ليبيا مائة عام من المسرح”1908م- 2008م”أوهكذا تكلم المسرحيون -1-22- نوري عبدالدائم
**************************

تمسون في مسرح .. وتصبحون على وطن
فرج قناو في ذكراه التاسعة
بقلم / فتحي كحلول

في ذكرى وفاة المرحوم المبدع المسرحي فرج عبد السلام قناو 17-7-1999
“من غير ما يسلم على السمار ..
خلالهم تذكار ..
مسرح وأغاني وسلة أشعار ..
خلالهم براد شاهي وموقد نار..
لملم أوراقه وقلم ارصاص ” ورحل مع الأفجار..
يا وحشة السمار..
يا خالتي لا تشعلي الكانون ..
ويا خاطري المحزون ..
عدى فرج ومن غير ما يودع حد ..
.. وبالساكت كان رحيله ..
وهكي الحكاية يا حضار ”
إن أي كاتب مسرحي لابد وأن يستوحي مادته المسرحية ومضمونها الدرامي من ظروف المجتمع الذي يعيش داخله ويتأثر بأحواله وملابساته في أثناء قيامه بعملية التشكيل الفني ومن هنا تبرز أهمية الفن عموماً والمسرح خصوصاً بالنسبة للمجتمع المعاصر فهو البؤرة التي تتركز فيها تجارب الحياة التي يعيشها المجتمع وعلى ذلك لايمكن الفصل بين الفن والحياة لأنه يعتبر فصل الروح عن الجسد وتصبح الروح شيئاً مجرداً لانستطيع إدراكه أو استيعابه ويتحول الجسد إلى جثه هامدة لاحراك فيها ..كان لابد من هذا المدخل لنطرق أبواب الإبداع المسرحي عند المرحوم الأستاذ «فرج عبد السلام قناو» لأنه مسرح يلقى أضواء كثيرة على أبعاد هذا المجتمع بل ويبلغ اهتمامه به في بعض الأحيان إلى أن يخلق الشخصيات المسرحية بهدف إبراز بعض الملامح الاجتماعية المعينه ورسم هذه الشخصيات وجوانبها المختلفة مع وجود الشخصيات الدرامية الحية ليزداد الحدث توتراً في أعماله ابتداء من مسرحية ( اللي اتديره تلقاه ) وهي العمل الوحيد الذي قام بإخراجه .. ومسرحية ( متزوج سبعة ) ( والبنت اللي قالت لا ) ( واخطى راسي وقص) من إخراج الفنان عبد الله الزروق .. ومسرحية ( حوش العيلة ) ومسرحية ( هجالة ومائة عريس ) ومسرحية ( بشرى) من إخراج الفنان محمد القمودي ومسرحية ( حدث ذات مرة ) قدمت عبر النشاط المدرسي .. ومخطوط المسرحية ( وزارة بعنقود عنب ) ولم يتم تقديمها .. فنجد اهتمام المؤلف ينصب أساساً على حركة تغيير المجتمع والناس نحو تغيراً آتٍ في نظرة مستقبلية وواقعية للحاضر فهو مسرح اجتماعي يتناول الواقع كنقطة بداية لكي يوضح التناقضات ويتخذ منها عناصر اتهام للمجتمع وعناصر دعوة إلى الثورة وعناصر يقوم عليها المجتمع الإنساني الجديد بعد قيام الثورة العظيمة فهو مسرح يخدم الحركة الثورية ومعنى هذه الخدمة أن يقدم المسرح للجماهير عروضا مسرحية تحررهم علمياً وثقافياً ويؤكد على أن الفنان يجب أن يعيش أحداث عصره ولا يعرف معنى لوجود المبدع إلا أن يكون له دور في المجتمع .. تقول إحدى الشخصيات في مسرحية متزوج سبعة وهو يلعب في دور المؤلف الذي قام بتمثيله الفنان الكبير عيسى عبدالحفيظ والذي شارك في تمثيل كل مسرحيات المبدع المرحوم فرج قناو .
حوار المسرحية :
لازم تعرفي أن المؤلف يضع عصارة أفكاره في مؤلفاته.. وهذا شيء يتطلب منه استغلال كل اللي استفاده من خبرته في الحياة وارتباطه وعلاقته بالناس ومعاملاته معاهم .. لأن المؤلف عمره ما ينتج من وراء المكتب.
فالمسرح عن الكاتب المرحوم هو الفضاء الذي تحدث فيه المواجهة الحية وهو الذي يسعى إلى تأثير إيجابي محدد في الجماهير بهدف اكتسابها في صفوف معركة طويلة نحو حياة أفضل تسودها العدالة الاجتماعية والحرية للوصول إلى مسرح تحريضي يقف بجانب الإنسان يناقش كل القضايا ويدعو للتفكير في كل ما يحدث.
