مرهج محمد: 2020/03/21
علامَ
يكون العتابُ، وكيف؟، بل أين مواضعُه ومتى تتجلّى وتُوائم الحال؟ هل
العتاب فعلاً مطهّر الأنفس، وهل من الصواب الإكثارُ منه، أم إن من الحكمة
الإقلالَ من صابون القلوب والتروّي في استخدامه؟
هذا ما نأخذ جوابَه ممن خبروا الحياة حلوَها ومُرَّها، فقدّموا لنا
العُصارةَ ومنها نعرضُ ضروباً من أوجه العتاب متناولين إيّاها من نواحيَ
ومناحيَ شتّى:
يرى اِلياس فرحات أن العتاب يكون للمُحبّ حين تكادُ المودّةُ تُضيّع، ويعمم
ذلك على كُلِّ من خان صحبُهُ ودَّه، لعلَّ العتابَ يعيدُ حبلَ الوصل إلى
سابق عهدهِ الجميل:
عتَبي على ناسٍ أضاعوا مودَّتي
وكلُّ كريمٍ خانهُ الصَّحْبُ يعتبُ
ويرى محمود عبّاس العقاد أنّ الناس طالما تحفل بأولئك الذين يترفّعون عن
المبالاة بغضبٍ هو وليدُ عتبٍ أو لومٍ على أمرٍ استدعاهما، فعلى المرء أن
يسيرَ بحيادٍ بين اللائمين، وألّا يبالي سواءٌ كان هذا العتبُ جديّاً أو لم
يكن كذلك:
فالناسُ يرضون عمّا ليس يحفلُهُم
ويغضبون على من يحفلُ الغضبا
وأما الشاعر الساخر ابن الرومي، فيرسم بريشته عتابَ المَلول، معتبراً أنَّ
من يعاتبُ مَلُولاً كمن يكتبُ على وجه الماء، ولو عادت مودَّتُه بعد ذلك
فستكون مُصطنعةً متكلَّفةً، مختلفةً تماماً عن مودّة الطبع المتأصلة
المتجذرة:
إذا أنت عاتبت المَلُولَ فإنَّما
تخطُّ على صُحْفٍ من الماءِ أحرُفا
وهَبْهُ ارعوى بعد العتابِ، ألم تكن
مودّتهُ طبعاً فصارتْ تكلُّفا؟
ويعتقدُ ابنُ حمديس أنَّ معاتبةَ الزمن في حوادثه ضربٌ من عبث، ومضيعةٌ
للوقت والجهد، ويأتي بأمثلةٍ من صنع الزمن وتقادُمِه، ويرى أنّ الطريق إلى
جادّة الصواب هو في حُسن التصرُّف العاقل في تصريف أمور الزمن بكل ما أوتي
الرجلُ من حزم وعزم:
ألا كم تُسمِعُ الزمنَ العِتابا
تخاطبهُ ولا تدري الخطابا
أتطمعُ أن يردَّ عليك إلفاً
ويُبقي ما حييتَ لك الشبابا
ألم ترَ صِرفَهُ يُبلي جديداً
ويتركُ آهِلَ الدني يبابا
فصرّفْ في العُلا الأفعالَ حزماً
وعزماً إنْ نحوتَ بها الصوابا
وينظر البحتريُّ إلى العتاب فيختصر ما يعنيه في مرّةٍ واحدة يرى أنها
كافيةً، وأمّا كثرة العتاب في أحداث الدّهر فلا ثمّة جدوى منها ولا فائدةَ
تُرجى:
أعاتبُ الدهرَ فيما جاء واحدةً
ثمَّ السلامُ عليهِ لا أعاتبُهُ
وفي ذلك يقولُ ابنُ المعتزّ أيضاً:
معاتبةُ الإلفَين تحسنُ مرَّةً
فإنْ أكثروا إدمانَها أفسدوا الحُبّا
ومن جميل القول ومفيدِه أبياتٌ لشاعرٍ عربيٍّ يُدعى سعيداً بن َحميد:
أقلِلْ عتابَكَ فالبقاءُ قليلُ
والدَّهرُ يعدلُ مرّةً ويميلُ
لم أبكِ من زمنٍ مللتُ صُروفَهُ
إلّا بكيتُ عليهِ حين يزولُ
ولِكُلِّ نائبةٍ ألمَّتْ مدَّةٌ
ولكلِّ حالٍ أقبلَتْ تحويلُ
وقولُ آخر:
فدعِ العتابَ فرُبَّ سرٍّ هاجَ،
أوَّلهُ العتاب
وأمّا أحمد بنُ الحسين أبو الطيّب، والذي استطاعَ تغييرَ المفاهيم الخاطئة والمواقف الصعبة في قصيدته الشهيرة التي مطلعُها:
واحرَّ قلباهُ مِمَّنْ قلبُهُ شبِمُ!
فقد استلمَ دفَّةَ المركب وصارَ السَّفين الموجِّهَ فانتصر وفاز حين قالَ:
إن كان سَرَّكُمُ ما قال حاسدُنا
فما لِجُرحٍ إذا أرضاكُمُ ألمُ
ويقولُ في موضعٍ آخر كلاماً تحدوهُ ريحُ الحكمة:
لعلَّ عُتْبَكَ محمودٌ عواقبُهُ
وربّما صحَّتِ الأجسامُ بالعللِ!
والمرءُ إذا تخلّى عنهُ صحبُهُ وأصدقاؤهُ تخلّى عنه الآخرون، وبذا يبدأ
بشارُ بنُ برد في أبياتٍ من أكثر القصائد العربيّة شُهرةً وترداداً على
الألسن فيرى بمنظار الحكمة أنَّ على المرء أن يقلِّلَ من عتاب صِحابه
وأصدقائه لكي لا يؤولَ إلى العزلة ويعيشَ وحيداً مهجوراً:
إذا كنتَ في كُلِّ الأمورِ معاتباً
صديقَكَ لم تلقَ الذي لا تعاتبُهْ
فعِشْ واحداً أو صِلْ أخاكَ فإنَّهُ
مُقارفُ ذنبٍ مرَّةً ومُجانِبُهْ
وإنْ أنت لم تشربْ مِراراً على القذى
ظمِئتَ، وأيُّ الناسِ تصفو مشارِبُهْ؟!
وما الثكلُ إلّا الحُسْنُ ظُنَّ بصاحبٍ
خذولٍ إذا ما الدهرُ نابتْ نوائبُهْ
ومن ذا الذي تُرضي سجاياهُ كلُّها
كفى المرءَ نُبلاً أن تُعَدَّ معايبُه
وأحبُّ أن أختمَ بالأنفعِ الأرفع، الأعذبِ الأجمل، الأصدق من الشعر، للحسن بن هاني (أبو نوّاس):
حُلْوُ العتابِ يُهيجُهُ الإدلالُ
لم يحْلُ إلّا بالعتابِ وصالُ
لم يهوَ قطُّ ولم يُسمَّ بعاشقٍ
من كان يصرفُ وجهَهُ التِّعْذالُ
وجميعُ أسبابِ الغرامِ يسيرةٌ
مالم يكن غدرٌ ولا استبدالُ