رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

حمص – سوريا – ص – ب – 5121 جوال 0966326100
نبيه اسكندر الحس

الاحتجاج
رواية
( يبكي ويضحكُ لا حزناَ ولا فرح ..كعاشقٍ خطَ سطراً في الهوى وم ..من بسمةِ النجمِ همسٌ في قصائدهِ ..ومن مخالسةِِ الظبي الذي سنح ..قلبٌ تمرسَ باللذاتِ
وهو فتى كبرعمٍ لمستهُ الريح   فانفتح مالي الآقاحيةِ السمراءِ قد صرفت عنا هواها أرقُ الحسنِ ما سمح لو كنتِ تدرينَ ما القاهُ من شجنٍ لكنتِ أرفقَ من آسا ومن صفح )
اكتظت الأزقة بالناس حين حل “علوان ” ضيفاً على القرية ، تطلع حوله رأى الصبايا يحملن الجرار الفخارية على أكتافهن ،من بين الصبايا أعجب بقوام ” ماجدة ” الرشيق ،وبقي طيلة الليل يحلم بوجهها الملائكي ،عند الصباح تناول الفطور مع جلوي ومازالت صورة ماجدة تطوف في
تجاعيد دماغه ،دون أن  يفصح عمّا يجول بخاطره لصديقه الشيخ “جلوي ” .
خرج ليرى خيوط الشمس الزاحف يمشط مياه النبع ليقطع برودة الصباح ،وبدا النبع في سفح التل كآلهة أسطورية تعطي الحياة لأهل القرية ،وتحولت الأشجار إلى مخبئ للعصافير التي بنت أعشاشها بين الأغصان فحضنتها كأم حنون أضفى المنظر جملا على القرية ،جلس  قرب النبع وفي
قلبه لوعة تحثه على مقابلة الفتاة التي رآها مساء أمس وكم تمنى لو عرف اسمها ،هزّ رأسه ونظر إلى الأفق وقع بصره على سرب من الطيور يرسم ظلالا على الأرض فشكل اسم عائدة ،اتجه إلى رأس النبع المتدفق لينتشي من برودة ماء فيها نشوة البادية ،وقسوة الصحراء الصباحية ،
رفع رأسه طالعته وجوه  الصبايا وهن يحملن الجرار على أكتافهن  يصدن   النبع ،كانت أسراب الطيور قد توحدت و انعكفت في دورة نصف دائرية لشكل خطا متناثرا فيما الظلال لامست سطح الماء ،وكانت الصبايا تأخذ دورها على نسق كأنها تستعد للاستعراض وراء لوحة تشكيلية ،كانت
عائدة تقف بشموخ أرض بعل ،كلما عبأت صبية جرتها تفسح مجال لصديقتها ،وحين اتجهن صوب البيوت قالت مزنة أنا بانتظارك على السهرة يا عائدة ،وقع الاسم عل سمع علوان كشرارة على الهشيم إبان يوم قائظ ،نهض وسار خلفهن وعند مفترق الأزقة سلكت عائدة مسلكا يفضي إلى دارهم
،دون أن تدري أن علوان يقتفي أثرها ،عاد علوان من حيث جاء بعد أن عرف دار ضالته ،كان جلوي ينتظره على أحر من الجمر ،يسأل نفسه أين ذهب علوان في هذا الصباح ،وحين غرة ولج علوان البيت ، شعر بالهدوء ،فراح يمازحه :
– ما بلك فرحا !.
– وجدت الفاتنة .
– لم أفهم .
– لم انم طول الليل .
– لا تقل أنك عشقت من قريتنا !.
– نعم ،واسمها عائدة .
فهم جلوي من كلام علوان أن مزاجه غير قابل للمزاح فقال :
– أعانك الله .
– يا شيخ لم أر مثلها في حياتي .
نظر الشيخ إلى وجهه ليقرأ العشق من تعابير ه :
– قليل من الصبر .
– المسألة لا أريد سواها .
– إن ماجدة عنيدة وتحب صابر علاوة أنها مثقفة دون بنات القرية .
قال الشيخ ذلك مستكشفا ليس ما يدور بذهنه بل ما مدى تعلقه بهذه الفتاة من النظرة الأولى .فسرّ لنفسه : ” إن هذا الرجل باع نفسه للشيطان ،كيف  أساعده لينال مبتغاه ،وكيف سيكون موقف صابر مني ؟…لكن غيابه طال وربما يكون ارتبط مع فتاة من بنات المدينة ،منذ مدة لم
نسمع عنه أي خبر ” .
– هون عليك .
– ما الحل برأيك ؟.
– تعال معي .
