أو لعلها صدى لسوء رأيه في الناس جميعاً إبان عزلته.
خرج أبو العلاء من بغداد لست ليال بقين من رمضان عام 400هـ، وحدد طريق عودته من بغداد إلى الموصل وميافارقين، ثم نزل بالحسنية ووصل بعدها إلى آمد، وقد مر في طريقه بطرف حلب ولم يدخلها تنفيذاً لقرار العزلة.

وفاة والدته

توفيت أمه وهو في الطريق من بغداد راجعاً، فرثاها بقصيدتين وكثير من النثر، وأضاف موتها إلى فواجعه ما ملأ نفسه ظلاماً وحباً في العزلة التي اختارها، وظل يذكرها طوال عمره ولا يرى عزاء إلا في لحاقه بها حيث يؤنسه أن يدفن إلى جوارها.
على أن قلبي آنس أن يقال لي..|..إلى آل هذا القبر يدفنك الآل

 

عزلته

بعد عودته من بغداد قرر أن يعتزل الناس جميعاً بسبب جزعه على وفاة والدته، مما ضاعف سواد الدنيا في عينيه، كما تروي عنه كتب «تاريخ الأدب» فقد انتقلت القتامة من عينيه إلى قلبه فمال إلى الزهد، ولزم بيته وسمى نفسه «رهين المحبسين» وحبس نفسه في منزله، كما سمى نفسه أحياناً «رهين المحابس الثلاثة»: العمى والمنزل ومحبس جسده المتبرم بروحه، وعبر عن ثلاثة سجون يعيشها بقوله:
أراني في الثلاثة من سجوني..|..فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي..|..وكون النفس في الجسم الخبيث

 

ولكن المعري لم ينزوِ في بيته المتواضع نتيجة فشل في بلوغ الشهرة والمال وقد كان حجة علماء عصره؛ ولا بغضاً بالبشر وهو الحاني على الضعيف يساعده بما يتدفق عليه من هبات؛ ولا تحاشياً لعشرة الناس، وهو الجامع حوله مريديه يلقي عليهم دروسه؛ ولا نفوراً من الخليقة وهو الرئيف بالحيوان نفسه؛ ولا ضغينة الناقم على مصيره، وفق تعبير نيتشه، وهو القادر على مجابهة قل نظيرها. لقد قرّر أبو العلاء الانقطاع عن الدنيا ومفارقة لذائذها، فكان يصوم النهار ويسرد الصيام سرداً لا يفطر إلا العيدين، ويقيم الليل ولا يأكل اللحوم والبيض والألبان ولا يتزوج، وكان يكتفي بما يخرج من الأرض من بقل وفاكهة:
يقنعني بَلْسَن يمارس لي..|..فإن أتتني حلاوة فبلس
والبلس من البقل العدس أو الفول، والبلس التين. وعبر عن تحريم ما ذكر في قوله:
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالماً..|..ولا تبغ قوتاً من غريض الذبائح
ولاتفجعن الطير وهي غوافل..|..بما وضعت فالظلم شر القبائح
ودع ضَرَبَ النحل الذي بكرت له..|..كواسب من أزهار نبت صحائح
ويكتفي من الثياب بما يستره من خشنها، ومن الفراش بحصير من بردي أو لباد، وكان يكلف نفسه أموراً شاقة زيادة في مجاهدتها مثل الاغتسال شتاءً بالماء البارد:
مضى كانون ما استعملت فيه..|..حميم الماء فاقدم يا شباط

التزم المعري بقرار عزلته فلم يخرج من داره تسعاً وأربعين سنة إلا مرة واحدة مكرهاً بعد ما ألح عليه أهل بلدته طالبين شفاعته لدى الأمير أسد الدولة صالح بن مرداس، وذلك أن امرأة دخلت جامع المعرة صارخة تستعدي المصلين على أصحاب ماخور قصدوها بسوء، فنفر إليها الناس وهدموا الماخور ونهبوا ما فيه. وكان أسد الدولة في نواحي صيدا فأسرع إلى هناك وعسكر بظاهر المعرة وحاصرها وشرع في قتالها واعتقل سبعين من أعيانها، فلما ضاق الأمر بالمعريين لجأوا إلى أبي العلاء فخرج وقابل صالحاً واستشفع لديه فقال له: قد وهبتها لك يا أبا العلاء، وقد ذكر أبو العلاء الحادثة في قصيدة:
أتت جامع يوم العروبة جامعاً..|..تقص على الشهاد بالمصر أمرها
فلو لم يقوموا ناصرين لصوتها..|..لخلت سماء الله تمطر جمرها

من جهة أخرى، لم يفتح داره لأحد من الناس مدة من الزمان، وعن ذلك يقول ابن العديم: «أقام مدة طويلة في منزله مختفياً لا يدخل عليه أحد. ثم إن الناس تسببوا إليه وألحوا في طلب الشفاعة لديه من أقاربه الأدنين». ثم إنه استجاب لتوسلات المتوسلين ففتح داره لطلاب العلم من كل صقع وصوب، وصارت داره جامعة يؤمها الزائرون من شتى البقاع، وأخذ الناس يفدون إليه، وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار.

