الرئيس العلامة فارس الخوري – ذكرى وفاته 1962م عن عمر ناهز الـ85 سنة

فارس الخوري (20 نوفمبر 1873 – 2 ديسمبر 1962)

سياسي ومفكر ووطني سوري ولد سنة 1873م في قرية الكفير التابعة حاليا لقضاء حاصبيا في لبنان [1][2][3]

والده يعقوب بن جبور الخوري مسيحي بروتستانتي، كان نجاراً وله بعض الأملاك الزراعية في قريتة. والدته حميدة بنت عقيل الفاخوري ابنة رجل قضى في مذبحة عام 1860 بين الدروز والمسيحيين. كانت مهتمة بابنها البكر فارس كل الاهتمام وتخطت كل المصاعب من أجل تعليمه.

تلقى فارس الخوري علومه الابتدائية في مدرسة القرية، ثم بالمدرسة الأمريكية في صيدا، ولما كان متفوقاً على أقرانه فقد عينه المرسلون الأمريكان معلماً في مدرستهم الابتدائية في زحلة.

دخل فارس الكلية الإنجيلية السورية، والتي سميت بعد ذلك الجامعة الأمريكية في بيروت. ولكن المرسلين الأمريكيين لم يمكنوه من الاستمرار، فقد عينوه من جديد في مدرستهم بقرية مجدل شمس عام 1892، ثم نقلوه إلى صيدا، وفي عام 1894 عاد للدراسة في الجامعة الأمريكية وحصل على شهادة بكالوريوس في العلوم عام 1897، وكانت هذه الشهادة في ذلك الحين شهادة ثقافية عامة ليس فيها اختصاص في أحد فروع العلوم والآداب، دعاه رئيس الجامعة للتدريس في القسم الاستعدادي كمعلم للرياضيات واللغة العربية.

دعي فارس الخوري لإدارة المدارس الأرثوذكسية في دمشق، ولإعطاء بعض الدروس في مدرسة تجهيز عنبر (مكتب عنبر). ثم عُين ترجماناً للقنصلية البريطانية (1902ـ 1908) حيث أكسبته وظيفته الجديدة نوعاً من الحماية ضد استبداد الحكم العثماني.

لم يترك فارس الخوري الدرس والتحصيل، بل ظل منكباً على الدراسة والمطالعة فدرس اللغتين الفرنسية والتركية لوحده دون معلم وبرع فيهما، كما أنه أخذ يطالع الحقوق لنفسه، وامتهن المحاماة بدمشق، وتقدم بفحص معادلة الليسانس بالحقوق فنالها. في عام 1908م انتسب لجمعية الاتحاد والترقي فكان هذا أول عهده بالسياسة.

نظم فارس الخوري الشعر وأولع به، فكان شعره وطنياً تناول فيه القضايا العربية، وكذلك كان أديباً حيث ملأت منظوماته الشعرية وكتاباته الصحف السورية والمصرية. إلا أن انشغاله في علوم السياسة والاقتصاد والعمل الوطني والقومي والعلمي جعله ينصرف عن الشعر ولا يقوله إلا في المناسبات.

انتخب فارس الخوري سنة 1914 نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان العثماني. وفي سنة 1916 سجنه جمال باشا بتهمة التآمر على الدولة العثمانية، لكنه بُرئ ونفي إلى استانبول، حيث مارس التجارة هناك.

عاد فارس الخوري إلى دمشق بعد انفصال سوريا عن الحكم العثماني. وفي عام 1919 عُين عضواً في مجلس الشورى الذي اقترح على الشريف فيصل تأسيسه، كما سعى فارس مع عدد من رفاقه إلى تأسيس معهد الحقوق العربي، وكان هو أحد أساتذته، كما اشترك في تأسيس المجمع العلمي العربي بدمشق.

تولى فارس الخوري وزارة المالية في الوزارات الثلاث التي تألفت خلال العهد الفيصلي في سوريا. وعلى إثر احتلال الفرنسيين لسوريا عام 1920 انصرف الخوري إلى العمل الحر كمحام. ثم انتخب نقيباً للمحامين واستمر خمس سنوات متتاليات، كما عُين حقوقياً لبلدية دمشق، وعين أستاذاً في معهد الحقوق العربي لتدريس مادتي أصول المالية وأصول المحاكمات الحقوقية. لفارس الخوري ثلاث مؤلفات في القانون هي: (أصول المحاكمات الحقوقية) و(موجز في علم المالية) و(صك الجزاء).

