لينا هويان الحسن

جريدة السّفير

المبدع الراحل ممدوح عدوان قال يوماً على لسان المتنبي مخاطباً سيف الدولة الحمداني: « لكلّ منّا حَلَبَه».
أيّ حلب لنا الآن؟ حلب المأهولة منذ بداية الألف السادس قبل الميلاد؟
حلب عاصمة مملكة يمحاض العمورية؟
أم حلب عاصمة الدولة الحمدانية؟
حلب التي يمر منها طريق الحرير، والتي أصبحت منذ عام 1986 من مواقع التراث العالمي في قائمة اليونسكو؟
أم حلب المدينة التجارية الشهيرة لحدّ أن شكسبير ذكر تُجارَها في مسرحيتين من مسرحياته؟
أم حلب «العيون الحزينة» كما في كل لوحات فنانها الراحل لؤي كيالي، تحديداً نظرة الأسى في عيني الفتى الذي يستند الى عكاز ويبيع اليانصيب، واحدة من أروع لوحات لؤي كيالي.
ربما وحدها لوحات كيالي الحزينة حملت نبوءة الحزن لحلب. حلب المدينة السعيدة، هل سبق وأن زرتم حلبَ ورأيتم المدينة الساهرة التي لا تنام!؟
آخر مرة زرتها كانت في خريف 2010 كنتُ مدعوة لمهرجان فني وأدبي «فنانات وكاتبات من العالم»، يومها في صباح تشريني ممطر انطلقت إلى حلب بالقطار المتجه من دمشق، يقطع القطار الطريق الصحراوي ماراً بشرقي حمص وحماة وإدلب. كنتُ من عشاق ذلك الدرب وتلك المناظر الممتدة للبادية الشامية شرقاً، آخذ قهوتي في عربة المطعم البسيط وأقرأ كتاباً ما، ولا أنسى قط كتابا قرأته في ذلك القطار، في تلك الرحلة الأخيرة إلى حلب، قرأت كتاب سانت اكزوبري «أرض الرجال».
استثمرت الليلتين المقررتين لي في حلب بالتجول ليلاً مع الأصدقاء في أحيائها الشعبية، وكانت مهمتي أن أستجيب لحماسة امرأة ألمانية كانت ترافقنا وألتقط لها الصور ليلاً عبر جهاز الموبايل لترسلها فورا إلى أهلها وأصدقائها وهي تقول لنا: لن يصدق أحد أن هذا الشارع المكتظ بالناس والمطاعم والمقاهي المليئة بالرواد في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل!! وكنت مع من معي نشرح لها أن سرّ هذه المدينة في تاريخها، فماضيها زاخر بالعز والرفاهية، مدينة تتمتع بما راكمته من سنين طويلة من أسلوب حياة مرفّهة قوامها الترف. فكل بيوت حلب القديمة تشهد على ماضيها الحافل بالثراء والغنى.
الصديقة الألمانية كانت تصوّر أطباق الكباب والكبة – حوالي عشرين صنفاً للكبة الحلبية – في أحد مطاعم حي «المْدينة « بذات الشهية التي تصور بها مرطبانات المخللات في محال الأرمن وبذات الحماسة تصوّر الآثار المعمارية الفريدة من أسواق مقببة وبوابات مزخرفة، حتى بلاطات الأزقة كانت تلتقط لها الصور.. وأحكي لبقية الضيوف العرب كيف أن أهالي مدينة حلب اشتهروا بذائقة فريدة بنكهات الطعام رسخت مع الوقت شهرة حلب بالأطعمة اللذيذة، وأوردت دليلا على ذلك ما ذكره أبو العلاء المعري عن طهاة حلب في رسالته الفلسفية الشهيرة «رسالة الغفران»، يومها اكتشفت أني وحدي قرأتُ ذلك المؤلف الصعب.
آه، أي حزن يُطبخ لحلب الآن؟
أية نهكة يخبئها التاريخ لمذاقات حلب بعد اليوم؟
حلب مدينة السهر والطرب والدلال، إذهب إلى حلب لتستمتع، لتذهب في رحلة عبر التاريخ، لتتنزه في أسواقها التي تشبه الحدائق بين منعطف وآخر تتغير الرائحة، شمّ رائحة صابون الغار، ثم شمّ رائحة الخضيرة، وبعدها شمّ رائحة المازهر.. ثم دلل سمعك بطربها الأصيل بروعة الموشحات والقدود الحلبية التي تصدح في لياليها المزينة برقص السماح. مدينة صدّرت للعالم العربي أروع الأصوات، صباح فخري وصبري مدلل وميادة الحناوي ومياة بسيليس وأصوات أخرى طالما أطربت وأدهشت.