خرج جلوي ومن خلفه علوان يقصدان بيت زوج أمّ عائدة ،طيلة الطريق يسترجع كيف ساعد الأفندي  وحبك معه مكيدة أودت بحياة والدها الذي كان يحث الفلاحين على المطالبة بحقهم من الأرض التي بقروا بطنها بأياديهم وبذروا فيها البذور فنبتت قمحا وأشجارا مثمرة ،كان يدرك أنه
باع نفسه للشيطان .كان زوج أمّ عائدة يجلس على المصطبة وهو يمضغ لقمة ظهرت آثارها على شاربيه ،وسمع زوجه من داخل البيت تناديه :
– اشبع جاء جلوي .
وقف مرحبا بالضيف وصاحبه ،نظر علوان خلسة إلى غرفة عائدة المزدانة بأطباق القش المزخرفة فحدث ذاته : ” أكيد صنعتها رائعة الجمال ” !..
كان  يفهم أسرار جلوي العميقة ،بقليل من الدراهم يقلب الحق باطل والعكس أيضا .لا يدري أين طرحه الصمت لحظة  تعرف على زوج أمّ ” ماجدة ” ،كان ذلك عن طريق صاحبه ،بعد تساؤلات عن أحواله والموسم ،أدرك أنه بحاجة حيث مرت السنة دون أمطار ،اكتف بذلك ولم يقل شيئا سوى
عرفه من يكون الضيف وقبل أن ينصرف قال :
– سنزورك قريبا .
وانصرف مع صاحبه .
في صباح اليوم التالي ذهبا معا إلى المدينة ثم عرجا إلى البيت . غاب علوان  لدقائق ثم عاد وما هي إلا لحظات حتى نادى :” تعال يا شيخ فدعان ” .
كانت الطاولة ملأى بالأطايب والشواء هذه المادة الرئيسية التي  يقدمها ابن المدينة للضيوف الأعزاء عربونا للوفاء ،وبثقة وعينين خاليتين من البريق كعيني تمساح قال فدعان :
– ماجدة لك لو كلفني ذلك أن أسخر كل جن الأرض .
– أنت عند وعدك ؟.
– ألم تثق ؟.
– العغو ولكن !..
– ماذا ؟.
وراح يلتهم الطعام بشراهة نار شبت في الهشيم أ،في تلك اللحظة تحرك الهواء وتحرك الغبار والشمس تجاهد لتنفذ الذرات فتصب شواظها في أزقة المدينة تحول التراب إلى رمضاء ،لم يكن جلوي معتادا على هذه الحرارة وكيف وهو ابن القرية والهواء الطلق المضمخ برائحة الأزاهير
،لا يدري كيف قضى الليل لم تر عينه النوم من خراطيم البعوض ،كانت  أشد فتكا من لسع براغيث القرية  أيام الحصاد .كانت الديكة تنقر خيوط الفجر عندما دخل علوان وأيقظه ليؤدي صلاة الفجر ،ورح يتمايل كطاؤوس خرج من الخم .وفي سرّه يقذف صاحبه بالشتائم ،وما هي إلا دقائق
حتى سمع جلبة في الشارع ، وتعالت أصوات أصحاب الطنابر وصرير عجلات العربات على الأحجار البازلتية .فجأة دوى الصراخ وتشابكت الأصوات ،نهض فدعان  وعزم أن يخرج إلى الشارع ،فمنعه علوان :
–      لا شان لنا .
–      ما قصدك ؟.
–      مظاهرة تأيد للوحدة .
–      مع أي دولة ؟.
–      مصر .
–      مصر عبد الناصر .
سرّ علوان  لنفسه : ” أيكون صابر معهم ،ربما من يدري ” ؟.

تمدد زوج أم ماجدة على الفراش ،كان يفكر أن يبتاع عربة وأدهمان ،ولكن ليس باليد حيلة هذه الفكرة منقوشة في دماغه من زمن ،والآن أصبح بوسعه أن يحقق حلمه ولم لا أليس ابن المدينة جاء إليه دون دعوة ،إذن سيعتمد على جلوي ،ومن المؤكد سيكفله عند ابن المدينة ،وراح ترقب
عودتهما حسب الوعد ،عبرت طيور متراتلة تؤلف خطا في الفضاء أرسلت ظلالا على الأرض وراحت تكبر وتتسع مؤلفه رسما عجيبا يوقظ في الإنسان قصة ( هابيل وقابيل ) في لحظة مسكونة بالخوف والقلق والمباغتة ،بعد ثلاثة أيام حضر جلوي وعلوان ليكتبا مصير عاهدة على مائدة زوج
أمّها العامرة بالأطايب والمشروب الخاص بالأكابر . ولكن بدراهم علوان ، لم يمض كثيرا من الوقت حتى عاد إلى زيارتهم .بقي مدة في ضيافتهم ،وفي الليلة الأخيرة طلب يد ماجدة واتفق مع زوج أمّها على المهر ، شربا الخمر معا حتى بزوغ الفجر ، كان يضع ثقته بصاحبه الشيخ
“جلوي ”  يعتمد عليه لأسباب عدم وجود أي شخص من أقاربه في القرية ، طلب منه أن يكتب عقد الزواج ،بكت أمها لعلها تنقذ ابنتها فقال جلوي :
– هذا الكلام لا يليق بك .