أسس فارس الخوري وعبد الرحمن الشهبندر وعدد من الوطنيين في سوريا حزب الشعب رداً على استبداد السلطة الفرنسية… ولما نشأت الثورة الفرنسية عام 1925 اعتقل فارس الخوري وآخرون ونفوا إلى معتقل أرواد.

في عام 1926 نفي الفرنسين فارس الخوري إلى خارج سورية بسبب استقالته من منصب وزير المعارف في حكومة الداماد أحمد نامي بك احتجاجاً على سوء نوايا الفرنسيين.

شارك فارس الخوري وعدد من الوطنيين في تأسيس الكتلة الوطنية، وكان نائباً لرئيسها يضع القرارات ويكتب منشوراتها، وهذه الكتلة قادت حركة المعارضة والمقاومة ضد الفرنسيين، وكانت من أكثر الهيئات السياسة توفيقاً وفوزاً مدة تقارب العشرين عاماً.

على أثر الإضراب الستيني الذي عم سوريا عام 1936 للمطالبة بإلغاء الانتداب الفرنسي تم الاتفاق على عقد معاهدة بين سوريا وفرنسا، ويقوم وفد بالمفاوضة لأجلها في باريس، فكان فارس الخوري أحد أعضاء هذا الوفد ونائباً لرئيسه.

انتخب فارس الخوري رئيساً للمجلس النيابي السوري عام 1936 ومرة أخرى عام 1943، كما تولى رئاسة مجلس الوزراء السوري ووزيراً للمعارف والداخلية في تشرين أول عام 1944… وكان لتولي فارس الخوري رئاسة السلطة التنفيذية في البلد السوري المسلم وهو رجل مسيحي صدى عظيم فقد جاء في الصحف: (… وأن مجيئه إلى رئاسة الوزراء وهو مسيحي بروتستانتي يشكل سابقة في تاريخ سورية الحديث بإسناد السلطة التنفيذية إلى رجل غير مسلم، مما يدل على ما بلغته سورية من النضوج القومي، كما أنه يدل على ما اتصف به رئيس الدولة من حكمة وجدارة). وقد أعاد تشكيل وزارته ثلاث مرات في ظل تولي شكري القوتلي رئاسة الجمهورية السورية.

كان فارس الخوري متجرداً في أحكامه، عميقاً في تفكيره، صائباً في نظرته، وقد جره هذا الإنصاف لأن يقول عن (الإسلام) الذي درسه وتعمق فيه أنه محققاً للعدالة الاجتماعية بين بني البشر. فمن أقواله في الإسلام: (.. يمكن تطبيق الإسلام كنظام دون الحاجة للإعلان عنه أنه إسلام). ـ (… لا يمكننا محاربة النظريات الهدامة التي تهدد كلاّ من المسيحية والإسلام إلا بالإسلام). ـ (… لو خيرت بين الإسلام وبين الشيوعية لاخترت الإسلام). ـ (… هذا هو إيماني. أنا مؤمن بالإسلام وبصلاحه لتنظيم أحوال المجتمع العربي وقوته في الوقوف بوجه كل المبادئ والنظريات الأجنبية مهما بلغ من اعتداد القائمين عليها. لقد قلت ولازلت أقول، لا يمكن مكافحة الشيوعية والاشتراكية مكافحة جدية إلا بالإسلام، والإسلام وحده هو القادر على هدمها ودحرها). ويؤثر عنه كثير ممن عاشره حبه للإسلام وتعلقه به عقيدة وشريعة، وكثيراً ما أسر باعتقاده هذا إلى زائريه ومخلصيه.

في عام 1945 ترأس فارس الخوري الوفد السوري الذي كُلّف ببحث قضية جلاء الفرنسيين عن سوريا أمام منظمة الأمم المتحدة، التي تم تأسيسها في نفس العام، حيث اشترك الخوري بتوقيع ميثاق الأمم المتحدة نيابة عن سورية كعضو مؤسس.

كما ألقى الخوري خطبة في المؤتمر المنعقد في دورته الأولى نالت تقدير العالم وإعجابه. حيث أبدى فيها استعداد بلده سورية وشقيقاتها العربيات لتلبية نداء البشرية من أجل تفاهم متبادل أتم، وتعاون أوثق، كما تحدث فيها عن خطورة المهمة الملقاة على عاتق المؤتمر، وأظهر تفاؤله في إمكانية تحقيق الفكرة السامية التي تهدف إليها المنظمة العالمية. وبناء على جهوده فقد منحته جامعة كاليفورنيا (الدكتوراه الفخرية) في الخدمة الخارجية اعترافاً بمآثره العظيمة في حقل العلاقات الدولية.

‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍انتخب فارس الخوري عضواً في مجلس الأمن الدولي (1947ـ 1948)، كما أصبح رئيساً له في آب 1947، إضافة لاهتمامة بوطنة سوريا اهتم بالقضية الفلسطينية اهتماماً خاصاً، وأكد رفض الدول العربية إقامة دولة لليهود فيها. كما شرح القضية المصرية وطالب بجلاء الإنجليز عن أراضيها، وأكد على السلام العالمي وطالب بإنهاء تنافس الدول الكبرى، وحذر من وقوع حرب ذرية مدمرة. ولطالما ضجت هيئة الأمم بخطبه ومناقشاته باللغة الإنجليزية من أجل نصرة الحق في القضية العربية.

عاد فارس الخوري إلى بلاده بعد انتهاء عضوية سورية في مجلس الأمن الدولي، وكان قد انتخب رئيساً للمجلس النيابي لعام 1947 عندما كان يمثل سورية في مجلس الأمن. ولكن عندما حل هذا المجلس على أثر الانقلاب الذي قام به حسني الزعيم ثابر فارس الخوري على عمله في الحقل الدولي، وترأس الوفود السورية إلى هيئة الأمم متابعاً نضاله ودفاعه عن القضايا العربية.

في عام 1954 طلب رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي من فارس الخوري تشكيل حكومة سورية، لكنها لم تستمر سوى أشهر معدودة، وكان من أهم الأمور السياسية أثناء توليه وزارته الرابعة، الصدى البعيد في المجلس النيابي، وفي دوائر الحكومة وجماهير الشعب الذي أحدثه صدور الأحكام القاسية ضد الإخوان المسلمين في مصر. مما جعل سائر الحكومات العربية (بما فيها الحكومة السورية) تتوسط لدى القاهرة لتخفيف هذه الأحكام، وعرض الخوري وساطته الشخصية بالإضافة لوساطة حكومته والشعب السوري برئيس جمهوريته ومجلسه النيابي وفئاته وأحزابه، وواضعاً كرامته الشخصية كرجل يحفظ له المصريون أخلد الذكريات، لقاء تخفيف هذه الأحكام فلم يجد ذلك نفعاً، ونفذت أحكام الإعدام في ست من أقطاب الدعوة الإسلامية في وادي النيل. فكان لذلك أثر كبير في نفسه لم يزايله بقية عمره.

اعتكف فارس الخوري في منزله بدمشق.. يذهب مرة كل عام إلى جنيف ليشترك في جلسات لجنة القانون الدولي التي هو عضو فيها. وأقيمت الوحدة بين سورية ومصر ولم يكن للأستاذ فارس الخوري أي رأي بقيامها أو بانهيارها.

في 22 شباط 1960، أصيب فارس الخوري بكسر في عنق فخذه الأيسر بغرفة نومه، وكان يعاني من آلام المرض الشديد في مستشفى السادات بدمشق، حينما منح جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية من قبل الرئيس جمال عبد الناصر بناء على توصية المجلس الأعلى للعلوم والفنون.

مواقف سياسية مشهورة[عدل]

من أحد المواقف المشهورة له أنه دخل إلى الأمم المتحدة حديثة المنشأ، بطربوشه الأحمر وبذته البيضاء الانيقة… قبل موعد الاجتماع الذي طلبته سوريا من اجل رفع الانتداب الفرنسي عنها بدقائق واتجه مباشرة إلى مقعد المندوب الفرنسي لدى الأمم المتحدة وجلس على الكرسي المخصص لفرنسا. بدء السفراء بالتوافد إلى مقر الأمم المتحدة بدون اخفاء دهشتهم من جلوس ‘فارس بيك’ المعروف برجاحة عقله وسعة علمه وثقافته في المقعد المخصص للمندوب الفرنسي، تاركا المقعد المخصص لسوريا فارغا. دخل المندوب الفرنسي، ووجد فارس بيك يحتل مقعد فرنسا في الجلسة… فتوجه اليه وبدأ يخبره ان هذا المقعد مخصص لفرنسا ولهذا وضع أمامه علم فرنسا، وأشار له إلى مكان وجود مقعد سوريا مستدلا عليه بعلم سوريا ولكن فارس بيك لم يحرك ساكنا، بل بقي ينظر إلى ساعته.. دقيقة، اثنتان، خمسة…

