ليبيا مائة عام من المسرح”1908م- 2008م”أوهكذا تكلم المسرحيون -1-19- نوري عبدالدائم
**************************

مصطفى الأمير وفرج قناو
الاتجاه الواحد والتفريع المستقل
بقلم : أحمد بشير عزيز
التدفق المسرحي لدى الكاتب الليبي مصطفى الأمير له مايبرره ، وتواصل عطاؤه المستمر لم يأت من فراغ أو تمطيط لتولدات محدودة مصطفى الأمير افراز للمدينة القديمة بمعطياتها المتماوجة وبموروثها ومتناقضاتها اعتمر داخله بكل هذه المكونات فكان شعبياً يعبر عن هذه البيئة بتطلعاتها ومآسيها وكان لاستشرافه لكل هذه الموحيات تأثير كبير على خطه الدرامي وأسلوبه المسرحي وحضوره المتواصل ومواكبته للطفرات الاجتماعية المتباينة.
إن الذي يقرأ مسرح مصطفى الأمير يستشف مباشرة الاشعاعات الشعبية المنبعثة من المدينة القديمة التي تفاعل فيها ومعها ليمتلئ وجدانه من خلال حساسية التلقى ولصالح العطاء المفيد إن مسرحيات مصطفى الأمير الأولى وهي خلاصة مستفادة من كثير من التجارب المسرحية العربية التقليدية التي قوامها تسطيح الشخصية دون الدخول إلى أغوارها والاهتمام فقط بشد الانتباه ويفوت فرصة الالتفات إلى كنه الشخصية لكن خطه المسرحي تحول فيما بعد عن هذا التوجه وانطلق يسعى لتحقيق التماثل التام لابعاد الشخصية المسرحية.
خلال الخمسينيات والستينيات من هذا القرن حرص مصطفى على ملامسة الواقع الليبي وممارسة التعصير بمقياس ذلك الزمن من خلاله ابداعه المسرحي فكانت له انتاجات عديدة نجح لأكثرها في أن يصل إلى وجدان المواطن وتنبيهه إلى أشياء كثيرة بل تحريضه في بعض الأحيان علىالتمرد على السائد الراهن وقتها ولنا في مسرحيات “كل شيء يتصلح، اللي تظنه موسى ،حلم الجيعانين، ما يصح إلّا الصحيح ،بين يوم وليلة ، ما يقعد في الوادي ،عكوز موسى ..وغيرها خير مثال لذلك.
إن مصطفى الأمير يعد بحق أحدى العلامات المتميزة في تاريخنا المسرحي وقلم حساس رصد للظواهر الاجتماعية وقناص ماهر للمشكلات الاجتماعية .وبقدر ما استأثر مصطفى بهذه الأهمية بقدر ما نجد كاتبا آخر هو فرج قناو ولج عالم المسرح في بلادنا مع أواخر الستينيات لكنه لم يكن في انطلاقه حالة طارئة على عالم الابداع ولا هو بكاتب احترف رص الكلمات ولظمها في شكل حوار فارغ الدلالة أو الايحاء .
إن لفرج قناو رائحة خاصة تتناهى من خلال مسرحياته ذات النسيج الاجتماعي الذي يحتفظ بين ثناياه بالعديد من القيم التي تفرض نفسها على كل التجاوزات ثم تتلاشى أمام منطقة التناول في لهجة رفيعة معبرة موصلة لهجة كما يقوى عبدالله الزروق الذي أخرج أغلب مسرحيات فرج قناو ” لا تعرف استدراج المشاهد إلى الضحك القسرى” وإنما تركز على اختيار المفردة ذات الدلالة والمعنى العميق الذي ينفذ إلى وجدان المتلقي بمثل ما ينفذ إلى عقله . إن فرج قناو كاتب يجري المسرح في دمه كان عاشقا للمسرح وكان يجد نفسه دائما في مسرح الأسرة راصداً للعلاقات الأسرية بإيجابياتها وسلبياتها داخل مجهره المسرحي.. يعيش معها وتتفاعل معه يرقبها ويتابع تفجرها..
لقد قدم فرج قناو وعلى مدى مسيرته التي تجاوزت الربع قرن عدداً من الأعمال المسرحية التي استدعت الانتباه وكشفت عن كاتب قادر يحذق صنعته.. فمسرحيات “حوش العيلة” و”هجالة ومية عريس” و”متزوج سبعة” و”البنت اللي قالت لا” و”اخطى راسي وقص” و”بشرى” و”اللي اديره تلقاه” وغيرها تدل على أن قناو استطاع أن يرسخ نفسه ككاتب مسرحي يجيد اختيار موضوعاته ويحسن صياغتها درامياً هذان الكاتبان مصطفى الأمير وفرج قناو اهتما اهتماماً ملحوظاً بالمسرحية الاجتماعية وأعطيا لهذا النوع من المسرحيات خلاصة ابداعهما وعصارة أفكارهما بكون أنهما من أكثر كتابنا التصاقا بدراما الأسرة ومع ذلك كان لكل منهما طريقته في التناول وأسلوبه في طرح قضاياه وقدرته على إدارة حواره.
