رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

حمص سوريا – ص – ب – 5121 جوال 0966326100
نبيه اسكندر الحس

الاحتجاج
رواية
( يبكي ويضحكُ لا حزناَ ولا فرح ..كعاشقٍ خطَ سطراً في الهوى وم ..من بسمةِ النجمِ همسٌ في قصائدهِ ..ومن مخالسةِِ الظبي الذي سنح ..قلبٌ تمرسَ باللذاتِ
وهو فتى كبرعمٍ لمستهُ الريح   فانفتح مالي الآقاحيةِ السمراءِ قد صرفت عنا هواها أرقُ الحسنِ ما سمح لو كنتِ تدرينَ ما القاهُ من شجنٍ لكنتِ أرفقَ من آسا ومن صفح )

سأل صابر ذاته :” ما العلاقة بين جلوي والأفاعي ؟.سؤال حير أهل القرية من بيت الجردي إلى بيت الكردي “؟.
رجل يلبس قنبازا كرجال الدين  ومعطفا أسود ،وعمامة لها لونين ،ويحزم كرشه المندلق إلى أسفل بشكل كروي ،ينتعل جزمة لها مهماز فارس ، لم يمتطي دابة ، وصل مضافة المختار،وقف بين الناس ،قبل احتساء الماء الملون ،نظر إلى رجل :
– رقطاء سمها زعاف في بيتكم.
اتسعت  عينا الرجل خوفا،كأنه أصيب بدوار ،لكن صابر  استدرك :
– كيف عرفت ؟.
– لن أقول شيئاً الماء تكذب الغطاس والتجربة أكبر برهان ،هيا لأسحبها من جحرها ،وأضع تعويذاتي ،كي لا يدخل الشر بيتكم  .
هدأت العبارات من خوف الرجل ،وأعادته إلى طبيعته ،انفرجت شفتا صابر حين ،قال الشيخ  :
– عشرة ليرات لا غير .
تدخل المختار :
– من حضرتك يا شيخنا ؟.
التفت جلوي إليه وبنبرة الواثق :
–  جلوي ي يعرفني أهل الشرق والغرب ،صاحب المقامات ،سجان الأفاعي ،مدوخ العمائم في العلم الإلهي والطبيعي ،المبعوث إليكم من قبل رب العالمين ،مخلصكم من الشرور.
صب المختار سائل القهوة المرة ،قدم الفنجان والحيرة تأكل لبابه :
– أهلا بك .
ارتشف الشيخ الشفة ،هز الفنجان ،ثم وجه كلامه للمختار :
– أتحسب أن بيتكم خال من الأفاعي ؟.
وانفلتت من فمه ضحكة ساخرة ،مشى الرجل ومن وراءه الشيخ ،وحشد من الناس يحتفون به ، وصل إلى البيت أبو العز ، تجمع الرجال والنساء ليشاهدوا المعجزة ،دخل أبو العز إلى الإسطبل ،أخلاه من الطيور ،والماعز ،بناء على رغبة الشيخ ،الذي راح يقرأ التعاويذ بصوت جهوري ،وحين
دخل أغلق الباب خلفه .ثمة شوشرة بين الناس  يعرفون أن ثمة من يمسك الأفاعي ،أحد الشباب:
– لا أحد يعلم بالغيب إلا الله .
أجابه رجل مسن :
– كيف عرف أن في بيت أبي العز أفعى .
– هذا رجل دجال .
صرخ والده بوجهه :
– اللعنة عليك ألا تحترم جلوي.
لحظتها صرخت امرأة :
– انظروا .
خرج الشيخ وعلى هامته أفعى رقطاء ،وراح يداعبها ويضع خده على جلدها الأملس :
– أتعرف من أين جاءت هذه المباركة ؟
جعل المشهد  الناس في حيرة ،والواقع يفرض نفسه ،حيث بدأ الناس يبجلونه ، نظر في وجه أحدهم ،وأشار بإصبعه :
– أفعى بيتكم من لون آخر .
فطلب منه إخراجها ،وراح يتنقل من بيت إلى آخر ،استطاع القبض على ست أفاعي.قبل انحدار الشمس باتجاه البحر لتطلي الأفق بلون احمر عائدة إليه لتبدأ من جديد ،بعد أن تفترش سريرها الحريري ،ووسادتها من غيوم الصيف الباهتة ،لعلها تغازل القمر كأنها تشي برسائل العشاق
،وثمة سحب تتمدد لتنشر وشاحا .دخل أحدهم إلى المضافة عاقدا ما بين حاجبيه ،وقطرات من العرق على أرنبة أنفه تشي بالغضب لا يمكن الإفصاح عنه إلا في اللحظات المناسبة ،تفرس وجه الأستاذ في حيرة كباقي الناس المجتمعين في بيت المختار ،فاختاروه لمعرفة سر جلوي ،دعاه إلى
منزله ،لينفرد به .
في أثناء ذلك ،عاد ” صابر ” من اللعب ،كان شغله الشاغل العراك والركض في أزقة القرية ،شعر بألم الجوع ،تسلق الجدار وهبط بهدوء كي  لا يشعر بقدومه أحد  ،دخل غرفة الضيوف ،وجد الذي لم يكن يتوقعه ،حيث كان الضيف يطلق شخيرا مصحوبا بصفير من أنفه ،أشعل (بابور الكاز)
،وراح يبحث عن السكر لمست أصابعه كيسا تناوله وخرج إلى ضوء القمر فوجئ بأنه مليئا بالأفاعي ،أعد الكيس ونسي الطعام ،حاول النوم ،عبثا فعل ، فبدت الأفاعي ترتسم أمام ناظره تحت اللحاف ،وشخير الشيخ يزيد الأمر ،لا يدري من أين جاءت الفكرة ،تناول سله من القش ،وضع
الأكياس في داخلها ،ليبعدها عن غرفة نومه ،خوفا من الكوابيس المرعبة ،فجأة سمع سعال والده  :
– ما هذا ؟.
-أفاعي وجدتها في الكيس ؟.
– ماذا ستفعل بها ؟.
– سأبعدها عن غرفتي .
– انتظر
التفت :
– خذها إلى المقبرة وضع السلة في المقام .