قلعة حلب

قلعة حلب من أقدم وأكبر وأجمل قلاع العالم، فهي التي بُنيت قبل 7 آلاف عام، ويعود التاريخ المعروف للقلعة إلى الألف الثالث قبل الميلاد، حيث يذكر أحد الرقم الفخارية المكتشف في مدينة ماري الأثرية السورية أن ريموش الأكادي دمر القلعة والمدينة منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وبعده جاء أحد قادة جيش الاسكندر المقدوني في الألف الثاني قبل الميلاد واختارها معسكراً لجيشه، ثم حكمها فيها البيزنطيون، وكانت مقصد هجمات الفرس إلى أن دمروها ثم أعاد ترميمها البيزنطيون، وفيها آثار آرامية تعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد وتعاقبت عليها الحضارات حتى وصلت إلى سيف الدولة الحمداني وعاش في كنفها الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي.
الداخل إلى القلعة يرى أنها تقسم إلى قسمين، دفاعي عسكري، ومدني كان مسكناً للملك وحاشيته. فيها ثلاثة أبراج دفاعية، وخمس بوابات وجسر خشبي متحرك، ويقع الباب الرئيسي للقلعة على يمين الجسر.
بعدها نجد الباب الأول الذي يدعى باب الحيات لأنهم كانوا يلقون منه الأفاعي، وبعد باب الحيات نجد باباً آخرَ يدعى باب الأسدين، حيث رُسم في أعلاه أسدان بينهما شعار الدولة الأيوبية، وهي زنبقة ترمز إلى السلام.
وحول القلعة 360 بيتاً وجامعان وحمامان، كما أن هناك سوقا خاصا للقلعة، كان يعيش في القلعة أيام السلم حوالي 3000 شخص، أما أيام الحرب فكانت تحوي حوالي 15000 شخص، دمر زلزال 1822 القلعة وحلب تدميراً كبيراً. وتشير المصادر التاريخية إلى أن القلعة تضم جامع إبراهيم الخليل الذي جدده نور الدين زنكي عام 1162، وهو مسجد يتبرك به المسلمون، حيث يقال بأن سيدنا إبراهيم كان يجلس على صخرة في مكانه ويحلب أغنامه، وقد صُنع لهذا المسجد محراب يعد تحفة ثمينة ومثالاً في الجمال، إلا أنه سُرق خلال الانتداب الفرنسي على سوريا، وتبين أن الكولونيل الفرنسي (ويغان) سرق هذا المحراب الفريد ونقله إلى فرنسا في أوائل العشرينيات من القرن الماضي
وفي القلعة مقام للخضر عليه السلام، إضافة إلى الجامع الكبير الذي بناه الملك غازي الأيوبي عام 1210 م، وهو يحوي مئذنة مربعة ارتفاعها 20 متراً.
أما قاعة العرش في القلعة فهي مقر اجتماعات الملك، وتتألف من تسع قبب وهي مبنية على الطراز العربي القديم، وهناك نافذة في الوسط مكان جلوس الملك يأتي منها النور فتعطي الملك الهيبة والوقار، وهناك باب سري من قاعة العرش يؤدي إلى باب القلعة… كما أن هناك العديد من البيوت القديمة بالقرب من القلعة التي تحتوي على سراديب تحت الأرض تصلها بالقلعة من أجل الاحتماء داخل القلعة في فترات الحرب والحصار.
