قرن على تأسيس العراق الحديث: عمارة الحداثة في بغداد (1-2)

د. خالد السلطاني.

عند عتبة قرن من عمر العراق الحديث الذي تشكل بتتويج الملك فيصل الاول ( 1883 -1933) ملكا على العراق في 23 آب/ أغسطس 1921،والذي اعتبر ذلك التاريخ بمثابة بدء تأسيس العراق كبلاد جديدة في خارطة الشرق الادنى، هي التى ستنال استقالالها التام في (3 تشرين الاول/ اكتوبر 1932) بانضمامها كدولة مستقلة الى منظمة عصبة الامم.
واحتفاء في هذة المناسبة انشر هنا دراسة عن عمارة الحداثة بالعراق، كما سانشر لاحقا دراسات آخرى في العمارة تيمنا بهذة الذكرى المجيدة.

“عمارة الحداثة في بغداد: سنوات التأسيس وروح المكان”
بعيـداً عن الغور في تقصي مفردات هذا المفهوم “عمارة الحداثة في بغداد”، فانه نشاط بنائـي بدأ يظهر جليـاً في المشهد المعماري البغدادي والعراقي، اعتباراً من عشرينات القرن الماضي، اي بالتساوق مع تأسيس الدواـة العراقية في نهاية صيف 1921، وكان ظهوره متسماً بالجدة والاختلاف، وحتى القطيعة عن سياق الممارسة البنائية السابقة لـه.
لم يقتصر المفهوم الموضوعي لعمارة الحداثة في بغداد، على ما تم تحقيـقه من منجزات بنائية ملموسة وواقعية، وانما شمل ايضاً ما تمٌ تداوله من افكار ومخططات ومواضيع بنائيـة لم يتم انجازها. واذ يعرف احد الالمـان <التاريخ> كونـه “حاصل الممكنات التى تحققت”؛ فان تاريخ عمارة الحداثة البغدادية والعراقية عموماً، ووفقاً لهذا المفهوم، لا يعني “فقط” حاصل ممكنات المبانـي التى تحققـت” ، بـل يعني كذلك “حاصل مجموع المبانـي التى لـم تحـقق، وكان يمكن لـها ان تتحـقق”؛ انـه لا يعنـي مـا”كان” فحسـب ، بل ايضـاً ما “كان ينـبغي ان يكـون”!
فهذا التاريخ يغطي جميع المنشاءات المبٌنيـة وكذلك المشاريع التي لم تنفذ وظلت رسومها تخطيطات اوليه Sketches لعمائر مصمّمة ورقياً. انه يشمل انجاز البنائيين، والاسطوات الحرفيين والمعماريين العراقيين، جنباً الى جنب أفكارهم وطموحاتهم وحتى إدعـاءاتهم، (ومـا اكثرهـا في المشهـد المعـماري العـراقي!) اي ان هـذا المفـهوم يدمــج في طياتـه المتحـقق، المعرفي (الابستـمولـوجـي) Epistemology، وحتى الوجداني. لكننـي، اختصاراً، ساقوم بعملية اختزال واسعة لهذا المفهوم محددا مرحلتين اساسيتين في مسار عمارة الحداثة في بغداد، دعيتها سنوات التأسيس وروح المكان، وهمـا :
المرحلـة الاولـى – التي تمتد من العشرينات وحتى بدايـة الاربعينات ؛
والمرحلـة الثـانية – تبدأ من الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الخمسينات .
ان هاتين المرحلتين هما اساس عمارة الحداثة في بغداد و في العراق ، واستند التطوٌر اللاحق لمسار العمارة في بغداد وفي عموم الـبلاد على منجزات تينيـك المرحلتين.