لقد كان لي الشرف بأنني قمت بتمثيل كل المسرحيات التي كتبها المرحوم وكنت بطلاً يحمل اسم ( بوعديله) وتحصلت في مسرحية ( اخطى راسي وقص ) في المهرجان المسرحي الوطني الثاني على جائزة التمثيل الأولى وقامت صداقة أخوية قوية مع الكاتب فرج قناو وقمت أيضاً بالتمثيل له في المرئية سلسلة المنوعات الرمضانية مع المبدع الكبير سعد الجازوي والفنانة الكبيرة المعتزلة لطفية إبراهيم .
إن الصراع الدرامي في مسرح قناو يقوم على أساس الصراع الاجتماعي الذي تفرضه ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهذا الصراع الاجتماعي يلعب دور الخط الأساسي أو العمود الفقري الذي يربط كل جزئيات المسرحية وخلاياها المتعددة وصراع الأفكار القديمة والجديدة التي جاءت بها الثورة الثقافية في أوائل السبعينيات من القرن الماضي ولذلك وضعت كل الأفكار والشخصيات والأغاني في خدمة هذا التغيير والتنوير الثوري المنشود .. وإن الصراع المسرحي ينبع من الاحتكاك بين المثال والواقع بين الجديد الذي يحاول إيجاد ما يجب أن يكون وبين التقليدي القديم الذي يقتنع بما هو كائن ولذلك نجد ونحس أن كل شخصية تدافع عن وجودها وكيانها بقدر ما تمثل اتجاهاً اجتماعياً معيناً مما يشدنا إليها أكثر وكذلك كانت هذه الشخصيات تحمل أسماء مقصودة ومرموزة بقصد دفاعها عن مكانتها وكيانها الذاتي ووجودها الشخصي ولم تتحول إلى أبواق زائفة وعلى سبيل المثال شخصية هرودة في مسرحية حوش العيلة التي قام بتمثيل الدور فيها الصديق الفنان الكبير عبدالمجيد الميساوي والذي شارك في كل المسرحيات التي كتبها الاستاذ فرج قناو فالشخصية في المسرحية لا مكان لها في البيت ويفرض من قبل المجموعة أن تسمع صوته وأغانيه بل يقومون بتقطيع أوتار آلة العود التي تتعامل معها الشخصية ويقولون له بأنه مشكوك في انتمائه للعائلة .. كذلك شخصية تبرة وشخصية أمل وشخصية صبرة التي قامت بأدائها الفنانة الكبيرة خدوجة صبري وشخصية الحاجة مناني في حوش العيلة وشخصية الهجالة في مسرحية تحمل نفس الاسم (هجالة ومائة عريس) أي أرض عربية ومائة مليون عربي يتمنى ولا يفعل شيئا من أجل الأرض المحتلة .. هكذا تركها المؤلف تحمل أفكارها حرة بدون زيف لأنها إذا توقفت مهمتها عند حدود التعبير عن آراء المؤلف فسنفقد ارتباطنا الوجداني بها وتجاوبنا معها لأن اهتمامنا سيتركز في مناقشة الكاتب وليس حتميات الدراما ..
لقد كان لمسرح قناو حضور في باطنه كل الارهاصات الجديدة التي توحي برياح التغيير التي ستهب على المجتمع وهي رياح الثورة الثقافية فتجدد من حيويته وشبابه وتطرد الهواء الفاسد والأفكار الهشة ودفع حركة المجتمع نحو التطور حركة جبرية حتمية لا يمكن أن توقفها العقبات لأن التغيير سنة الحياة ولا يمكن لشيء أن يبقى على حاله ذلك من خلال التكتيف والبلورة والاختبار وإيجاد علاقات جديدة وإلقاء ضوء جديد بما يتيح للمشاهد رؤية من زاوية جديدة توسع من نظرته إلى الحياة .
* الحياة في نظري كفاح وأنا طول عمري مكافح « لانكل ولانمل » أجبرتني الحياة في صغري على ترك التعليم .. فكانت قسوة الأيام أحسن معلم .. وفعلا حاديت الأيام بقسوتها ومرارتها .. فكانت أول معلم يظهر نقاط ضعفه لتلميذه ويعلمه كيف يتغلب عليه … فهمت من الحياة الألم البسمة ولذة الآهات .. وأخيرا عرفت وفهمت أن أقوى سند للإنسان في الحياة هو فهمه للحياة نفسها .. ولقيت نفسي زي الفن تربطه وتقومه قواعد في انطلاق وتجديد ويحطمه الروتين ويقتله الروتين .
