أفلام الطبيعة الوثائقية: ثنائية المفترس والفريسة في لعبة الحياة
الفيلم الوثائقي يتشكل من عدة مفاهيم تبحث عن ثيمات مختلفة لتحديد أبعاد أخرى لعناصر محسوسة تسجل لحظات من الواقع المعيش.
العرب
عدنان حسين أحمد


معلقة فيلم ‘مسيرة البطريق’ للوك جاكي

لندن – قد لا نلتفت في “أفلام الطريق” إلى سحر الطبيعة وجمالها الخلاّب على الرغم من أنها تشكّل مادة أساسية في الفيلم الروائي، لكننا نصبّ كل اهتمامنا عليها إذا كانت هي الثيمة الرئيسة في الفيلم الوثائقي.
على الرغم من سعة مفردة “الطبيعة” لما تنطوي عليه من عناصر متعددة تشمل الأرض برمتها وما عليها من جبال وهضاب وصحارى وسهول وأراض منبسطة، ومحيطات وبحار وبحيرات وأنهار وروافد وجداول وينابيع، وغابات وبستانين وحدائق ومتنزهات.
كما أن عناصر الطبيعة لا تقتصر على السطوح والأشياء المرئية، وإنما تتعداها إلى أعماق المحيطات والبحار والأنهار الكبيرة وما تنطوي عليه من حيوات نباتية وحيوانية.
وربما يذهب البعض الآخر إلى الكواكب والمجرّات المرئية وغير المرئية بوصفها جزءا من فضائنا الخارجي -الذي لم نفضّ منه إلاّ الجزء اليسير- ونعتبرها جزءا مهما من هذه الطبيعة الكونية إن صحّ التعبير.
مادة بصرية
يُعتبر أول الأفلام الوثائقية التي تتمحور حول الطبيعة وتتخذ منها مهيمنة بصرية، هو فيلم “نانوك رجل الشمال” لروبرت فلاهرتي الذي أنجزه عام 1922، بعد أن تعايش مع قبائل الأسكيمو نحو عشر سنوات، مُتعرّفا على بيئتهم الثلجية القاسية وطريقة حياتهم وتأمينهم لهاجس الطعام.
كما تمكن الإشارة إلى أول فيلم وثائقي طويل وهو “الصحراء الحيّة” لجيمس ألغار الذي بُث على الشاشة الكبيرة عام 1953، بالمواصفات السينمائية التي نعرفها عن الأفلام الوثائقية في أقل تقدير، ثم تتابعت الأفلام الوثائقية المهمة مثل “القارة السادسة” و”العالم الصامت” وما إلى ذلك من أفلام تتناول الطبيعة، وتتخذ منها موضوعات أساسية يحاول مخرجوها أن يجذبوا انتباه المتلقي ويغرونه بمادتهم البصرية الجديدة التي لم يألفها من قبل.
ثمة أفلام وثائقية عديدة راسخة في الذاكرة الجمعية لأنها تمحورت حول الطبيعة بكل ما تحتويه من نبات وحيوان وجماد.
ونظرا لأهمية الحيوانات والطيور وبعض الحشرات في حياة الإنسان، فقد صنع المخرجون آلاف الأفلام عن هذه الكائنات الحية، وطرق عيشها وتكاثرها وفنائها والمواطن أو البيئات التي تعيش فيها بغية البقاء على قيد الحياة، خصوصا وأنها تعيش ثنائية المفترِس والفريسة في لعبة الحياة، التي قد تمتد إلى بضعة عقود إن هي أتقنت فن البقاء ونأت بنفسها عن المخاطر الجدية التي قد تطالها في أية لحظة.
ففي فيلم “الحيوانات مخلوقات جميلة” للمخرج الجنوب أفريقي جيمس أويس والذي أنجزه عام 1974، يصوّر الحياة البريّة في جنوب أفريقيا ويتخذ من صحرائيْ ناميب وكالاهاري ونهر أوكاﭬـانكو ودلتاه، أمكنة لتصوير مادته السينمائية التي تريد أن توثق للحياة البريّة وما تنطوي عليه من مفاجآت قد لا تخطر ببال المتلقي.