المـرحلـة الاولـى:
يمكن القول ان ما شهدته المرحلة الاولى في مسار عمارة الحداثة البغدادية كان بمثابـة صدمة؛ صدمة حضارية سريعة ومفاجئة، نظراً لما تمً انجازه مقارنةً بما كان سائداً قبل تلك المرحلة. فالمتغيرات شاملة وكثيرة وجذرية. ليس في نوعية العمارة، وانما في جميع ما يمكن ان نسميه بالاعمال “اللوجستية” التى تخص البناء والتعمير ، والتى اسهمت بدورها في تسريع ظهور المتحقق وتكريسه .
فلاول مرة تنظم هيئات ادارية معنية بالتصميم والاشراف، ولاول مرة تظهر وظيفة جديدة هي المعمـار – ليس المعمار: البناء او الاسطة، كما كان يدعى سابقاً – وانما المعمار بصفته مهندساً وخريجاً من مدرسة معمارية عالية، كما ان ظهور مواد جديدة وكذلك تنظيم انتاج المواد الانشائية المعروفة وفق ضوابط ومقاييس حديثة افضى هو الاخر الى تسريع عملية ظهور المنجز المعماري الجديد بصورة واضحة ومكتملة؛ ولاننسى توق النخبة المتعلمةالجديدة وقتذاك ونزوعها نحو العيش في إحياز مصممة، تتلائم مع تطلعاتها في القطع مع الماضي والحرص على استثمار فوائد التكنولوجيا المتاحة .
وتجدر الاشارة الى تأسيس “دائرة الاشغال العموميـة” Public Work Department (P.W.D)- التي اضطلعت بدور ريادي ومهم في تكريس مهام التغيير والانتقال بالبنيان من الزمـن السابق الى رحـاب الحداثـة المعمارية؛ كما تجدر الاشارة الى دور مديرها العام الميجر “جيمس مولسون ولسـون” (1887-1965) James Mollison Wilson وزميله الميجر “ميسـن” Mason اللذان لهما الفضل في تصميم وتنفيذ مبان عديدة اعتبرت آنذاك محطات مهمة في بناء وتأسيس عمارة الحداثة في بغداد والعراق بوجه عام. ومع تنظيم دائرة الاشغال العمومية في البلاد، تم احراز خطوة اخرى غير مسبوقة في تاريخ عمارة الحداثة العراقية – وهي استحداث دائرة “معمـار الحكومـة” Government Architect، وهى دائرة تعنى بالاشراف واجازة جميع تصاميم المباني المهمة في الدولة، وظل هذا المنصب قائماً حتى تـمٌ الغـائه في بداية الاربعينات، وهو امر يؤسف لـه؛ لجهة زوال جهة مسوؤلة كانت معنّية في توافر الحد الادنى من الشروط المهنية في التصاميم المقترحة.
يُعد توسع بغداد وامتدادها خارج سورها القديم؛ بمثابة خطوة مهمة وجريئة في ظهور وتكريس الجديد المعماري في آن واحد ، ففي نهاية العشرينات امتدت بغـداد شمالاً وجنوباً: في الشمال نحو العيواضية، وفي الجنوب ألى البتاويين؛ وامتازت مجمل المنشاءات في هاتين المحلتين بخصائص وسمات حديثة ومختلفة عن مباني الاحياء القديمة التى كونت بمجموعها نسيج مدينة بغـداد مثل محلات : البارودية والحيدرخانة وجديد حسن باشا والعاقولية والفضل ، وحمام المالح والمهدية وخان لاوند ، وقنبر علي والتورات والقشل ، وصبابيغ الآل ورأس القرية والمربعة والطاطران والدهانه والصدرية وغيرها من المحلات في منطقة الرصافة ، ومثلها محلات منطقة الكرخ : كخضر الياس وست نفيسة وسوق حمادة والشواكة والشيخ صندل والكريمات والصالحية والشيخ معروف وعلاوي الحلة والتكارته.
كما انطوت هذه الفترة ايضاً على البدء في تشريع جملة من القوانين اهمها قانون الطرق والابنية لسنة 1935، الذي كان له دور كبير في ارساء المتغيرات الجذرية والحاسمة التى طرأت على العمارة، كما تم اعداد اول تصميم اساسي لمدينة بغداد عام 1936، وهو حدث تخطيطي مهم في تاريخ المدينة، والذي بموجبه تمٌ شق شارع ” غـازي ” والتوصية بانشاء جسرين ثابتين هما: جسر المأمون (الشهداء لاحقاً) وجسر الملك فيـصل (الاحرار فيما بعد ) ؛ اللذان اكتملا عام 1939 .
امتازت هذةه المرحلة ايضاً بظهور المهندس المعماري العراقي لاول مرة ، وذلك بوصول ” احمد مختار ابراهيـم ” سنة 1936 كأول مهندس معمار محترف ومؤهل اكاديمياً وخريج مدرسة العمارة في ليفربول بانكلترة ؛ وتبعه بقية المعماريين امثال “حازم نامـق” و “جعفر عـلاوي” و “عبد الله احسـان كـامل” و “مدحت علي مظلـوم” و “سـامي قيـردار” و “محمـد مكـيه” وغيرهـم . لقد تـمٌ انجاز مبان مهمة في هذه المرحلة : مبان ذات لغة معمارية مغايرة، وان اتسمت بالطابع الكلاسيكي لكنها ظلٌت محتفظة على درجة عالية من الرصانة المهنية والحـذاقـة البنائية Workmanship .