استمر المندوب الفرنسي في محاولة ‘إفهام’ فارس بيك بأن الكرسي المخصص له في الجهة الأخرى ولكن فارس بيك استمر بالتحديق إلى ساعته: عشر دقائق، أحد عشرة، اثنا عشرة دقيقة وبدء صبر المندوب الفرنسي بالنفاذ واستخدم عبارات لاذعة ولكن فارس بيك استمر بالتحديق بساعته، تسع عشرة دقيقة، عشرون، واحد وعشرون… واهتاج المندوب الفرنسي، ولولا حؤول سفراء الأمم الأخرى بينه وبين عنق فارس بيك لكان دكه….. وعند الدقيقة الخامسة والعشرين، تنحنح فارس بيك، ووضع ساعته في جيب الجيليه، ووقف بابتسامة عريضة تعلو شفاهه وقال للمندوب الفرنسي:

سعادة السفير، جلست على مقعدك لمدة خمس وعشرين دقيقة فكدت تقتلني غضبا وحنقا، سوريا استحملت سفالة جنودكم خمس وعشرين سنة، وآن لها ان تستقل. في هذه الجلسة نالت سوريا استقلالها.. وفي مثل هذا اليوم من عام 1946، جلى آخر جندي فرنسي عن سوريا..

حين كان فارس الخوري رئيساً للمجلس النيابي, كان المجلس يضم عدداً من نواب العشائر شبه الأميين.‏ فوقف واحد منهم يتحدث قائلاً: (حضرات النواب المحترمون), فصحح له فارس الخوري بقوله: (حضرات النواب المحترمين).‏ فأعاد النائب نطقها بالشكل الصحيح, ثم تابع قوله: (كان النواب المحترمين), فقاطعه فارس الخوري, وصحح له مرة أخرى بقوله:(كان النواب المحترمون).‏ فثارت ثائرة النائب وصاح محتجاً باللهجة العامية:‏ – ليش هيك متحطط عليّ يا دولة الرئيس?‏ لما قلت (المحترمون) صححتها لي إلى (المحترمين) ولما قلت (المحترمين) قاطعتني وقلت: (المحترمون).‏ فهل تريدني أن أقول (المحترمون) أم (المحترمين)?‏ فرد عليه فارس الخوري ضاحكاً:‏ – لست أنا من يريد وإنما سيبويه هو الذي يريد وفي مرة أخرى كان فيها أيضاً فارس الخوري رئيساً للمجلس النيابي.‏ كان المجلس يناقش مشروع قانون, وطال النقاش حول أحد مواد القانون, واقترح أحد النواب حذف هذه المادة لحل المشكلة.‏ فرد عليه فارس الخوري أنه لا يمكن حذفها, لأن عدة مواد في الفصل تستند عليها, فاقترح النائب حذف الفصل بكامله من مشروع القانون, فحبكت الضحكة على فارس بيك ورد على النائب قائلاً:‏ لا بأس ولكن سيكون حذف الفصل فصلاً ناقصاً من المجلس أمام الحكومة.‏ هذه المواقف الطريفة تعبر عن شخصية سياسية فذة وفكر منير لشخص أبيّ قلمانجد مثيله بين السياسيين.

من ضمن تلك المواقف موقفه بشأن فلسطين حيث صرح “بأن قضية فلسطين لا تُحل في أروقة مجلس الأمن ولكنها تُحل على ثرى فلسطين” جاء هذا في كتاب (هتاف المجد) لعلي الطنطاوي وقد عاصره.

كانت وفاة فارس الخوري مساء الثلاثاء 2 كانون الثاني 1962، في مستشفى السادات بدمشق.



في مثل هذا اليوم من تاريخ سوريا 2 كانون الثاني 1962 وفاة دولة الرئيس العلامة فارس الخوري بدمشق عن عمر 85، أحد واضعي الدستور السوري، مؤسس كلية الحقوق ونفابة المحامين، أحد مؤسسي الأمم المتحدة، نائباً عن دمشق، عميداً للكتلة الوطنية، مؤسساً لوزارة المال ورئيساً لمجلس النواب ولمجلس الوزراء.