ولكن أين يلتقيان؟ وأين يختلفان؟
بتصوري أن هناك نقاط التقاء عديدة تجمع الكاتبين:
فكلاهما داخل إطار المسرحية الاجتماعية اتخذ من الأسرة مجالًا لابداعه فأغلب مسرحيات مصطفى الأمير إن لم يكن جميعها مكرسة لمحيط واحد هو محيط الأسرة حيث نسج خيوط موضوعاته من العلاقات التي تربط أفراد الأسرة سلباً وإيجاباً.
نفس مافعله فرج قناو إذ أنه عادة ما كان يحيط مداره الدرامي بفيض من الصراعات العائلية وتضارب النوازع والاهواء فيها.
وكلاهما اعتمد على شخصيات محورية وردت في عدد من أعماله المسرحية شخصية “الطيب” “شلنده” “الحاج” عند مصطفى الأمير.. وشخصية “أبو غديلة” و”هرودة” و”تبرة” و”المرداس” عند فرج قناو.
ويكاد يكون منطق هذه الشخصيات واحداً فهي إما شخصيات خيرة تعمل على كشف المستور من العلاقات غير السوية وتواجه أركان الظلم والفساد والاستغلال والجشع وإما شخصيات تشعل فتيل الشر وتغلب أطماعها ونزعاتها الانتهازية والموصولية دون اكتراث بالقيم والأخلاق والمصلحة العامة.
إن أبرز ما في مسرح مصطفى الأمير حوار شخصياته الذي يتناهى إلينا في صفاء عفوي وفي تلقائية وانسياب لانكاد نتمثله حقيقة بتأثيره وعذوبته وتدفقه وتفجره إلا من خلال خشبة المسرح.
ولقد جاراه فرج قناو في إدارة الحوار في تلقائية وتدفق عجيبين من خلال الاعتماد على مخزون لغوي زاخر فمصطفى الأمير تأسس على إرث تراثي هائل زخرت به المدينة القديمة التي عاش فيها فتشبع بلهجتها ونهل من عاداتها وتقاليدها واستوعب كثيراً من حكم وأمثال وأقوال أهلها وقد انعكس هذا في كتاباته المسرحية إذ لانجد مسرحية من مسرحياته تخلو من هذه الحكم أو الأمثال والأقوال بل امتد هذا إلى عناوين مسرحياته “مايقعد في الوادي إلاّ حجره” “حوت ياكل حوت” “اللي تظنه موسى يطلع فرعون” “حلم الجيعانين” من “حلم الجيعان عيش” وغيرها.
بينما نجد فرج قناو القادم إلى المدينة من منطقة الساحل “الريفية” يدعم موروثه الريفي بمد هائل من تراث المدينة نهل جزءا كبيراً منه من منجم الفنان الراحل محمد حقيق الذي ارتبط معه لفترة طويلة بعلاقة صداقة وتبنى – إن صح التعبير – فأثر ذلك بشكل كبير في ابداعه سواء كان المسرحي أو الإذاعي وبذلك جاء حواره معمقاً زاخراً بالأقوال والتعابير الشعبية التي تجمع المدينة بالريف.
كلاهما أيضاً اعتمد على ممثل واحد تتمحور حوله أحداث المسرحية ويكون بالتالي الشخصية اللافتة والممسكة بخيوط المسرحية فبقدر ما كان مصطفى الأمير يسند أداء هذه الشخصية إلى الفنان محمد شرف الدين بقدر ما كان فرج قناو يسند أداء شخصيته الرئيسة إلى الفنان فتحي كحلول. فقد ظهر شرف الدين بطلاً لأغلب مسرحيات مصطفى الأمير بينما كان فتحي كحلول بطلاً لأغلب مسرحيات فرج قناو.
كذلك دراما الأسرة التي رفع لواءها في مسرحنا الفنان مصطفى الأمير وتواصل معها الكاتب فرج قناو لم يقتصر عطاؤها على الأسرة الليبية فقط بل تجاوزت ذلك لتشمل الأسرة العربية ككل وبمعنى آخر أن الكاتبين تعدا بإبداعهما التعبير عن القطر كأسرة إلى التعبير عن الوطن العربي الكبير وقضاياه كأسرة أكبر.
لقد كتب مصطفى الأمير مسرحية “عكوز موسى” ومسرحية “عروس بلا دار” عن القضية الفلسطينية فعكوز موسى هو الكيان الصهيوني الذي جثم على فلسطين العربية و”عكوز موسى” هو نبات غير محمود باعتباره وفق التعابير الشعبية “يشرب المية ويضيق على الزرع” وعروس بلا دار واضح أنها فلسطين التي سلبت وشرد أهلها لقد حافظ مصطفى الأمير في كتابته لمثل هذه المسرحيات على خطه الدرامى في تفجر قضاياه من خلال الأسرة فجاءت بذات النسيج الذي حاك منه مسرحياته التي تناولت قضايا الأسرة في مجتمعنا.