ولكن بالمقابل فإن عزلته كانت الفترة التي شرع فيها في التصنيف، فنظم «لزومياته» وألَّف «رسالة الغفران» وكتباً أخرى، فملأت شهرته البلاد، وقصده الطلاب، وكاتبه من لم يصل إليه من علماء ووزراء من ذوي الرتب.

لم يتمكن المعري من تحقيق عزلته التامة فزاد اختلاطه بالناس، عبر طالبي العلم الذين كانوا يأتون إليه من أصقاع الشام وبلاد الرافدين، فيأخذون عنه الفلسفة والعلم واللغة. ومع ذلك كان راضياً بحاله، قابلاً بما هو عليه من صبر واعتزال:
وَحَالِي خَيْرُ حَالٍ كُنْتُ يَوْماً..|..عَلَيْهَا، وَهْيَ صَبْرٌ وَاعْتِزَالُ!

 

كتابه وتلاميذه

قال ابن فضل العمري: «أخذ عنه خلق لا يعلمهم إلا الله،كلهم قضاة وخطباء وأهل تبحر واستفادوا منه، ولم يذكره أحد منهم بطعن ولم ينسب حديثه إلى ضعف أو وهن».

 

ومن أشهر تلاميذه أبو زكريا الخطيب التبريزي وعلي بن المحسن بن علي التنوخي القاضي. وله كتاب يملي عليهم مصنفاته، منهم أبو محمد عبدالله بن محمد القاضي ابن أخيه، وكان براً بعمه وفيه يقول أبو العلاء:
وقاضٍ لا ينام الليل عني..|..وطول نهاره بين الخصوم

وأبو الحسن علي بن محمد أخو عبدالله، وأبو نصر زيد ابن عبدالواحد، وجعفر بن أحمد بن صالح التنوخي، وإبراهيم بن علي بن الخطيب، وأبو الحسن علي بن عبدالله ابن أبي هاشم المقرئ. وكان يذكرهم بالخير في شعره ونثره.
درس على أبي العلاء كثير من طلاب العلم ممن علا شأنهم في العلم والأدب، منهم:

 

وفاته

عمر أبو العلاء طويلاً وأصابته الشيخوخة بالوهن ووصفها بقوله:
«الآن علت السن، وضعف الجسم، وتقارب الخطو، وساء الخلق». ولكنها إن أصابت جسمه فما أصابت عقله وصفاءه وقريحته وتوقدها وحافظته وقوتها، فما نسي شيئاً مما حصَّل. وفي اليوم العاشر من ربيع الأول سنة 449هـ اعتل أبو العلاء وعاده الطبيب المشهور أبو الحسن مختار بن بطلان، وكان ممن يتردد عليه للزيارة والسماع أثناء مقامه بديار الشام، ووصف له كأساً من شراب أتاه به ابن أخيه القاضي فامتنع عن شرابه وأنشد:
تعللني لتسقيني فذرني..|..لعلي أستريح وتستريحُ

 

كما وصفوا له لحم الدجاج فلما وضعوه بين يديه لمسه بيده فجزع وقال:
«استضعفوك فوصفوك هلا وصفوا شبل الأسد». وتوفي بعد ثلاثة أيام وأوصى أن يُكتب على قبره مقولته الشهيرة:
هذا جناه أبي عليَّ..|..وما جنيت على أحد
وقف على قبره أربعة وثمانون شاعراً يرثونه، منهم القائل:
العلم بعد أبى العلاء مضيع..|..والأرض خالية الجوانب بلقع
ما كنت أعلم وهو يودع في الثرى..|..أن الثرى فيها الكواكب تودع
رفض الحياة ومات قبل مماته..|..متطوعاً بأبر ما يتطوع
قصدتك طلاب العلوم ولا أرى..|..للعلم بابا بعد بابك يقرع

ومن أشهر ما قيل فيه رثاء تلميذه أبي الحسن علي بن همام:
إن كنت لم ترق الدماء زهادة..|..فلقد أرقت اليوم من جفني دماً

ومن أروع القصائد هي للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في ذكرى أبى العلاء وفيها يقول:
قف بالمعرة وامسح خدها التربا..|..واستوح من طوق الدنيا بما وهبا


ضريح أبو العلاء المعري في معرة النعمان

 

شخصية المعري

 

أخلاقه

كان المعري رغم عزلته ذا صلة حسنة بالناس، وكان مع فقره كريماً ذا مروءة يعين طلاب الحاجات وينفق على من يقصده من الطلاب يهدي ويُهدى إليه، ويكرم زائريه. ومن مروءته وكرمه أنه لم يقبل من تلميذه الخطيب التبريزي ذهباً كان قد دفعه إليه ثمناً لإقامته عنده. لم يرده إليه في حينه حتى لا يؤذي نفسه ويوقعه في مشقة الحرج، ولكنه احتفظ له به حتى تجهز قافلاً فودعه ورد إليه ما دفع.