ردت عليه عاهدة :
–      ما قصدك ؟…هل تعلمنا الكلام والأخلاق ؟.
–      نعم .
والتفتت إلى الحضور ،لكن لا من مجيب كانت الرؤوس مهترئة ،كان الفقر ينفخ في البيوت ويدور وماجد  منشغلة وفجأة توقفت عن الكلام حين أقسم زوج أمها بالطلاق إن لم توافق .
أحضر الشيخ شاهدين من أهل القرية ،وقعا على  العقد ،نهض ” علوان ” ليقبل يد الشيخ ،ولم ينس يد زوج أمّ ماجدة أيضا .
زغردت زوجة الشيخ و صبايا القرية أيضا.دنت زوجة الشيخ  من ماجدة لتقبل خدها، وحذت الصبايا حذوها :
–      مبارك عليك .
من بعيد دوت صرخة أو هكذا هيئ لها ،فقالت لنفسها :” ليته صوت صابر “.
ومازالت تقذف الشتائم وهي ترقب العيون الكليلة .

كان عقل ماجدة  مشغولا على  صابر ،رغم قرار زوج أمّها،هذا ما حصل  لقد  تزوجها علوان بعد بالاتفاق معه وبماركة من جلوي  الذي أرغمها على لبس ثوب العرس .وما برحت  صورة صابر في مخيلتها .
كانت ليلة العرس غير كل الليالي .قال زوج أمّها :
– ما أجمل الفرح ؟!.
تذكرت ماجدة أيام الحصاد وعرس ابن المختار،الذي أقامه على بيادر القرية ، وما هي إلا دقائق حتى وصل قارع الطبل الغجري والزمار معهما الغجرية شوق التي رعت في الرقص ،من لا يعرفها بدت كبنات الأساطير ،ترتدي ثيابا زاهية ،وخلاخيل من نحاس موشاة بالفضة ،حين خطرت بدت
تسرق الألباب ،ثمة وشم يشطر الشفة السفلى  فقسم الذقن إلى نصفين ،كانت  تفرد ذراعيها كأنها تحتضن الفرح ،يومذاك اتفقت مع  صابر  أن ترقص شوق في عرسهما ،هذا الخبر ما زال  يتردد على ألسنة أبناء القرية ،لكن الذي حصل سافر صابر إلى المدينة ليتطوع في الجيش دون أن
يطلعها على ذلك ،ورغم انزعاجها غفرت له ،لأن مصاريف العرس باهظة فمن أين له تسديد النفقات التي سترهق كاهله ؟ .لكنه سافر  وتركها  تواجه  زوج أمّها ..
في صباح اليوم التالي أخذ علوان ماجدة  إلى  أزقة المدينة المهمشة،اكتفى أن يعلن عن زواجه بحفلة  متواضعة .تغير كل شيء فهي لت تألف أجواء المدينة من قبل ،كانت معتادة أن تذهب إلى الحقل كل صباح لتجمع الحشيش للماشية ،وتجمع الهندوبة والفطر أحيانا وحين تشعر بالتعب
تجلس في مكانها تراقب الفراشات والعصافير المغردة بين أغصان الشجر ،وتفتح صدرها للهواء الطلق ،ومنذ جاءت إلى بيت علوان باتت حبيسة جدران حجرية ،تقف في فسحة البيت تنظر إلى السماء فلم تر سوى العصافير تجوب الفضاء ،وحين بضيق صدرها لم يكون أمامها سوى الخلود للنوم
،هكذا  مرت الأيام بطيئة ،لم يمض على زواجها سوى أشهر  حتى تحرك الجنين في أحشائها ،فغدا الجنين أنيسها في وحدتها .يخرج  علوان مع الفجر ولم يعد إلى البيت حتى منتصف الليل يناول طعام العشاء ويندس تحت الفراش ،فلم تعد تسمع سوى الشخير .ذات يوم خطر ببالها أن تتخلص
منه فقررت في قرارة نفسها أن تقضي عليه ،لكنها تراجعت خوفا من العقوبة .  كان علوان يشرب الخمر قبل زواجه ، فجأة  مال إلى الهدوء وراح  يرتاد زاوية في أحد الجوامع . لا تدري كيف طرأ عليه هذا التحول الذي جعل ماجدة  تحس بالراحة النفسية ، لكن بعد حادثة حلب سيطر
الخوف على كيانها  ،أحست بحدسها أن تحولا آخر سيطرأ على علوان ،حاولت أن تضعه في حقيقة  ما يقلقها فسألته :
– علام تقضي جل الوقت في الجامع .
