صورة المرأة في أدب نجيب محفوظ !

هويدا صالح

إن دراسة الصورة الروائية التي يرسمها الروائيون لفئة ما من فئات المجتمتع إنما تكشف الفضاء الإيديولوجي و الثقافي الذين يتموضع الكاتب و جمهوره بداخلهما و تعمل على ترجمته، فالصورة الروائية في بعديها الجمالي و الاجتماعي تحتاج إلى قراءة عميقة ومتأنية لأنها تنتمي إلى متخيل مجتمع ما، لأنها مجموعة من الأفكار المتعلقة بالفئة أو النمط الذي يسعى الروائي إلى تشكيله في الفضاء السردي عبر آليات التشكيل وفي إطار سيرورة ما هو أدبي و اجتماعي،فكل صورة تنبثق عن وعي الكاتب الذي هو بمثابة المحرك الحقيقي للأنماط التي يرسمها عبر تشكلاته السردية . كذلك تُعدُّ الصورة الروائية يمكن أن تشكل أيضا تعبيرا أدبيا النظام الثقافي في مجتمع ما ، من هنا يمكن اعتبارها تمثلا لواقع ثقافي من خلاله يترجم الفرد أو الجماعة التي تنتجها فضاءهما الاجتماعي، الثقافي، الإيديولوجي و التخييلي. لذا تُعتبر دراسة الصورة الروائية وسيلة لكشف الخطاب الثقافي للمجتمع الذي يمثله الروائي ، كما تعبر عن العادات والتقاليد والثقافة التي تحكم وعي الفرد في هذا المجتمع. وقد عالجت الدراسات النقدية تلك الصورة من خلال دراسة صورة المرأة في السرد أو صورة الفلاح أو المثقف وغيرها من تلك الصور الروائية .

والبحث في صورة المرأة الرواية التي يصورها الكتاب الرجال تكشف لنا عن رؤية المجتمع الذكوري للمرأة ، ويعتبر نجيب محفوظ من الكتاب الذين عالجوا الصورة الروائية للمرأة ، لاتساع المساحة السردية ، فهو أكثر الروائيين العرب كتابة سردا روائيا وقصصيا .

ولقد اتهم الكثير من النقاد نجيب محفوظ أنه حصر صورة المرأة في صورتين اثنتين : إما عاهرة تتكسب بجسدها ، وإما فاضلة رغم أنفها مقهورة من قبل المجتمع الذكوري ، واستدلوا على صورة العاهرة بروايات مثل : القاهرة الجديدة ، واللص والكلاب ، و وبداية ونهاية و زقاق المدق، أما صورة المرأة الفاضلة رغم أنفها المقهورة من المجتمع الذكوري في روايات مثل : السكرية وقصر الشوق وبين القصرين ، حديث الصبح والمساء و المرايا ، وأنا هنا لست بصدد الدفاع عن نجيب محفوظ لأنه بتقديري لا يحتاج لدفاع ، فما تركه من تراث روائي متسع وممتد ومتنوع كفيل بأن يدافع عنه ،رغم أن النقاد ظلموه ظلما بينا حين اختصروا أعماله في مقولات نمطية سار عليها جميع النقاد دون أن نجد من يعيد قراءة كل هذا التراث الروائي الممتد ويقدم رؤية مغايرة لتلك المقولات النمطية .

والباحثة ترى أن نجيب محفوظ عمد إلى كشف المجتمع الذكوري الذي يقصي المرأة ويقلل من شأنها ، ويحقرها ، فهو إما يشيؤها ويسلع جسدها ، ويجعل منها عاهرة رغم أنفها ، ويدفعها لأن تتعيش من جسدها نتيجة للأوضاع الاجتماعية القاهرة ، وإما يقهرها تحت وطأة الوصاية الذكورية التي تجعل من المرأة فاقدة للأهلية تحتاج طوال الوقت إلى حماية ووصاية المجتمع الذكوري .