هناك تخيل أشباحا ذات رؤوس تشبه رؤوس الأفاعي ،لها ذيول طويلة ملساء ،رآها تطارده ،فأخذ يستحضر ما حفظه من كل آيات الذكر الحكيم ،وجمع كل ما يملك من شجاعة ،دفع السلة من بوابة صغيرة ،و بنى حولها الأحجار .عاد مسرعا كأنه هارب من ،جحفل شياطين .
– خذ فراشك ونم في غرفتي .
دخل الغرفة ،لم يستطع النوم فأخذ يعد أعواد سقف البيت ،حتى غالبه النعاس ،ونام  دون طعام ،راودته الأفاعي في المنام ،فنهض مذعورا رأى العصافير تنقر أبواب الفجر ،كتب وظائفه  وحفظ بعض الدروس ،ثم حمل محفظته ،وهرول إلى المدرسة في الحصة الأولى قال المدرس :
– من علمني حرفا صرت له عبدا .
أجاب صديقه :
– بلا علم بلا علاك الحرية أسمى .
كان يكتب بدون رغبة مع أنه يحب مادة اللغة العربية ،لكن موضوع الأفاعي قد سيطر على كيانه ،فراح يتخيل أعيان الضيعة ،وهم يسألون النوري ويشتمونه ،وتخيل أنهم يسلخون جلده .لكن في المساء لم يجد الشيخ ،عرف أنهم طردوه ،لم يكتف بالمعلومة ،وبأسلوبه عرف أنه عند المختار
،ينتظرون مجيء الدرك هيئ له أن الدرك سيطلبونه كشاهد  ،وحين وصل المضافة ,رأى الرجال ينتظرون .
كان الناس يتوزعون على شكل جماعات ،يؤلفون القصص والأحاجي هذا يؤيد وذاك يكذب والجميع يدركون أن لعبة الشيخ لعبة احتيال وابتزاز ،لكن تعميم مثل هذه العبارات تقابل بالرفض عند الأغلبية .في تلك اللحظة حضر السائس الذي كلفه المختار بمراقبة الطريق لمعرفة حضور الدرك
الذين سيأخذون جلوي إلى  السجن ،وحين أقبل :
– جاء الدرك يامختار .
وقف المختار ،ودنا من السائس وراح يوشوشه ،لم يبق لدينا شعير ،وأنت تعرف العريف لا يهون عليه حصانه ،دبر الأمر .
–  لا يهمك .
عوذل المختار  وحوقل ،ودار في مكانه ،حتى وقع بصره على إوزات قرب الساقية ،فصرخ بصاحب الإوزات:
–  خبأهم قبل حضور العريف .
– ليش يامختار ؟.
–  سيأخذ بعضها .
خرج أحدهم وبسرعة جمع الإوز  وساقهم إلى البيت ،قدم النصائح لمن حوله لاقتناء مثل إوزاته ،لأن هذه الطيور لا تكلف شيئا ،وبيضة واحدة تكفي رجل .
طلت خيول الدرك من منعطف الزقاق ،ركض السايس وأمسك عنان حصان العريف .فجأة هرب أحدهم  إلى بيت الجيران ،أبعده الشيخ عن أعين الدرك ،ريثما يتم اتخاذ القرار ،بيد أن العريف أمر الشرطيين بالترجل ،كانا يحملان معهما بندقيتان ذات حراب طويلة .رحب المختار بهم .
رد العريف :
– هيك يا منظوم تأتي إلى الناحية.لسنا قد المقام .
ثم لوح بالسوط :
– أين جلوي سأسلخ جلده !.
دخل السايس يطمئن المختار بأنه وضع العلف للخيول  . كان العريف يسند بندقيته على الجدار ، ووضع السوط بمحاذاة الفرش  ،وقال مداعبا السايس :
– قل يا مختار ما سّر سائس الخيل يحب الخيول المخصية ؟.
أختصر السائس :
– إذا خصيت الخيول تحافظ على قوتها .
ضحك العريف وغمز زوجة المختار :
يعني لو خصينا  جلوي يبقى محافظا على قوته ؟..
أدرك السائس ما رمى إليه :
– بكسر الهاء لا يستطيع أحد أن يخصي جلوي قل الله يستر .
وقطع الكلام خوفا من غضب العريف ،لكن الأخير :
– سأريك أن الدرك عند كلامهم ..
– جلوي موجود ،وإن كنت حكومة نفذ ما قلت .
أعلن العريف عن غضبه :
– وأخصيك أنت أيضا .
– محسوبك تم خصيه من أيّام ” العصملي ” ..وأبي وجدي أيضا أسأل الأكبر منك سنا ،والسلام .
وخرج من المضافة ،يقول للناس حضرته يحسبني لا أفهم :
– قسما لا يستطيع أن يفعل شيئا لا مع جلوي ولا غيره كل ما هناك يأخذونه للتحقيق .رحل زمن ” البيكوات ”  ،ونحن في زمن حرب بور سعيد .
صب المختار القهوة لهم ، اهتز كرش العريف من سعال يرافق ضحكاته .فقال المختار :
– أراك غاضبا ،انتبه إلى رجال الله ،هؤلاء لهم كرامة  ،لا تغلط مع جلوي لقد رأيناه كيف يقبض على الأفاعي ،ولو سمعت ذلك من أحد لما صدقت .
ردّ أحد الحضور :
– جاء جلوي إلى امرأة في المنام وفلح عليها مساحة فدان من الأرض كما يفلح المزارع على بقرته ،لمجرد أنها أساءت له ،ومازالت رقبتها مشبوكة ،ولن يحلها إلا الله ودعاء جلوي ،على المرء الانتباه.
راح العريف يتلمس عنقه تارة وتارة يتلمس صدره في محاولة إخفاء خوفه فقال :
– جيء به يا مختار علي أن أكتب الضبط ،وإلا المساعد سيعاقبني ،وأنت تعرفه ..
فانفض الناس من المضافة ،ولم يبق سوى أعيان القرية ،وهم في حيرة من أمر جلوي ،مع أنه اعترف أمام الجميع بأنه كاذب ،وأنه انتحل هذه الصفة بغية أن يؤمن الطحين لأولاده خوفا من شتاء قارس .

