​​​​​​​​​​​​​​
ليبيا مائة عام من المسرح”1908م- 2008 م”أو هكذا تكلم المسرحيون -2-72- نوري عبدالدائم
*****************​​​​*********************​​​​​​

كاتب لم يكتب شيئا مواجهه للذات وللواقع القمعي
بقلم : نسيم مجلى ..

قدمت “فرقة المسرح الحديث” بالبيضاء عرضا جيدا من حيث النص والإخراج والتمثيل. ولا شك فى قيمة هذه المشاركة
الليبية فى مهرجان القاهرة الدولى الرابع للمسرح التجريبى. وأن تأتى هذه المشاركة الفنية فى هذا الوقت
بالذات لهو أمر بالغ الدلالة، إذ يثبت أن الشعب الليبى قادر على اختراق المضروب حوله.
فهذه الأعمال المسرحية “المرتجلة” و “كاتب لم يكتب شيئا” تقول للعالم بلغة فنية حميمة، أن الشعب العربى
الليبى الذى جاهد فى سبيل الخروج من عصور التخلف والقهر والاستعمار، بوسعه أن يساهم مع شعوب العالم الأخرى فى
بناء عالم جديد يسوده العدل والسلام.
وسوف أقصر حديثى هنا على عرض مسرحية “كاتب لم يكتب شيئا” لأننى لم اتمكن من مشاهدة عرض “المرتجلة”.
ومسرحية “كاتب لم يكتب شيئا” كانت مفاجأة طيبة غير متوقعة وقيمة هذا العرض الحقيقية مستمدة أساسا من النص
المكتوب الذى وضعه الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه. وهو كاتب ليبى معروف، متمرس على فن كتابة الرواية والقصة
والمسرحية. وله فى المجال حوالى عشرين كتابا.
والنص يمثل محاولة جزيئه للتعبير عن معاناة كاتب عربى مع الرقابة وعوامل الأخرى المتمثلة فى تراث الفكر
الرجعى والممارسات القمعية. وقد توافق جهد المخرج وفنان الديكور والإضاءة فى تحقيق هذا الأثر الطيب الذى حققه
العرض. كما كان لأداء الفنان، إبراهيم إدريس، لدور الكاتب وقع حسن، يؤكد أنه فنان موهوب يملك القدرة
والتلقائية على تلوين انفعالاته وصوته وإبراز مشاعر المعاناة والفرح والسخرية بصورة مقنعة.
أما النص المسرحى فلابد من وقفة طويلة معه لنحلله ونفهمه. فهو نص ينبع من واقع يعيشه المبدعون جميعا فى
العالم. وهذه سمة هامة لأن التجريب الحقيقى إنما هو مغامرة فنية لاكتشاف الواقع ومواجهته. ومن ثم فإن هذا
العمل يدخل فى باب التجريب المشروع. بعكس الأعمال الغامضة والمبهمة أحيانا والتى تعتمد التجريد الكامل أو
حركات الرقص والجمباز.. فهى فى رأيى لا تنتمى لمجال المسرح الذى قام تراثه الخالد عبر الحضارات كلها على أساس
الكلمة.
من هنا كان احتفالى بهذا العمل الجديد الذى كتبه الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه. وهو يقع فى شكل المونودراما
أو أقرب الأشكال إلى المونودراما التى يقدمها ممثل واحد، هو الذى يقوم بدور الكاتب هما. وهو كاتب يعانى من
الإحباط الشديد فلا يقوى على الكتابة… فى ظل رقابة قمعية تحاصره من كل ناحية. وهو يحاول الهروب عن طريق
الحلم أو اجترار الذكريات أو استدعاء بعض شخصيات قصصه. ويتجسد كل هذا فى سلسلة من المشاهد المنفصلة فى عالم
الفنتازيا الذى يجمع بين الحلم والكابوس، وبين الكاتب والرقيب من وقت إلى آخر.