– هل يزعجك ذلك ؟.
– لا .
– إذن يجب أن تغيري مظهرك .
– ما قصدك ؟.
– السفور  حرام .
– يوم زواجنا لم تعترض على سفوري .
– الحمد لله تغيرت .
– لكنني  لم أتغير .
– عليك أن تكوني مثلي .
– لا …
– علام ؟.
– هكذا عشت بين أحضان أمي .
– الآن تعيشن بين أحضان زوجك …وعليك إطاعته.
– لا وألف لا .
– أتخالفين أمري ؟.
– هل أنت منهم ؟.
– ما قصدك ؟.
– أولئك الذين قتلوا الناس …
– اعتبريني منهم ،هل تكونين عدوه لزوجك ؟..
–  فسر الأمر كيفما تشاء .
– دعك من العناد .

ذات مساء كانت تجاس قبالته  ترقب أمواج الليل من خلال النافذة ،لم تعرف النوم طيلة ذاك الليل ،كانت أنغام الموسيقى تتصاعد من مذياع الجيران ،نظرت إلى علاقة الثياب يتأرجح منها مسدس في جرابه ذا حلقة كانت تحين الفرصة للانقضاض عليه فجأة وثبت وتناولته ،هذا ما جعل
علوان يفتح شدقيه دهشا وقال :
–      احذر أنه محشوا .
–      هذا ما أريده .
–      سترتكبين جريمة .
–      لا تخف منذ زمن أبحث عن هذه الفرصة لأنهي حياتي .
–      حياتك ؟.
–      نعم الآن  ستأخذ حياتي معناها النهائي .نفذ ما سأقوله
–      ماذا تريدين ؟.
–      سأرجع إلى القرية .
لم يجد بدا من الخضوع لآمرها لقد جهز كل شيء استعدادا لهذا المشهد ظنا مجرد مزاح في البداية ثم اكتشف حالة غير متوقعة هي جادة فيما تريد ،حاول منعها عسى تتخلى عن فكرتها الجنونية .فقالت :
–      كن عاقلا ودعك من أوهامك البطولية ،اسمع لا تأخذك الحيرة فأنا اسمي ماجدة وليس وليس خيرية ،انا أحب صابر فحين لا تعرف معنى الحب ،ستذهب إلى متاهات عقلك الصغير .
جمعت أغراضها الخفيفة ،وخرجت من البيت ، عبرت الأزقة الضيقة وما إن وطئت قدماها تراب الطريق الذي يفضي إلى القرية ،أطلقت ساقاها للريح ،فبدت كعصفور يجرب جناحيه وصموده أمام الريح ،حين وصلت إلى القرية مع خيوط الفجر،وقفت أمام الباب  متهالكة وما إن ولجت البيت
حتى وجدت جناحيها ثبتت بالشمع كجناحي ” عباس بن فرناس ” ماإن تقترب من الوهج حتى يذوب الشمع ، سقطت على الفراش كثوب عبثت فيه ريح الخريف ،غطت بنوم عميق ، جلست أمها ترقب صدر أبنتها الذي يعلو ويهبط ككير حداد قريتهم ،شعرت بأنها تعيش كابوسا ،دنت منها بلطف لتوقظها
،نهضت ماجدة مذعورة :
–      لن أتغير أبعد عني .
بسملت الأمّ وحوقلت :
–      ما أصابك كفى الله الشر ؟!.
دعكت ماجدة عينيها ،التفتت يمينا وشمالا :
–      أرجوك يا أمي أبعده …
–      ما قصدك ؟.
–      علوان لا غيره .
بعد أن هدأ روعها أخذت تقص على أمها ما جرى  لتضعها في حقيقة الأمر .حاولت أمّها أن تخفف من ثورتها، وبعد حوار طويل بينهما لم تصل إلى حل فقالت :
–      سأترك القرار الأخير لصاحب الرأي.
–      لمن ؟.
–       لزوج   هكذا تقضي العادة .
سألتها ماجدة :
–       رأيك  المهم عندي  .
–      لا أستطيع حمايتك بدونه .
تذكرت حين وعدها صابر بالحرية ،ولكنه سافر ولم يصمد أمام المختار ،والآن يجب أن تنال حريتها بنفسها ،علوان سيأخذ كل شيء دون أن يعطي للآخرين شيئا ،وهي أصبحت سلعة في بيته ليس أكثر وما عليها إلا أن تتمرد على الواقع وإلا ستبقى سلعة بيده .