وفرج قناو هو الآخر كتب أعمالاً مسرحية في ذات الإطار – إطار دراما الأسرة – خرج بها إلى الدائرة الأسرية الكبيرة.. دائرة الأمة العربية فكتب فيما كتب مسرحية “حوش العيلة” ومسرحية “هجالة ومية عريس” فحوش العيلة واضح أنه الوطن العربي الكبير حيث دعا من خلالها إلى حتمية الوحدة وضرورتها كما كانت “الهجالة” في مسرحية “هجالة ومية عريس” هي فلسطين.
وإذا كانت هذه نقاط التقاء بين الكاتبين مصطفى الأمير وفرج قناو وهما المنتميان لمدرسة واحدة والمنتجان في فرع واحد من فروعها فإنه دون شك هناك نقاط ابتعاد ميزت كل واحد عن الآخر واعطت لكل واحد بصمته الخاصة به ولعل هذا ما أثرى أبداعهما ولونه.
– وأول وجود للاختلاف أن بداية مصطفى الحقيقية في رحلته مع المسرح كانت في مطلع الخمسينيات وكان خلال تلك الفترة وقبلها قد شاهد العديد من الفرق المسرحية العربية والأجنبية التي جاءت إلى ليبيا لتقديم عروضها المسرحية فأبهره ذلك وأثر فيه وقد ظهر هذا واضحا في النصوص المسرحية التي كتبها حيث حفل عدد منها بالمنولوجيات النمطية وهو ماكان سائداً خلال الفترة التي كان يتكون فيها مصطفى الأمير ككاتب مسرحي بينما غابت هذه المنولوجات في مسرحيات فرج قناو لكون ان فرج قد ولج عالم الصحافة من خلال إلتحاقه كمصحح بجريدة (الشعب) التي كان يصدرها الاستاذ علي مصطفى المصراتي ثم تحول الى كاتب صحفي نشر مقالاته بصحيفة الشعب وعدد من الصحف والمجلات المحلية وهذا ما جعله في كتابته للمسرح يبتعد عن الاسترسال والاطناب وصياغة المنولوجات المطولة باعتبار ان ذلك يتعارض مع طبيعة العمل الصحفي فلا نجد مسرحية من مسرحياته حفلت بأي شكل من أشكال الإطالة بل كان دائماً حوار شخصياته في أقصر الجمل وأدق المعاني.
وكان لاجادة مصطفى الأمير للغة الإيطالية أهميتها الكبيرة في اطلاعه على المسرح الإيطالي وقراءة الكثير من المسرحيات الكلاسيكية وخاصة مسرحيات “جولدوني” فاستفاد من هذا المسرح في صياغة بنائه المسرحي وتطور حرفيته المسرحية بينما اعتمد فرج قناو على اطلاعه العربي والعالمي المترجم إلى العربية وقراءاته الواسعة لنصوص نعمان عاشور وسعد الدين وهبة وهو ما أفاده كثيراً في تطور أسلوب الكتابة النصية لديه ودعم فهمه لبناء الشخصية المسرحية وصياغتها الفنية وإدارة الجو المسرحي.
وبقدر ماركز مصطفى الأمير جل كتاباته حول المشكلات الاجتماعية وما أحاطها من أجواء مدنته القديمة (طرابلس) بقدر ما جاءت شخصياته المسرحية مدنية تغيب عنها الشخصية الريفية والبدوية.
وهذا التخصيص تعداه فرج قناو باعتباره وافد على المدينة من الريف فاستطاع ان يقدم في مسرحياته شخصيات تنتمي ليس فقط لمجتمع المدينة ولكنها الى جانب ذلك جاء بشخصيات ريفية بدوية اندمجت في النسيج العام للقضايا التي طرحها في مسرحياته وكان لها دورها في تفعيل موضوعات هذه المسرحيات وإظهار الاتصال بين المدينة والريف وما يمكن أن يتفجر عبر هذا الاتصال من مشكلات عائلية نتيجة معطيات عديدة وكيف يمكن إذابة هذه المشكلات من خلال المعالجة الدرامية والترجمة الفنية لهذه الموضوعات.
وفي كل الأحوال يبقى مصطفى الأمير وفرج قناو اسمين لهما أهميتهما الكبيرة على خريطة مسرحنا، ولهما دورهما الكبير في إثراء حركتنا المسرحية وأسهامهما الواضح في تكوين أجيال من المسرحيين الذين يمارسون حضورهم المسرحي من كتابٍ أو ممثلين أو مخرجين وذلك ما سجله تاريخنا المسرحي الحديث.

من almooftah

اترك تعليقاً