* هذا ديالوج قمت بتمثيله في مسرحية متزوج سبعة في أوائل السبعينيات من القرن الماضي وهو يكشف عن ملامح وظروف تشكيل هذا المؤلف المجدد والمتعدد في المجالات الابداعية فقد كان من أصحاب المواهب المتعددة والمشتتة التي تسكن المسرح بكل عشق وحب وثورية لقد كان هناك تناغم الحوار مع جزئيات الشكل العام مما يمنح المسرحية دفعة درامية وراء الأخرى في تكنيك الحوار بالخلفية الاجتماعية والسياسية والفلسفية إذ يقوم على اختيار كل ما يخدم النص لأنه كان يؤمن بأن ضمان العمل الفني هو تحوله إلى أصل يحمل في داخله كل مقومات الحياة الذاتية الخاصة به وهكذا يستلهم أعماله من مضمون الحياة ويتفاعل هذا المضمون الاجتماعي مع الشكل الفني .
لقد تعددت الأصول الدرامية التي تشكلت منها المسرحية القناوية في البنية الدرامية فقد تأثر بمسرح توفيق الحكيم وفي خلق حوار جديد في المسرح الليبي بصياغة شعبية شاعرية عالية وتأثر بالواقعية النقدية ومسارب من التراث العربي والليبي وبرمزية ميترلنك وبمنهج برخت التعليمي الذي قدمه في معظم مسرحياته وعلى سبيل المثال شخصية شعيب في مسرحية هجالة ومائة عريس وادخال الحكاية الشعبية في صلب الخط الدرامي المسرحي وكذلك في كل الأغاني التي قمت بأدائها وتلحينها في مسرحياته وكذلك تأثر بمسرح برانديلو والمسرح داخل المسرح في مسرحية « البنت اللي قالت لا » عندما أدخل أوبريت غنائي في اللوحة الثانية يقدم وسط المسرحية بشكل غنائي وتعبيري داخل فرقة مسرحية تجري تدريبات .. ولقد تأثر بالرمزية ولعبت دورا كبيرا في مسرحه .. فما هو حوش العيلة ؟ وماهي المجاري المسدودة والمتفجرة في مسرحية متزوج سبعة ؟ ومن هي الهجالة ؟ ومن هم العرسان المئة ؟ ومن هي بشرى ؟ ومن هو هرود ؟ ومن هو القنفود ؟ ومن هو شعيب ؟ ومن هو المحمل الذي يحمله عبدالسلام على كتفه طيلة المسرحية ويريد من يساعده على إنزاله ؟ ومن هو حمامي السمسار في حوش العيلة ؟ ومن هي تبرة التي كان يبحث عنها قناو ونفسه في حياته وصدرها في مسرحياته ؟ ومن هي أمل التي قامت على إنقاض شخصية تبرة ؟ تلك رموز ابداعية تحتل مساحة فنية في ابداعه المسرحي المتشكل بالرمزية الفنية .
لقد كان يهتم بالأغاني المسرحية وهو أول من ساهم في إيجاد هذا النوع الدرامي في المسرح الليبي وكنت أؤدي هذه الأغاني بشكل حي على المسرح .
إن العنصر الغنائي مهم عند قناو لأنه كان يعتمد على معالجة الدراما بالأغنية وتدخل ضمن البناء الدرامي كلغة يعتمد عليها في التوصيل فنجد الموال الشعبي والأغنية الشعبية والتراثية والأغنية الساخرة وأغاني الأمثال الشعبية والعربية في كل ما كتبه للمسرح لقد كانت علاقته علاقة تفاعل وكان التراث هو المادة الثرية التي يشكل منها رؤيته الابداعية في المسرح والشعر والأغاني فقد كان يؤكد ثراء الثرات ليخلق منه معاني من وهج ومعرفة ودلالات جديدة ومعاصرة تعود إلى الواقع ولا تنفصل عنه لأنه يدخل الثرات داخل بنائه الدرامي ذلك عن طريق المثل الشعبي والحكاية الشعبية والأغنية والتسمية الشعبية أي أنه كان يتعامل مع الثرات بأنماطه المختلفة ..
