/مديح النبيذ/ محمود درويش/
أَتأمَّل النبيذ في الكأس قبل أَن أتذوقه.. أتْركُهُ يتنفَّس الهواء الذي حُرم منه سنين. إِخْتَنَقَ ليحمي الخصائص. وتخمَّر في سُبَاته، وادَّخَر الصيفَ لي وذاكرةَ العنب.
أتركُهُ ينتقي لونه المُسَمَّى، خطأً، أحمر. فهو مزيج من قُرْمُزيّ تشرَّب غيمة خفيفة السواد. لونٌ لا لونَ له إلا اسمه: نبيذيّ، لنرتاح من مراوغة الوصف.
و أترُكُهُ يحترم رائحته، الرائحةَ المتكبرة المتعالية كالمُحْصَنَات من النساء. إن شئتَ أن تَشُمَّها فلا تأتي هي إليك. عليك أنت أن تتأكَّد من طهارة يدك وخلوِّها من العطر، ثم تمدَّها بلينٍ عاطفيّ إلى الكأس كأنها تقترب من نَهْد. تقرِّبُ الكأس من أَنفك بأناة نحلة، فتبعثرك رائحةٌ عميقة سريّة: رائحةُ اللون التي تُدْخِلُكَ إلى أَدْيِرَةٍ قديمة.
وأَتركه يستجمع خواطر مذاقه إلى أن نكون، أنا و هو، جاهِزَيْن عطشاً لاستقبالِ وَحْيٍ بالفم. لا أَتعجَّل ولا أَتمهل، فكلاهما كسر في إيقاع المتعة. أُقرِّبُ الكأس من شفتيّ بخفر المتسوِّل قبلةً أولى من امرأةٍ غامضة العواطف. أرتشف جرعة خفيفة. وأَنظر إلى أَعلى بعينين نصف مغمضتين إلى أن يسري سُلافُ نشوةٍ في شراييني. وتنفتح شهيَّتي على ما يليق بالنبيذ من حاشِيةٍ ملكية. هو النبيذ يرفعني إلى مرتبة أعلى، لا هي سماوية، ولا هي أرضية. ويقنعني بأنَّ في وسعي أن أكون شاعراً، ولو لمرة واحدة!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
/نص من كتاب "أثر الفراشة" للشاعر محمود درويش/
(اللوحة للفنانة السورية سارة شمة)
/مديح النبيذ/ محمود درويش/
أَتأمَّل النبيذ في الكأس قبل أَن أتذوقه.. أتْركُهُ يتنفَّس الهواء الذي حُرم منه سنين. إِخْتَنَقَ ليحمي الخصائص. وتخمَّر في سُبَاته، وادَّخَر الصيفَ لي وذاكرةَ العنب.
أتركُهُ ينتقي لونه المُسَمَّى، خطأً، أحمر. فهو مزيج من قُرْمُزيّ تشرَّب غيمة خفيفة السواد. لونٌ لا لونَ له إلا اسمه: نبيذيّ، لنرتاح من مراوغة الوصف.
و أترُكُهُ يحترم رائحته، الرائحةَ المتكبرة المتعالية كالمُحْصَنَات من النساء. إن شئتَ أن تَشُمَّها فلا تأتي هي إليك. عليك أنت أن تتأكَّد من طهارة يدك وخلوِّها من العطر، ثم تمدَّها بلينٍ عاطفيّ إلى الكأس كأنها تقترب من نَهْد. تقرِّبُ الكأس من أَنفك بأناة نحلة، فتبعثرك رائحةٌ عميقة سريّة: رائحةُ اللون التي تُدْخِلُكَ إلى أَدْيِرَةٍ قديمة.
وأَتركه يستجمع خواطر مذاقه إلى أن نكون، أنا و هو، جاهِزَيْن عطشاً لاستقبالِ وَحْيٍ بالفم. لا أَتعجَّل ولا أَتمهل، فكلاهما كسر في إيقاع المتعة. أُقرِّبُ الكأس من شفتيّ بخفر المتسوِّل قبلةً أولى من امرأةٍ غامضة العواطف. أرتشف جرعة خفيفة. وأَنظر إلى أَعلى بعينين نصف مغمضتين إلى أن يسري سُلافُ نشوةٍ في شراييني. وتنفتح شهيَّتي على ما يليق بالنبيذ من حاشِيةٍ ملكية. هو النبيذ يرفعني إلى مرتبة أعلى، لا هي سماوية، ولا هي أرضية. ويقنعني بأنَّ في وسعي أن أكون شاعراً، ولو لمرة واحدة!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
/نص من كتاب “أثر الفراشة” للشاعر محمود درويش/
(اللوحة للفنانة السورية سارة شمة)

من almooftah

اترك تعليقاً