ويعتبر مبنى جامعة “آل البيت ” في الاعظمية اهمها واقدمها على الاطلاق . اذ اوكل الى ولسـون عام 1922 اعداد تصاميم هذة الجامعة التى قدر لها ان تكون اول جامعة تعليمية في البلاد وثاني جامعة في البلاد العربية بعد جامعة فؤاد الاول (جامعة القاهرة) بمصر. وعلى الرغم من ان مخططات مباني الجامعة لم تنفذ بالكامل ، الا ان المقباس الضخم المختار لها وتعدّد مبانيها وشعبها يدل دلالة واضحة على مدى طموح مؤسس الدولة العراقية ومدى تطلعات معمارها الاول . لم ينفذ من تلك المخططات سوى مبنٍ واحد هو مبنى (الكلية الدينية ) – وهي احدى الكليات الست ، المؤلفة للجسم الاكاديمي للجامعة .
واعـد، شخصياً، هذا المبنى الذي اكتمل عام 1924 بلغته المعمارية الرصينة وتفاصيله المدروسة واناقتها، واسلوب انشاء وطرق تنظيم البناء فيه، اعده، من المباني البارزة في هذة الحقبة لما له من تأثير قوي وعميق على مختلف المعالجات المعمارية للابنية المهمة التي شيدت بعده .
وفي هذه الفترة تٌم انجاز مبنى الكلية الطبية في بغداد (1930) . وفي عام 1931 تٌم افتتاح مبنى الميناء الجوي في الكرخ / مطار المثنى لاحقاً ، كما تم تنفيذ مباني الضريح الملكي في بغداد 1934-1937 ، ومبنى المعرض الزراعي الصناعي (1932) في باب المعظم (الذى شغلته طويلا وزارة الخارجية)، وبناية كلية الهندسة (1936) ومعهد الفنون الجميلة في الكسرة (1936) ومكتبة الاوقاف في باب المعظم (1931) <التي ازيلت لاحقاً>؛ ومقر وزارة الدفاع في القلعة عام 1935، وقصر الزهور في الحارثية (1933) والمستشفى الملكي (1934 )، ودار المعلمين الابتدائية في الاعظمية (1935)، والنادي الاولمبي على ساحة عنتر (1939) وكلية فيصل في الاعظمية (1937)، وغيرها من المباني.
كما تجدر الاشارة الى المقاربات الحداثية في تصاميم البيت السكني التي طغت على عمارة بيوت العشرينات والثلاثينات ، مبتعدة تماماً عن المفهوم الشائع لعمارة البيت السكني التقليدي ، اذ اصبح البيت الحديث اكثر اتساعاً وانفتاحاً على الخارج بنوافذه وشرفاته العديدة وامتلاكه لحدائق جانبية وامامية وخلفية ، كما اتسّم الاسلوب الانشائي لهذا البيت على قدر كبير من المهنية البنائية والتجديد .
وشاعت في هذه الفترة اسلوب بناء البيت السكني وفقاً لما عرف “بالبيانات المصورة ” (الكاتلوغات) Catalogues، وهو اسلوب لقى انتشاراً واسعاً من قبل مكاتب بنائية تعنى بتقديم انواع مختلفة من التصاميم المعمارية المنشورة في هذه (الكاتلوغات). ويترك للزبون حرية اختيار التصميم الذي يناسبه. واكثر تصاميم هذه (الدفاتر المصورة) هي تصاميم شائعة في بلاد الشام وفلسطين وبلدان حوض البحر الابيض المتوسط الاخرى كتركيا واليونان وايطاليا وحتى فرنسا. وتتسم تصاميم هذة البيوت التى كانت تتبع الاسلوب التولـيفي على استخدامات كثافة زخرفية واضحة، وتوظيف واسع لمفردات معمارية قد تكون غريبة عن تقاليد المنطقة العمرانية المحلية، لكنها (اي تلك البيوت) ظلت بلغتها التصميمية الجديدة، تمثل نموذجا معماريأ حداثياً، طمح كثر من البغداديين، ان يكون المنزل المستقبلي، الذي يأملون في العيش به. رغم القطيعة التامة التى انطوت عمارة تلك البيوت مع ما كان شائعا ومعروفا. ونرى ذلك جلياً في بيوت الشخصيات الحكومية ودور النخبـة التي شيدت على عجل في مناطق خارج سور بغداد، كبيوت السويدي والظاهر في الكرخ وبيت نصرت الفارسي في الاعظمية وبيت نوري السعيد ( الذي شغلته السفارة المصرية طويلا ومن ثم كلية الفنون الجميلة لاحقاً) وبيت كامل الجادرجي في شارع طه، ومحمد حديد في البتاويين وبيت عبد العزيز القصاب في كرادة مريم وهاشم الوتري في العلوية وبيت ارشد العمري في بارك السعدون وبيت الشوربجي في الوزيرية وبيت لاوي في السعدون، غيرذلك من البيوتات الاخرى.□□
د. خالد السلطاني.
معمار وأكاديمي
الصور
1- جامعة آل البيت، 1924، الاعظمية \ بغداد، المعمار” ج. م. ويلسون.
2- مبنى في شارع الرشيد، 1933، بغداد، المعمار: نعمان منيب المتولي.
3- بيت عائلة لاوي، 1934، السعدون \ بغداد، المعمار: حرفي.
4- الضريح الملكي، 1934-37، الاعظمية بغداد، المعمار <كوبر>، و “جاكسون”


قرن على تأسيس العراق الحديث: عمارة الحداثة في بغداد (1-2)

من almooftah

اترك تعليقاً