13

عاد ” صابر ” إلى البيت خوفا أن يصاب بأذى المطر ،دخل على زوجه ،وجدها طريحة الفراش تعاني من مرض مفاجئ ،ومازالت في ريعان الشباب ، كان يحبها كثيرا ،قبل أن يسعفها إلى المشفى سألته :
– كيف حصلت على المال ؟.
– أرجوك …أنت بحاجة للراحة …
– ولكن …
– لا تشغلين بالك .
تعرف أنه لم يملك شيئا من المال ،يومذاك جمع من رفاق العمل بعض المال ،كجمعية يأخذها كل واحد  حسب ترتيبه بالقرعة ،أيعقل أن يعترف لها بالحقيقة ،تمنع الكرامة أن يبوح الرجل لزوجه بكل شيء.وخصوصا في وأوقات المرض .
اسند رأسها على كتفه ،وطوقها بذراعيه ،وهما في جوف سيارة الإسعاف ،ما إن وصلت السيارة إلى المشفى ،حتى أسرعت الممرضة ونقلتها إلى غرفة الإنعاش ،وقف صابر ينتظر على أحر من الجمر ،فجأة خرجت الممرضة ،تسأل :
– من صابر ؟.
– نعم .
– زوجتك في حالة مخاض ،وعليك مقابلة المدير .
ولج غرفة المدير ،لم يكن يدري أن المدير يخفي شيئا ،وراء بشاشة وجهه فقال :
– الأمر بسيط …نريد موافقتك على إجراء العمل الجراحي .
وقع بصره على عبارة احتشاء في عضلة القلب ،لم يدر من هو المقصود، الجنين أم الأمّ ،وجد نفسه محاطا بكل أتون الخيارات ،كتب اسمه على الأوراق ووقع عليها ،على مبدأ الطبيب يعرف واجبه ،وقبل أن يغادر الغرفة طلب المدير:
– أجرة العمل الجراحي مبلغ كذا …
– أليس المبلغ كبيرا ؟.
– خذها إلى مشفى عام .