يومذاك قالت :
–      أنا لا أريد غير الحرية
لم يصمد أمامها :
–      أنت حرة .
يصمت مليا ثم يردف :
–      كل ما في البيت تحت تصرفك .
–      هل الحرية في المأكل ؟.

كانت أمّ ماجدة تجلس في فسحة البيت وتلطم وجهها والدموع تنهمر مدرارا وهي تردد : ” آه …ضاعت ماجدة “.فجأة دخل زوجها مهرولا على صوتها وكرشه يندفع أمامه :
– هل أصابك مكروه ؟.
– ضاعت ماجدة .
نظر إلى داخل البيت وقع بصره على ماجدة فقال :
– كيف ضاعت وهي بطولها وعرضها .
ضربت بكلتا يديها على الأرض ثم رفعتهما كأنها تكيل التراب على رأسها ،فبدت كأنها تقف على خشبة المسرح لتقوم بدور النائحة وقالت :
– ماجدة طلقت .
بهدوء الرجل الرزين قال :
– هدئي من روعك ود عيني أفهم .
نادى ماجدة جاءت لتقف أمامه لتشرح له ما حصل  وتسمع رأيه لكنه وضعها في حقيقة أن على المرأة أن تنصاع لرغبات زوجها مهما كان الأمر ،وحين أدركت أمها عدم استجابتها لرأي زوجها كادت أن تنفجر في وجهه لكنها حسبت ألف حساب أن يرمي عليها الطلاق ،فتصبح هي وماجدة في
الشارع ،ولما لا يفعلها أليس هو من نقل ملكية زوجها أبو ماجدة إلى اسمه بمساعدة الأفندي الذي دبر المكيدة لزوجها ،وتزوجها عنوة دون رضاها .وحين قال :
– يجب أن نسمع من الطرفين .
– هدأ من روعها بعض الشيء .
– كما تريد .
قالت ماجدة .ونظرت إلى وجه أمها بعد أن غلق الباب خلفه وانصرف إلى بيت جلوي ،وراحت تجتر لعابها وتجمع ما في فمها من لعاب بعد أن نخرة من أنفها ثم كورة كل عباراته وقذفتها دفعة واحدة :
–      ( أخ تفوه ) .
ضحكت أمها :
– ابنة أبوك .

جاء علوان إلى القرية وذهب  إلى بيت جلوي تحت جنح الليل ولج البيت وجد عم ماجدة عنده .راح يستدر عواطفه  ،قدم له هدية لائقة ,حين كسب موافقته ،  ذهب معه البيت حيث ماجدة تنتظر رأي عمها،ولحق بهما جاوي  حاول زوج أمّها إقناعها بالعودة الى بيت زوجها ،وقبل أن توافق
،ضحك علوان قال :
–      على شرط أن تلتزم بما أريد .
–      لا أريدك .
وقطبت ما بين حاجبيها .
رفضت ماجدة  كل مقترحاته .فأقسم أنه سيرف دعوة ألزامها في بيت الطاعة وانصرف مع جلوي دون أن يرتشف القهوة مما جعله يسافر إلى المدينة قبل انبلاج الفجر ،وأخبر جلوي  أنه سيرفع دعوى طلاق بحقها .
لفها الصمت والظلام ،وسمعت صوتا هادئا جميلا :
– سأعود ..
– آه …أين أنا ؟.
نظرت إلى أسفل رأت قمم الجبال تزيل عن جبينها الضباب .
في اليوم التالي سافر إلى المدينة ذهب علوان إلى الرعية وقدم بلاغ بحق ماجدة يطلب الطلاق ونفذ وعده ،لم تمض إلا أيّام حتى تلقت مذكرة دعوى تلزمها بالحضور إلى المحكمة الشرعية ،أو حضور وكيلا عنها وإلا سيصدر بحقها حكما غيابيا ،مما جعلها تحضر الجلسة ،وحين امتثلت
أمام قاضي المحكمة قالت :
– أنا موافقة على الطلاق .
– هل تنازلت عن المهر ؟.
– لا …هذا حقي ثمن عذريتي .
– نحدد جلسة أخرى .
لم تبت المحكمة بالدعوى قبل ولادتها ، مرّت الأيّام  ولم يسأل عنها حتى جاءه خبر ولادتها .فقال لنفسه :
–      سوف ترين كيف سأنزع الصبي من أحضانك .
وقد تدبر أمره عندما وجد شاهدين زور قالا :
– سنشهد أنها زانية .