أعضاء المجمع العلمي

فارس الخوري.. قصة وطن – واضع العملة السورية ومعيارها الذهب
فارس الخوري
فارس الخوري.. قصة وطن
فارس الخوري
رئيس وزراء سورية في الأزمات الصعبة وصوت العرب في المحافل الدولية، كان رئيساً للوزارة السورية عدة مرات وممثلاً لسورية في أكثر من مؤتمر دولي.. ورئيساً للأمم المتحدة، وفي كل منصب تقلده كان نضاله لايفتر، هذا هو فارس الخوري في قصته مع الوطن عمرها ثلاث وثمانون عاماً.
كان فارس صاحب ذاكرة عجيبة ووجه ضاحك بقسوة وتاريخ، وهو الشيخ المتمتع بثقافة القرن التاسع عشر وكياسة القرن العشرين ومرح القرن الحادي والعشرين كان يقول: لقد كتبت صفحات كبيرة حول القضية العربية، وملابساتها وماضيها وحاضرها وأبدى الكثيرون أسفهم للخصام الذي دبّ بين قادتها، لقد كان هؤلاء ملكاً للتاريخ فلماذا مزقوا صفحاتهم الخالدة، لقد عاملوا بعضهم بخشونة وكان الأولى بهم أن يقدموا التاريخ للأجيال في إطار من الأدب واللياقة، إن الأخطاء قد تهدم صغار الرجال ولكنها لاتؤثر فيمن شغلوا بشرف المراكز الأولى في أشد العواصف.
وجاء ذكر أحد السياسيين السابقين -مرة- أمامه فضحك وقال: كم في هذه الأمة من مضللين، إنني سأكتب مذكراتي للأجيال القادمة لتعرف تاريخها كما وقع، وتنظر إلى الكفاح الحقيقي كما جرى..
فارس الخوري وقصته مع الوطن ذكريات لا يمحوها الزمن لارتباطها بمراحل الكفاح الطويل، كان واحداً من الرجال الذين ساهموا في معركة الوطن بشرف.
فارس والاقتصاد
لقد كان له فضل في العمل على تحرير الاقتصاد، وفي إنشاء عدة شركات وطنية سورية في عهد الاستقلال، وحول وضعه لنظام «شركة الإسمنت الوطنية المساهمة»، يقول مؤلِّفا كتاب «فارس الخوري: حياته وعصره»:
«وأعاد إلى الناس ثقتهم بالشركات التعاونية أو المساهمة، بعد أن فقدوها إلى حدٍّ بعيد على إثر فشل شركة الزجاج أوائل القرن العشرين، حيث دفعوا أموالاً ما لبثوا أن خسروها».
وقد أقبل الناس على شراء أسهم شركة الإسمنت بشكلٍ غير معهود.
واضع العملة السورية
ومعيارها الذهب
عمل الخوري خلال حقبه الثلاث في وزارة المالية على جعل وزارة المال ذات صبغة سورية وعربية، ساعياً إلى تكريس النهج العلمي في العمل، وقام بتنظّيمها تنظيماً دقيقاً وفق قواعد ثابتة، فأنجز موازنة الدولة وقام بتجديد الضرائب وأحدث الدينار السوري الذهب.
كتبت جريدة «الحاوي» عنه في ذلك الوقت: «أما باكورة أعمال وزيرنا فارس الخوري في خدمته الجديدة، فهي أنه وقى مالية الحكومة ومصالح التجار وعامة الأهالي من خطر الخسائر المتأتّية عن هبوط وصعود الأوراق النقدية المصرية، وضَمِن سلامة مصالح البلاد الاقتصادية، وذلك أنه وضع معياراً لنقود المملكة السورية التي ستضربها في المستقبل وجعل الذهب معياراً لتلك النقود، فاقترح جعل الدينار السوري سكة ذهبية وزنها 6.452 من عيار 90% من الرملي الخالص، وأن يكون الدينار ذا مئة غرش، والغرش يقسم إلى عشرة أعشار».
للتاريخ… فارس الخوري ومياه عين الفيجة
من رسالة بعث بها فارس الخوري سنة 1904 إلى العلامة محمد كرد علي نكتشف أنه منذ ذلك التاريخ كان مهتمّاً بموضوع جرّ الماء من عين الفيجة إلى المدينة.. وقد وضع دراسة هامة حول الموضوع، موجودة كلها في الرسالة.
في سنة 1921 فكر الفرنسيون في مشروع جر مياه الفيجة إلى منازل دمشق وفي إعطاء امتياز المشروع إلى شركة فرنسية. وعندما طلب رئيس البلدية من فارس الخوري المشاور الحقوقي للبلدية «أي المحافظة» دراسة المشروع تبين لفارس أن شروط الامتياز تضر بمصلحة السكان، فسجل اعتراضاته، واقترح تأسيس مشروع وطني تكون فيه المياه ملكاً للأمة وأنهى دراسته بوجوب رد المشروع. وعلى هذا النحو، وبعد هذه الحادثة بحوالي السنة اجتمعت لجنة من تجار دمشق وأغنيائها وبحثت موضوع تأسيس شركة تجارية لتوزيع المياه. لكن معارضة فارس الخوري كانت شديدة لأنه لم يشأ أن تكون استثمارية بل عمومية فقد كان يخشى أن ينقلب المشروع أجنبيّاً لأن الأسهم مهما بلغت قيمتها سيأتي من يشتريها بأغلى من سعرها، ولذلك قدّم لهم مشروعاً شعبياً محضاً من وضعه وابتكاره ودراسته، هو الذي اُعتُمِدَ ونُفِّذَ ومازال قائماً حتى يومنا هذا.
وقد كان وراء تنفيذ هذا المشروع لطفي الحفار، وأما نظام هذا المشروع الذي ليس له شبيه في العالم من حيث تمليك المياه للمنازل والعقارات (متر أو نصف متر أو ربع متر) هذا النظام ابتكره عقل فارس الخوري…
أعضاء المجمع العلمي
مسيرته في الحقوق
لم تكمن ممارسة المحاماة في ذلك الزمن تحتاج إلى شهادة وفارس الخوري لم يحمل في حياته إجازة في الحقوق، وكما كتب حنا خباز وجورج حداد في كتابهما: « فارس الخوري حياته وعصره»:
«بدأ فارس بمطالعة كتب الحقوق بدون أستاذ ولا مدرسة في أوقات الفراغ القليلة التي كانت تتركها له واجبات الوظيفة وأعمالها لمختلفة وعلاقاته الاجتماعية ولم يحصل على شهادة رسمية في الحقوق ولم يكن خريج أي معهد حقوقي. وكل ما هنالك أنه عندما كان نائباً في المبعوثان بعد 1914 تابع دروس الحقوق في اسطنبول ليحصل على شهادته، وكانت تستوجب دراسته ثلاث سنوات. وأوشك أن يظفر بها غير أن السلطات التركية اعتقلته في صيف 1916 وبدأت محاكمته مع سائر الأحرار العرب..».
«هذا الحقوقي غير المأذون اشتهر كمحام وكحقوقي وكان أحد مؤسسي معهد الحقوق في دمشق، ثم أستاذاً في المعهد المذكور ثم أول نقيب للمحامين في دمشق، ثم عضواً في لجنة الحقوق الدولية التابعة لهيئة الأمم المتحدة وعلماً من أعلام القانون». فكان بذلك أول عربي في هذه اللجنة المهمة من المشترعين الدوليين. وظل في اللجنة إلى أن انتهت ولايته في أثناء وحدة سورية ومصر وحل محله عبد الله العريان.
عين الخوري أيضاً مشاوراً قانونياً في بلدية دمشق (وهي اليوم المحافظة)، وأستاذاً في معهد الحقوق العربي الذي كان قد افتتح عام 1919، وعمل فيه بتدريس مادتي أصول المالية وأصول المحاكمات الحقوقية حتى عام 1940.. وكان من تلامذته خالد العظم وسعيد الغزي وعلي الطنطاوي وظافر القاسمي وشبان آخرون كثر تولوا فيما بعد مناصب رفيعة في السياسة والقضاء، كما كان مرجعاً في الاقتصاد، ومؤلِّفاً في عالم القانون وفي دنيا الأدب، إضافة لكونه شاعراً متميزاً وخطيباً.
ولفارس ثلاثة مؤلفات في القانون: أصول المحاكمات الحقوقية، وموجز في علم المالية، وصك الجزاء، وتعد مرجعاً حتى يومنا.