وإيقاع العمل يحكمه عاملان أو حركتان أساسيتان متواليتان ومتناقضتان: حركة ايجابية تصدر عن الكاتب كمحاولة
للهروب من القهر وتتمثل فى الحلم وتداعى الذكريات الجميلة أو استدعاء بعض أبطال قصصه. فهو هنا فاعل يمارس
دور الخالق المبدع الذى يتحكم فى مصير الشخصيات. وحركة أخرى سلبية تتمثل فى حضور الرقيب الذى يفرض وجوده فى
غرفة الكاتب فى اللحظات الحاسمة ليحبط كل مسعى للهروب أو الإبداع وبهذا يفسد كل اللحظات الجميلة التى تلوح فى
هذا العالم المخيف.
والمسرحية تبدأ بهذا الحلم الذى يتلقى فيه الكاتب مكالمة هاتفية من استكهولم تخبره بأنه فاز بجائزة نوبل
للآداب، ويعلن موافقته على استلام الجائزة، وفى الحال تبدأ الهواجس تساوره، فيطلب من محدثيه أن يحموه من
المنافسين الآخرين له وهو يوسف إدريس وادونيس اللذين سوف يعملان على قتله.. وربما قتل جميع أعضاء الأكاديمية
الملكية بالسويد. ولا يكاد يسمع طرقات على باب غرفته حتى يحس أن القتلة قادمون فيقفز من النافذة. وتزداد
الإضاءة سطوعا لتعلن عن تغير المشهد فدرى الكاتب مستلقيا على دراسة فى فنه القصصى. وأنه ما أن يبدأ فى
مطالعيه حتى يداهمه النوم. ولا نعرف أنه قد أفاق من النوم ومن الحلم إلا حين يخرج ليعد لنفسه فنجانا من القهوة
على السخان، ويبدأ فى الكلام من خارج المسرح، ليسخر من أوهامه وأحلامه بقوله:
انتهت كل المشاكل ولم تبق إلا أوهام جائزة نوبل، أعارك أشباح الظلام من أجلها (يعود ليمسك بالكتاب) أليس من
واجب الكاتب أن يؤلف كتبا قبل أن يحلم بالفوز بهذه الجائزة؟ كيف يستقيم الأمر إذن وأنا لا أستطيع أن أكتب ولا
أعرف كيف أكتب أو ماذا أكتب. ثم يستغرب كيف وجد الأدباء العرب وقتا لكتابة الأدب وهم يشتغلون معلمين وصيادلة
ومهندسين زراعيين ومخبرين صحفيين.
ثم تتداعى الذكريات. فنعرف أنه لا يملك اختيارا فى اكتساب الموهبة الأدبية. فهذه الموهبة قد ولدت معه. فقد كان
يسمع همس الطبيعة من حوله ومن فوقه. كان يسمع كلاما تقوله الريح ومواجع تقولها الجبال يسل. ولكن ماذا يعل
والأدب لا يطعم خبزا؟
فكر فى أن يحذر حذو نجيب محفوظ الذى فاز بجائزة نوبل. ولم يتفرغ للأدب إلا بعد أن أحيل للمعاش. فاشتغل مثله فى
وزارة الأوقاف.
لكنه لا يملك صبره ولا قوة احتماله، فشعر بالاغتراب، وترك الوظيفة.. وعاش متمسكا جائعا فى الشوارع دون أن يهتم
بذلك، أو يخشى على ضياع فرصته فى الزواج أو تركه للأهل والأصدقاء فقد نذر نفسه لرسالة الأسلاف العظام الذين
غرسوا شجرة الحضارة وسقوها بإبداعهم أدبا وفنا وفكرا. أى أنه اختار رسالة الكتابة.