أختزل طلب الطبيب مساحة عمر تجمعه ورقة فضفاضة ، تلقى في سلة مهملات ،دفع كل ما بحوزته من مال ، ولم يبق لديه إلا بضع قطع معدنية لا تفي بشيء ،وعليه أن يتدبر أمره على جنح السرعة ،خرج من غرفة المدير.كانت الممرضات يركضن في البهو ،ألقى نظرة سريعة على غرفة
العمليات ،تخيل أشباحا في داخلها ،لمح أمامه جسد ممدد ،لم يدرك أنه جسد زوجه ،فغض الطرف عن ساق عار ، انبرى إلى الشارع ،يبحث عن مكتب عقاري ،حس بفرح حين وجد ضالته ،فلم يساوم على السعر ،رهن بيته مقابل مبلغا لا يتعدى ثمن أرض زراعية غير معدة للبناء ،عاد أدراجه
إلى المشفى ،دفع المبلغ للمدير ،وفجأة وجد نفسه يغوص بالفاجعة .
كان الطبيب يرصد حركاته وموجات الكآبة ،وبدت عروقه بارزة  تلتف حول جبينه العالي ،بدت كخرائط بلدان يضمر الأعداء على تقسيمها ،وقد سموها الشرق الأوسط الجديد دنا الطبيب منه :
– هون عليك …الموت قانون الحياة ،وليس إلا حالة تعيدنا إلى السكينة والإيمان بالله .
– هل نعتبر فساد الأخلاق إيمان .؟..
تركه الطبيب وأغلق باب غرفته ،تجمع الناس وعمال المشفى على صراخه واحتجاجه .قال أحدهم :
– جنّ الرجل !….
اخترقت كلماته جدران الزمن ،اندفعت كشلالات ،تحرك الأشياء الهاجعة ،وترصد دوائر مكتب المدير ،الذي يرغب بامتصاص كل شيء ،قبل بروزه للعيان ،ليحوله إلى أطياف ماضية في أتون ،تحوله الأصابع إلى ذكرى .
فجأة خرج شرطيان من مكتب المدير ،وضعا الجامعة بيد ” صابر ” دفعاه بقوة إلى جوف السيارة ،فأحس أنه خرج من داخل إسفنجه ماصة للكلمات ، وثمة تساؤلات في عيني الشرطي ، لم يعرفها ” صابر ” طيلة عمره .