مواقفٌ لفارس الخوري
تميز الزعيم الوطني الكبير فارس الخوري بذكائه وحنكته وخفة دمه، فلم تكن حياته مليئة بالنضال والمواقف الوطنية العظيمة فقط، وإنما بالمواقف الطريفة أيضاً، فقد كان صاحب نكات طريفة وتعليقات ساخرة بل كانت هذه النكات وتلك التعليقات وسيلته الناجحة في حل الكثير من المواقف والمشكلات التي تعترضه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الموقف الأول:
طاف فارس الخوري أسواق حيفا بحثاُ عن طربوش يلائم رأسه، وعندما وجد الطربوش المنشود في أحد المخازن، طلب منه البائع ضعف الثمن المحدد، فاعترض فارس: «لكن سعر الطربوش معروف وهو نصف ما تطلب»، فقال له الطرابيشي: «إذا وجدت في كل الأسواق طربوشاً بهذا الحجم يلائم رأسك فادفع ما شئت».
فأجابه فارس على الفور: «وأنت إذا وجدت في كل البلاد رأساً كهذا الرأس يعبي طربوشك فاطلب ما شئت..».
وذكر الأستاذ عباس الحامض (في مجلة كل جديد تاريخ كانون الأول 1947 العدد 9 السنة الثالثة) أن علي ماهر باشا قال له ذات يوم من سنة 1945 عن فارس الخوري: «لقد استحال هذا الرجل النابغة إلى كتلة دماغية فلم يبق من جسمه أعضاء من عظم يكسوه لحم وإنما أصبح كل عضو منه مدار تفكير وبحث وعمل ونشاط».
الموقف الثاني:
كان فارس الخوري رئيساً للمجلس النيابي و كان المجلس يضم عدداً من نواب العشائر شبه الأميين، فوقف واحد منهم يتحدث قائلاً: «حضرات النواب المحترمون»، فصحح له فارس الخوري بقوله: «حضرات النواب المحترمين»، فأعاد النائب نطقها بالشكل الصحيح.. ثم تابع قوله: «كان النواب المحترمين»، فقاطعه فارس الخوري، وصحح له مرة أخرى بقوله: «كان النواب المحترمون».. فثارت ثائرة النائب وصاح محتجاً باللهجة العامية: ليش هيك متحطط علي يا دولة الرئيس؟؟
لما قلت «المحترمون» صححتها لي إلى «المحترمين» ولما قلت «المحترمين» قاطعتني وقلت: «المحترمون».. فهل تريدني أن أقول «المحترمون» أم «المحترمين»؟!
فرد عليه فارس الخوري ضاحكاً: لست أنا من يريد وإنما سيبويه هو الذي يريد..
استقبال فارس الخوري العائد من مؤتمر سان فرانسيسكة في مطار دمشق عام 1945
الموقف الثالث:
روى عنه تلميذه (علي الطنطاوي) أن طالباً (ثقيلاً…) سأله: ما فائدة هذه الأحرف اللثوية؟ ولماذا نقول ثاء وظاء؟ فنخرج ألسنتنا، ونضطر إلى هذه الغلاظة؟!
فقال له فارس الخوري على الفور وقبل أن يتم سؤاله:
– لا فائدة لها أبداً، وسنتركها فنقول (كسر الله من أمسالك)!! الموقف الرابع:
سأله مرة أحد الصحفيين قائلاً: لقد عشت حياة طويلة عريضة فما برأيك أهم ثلاث أمور في حياة الإنسان عليه أن يسعى اليها؟ فأجاب فارس الخوري أولا الصحة وثانيا الصحة وثالثا الصحة وإليك بهذا المثال:
إذا كنت تتمتع بالصحة سجل لنفسك واحد فقط (1) فإذا جاء العلم سجل صفراً أمام الواحد فيصبح الرقم (10) إذا ربحت المال زد صفرا على الرقم فيصبح (100) وإذا جاء المركز أو الجاه أو الشهرة زد صفرا ثم صفرا ثم صفرا وهكذا حتى يصبح الرقم المليون اسحب الواحد الذي هو الصحة ماذا يبقى؟ مجرد أصفار.. فمجموعة أصفار لا تساوي واحد كما أن مجموعة أغبياء لا يساوون أمة.
ثمة مواقف أخرى كثيرة، لا تخلو من الطرافة والدلالة على عمق تفكير هذا الرجل، وسعة صدره، تدلل على شخصية سياسية فذُّة، وفكر منير لشخص قل نظيره بين السياسيين.. فكم نحن بحاجة إلى أمثال هؤلاء الرجال، ممن يمتلكون الخبرة و الكفاءة والنزاهة.
ولاننسى موقفه مع الوفد الفرنسي وأيضاً وقوفه على منبر الجامع الأموي وقوله: «إذا كانت فرنسا تدّعي أنها جاءت إلى بلادنا لحماية الأقليات فمن على هذا المنبر أقول: أشهد أن لا إله إلا الله»
فارس الخوري في الأمم المتحدة عام 1945 يوم إعلان شعار المنظمة الدولية
خمس وعشرون دقيقة