والعهد الذهبي للقلعة كان في عهد الملك الظاهر غازي الأيوبي ابن صلاح الدين الأيوبي، الذي حكم حلب ثلاثين عاماً، فجدد القلعة وبنى فيها ما يزيد على 26 قصراً ومسجداً وحماماً وخزان مياه، إضافة إلى الأبراج والجسور والمخازن، كما أقام حولها الخندق الشهير. ويعتبر علماء الآثار أن القلعة بشكلها الحالي يرجع إلى عهد الملك غازي الذي أنشأ فيها كتلاً معمارية وتحصينات شكلت إعجازاً في نسق العمارة العسكرية في القرون الوسطى، وفي مراحل لاحقة أكمل المماليك تجديد عمارة القلعة وحافظوا على شكلها وعمارتها الأيوبية.
حلب والمتنبي
منذ مدة ليست ببعيدة أُعلن رسميا أن منزل المتنبي لم يزل موجوداً في حلب، قريبا من القلعة في ما يُعرف حالياً بخان الوزير، المنزل ذاته الذي منحه إياه سيف الدولة الحمداني. وتمّ التأكد من ذلك من خلال الرجوع إلى كتابين عُثر عليهما مؤخراً، كانا مفقودين في الهند لمؤرخ حلب في العصر الأيوبي كمال الدين بن العديم هما: «بغية الطلب في تاريخ حلب» و«زبدة الحلب من تاريخ حلب».
ربما وحده الشاعر أدونيس خصّ مدينة حلب بعد الأزمة – بنص شعري في جريدة «الحياة»، بعنوان «تنويعات على آلام المتنبي في حلب»، نصّ ملتبس موغل في «الماورائية»، يقول: «أحجار ترقص، أحجار تغني، فيما يواصل الفضاء نحيبَه.. كيف نترجم المدن التي لا يجيء إليها الأنقياء إلا في ثياب الشياطين، ولا يجيء الشياطين إلا في عباءات الأنقياء..».
لم أفهمك يا شاعرنا الكبير، فالالتباس لم يعد مُنقذاً حليفاً لما تقول.. نعم ممدوح عدوان مبدعنا الراحل كان أوضح منك وهو يقول على لسان المتنبي لسيف الدولة: «لكلّ منا حلبه». نعم، لكل منا جشعة ، وطمعه، ومخططه.. ونياتها الظاهرة والباطنة والضحية تاريخنا وتراثنا، نفنيه بكل ما أمكننا من حقد وضغائن، كلنا نحن السوريين، مذنبون، ربما، بدرجات متفاوتة، لكننا جميعنا نسينا عبارة رسول حمزاتوف الشهيرة: من يطلق الرصاص على ماضيه أطلق عليه مدافعه.
فحلب الآن، تتحارب في شوارعها جهات مختلفة، ومؤخراً تصدرت نشرات الأخبار، والقتال حامي الوطيس، والموت سيد الموقف والحزن يُنقّل خطاه بين أزقتها وشوارعها، والخراب يتسيّد الكل.. مدينة عاش أهلها بوئام نادر على مرّ التاريخ، رغم التنوع الديني والعرقي، تجمع المسلمون مع المسيحيون في بيوت متجاورة، عاش بها الأرمن والأكراد والشركس والتركمان بأمان فقدوه في أوطانهم وعثروا عليه في حلب الشهباء.
ورغم كل شيء يصدح صوت صباح فخري الباذخ في ذاكرتنا الجمعية وهو يغني:
درب حلب.. ومشيتو
كلو شجر زيتوني..
وحاجة تبكي وتنوحي..
بكرا بكرا بنيجي يا عيوني.
( كاتبة سورية )

من almooftah

اترك تعليقاً