رسم الشعاع  هالة من نور فوق سرير امرأة تنام تحت غطاء ،ظهرت ساقها  عارية ،وبقيت الساق اليمنى ،تحت طيات الغطاء  تأخذ شكل زاوية،تعذر على الضوء الزاحف  إلى ثنايا الغطاء  أن يصل إلى الركبتين ،حين أحست بالدفء قذفت الغطاء بحركة لا شعورية ،مما فسح المجال للضوء أن
يمضي في رحلة ليلف جسدا عاريا .أجهدت نفسها لتعود إلى طبيعتها ،أنبأتها الرؤيا بأمر مرعب ،وقف “علوان ” أمامها في لحيته الشعثاء،وشعره المنكوش ،وجسد شبه عار يلونه التراب ،كان ولدها يستحم بماء الفرات العذب ،بعث الرعب في قلبها ،تضرعت إليه أن يترك ” علوان ” ويعود
إليها ،أخبرته أن منزلته في نفسها كبيرة  ،نظرت من النافذة ،رأت الخريف يعري الأشجار مع جنون ريح تدفع الأوراق نحو البعيد ،ألفت زوبعة يتحاشاها الناس ،وما أكثرهم في شارع يفضي إلى أزقة ضيقة ،تاهت في تفكيرها وهي  تنظر إليه نظرة مذعورة ، طفح غضبها حين تلاشى الضوء
،أرادت أن تتحرر من الألم ، صرخت :” سيكون محالا عليك ” …
استيقظت من رقادها ،سرحت نظرها في البعيد ،أوغلت في ذكريات أججت اللهب في داخلها ،أعادتها إلى أيّام الطفولة ،كانت تجمع الورد عارية الجسد ،تلحق بها أمها إلى الحقل منادية :
– عودي إلى البيت .
غير أنها  تحلم بالزهور في واحات البادية ، يلاحقها طفل في عمر الورد مثلها ،عصفور يقفز من فنن إلى فنن ،يغني للفراشات حزنه المألوف .
كانت الثلوج تمنع القطيع من الرعي ،كل من عرفها سماها ماجدة ( حسن صبي ) لا لشيء ،سوى دخولها المدرسة دون باقي البنات ،كان والدها يحرس القرية من الوحوش الضارية ،ورث المهنة  عن جده ،كان يتأبط بندقية الصيد ويغني الموال على أطراف خط المطر ،غير أن الطفلة كانت
تكبر عاما بعد عام في كنف زوج أمّها ،تسهر الليل مفكرة حالمة . تنتظر إشارة من قرينها ” صابر ” الذي يقرأ أكثر من ساعتين ليستيقظ عند طلوع الفجر مع الديكة يحذر من اللصوص ،يسكن بيتا من الطين .
منذ ذلك المساء لم تعرف عنه شيئا سوى أنه سافر تحت جنح الليل .
فسألت ذاتها : ” أين أنت يا صابر ” ؟.

بدا النزل كحمام قطع ماؤه ، و بدا دخان السجائر دوائراً  يشكل سحابات ضبابية بين أرجاء الصالون ، ثمة رائحة مرحاض قلما يخلو من صاحب حاجة ، كان يتوق أن يتعطر أنفه برائحة أنثوية ، يبدو أن  ليس له من الطيب نصيب ، لا يوجد سوى عبق أجساد متعرقة مشبعة برطوبة الملح
.. اعتاد عليها منذ طفولته ، وسرعان ما غالبه النعاس، رأى نفسه واقفاً أمام أبي ” صابر “، يتوسله أن يعود ، لكن دون جدوى .
جاءه الأستاذ بروعة الحلم :
– ينبغي أن تكون الاستثناء . أمّك حزينة و مجللة بالسواد . أحذرك من بنات الهوى . سترقص أمّك و تزغرد احتفاء بعودتك .
سحره الخبر و غدت العبارات أمام ناظره تتساقط كالثلج ، فأحس بأن البذور تنمو لتلون الثلج. و شريان أحمر يشق هضبتين ، و من على القمة تلوح أمّ ” صابر” ومن خلفها فتاة رائعة القوام : ” لك ماجدة  ” .
استيقظ على صوت أحد العمال : رجاء … لا أطلب إلا حقي يا خواجة .
– أي حق لك يا  زبر  ؟…
فقال صابر لنفسه : ” يا إلهي ! … زمان ينال فيه الأحمق كل شيء ” .
و لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً ، تناول دفتر مذكراته  هارباً من الضجيج ، قرأ حروفاً ، ركز عينيه على لوحة قلب ثقبته ثعلبة سهم قطرت دماً ، اتسعت لتشكل بحيرة تطوق وردة من الجوري . تسرب ضوء الشمس من النافذة ، رفع رأسه فوقع بصره على  أمّ ” خليل ” نظر إليها
بدهشة شديدة ، كانت  تعبر عتمة الممر .  ثمة صبي يسير خلفها يحمل بيده دفتراً . أخذ بجسمها المكتنز ، وقفت أمامه بكبرياء سألته :
– ما اسمك ؟ .