دخل فارس بك الخوري، ممثل سورية في الأمم المتحدة حديثة المنشأ، بطربوشه الأحمر وبذته البيضاء الأنيقة.. قبل موعد الاجتماع الذي طلبته سورية من أجل رفع الانتداب الفرنسي عنها بدقائق واتجه مباشرة إلى مقعد المندوب الفرنسي لدى الأمم المتحدة وجلس على الكرسي المخصص لفرنسا.. بدأ السفراء بالتوافد إلى مقر الأمم المتحدة بدون إخفاء دهشتهم من جلوس (فارس بك) المعروف برجاحة عقله وسعة علمه وثقافته في المقعد المخصص للمندوب الفرنسي، تاركاً المقعد المخصص لسورية فارغاً.
دخل المندوب الفرنسي، ووجد فارس بيك يحتل مقعد فرنسا في الجلسة.. فتوجه اليه وبدأ يخبره ان هذا المقعد مخصص لفرنسا ولهذا وضع أمامه علم فرنسا، وأشار له إلى مكان وجود مقعد سورية مستدلا عليه بعلم سورية ولكن فارس بيك لم يحرك ساكنا، بل بقي ينظر إلى ساعته.. دقيقة، اثنتان، خمسة..
استمر المندوب الفرنسي في محاولة «إفهام» فارس بيك بأن الكرسي المخصص له في الجهة الأخرى ولكن فارس بيك استمر بالتحديق إلى ساعته: عشر دقائق، أحد عشرة، اثنا عشرة دقيقة وبدء صبر المندوب الفرنسي بالنفاذ واستخدم عبارات لاذعة ولكن فارس بيك استمر بالتحديق بساعته، تسع عشرة دقيقة، عشرون، واحد وعشرون… واهتاج المندوب الفرنسي، ولولا حؤول سفراء الأمم الأخرى بينه وبين عنق فارس بيك لكان دكه.. وعند الدقيقة الخامسة والعشرين، تنحنح فارس بيك، ووضع ساعته في جيب الجيليه، ووقف بابتسامة عريضة تعلو شفاهه وقال للمندوب الفرنسي:
«سعادة السفير، جلست على مقعدك لمدة خمس وعشرين دقيقة فكدت تقتلني غضباً وحنقاً، سورية استحملت سفالة جنودكم خمس وعشرين سنة، وآن لها أن تستقل».
في هذه الجلسة نالت سورية استقلالها.. في عام 1946، جلى آخر جندي فرنسي عن سورية..
رأيه بالوحدة مع مصر