بدأ رحلته مع نفسه بشفافية ليل رطب و ريح ندية، تعرت الطفولة ،و تجردت الروح عن الثوابت ، خرج من سجن المخفر، بعد ساعات حيث أحضرت الشرطة سيارة الإسعاف و نقلت الزوجة إلى مثواها الأخير .
مشى مع الجمع وراء الجنازة و من أمامهم الشيخ الذي سمعه يكفر لكنه صمت حتى نهاية التلاوة فتقدم صابر لينقده أجرته سحب يده حوقل و عوذل و قال :
– أيها المارقون .
نظر إلى عيني صابر ، رأى بحارا و أمواجا ، و ثمة طيور ستهاجمه و تغرس مخالبها في وجهه و عينيه ، فبرقت في نفسه لوثة الخوف ، فأخذ المبلغ دسه في جيبه و طلب للمرحومة متسعا من الجنة .
بعد حديث و حوار بين الناس ، قال صابر :
– نعطيه مالنا و يتكبر علينا .
ضحك ضحكة حزينة ، فاستاء بعضهم من حديثه و انسحبوا واحد تلو الآخر ، و هناك قرب الحديقة تجمعوا بغية قسطا من الراحة ،و راحت ألسنتهم تسوط صابر و تقطعه إرباً .
لكن أحد الأصدقاء أدرك ما يجتاحه من حزن و ألم ، جلس بجانبه و بكل محبة  :
– اسمع يا صاحبي أنت لست الناصري ..
– لكن …
ضحك :
– لا تستطيع أن تصلح العالم و لو أنك تدفع من دمك ثمن ذلك .
– هذه ليست مشكلة .
– أرجو … أن تحافظ على هدوئك .. و انتبه لنفسك و إلا خسرناك .
دس مبلغا في جيب صابر . اغرورقت عيناه بالدموع وحصلت مشاجرة بين النفس اللوامة و بين النفس المتمردة في داخله ، فاعتذر من صديقه و تركه ينصرف إلى شأنه ،و انزوى وحيدا غريبا بائسا في عقله زخم الأفكار و آلاف الأسئلة  ، تتسلق أفكاره سقف الغرفة ، حيث بدا الوقت قطار
يصفر دون توقف ،إلا في المحطة فآن له الالتحاق به ، كان صفيره يعلن الوصول إلى محطة سيبدأ منها الرحيل ، و كانت اللفافة تحترق بين إصبعيه  .
تحركت المشاعر كتيار جاري ،اشتعلت شرارة في مخيلته لتستطلع حالة التأهب للأهوال في ليلة زفافه ، ازدحم المنزل بالناس وضجيج  الموسيقا يلف  أرجاء المنزل فلم يمض شهر العسل حتى أضحى فارغ اليدين وتعالت السحب الداكنة تزحف إلى القبة الفيروزية تعلن أن الشتاء على قاب
قوسين لذا يترتب عليه أن يحضر نفسه لشتاء عاصف فكر أن يبتاع مدفأة و كمية من المازوت و مؤنه، فهو بحاجة أشياء كثيرة و لا باليد حيلة و بعد تفكير طويل قفزت فكرة إلى ذهنه فقصد جاره صاحب المنزل القريب من بيته
ليقترض مبلغا  يفي حاجته حتى نهاية الشهر و بعد جدل مع ذاته حشد كل قوته و قرع  الباب استقبله الجار مرحبا  و انفرجت شفتاه عن أسنان مطوقة برقائق ذهبية فتذكر أحدهم حين قال بكبرياء :
– أعمل عند متعهد و أكسب مالا  كثيرا.
– ما عملك ؟ .
– فقط أقوم بجمع عظام الموتى من المدفن ، و قبل ترحيلها إلى مكان آخر أتفقد أسنان الموتى و أصابعهم و لن أنسى الأضراس أيضا ، فكلما وقع بصري على خاتم أو سن ذهبي أقلعه و أحتفظ به .
جعلته الذكرى يشرد بخياله بعيدا  و لم يصح حتى سأله جاره :
– إيه .. نصف الألف خمسمائة . أهلا  بك يا جار الرضا ، ماذا سنشرب ؟ .
– أرجوك …. في الحقيقة لست ضيفا  بل صاحب حاجة . ( لك أم للديب ) ؟ .
– تفضل …
– يلزمني بعض المال .
أجاب صاحب الأسنان الذهبية ، ارهن مصاغ زوجك ، شعر صابر بطعنة من جاره .. لم يدرك الجار أن زوجة صابر لا تعرف الذهب لا من قريب و لا من بعيد ، فصمت صابر هنيهة فداخلته لحظات نسختها أرواح الكتب على روحه و تحكمت بانطباعاته الحديثة فلا تخرج من رفعتها إلا كما تشاء
ممزوجة بالكبرياء ، فرجفت يده و رجف كأس الشاي بين أصابعه ، فارتشف منه رشفة بغير لذة ، و راح ينظر إلى نصف الكأس الفارغ و النصف الملآن ، فلا يجد إلا فراغا مخيفا وراء شفافية الزجاج و أخذ يبحث في نفسه عن شبيه لصاحب الأسنان المذهبة فلم يجد شبيها إلا في أحد
الكتب المنسية على الرف فلم يأخذ منه سوى الجانب المضحك ، فضحك ساخرا .
سأله :
– أراك تضحك ؟ .
فلم يرد عليه ، و دارت قصص البخلاء دورتها في رأسه :
-رأيت كلبا أبرشا .
– أين .. لا وجود للكلاب في حينا .
حدق بوجه جاره جامعا جذوة عينيه :
– نعم ، يشبهك يا جار .
صمت الجار على حرقه و راح يستحضر جوابا فبلع لعابه :
– و لو .. لم أتوقع هذه الإهانة من مثقف مثلك .
نهض من مكانه بزهو مازجه فخر ينبع من أخدود عميق في النفس و وقف بمحاذاة الباب و يده على قبضة الإغلاق :
– اسمع.. الكلب حيوان وفي للإنسان ، يبدو أني ظلمته ، وربما تحتج جميع الكلاب على وصفك بأحدهم .

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
_الى اللقاء في الحلقة القادمة من – رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

من almooftah

اترك تعليقاً