– صابر …
– صابر على الفراق ، أريد اسمك الحقيقي .
– نعم صابر يا أمّ خليل .
– إذاً ناولني ربع ليرة .
أنقدها ليرة ورقية :
نظرت إلى الصبي :
– سجل … ليرة من صابر .
سألها الصبي :
– هل أسجل ليرة يا جدتي ؟ .
– نعم . سينام ثلاثة أيّام بعد اليوم .
استرسلت في الحديث مع ” صابر ” ،  أخذت تتفحصه من أعلى هامته حتى أسفل قدميه ، عرفت من يكون ، هي خبيرة بالرجال … سألته :
– ما هو عملك ؟ ..
حاول أن يضع حداً لتساؤلاتها ، خوفاً من زلة لسانه ، هي خريجة أكاديميات  في بيروت و عارفة بأصناف الرجال :” عامل بناء ” .
– مش باين عليك …. أنت ابن نعمة .
– لا … رحل صاحب النعمة إلى جوار أبونا إبراهيم ،وترك خمسة أنفار كالجراد يأكلون الأخضر و اليابس … و ربما أصبح جواره ، قبل الحصول على حصر الإرث .
– ألم يقسم ملكته قبل وفاته ، هل حصتك محرزة ؟ .
– مليون ليرة فقط ليرة تنطح ليرة .
– ربي يسكنه الجنان .
– و أنت يا أمّ الكل .
غمز بعينه .لأنه شك في أمرها. عرفت ما يضمر .لكنها بلعت البحصة .
هزّت رأسها ، و انصرفت تجمع النقود من النزلاء .
ضحك في سرّه ،لا يدري لم نسب الموت لأبيه ، و قد ورثه و هو حياً يرزق  قال لنفسه : ” كيف سيكون حالها ، إذا عرفت أن والدي يركض و الرغيف يهرب من أمامه حتى أصبح في أحداقنا كالقمر ” .
يومذاك استطاع أبو ” صابر ” أن يؤمن له طريق الهروب حين جاؤوا لاعتقاله ، فقال :
– قتلتني يا صابر ، نحن نموت جوعاً ، و أنت تعاند الحكومة .
كانت ” ماجدة ” تقف على السطوح ، حين وثب من كوة الزريبة ، قذفت محرمة في داخلها بعض النقود . سلك مسلكاً يفضي إلى حقول القمح ، رأى عربة يجرها أدهمان ، وثب كنمر إلى جوفها ، تكور فوق سوق القمح ، تاركاً لروحه العنان .
و ما زالت أمّ ” خليل ” تجمع نقودها من النزلاء ، كانت تتقن كل فنون الإغراء ، تبدو أحياناً طيبة ، و أحياناً غاضبة ، و إذا ما غضبت تقذف من فمها كافة شتائم السوق و السوء . خصوصاً إذا تأخر أحد النزلاء عن دفع ربع ليرة .
لم تمض إلا ساعة حتى سمع صوتاً كنغمة ناي :” ماما .. ماما  الشاي جاهزة ” .
نظر إليها بدهشة شديدة ، تذكر حلم لم يمض عليه سوى دقائق ، لكنه غض طرفه عن ملاك هبط لتوه بثوب إنسان ، خوفاً من لسان أمّ ” خليل ” السليط ، هي العارفة ، فلا تفوتها مثل هذه الحركات ، أليست هي خريجة متاهات بيروت . ثمة رجل يتدفق بالحقد و الحسد ، علق :” تعجبك
الأمورة الحلوة “.
–  يستر عليها .
وحول نظره جانباً ،خوفاً من إقحام نفسه في حوار مع رجل قميء ،  سرّ لنفسه : ” زمان ينال فيه الحكيم الكراهية ” .ردّ الرجل : ” كيف ستكون مستورة بين هؤلاء الرجال ” ؟ ! . جعلته العبارة حذراً  من عيون ترقبه ، ضاق ذرعاً ، أو لم يكن محط الأنظار سأل نفسه : ” أو ليس
للحكومة عيوناً ” ؟ .
كان ” صابر ” غارقاً بالذهول ، حين أقبلت الفتاة كالفجر ، تأخذ ملامح من ماجدة لكن بفارق بسيط ، دفعت صينية الشاي :
– تفضل …
– لم أطلب الشاي .
– تزعل …ماما .
– شكراً .