 

كما كان رقيق القلب رحيماً عطوفاً على الضعفاء حتى شملت رقة قلبه الحيوان فلا يذبح ولا يروع بولده وبيضه. وكان وفياً لأصدقائه وأهله. وتفيض رسائله إلى أهل بغداد والمعرة وإلى أخواله بهذا الوفاء. ومن أهم خصاله الحياء الذي يكلفه ضروباً من المشقة والأذى، وكثيراً ما كتب كتباً ورسائل لأناس طلبوا منه ذلك، وكتب يستشفع لأناس عند الأمراء، وهو كاره لذلك ولكنه لفرط حيائه لا يستطيع لهم رداً. وكان سيئ الظن بالناس يعتقد فيهم الشرور والأسواء ويمقت فيهم خصال الكذب والنفاق والرياء. وانتهى أخيراً إلى أن الإنسان شرير بطبعه، وأن الفساد غريزة فيه ولا يُرجى برؤه من أدوائه:
إن مازت الناس أخلاق يقاس بها..|..فإنهم عند سوء الطبع أسواء

عماه وأثره في شخصيته

يبدو من شعر المعري إحساسه الشديد بهذه العاهة التي أصابته:
ومابي طرق للمسير ولا السرى..|..لأني ضرير لا تضيء لي الطرق
وقوله:
ويا أسيرة حجليها أرى سفهاً..|..حمل الحلي لمن أعيا عن النظر

 

وقد دفعه عماه إلى تحدي الصعاب والرغبة في التكيف واكتساب العلم والمعرفة والتفوق فيهما على البصراء. ويتبدى تحديه هذا في لعبه النرد والشطرنج، ولكن هذه العاهة رغم تكيفه معها واكتسابه صفات تعويضية، أورثته شعوراً عميقاً بالألم والحزن ملأ شعره بالزفرات الحارة مما يدل على مالها من أثر شديد على نفسه.

اتهامه بالزندقة

اتُّهم المعري بالزندقة والإلحاد من بعض معاصريه، ولا شك أنه كان يناقش في مجالسه قضايا الفلسفة ويشرح للطلاب أشعاره ويفسر لهم ما صعب منها. وربما قاده الشرح إلى الحديث عن مختلف الآراء الفلسفية التي لا يرتضيها عامة الناس. يضاف إلى هذا تبتله وتركه الزواج وامتناعه عن اللحم وما أشبه ذلك، وفيه ما فيه من مجانبة لسنن الدين ولحوق بفلسفات برهمية هندية. وقد استند متهموه إلى ما في رسالة الغفران من أخبار الزنادقة وأشعارهم. أما أشعاره فيبين في بعضها الشك والانكار.

 

ولكنه وجد من يدافع عنه نافياً هذه التهمة. ومن هؤلاء القفطي وابن العديم، وسمى الأخير كتابه: «كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري»؛ وقال في مقدمته متحدثاً عن حساده ومنتقديه: «رموه بالإلحاد والتعطيل، والعدول عن سواء السبيل، فمنهم من وضع على لسانه أقوال ملحدة ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده فجعلوا محاسنه عيوباً وحسناته ذنوباً وعقله حمقاً وزهده فسقاً، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين والإسلام».

ومن أحسن الشهادات في حقه شهادة الإمام الذهبي المتوفي سنة 747ه/1346م، حيث قال: «وفي الجملة فكان من أهل الفضل الوافر والأدب الباهر والمعرفة بالنسب وأيام العرب. وله في التوحيد وإثبات النبوة وما يحض على الزهد وإحياء طرق الفتوة والمروءة، شعر كثير والمشكل منه فله ـ على زعمه ـ تفسير».
وكان أبو العلاء نفسه كتب رداً على متهميه بالإلحاد أسماه «زجر النابح» أوضح فيه طرائقه الشعرية في عرض آراء الفرق المختلفة، ومقاصده الأصلية من أشعاره. وكشف في كتاب آخر أسماه «الفصول والغايات» عن إيمانه بعذاب القبر والبعث والنشور، وبكل ما له علاقة بعقيدة الأمة فيما يتصل بالغيب.

 

من almooftah

اترك تعليقاً