حوشك يا عمي عبدالله .. حرام تكريه لبوبرطله
الحوش يبي دوره .. اهتموا بيه وعلوا سوره
وما تخلوا درجة مكسورة .. بلاها ما نقدر نتعلا
حوشك يا عمي عبدالله
قولي قولي يا كروسة .. قولي وأحكي على فات يا كروسة
لازم من ثورة اجتماعية تخلصنا من كلمة أس
ولاتكون سلبي ولا اتكالي ولا تقول أخطى راسي وقص
قريتنا تكون تراب واحد غالي مصيون
وبسمة ما تفارق العيون
أحفاد وجدود .. انكونوا زي شوك القنفوذ
إن كان نبوا قريتنا تعود .. الحب يسود .. أروابينا نزرعها ورود
لقد حاول أن يعطي للأغنية مساحة كبيرة وانطباعات جديدة داخل الدارما المسرحية في جو شاعري ملئ بالانفعال والحرارة والدفء وكان ينتقي الألفاظ التي تحمل معانيه ويزاوج بين العامية الشعبية والفصحى الشاعرية لإضافة أبعاد جديدة تحمل دلالات مختلفة فقد كان يرفض اللغة الخاصة وكذلك اللغة العامية المتحجرة إلا إذا فرضت الشخصية أسلوب ونوعية اللغة لأنه كان يؤمن بأن لغة الحياة اليومية تحتاج إلى استكشاف جديد لمخزون اللغة لقد كان يلتقط اللغة والأشخاص من الأحداث الحياتية وهذه أجاده في الاختيار والاستلهام فقد كان يكتب لجميع الشخصيات بلغة مسرحية حية باعتباره رجل يعيش بين جنبات المسرح وينام بمقر فرقة المسرح الليبي فقد كان مسرحه مسرح جموع وليس مسرح الفرد أو البطل الأوحد فقد كانت كل الشخصيات تقوم بدورها في الصراع الدرامي وتنمية الحركة وتفجير الأحداث وكان من الممكن أن نطلق عليها نموذج الشخصية اللغير ثابتة بنمطيتها ولكننا نتصارع من أجل الأخرين ومن أجل حياة أفضل للجميع ولهذا يمتاز هذا المسرح بالبطولة الجماعية لأن البطولة قد انعقدت عنده للمجتمع المتغير والمتحول بعيدا عن المألوف والسائد المتحجر ولكنه لا يترك مسرحياته تنتهي عند هذا الحد بل يترك ايحاء بإرهاصات التغيير الاجتماعي الذي يعول عليه بعد قيام الثورة المباركة وكسب المعركة والرهان لصالح الطوفان الشعبي الذي تسانده حركة المجتمع بحكم الثورة والتطور يعني انتهاء حياة فقدت كل مقومات وجودها وتباشير حياة جديدة بدأت في الأفق لأن الشعوب لا تموت وإنما الذي يموت هو الأنظمة الحاكمة التي تفشل في مسايرة حركة المجتمع نحو التقدم والتطور فكشف عن عيوب المجتمع الذي يدعوا إلى السلبية والاستسلام والتقاعس وتقبل ما تأتي به الأيام والدعوة إلى تغيير الواقع والقضاء على المظاهر الاجتماعية الفاسدة .. لم ينعزل عن المجتمع وحاول أن يوظف المعرفة والفن والتراث والموسيقا والثقافة في القضاء على الظلم والفقر والقهر لتحقيق الحرية والعدالة لذلك نجد ألوانا من الصراع في مسرحية واحدة وهذا الصراع موزعا في خطوط فرعية للصراع بمعنى التخفيف من العقدة الرئيسية والعودة إليها وربطها بالخيوط الفرعية لخلق عناصر الدهشة والتشويق والإثارة والمفاجأة فقد كان يوقظ الأمل في نفوس المشاهدين رغم أن الأمل كان بعيدا عنه عاش وحيدا راهبا في حب المسرح والثقافة وساخراً من هذه الدنيا الراحلة ..
يقول في إحدى أغاني مسرحية البنت اللي قالت لا والتي قدمتها بصوتي رحلنا على جناح .. ما خلى بينا مطراح … ومونتنا كانت تفاح .. قطفناه وصرنا المحصول .. رحلنا على جناح المجهول
* لقد أنقذ مسرحياته من المباشرة الفجة والتسطيح من خلال النسيج المسرحي الذي قدمه وقدم فيه المجتمع على هيئة كائن حي متغير قادر على الانتصار ومن هنا تبرز أهمية المسرح بالنسبة لكل المجتمعات فلابد أن نسلم باستحالة الفصل بين الفن والمجتمع .. رغم رؤيته الذاتية الحزينة للكون والحياة فهو كاتب متفائل في أعماقه ويسكن في قلبه طفل يخربش على أوراقه المخططة بالتربيع بقلم الرصاص يرسم شخصياته الذين كانوا يحاولون التغلب على الشر والفرقة والتخلف والدعوة إلى مجتمع الإنسان الجديد الذي جاءت الثورة من أجله فهل نجح هؤلاء الشخوص في تحقيق آمالهم .. أرجوا ذلك .
رحمة الله على فقيدنا المبدع الصديق فرج عبدالسلام قناو وأسكنه الله فسيح جناته .. هل هناك من باحث .. ناقد .. قارئ مخرج ومعد جديد يحاول خلق اضاءات جديدة حول هذا المسرح الليبي الذي يستحق الكثير.
ومازالت الدعوة مفتوحة

من almooftah

اترك تعليقاً