فيلم “نانوك رجل الشمال” يعتبر أول الأفلام الوثائقية التي تتمحور حول الطبيعة وتتخذ منها مهيمنة بصرية

من الأفلام الوثائقية الراسخة في ذاكرة متابعي أفلام الطبيعة هو فيلم “الفراديس الأخيرة: على طريق الحيوانات النادرة” ليوجين شوماخر وهيلموت بارث اللذين أنجزاه عام 1967، لكنهما ذهبا مع طاقم التصوير إلى 60 بلدا ومنطقة يمكن أن تحسب في إطار المحميات، من بينها تركيا وأسبانيا وألمانيا وبولندا وأستراليا وتشيلي ونيوزيلاند وغويانا والهند وجاوة وبيرو والولايات المتحدة الأميركية، من أجل متابعة الحيوانات النادرة وعلى رأسها الكركي الأميركي الذي كان يعتبر من أندر الطيور في ستينات القرن العشرين، ولكن المخرجيْن، للأسف الشديد، لم يحصلا على إذن لتصوير هذا الطير النادر. يا ترى، هل يستسلمان لمثل هذا القرار الغريب؟ وبما أن إطعام طائر الكركي الأميركي يتم بواسطة طائرة، فإن حركة هذا الطائر قد تأتي به إلى هذا الجانب من السياج أو ذاك، لذلك تهيّأ المخرجان لأن يتخذا من زورق عائم على قناة مكانا للرصد والتصوير، وقد خدمتهما سانحة الحظ حيث أن الطائرة التي تزوّد الكراكي بالغذاء، جاءت من جهة القناة فاستطاعا أن يصورا الكراكي، هذه الطيور النادرة، في أوضاع وزوايا مختلفة. تحتاج أفلام الطبيعة إلى مدد زمنية طويلة كي يتعايش المصورون مع المكان، ويعرفون سلوك الحيوانات وعاداتها اليومية.
أزمنة طويلة
في فيلم “مسيرة البطريق” الذي أنجز عام 2005 من قبل المخرج لوك جاكي، والذي استغرقت مدة تصويره سنة كاملة، حيث تسلل المصوران لوران شالي وجيروم ميزون إلى مكان الحدث بهدف التقاط الصور للبطاريق التي تعيش في القارة القطبية الجنوبية، وبالذات البطاريق التي بلغ عمرها خمس سنوات، لأنها ستغادر موطنها الطبيعي وتقوم برحلات شاقة بغية جلب الطعام إلى صغارها حتى يكبروا ويتمكنوا من الاعتماد على أنفسهم.
ربما يكون فيلم “الطيور المجنّحة” أو “المهاجرة” في ترجمات أخرى هو من بين الأفلام الوثائقية التي استغرقت زمنا طويلا، يقارب الأربع سنوات وفي القارات السبع كلها، حيث ثُبتت الكاميرات على متن الطائرة التي كانت مُعدّة لهذا الغرض.
وجدير ذكره في هذا الصدد أن المصورين قد صوروا ما طوله 590 ميلا ليختاروا منه ما مدته 89 دقيقة فقط. والأغرب من ذلك أن المصورين قد صوّروا لمدة شهرين كاملين في مكان محدّد، لكن “المونتير” قد نفذ من هذه المدة الطويلة أقل من دقيقة واحدة لا غير!
لقد أشرنا في مقالات سابقة إلى أفلام ديفيد آتنبارا التي تناولت جوانب مختلفة من الطبيعة، من بينها “الحياة على الأرض” و”الكوكب الحي” و”حياة الطيور” وسواها من الأفلام الوثائقية التي ترسخت في ذاكرة الجمهور، وكشفت لنا جانبا بسيطا من الحياة البرية على كوكب الأرض الذي لا يزال بكرا، ويحتاج إلى المئات وربما الآلاف من المخرجين المبدعين الذين يكشفون لنا أسرار هذا الكوكب الغامض الذي نعيش على سطحه دون أن نعرف أسراره الكثيرة المحيّرة.

من almooftah

اترك تعليقاً