وشطح به الخيال، فرأى نفسه خالقا مبدعا قادرا على أن يسرق النار من جبال الاوليمب ويدفئ بها قلوب البشر. وأن
يأتى بما لم يستطعه الاوائل على حد قول المعرى. فيعقد المحاكمات للملائكة والآلهة والبشر ويحدد لهم مصائرهم. بل
إنه يستطيع أن يحكم على زيوس، كبير الأرباب، وأن ينزله من عليائه، هذا هو التحدى الذى يواجه الأديب فى نظره.
لكنه يترك زيوس جالسا ويتنقل إلى مقدمة المسرح ليسرد بعض ذكرياته. ومنها نعرف أنه تعلم الكتابة مبكرا وهو
طالب بالمدرسة الداخلية، تعلمها فى المراحيض. فقد كانوا يطفئون أضواء عنابر النوم فيهرب للمراحيض يقضى فيها
جزءا كبيرا من الليل يقرأ ويكتب، ولعل هذا هو السبب الذى جعل العرب يطلقون على المرحاض “بيت الأدب”.
ولما كان محرما عليهم سماع الأغنيات العاطفية، ولا يسمح لهم إلا بالأغانى الوطنية فقد كتب لنفسه نشيدا خاصا
بمدرسته يقول فيه:
عليك منى السلام يا أرض أجدادى
ففيك طاب المقام وطاب إنشادى
وحين كان يسمعه الحارس الليلى يردده فى المرحاض يأتى ليطرده ويطفئ الأضواء ومن هنا بدأ الحصار والمطاردة.
فالاجهزة القمعية لا تطارد تاجرا أو نجارا أو طبيبا أو مهندسا.. أو تقتله بسبب مهنته.الكاتب فقط تقتله لأنه
كاتب. وهى تبدأ بالمطاردة أولا ثم بالمحاكمة. “ماذا نقصد بالشفق الأحمر الذى جعلته عنوانا لقصتك؟ ” لو قرءوا
القصة لعرفوا ماذا يقصد. وإنما اكتفوا بتفسير العنوان على أنه دعوة لثورة دموية حمراء.
ولماذا سمى نفسه قنديلا يبحث عن ظلام لضوئه؟ ألا يعنى هذا تأثره بالأفكار المستوردة وانحيازه لأعداء الوطن ورغبته
فى إفساد عقول الشباب. ويعجز عن مقاومة والرد المقنع، فيطلب من الرقيب أن يقدم له لائحة بالمواضيع التى يسمح
له بالكتابة فيها والمفردات التى يمكنه أن يستخدمها.
ويأتى الرد:”إن كل ما تكتبونه ملغوم، مدسوس، مليء بالدسائس والفخاخ، وهنا يدرك الكاتب أن الاعتراض ليس على ما
يكتب بل على مبدأ الكتابة أساسا، فيطلب الإذن له بالتوقف عن الكتابة، ويرفض الرقيب هذا الطلب لأن الصمت نوع من
الاحتجاج والتمرد يعطى أعداء الأمة العربية فرصة لأن يقولوا أن أدباء الأمة وضميرها مضربون عن الكتابة. لم يبق
أمامه إذن سوى أن يمشى فى الشارع هاتفا:
تعيش الرقابة تموت الكتابة
ويتغير المشهد ويعود الكاتب إلى نفسه ليكشف أن المشكلة ليست فى الرقيب فقط.”وإنما مشكلتى مع نفسى ومع تراث
القمع الذى أحمله معى. إنه حقا يسكن دمى، ويقيم تحت جلدى، وينام هنا بين أطباق مخي”.
إن الكاتب يضع أصابعه هنا على أصل المشكلة وبيت الداء. فالقمع ليس مسألة عارضة أو مستحدثة. بل تراث موروث من
مئات السنين نرثه أبا عن جد. فهو قسمة مشتركة بين أبناء هذه الأمة حاكما ومحكوما، لا نستطيع منه فكاكا. وهو
الذى يفسد أسلوب الحوار بيننا ويحيله شاكا للوقيعة والاصطياد بدلا من أن يكون وسيلة للتفاهم والوصول إلى
الحقيقة..