لم ترد على الشكر ، ربما كانت الكلمة جديدة على أمثالها ، فمن الأجدى عليه أن يقول ” ميرسي ” .
انصرفت تتمايل ، أشارت أمّ ” خليل ” بيدها ، ردّ ” صابر ” على الإشارة ، أدرك أن الفتاة تستحق الاهتمام ، لكنه امتعض حين تذكر فقر والده المدقع ، قرعت العبارات أذنيه :”  نحن نموت جوعاً و أنت تعاند الحكومة “.
شعر بالخيبة تماماً . عادت الفتاة لتجمع الكؤوس ، انصرف بأفكاره إلى اكتشافها ، لكنه تراجع خوفاً من لسان أمّ ” خليل ” السليط . مدت عنقها بطريقة ما . ظهر الصدر كبياض الثلج، وتدلت هضبتين ، يشطرهما سلسال جميل ،ليرسم لوحة قل نظيرها ، جعلته يرحل بأفكاره إلى
مدارات لا حدود لها :
– هل الشاي لذيذة ؟ .
– زادها جمالك حلاوة .
– ما رأيك … بكوب آخر ؟.
– هل أقول شكراً أمْ ميرسي ؟.
– كما تشاء .
أقبلت أمّ “خليل ” ، و الحيرة تأكل لبابها : انقلاب عسكري .
هب صابر واقفاً ،ودون أن يسأل عن شيء ،  هبط درجات السلم ، يمم وجهه شطر المكتبة ، ابتاع جريدة ،  قرأ ما بين السطور ، عاد أدراجه إلى الفندق ،حمل الحقيبة ، لم يعد ثمة ما يبرر اغترابه ، استوقفته أمّ خليل :إيه ما هي الأخبار ؟ ..
– أمي استأصلت المرض .
– ما خاب ظني .أمك أم دولة الانفصال ؟.

( بكره وأنت جاي
راح زين الريح
وخلي الشمس مراي
والكنار يصيح
وجمع ناس وعلي قواس
وبكل شارع ضوي حكاي
بكره وأنت جاي )
يوم ولادتها كانت السماء مليئة بالغيوم ،وأشجار التين عارية ،والصقيع يقص المسمار ،لبس الحقل ثوبا من العشب الأصفر ،ثمة قراد مهووس يمص دماء أهل القرية ،لا تعرف ” ماجدة ” كيف ولدت لكنها تعرف أنها ولدت في بيوت الطين بين شجيرات الشوك ،هبت واقفة :
– نعم سأتزوجه لأنجب مثل كل العاشقين أولادا .
وقفت كغانية على ضفة النهر ، و خيوط البوح تلملم أطرافها ، خلعت ثيابها  جمعتها بطريقة عشوائية ، كان شفق الشمس يلون الماء. تأبطت ذراعه  و قذفت الحذاء كلاعب كرة قدم ، كانت محاولتها الأولى ، أيقظتها حوارات الليل لتظهر الرغبات . خيل لها أن ظله يذوب في الظلام
،ظلت لحظة صامتة ،ثم عادت إلى فراشها ،غطت بالنوم ، يهيئ لها أنها مع رجل يضمها،كانت تحس أنفاسه وانفعالاته ،فقال :
مساؤك جلس على شفتي ليستريح وهاهو يطالب الفجر ببناء مملكة القبل ،ابتسامتك غربت شمسها لحظة الذروة الفاتنة ،فهل تعودين قبل رحيل القطار الأخير ،أقمارك التي غازلتني في كل لغات الأرض هاجرتني ،فرحت أركض خلف نجمة القطب ،أنت لم تولدي للهلع أو التفاهة والغيرة
المضادة لم تولدي لتبكي ،أنا الذي عشتك عاشقا وشربت الحبر دواء ،ورأيت أوراقك لحظة هبوب العاصفة ،فتذكرت كل فصول العشق ،وفي العراء كنت العري الوحيد الذي أضع قدمي بجوار قدميك العاريتين الجميلتين ،فما عدت أرى في صلواتي التائبة غير وجهك وأنا أتصور الطفل المعجزة
الذي ستلدينه ،فمن أكون ؟. ومن تكونين ؟. لما تأخذين كل هذه المساحة من الأرصفة في ذاكرتي ومن تكونين لأراك شمسا تركب عربتها وتطلق عنان جيادها وتسافرين وحيدة إلى اللامكان . وحين لامست أصابعه المناطق المثيرة :
– الآن عرفتك .
– هل تودين صحبتي ؟.
– إنه لشرف عظيم  …
–  أأنت واثقة ؟.
– أعرفك من زمان .
– حقا ؟.
___________________________الى اللقاء في الحلقة القادمة من – رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

من almooftah

اترك تعليقاً