تروي حفيدته كوليت خوري أنها إثر عودتها من أحد المظاهرات المطالبة بالوحدة مع مصر، عادت إلى منزل جدها في حي المهاجرين لتجده جالساً على الكرسي أمام المذياع ووجهه متجهم ولم يكن راضياً عما يجري في تلك الفترة، فارس الخوري أكثر الناس حكمة في سورية آنذاك كان محتقن الوجه وغير مرتاح، أخبرته أنها كانت مع المتظاهرين المؤيدين للوحدة، فاكتفى بهز رأسه ولم يقل لها «عفي عليكي» كعادته، ما أثار حفيظتها لتسأله «لم لست سعيداً» فأخبرها أنه مشغول البال، قلق، في تلك اللحظة وافاه مجموعة من الكبار الذين صرح لهم بقلقه وخوفه على قضية العمر التي طالما سعوا إليها وحلم حياتهم بالوحدة الكبرى على اتساع رقعة الوطن العربي.‏‏‏
وقال بالحرف: «الآن عملوا وحدة مسلوقة سلقاً والوحدة لا تسلق والخوف إذا ما فشلت سنعود إلى نقطة ما قبل الصفر»، وبحماستها المعهودة السيدة كوليت قالت: «لا الوحدة حلوة» لكنه أصر على أن الوحدة لا تسلق سلقاً وستكون خسارة كبيرة إذا ما فشلت، وهذا ما حصل فتنبؤات فارس خوري كلها صدقت.

من almooftah

اترك تعليقاً