وعلى هذا يبدأ الكاتب فى توبيخ نفسه لأنه انهار أمام الرقيب ولم يقاوم. فالكاتب الذى ينصب المحاكمات لآلهة
الشرق والغرب يقف متخاذلا جبانا أمام الرقيب. فما أبشع التناقص. فكيف يكون موفقه أمام محكمة التاريخ؟
أخيرا لا يجد مفرا من تقريع الذات والهرب من الحصار إلا باستدعاء جميلة، بطلة رواية “حقول الرماد”
التى تفنن فى إبداعها وإضفاء أعظم صفات الجمال والبهاء عليها، ثم وقع حبها حتى إنه حرمها من الزواج من الشاب
الذى كانت تحبه، لأنه يريدها لنفسه زوجة.
ولا تكاد تبدأ أغنية الاعراس البدوية فى زفة العروسين حتى تختفى جميلة. ويضاء النور فجأة فلا يجدها. فيطفئ
قنديل الفرح ليخرج باحثا عنها. وفجأة يرى الرقيب أمامه.
ويعرف أنه مطلوب ألا يفعل شيئا حتى الزواج إلا باختبار الرقيب ويرفض أن يتدخل الرقيب فى حياته إلى هذا الحد
ويعلن استقالته من الكتابة. وهنا تبدأ عمليات السجن والتعذيب والمحاكمة. ويعجز عن الدفاع عن نفسه.
إن الكاتب فرد أعزل لا يملك سوى قلمه. أما الرقيب مؤسسة قمعية مدججة بالأسلحة وآلات التعذيب. وعند هذا الحد
يعلن انصياعه الكامل لأوامر الرقابة. فلا يتكلم فى السياسة ولا فى الدين ولا يشير إلى الجنس أو صراع الطبقات أو
أى صراع آخر.
فتبدل الحال فتعين له سكرتيرة للكتابة على الآلة الكاتبة ويذهب هو إلى المرحاض ليملى كلماته من هناك “وهى
عبارة عن غزل ومديح للرقابة وللرقيب.
والأغنية تقول:
يا سيدى الرقيب نهارك سكر وليلك حليب
وهى محاولة جادة لكشف هذا الواقع المؤلم بكل قسوته.. وهى محاولة موفقة تضافرت لها كثير من عناصر النجاح. ولا
ينقص هذا العرض إلا إبراز الفارق بين مشاهد الواقع الذى يحلل فيها هذا الكاتب ذاته وواقعة وبين لحظات
الفنتازيا أو مشاهدها.. وقد لاحظت أن هذه النقطة غير محسوبة بوضوح كاف فى النص.
فلا تكاد تدرى إن كل ما يحاول العرض إثباته أن الكاتب يعيش فى عالم الكتب وهو عالم كله وهم فى وهم وهو ما
تشير إليه النص أحيانا لكنه لا يلبث أن يخرجه من هذا العالم ليعمل القهوة مثلا أو الذهاب إلى المرحاض.. حيث
كنا نتلقى كلمات إلى عالم الواقع وراؤه…
وهذه كلها مآخذ بسيطة لا تقلل من قيمة هذا العمل الممتع الجميل، الذى أحيا فينا الأمل فى مزيد من الأعمال
الليبية الجديدة والناجحة. فقد قدم الكاتب محاولة جزيئه، وتغلب المخرج فرج أبو فاخرة على كثير من الصعوبات،
واهتدى لحلول مرضية. فقد جعل من مكتب هذا المؤلف إطارا عاما للعروض وغلفه بهذه الستائر الشفافة، ليكشف من
ورائها عن طريق فن السلويت والإضاءة عن الاشباح التى تحاصر المكان، وتقوم بعمليات التعذيب. كما وفق فى اختيار
فريق الممثلين الذين ساهموا بتعاونهم فى نجاح هذا العمل. تحية لكل من ساهم فى تحقيق هذا النجاح .

من almooftah

اترك تعليقاً