ركز نجيب محفوظ على صورة العاهرة في رواياته لسببين : الأول لأن الدعارة كانت منتشرة وموجودة ، ومعترف بها من قبل الحكومة فيما قبل ثورة يوليو ، والسبب الثاني رغبته في كشف المسكوت عنه في المجتمع الذكوري الذي يشيؤ المرأة ، ويسلعها ، فحين يقهرها تضطر إلى أن تسغل جسدها من أجل أن تعيش، وقد احتلت صورة العاهرة مساحات كبيرة من رواياته ، فنجدها في القاهرة الجديدة ، إحسان شحاتة طالبة معهد التربية، شديدة الفقر، تعيش في أسرة مثقلة بأعباء الحياة، يستغلها المجتمع الذي لا يعترف إلا بالثروة والنفوذ، تسوده المحسوبية والانتهازية وتحكمه البراجماتية القاسية، مجتمع ينتشر فيه الفساد السياسي والظلم الاجتماعي، يستغلها كأثنى ضعيفة ، فيدفعها لأن تبيع جسدها لذات المجتمع كي توفر لأخوتها الصغار حياة كريمة. كذلك نرى حميدة في زقاق المدق ، حيث غياب الوعي والفقر ، وحيث أن المرأة هي الحلقة الأضعف في المجتمع ، تسقط أيضا حميدة بنت أم حميدة ، ويجبرها المجتمع على استغلال جسدها كي تعيش ، ثم تأتي العاهرة أيضا في ” السمان والخريف ” حيث يستغل عيسى الدباغ المرأة العاهرة ، ثم يتركها وهي تحمل طفله ، ويتخلى عنها نهائيا ، كذلك تقع بطلة ” بداية ونهاية ” في شرك الرذيلة ، واستغلال جسد الأنثى نتيجة للظروف الاجتماعية القاهرة ، فلا تجد الأنثى الضعيفة إلا أن تلقي بجسدها في مياه النيل لتعفي أسرتها من هم عارها ، كذلك يصور المومس الفاضلة التي تقف بجانب بطل ” اللص والكلاب ” سعيد مهران ، حيث يتخلى عنه المجتمع ، ولا يجد من ينقذه إلا ” نور ” العاهرة التي أجبرها المجتمع لأن تبيع جسدها من أجل أن تعيش ، وقد حاول أن يفسر لنا سبب نـزوح نـور إلى القاهـرة ، وإلقـاء الـضوء عـلى حـياتـها الفـقيـرة المليئة بالمـشاكـل الاجتماعـية من خلال رصـد صـورة بيئتـها ، فالمياه الراكدة والهـرب .مما يعطي إشارة لحيـاة نـور قبل نزوحها للعاصمة بحـثا عـن الـرزق و التمتع بحياة كريمة شريفة :” وأفـرطـت فـي الشراب حتى دار رأسها واعترفت له بأن اسمها الحقيقي هو شلبية وقصت عليه نوادر من عهد البلينا ، الطفولة و المياه الراكدة والشباب و الهرب … كان أبي عمدة … كان خادم العمدة “( 1 )
ورغم مهنة ” نور ” التي من المفترض أن تجعلها تقيم علاقات مع المجتمع إلا أنها تنأى بنفسها عن كل اتصال بالمجتمع المحيط ، ربما لأنها تخجل من مهنتها ، فهي لا تفعلها متعة ولا رغبة ، بل تفعلها من أجل سد حاجتها الضرورية من المال :”البيت الوحيد في الشارع ، تحته وكالة خشب ، ووراءه القرافة . لا يعرفني هناك أحد ، ولم يزرني فيه أحد ، ستكون أول رجل يدخله ، وشقتي في أعلى دور ” (2)

أحبت ” نور ” سعيد مهران ، وحاولت أن تبعده عن دائرة الانتقام الرهيبة التي تجعله يقتل الأبرياء ، لكنها لم تستطع ، فقد سيطر عليه الانتقام ممن كان السبب فيما هو فيه ، وقد أحبها مهران ، ووثق فيها تماما ، ولم يخطر بباله أبدا أن تسلمه للشرطة طمعا في المكافأة، فإنـه كان يعـلم مدى حبها وإخلاصها له رغـم أنـها تبـيع جسدها وأعز ما تملك للرجال كل لحظة إلا أنـها لـم تفـكر فـي خـيانة سعيد مهران:” هل يمكن أن تلعب المكافأة الموعودة بقلب نور ؟ حقا تلوث دمه بسوء الظن لآخر قطرة ، و الخيانة في عينيه أضحت كرائحة الغبار في اليوم الخماسيني ولكن رغـم ذلـك كـله فـنور لـن تخـونه ، ولن تسلمه غلى البوليس طمعا في مكافأة ، فقد ضجـرت مـن المعاملات وتقدم العمر وباتت تحن إلى عاطفة إنسانية خالصة ” (3)
” لن يرى نور مرة أخرى ، وخنقه اليأس خنقا ،ودهمه حزن شديد الضراوة لا لأنه سيفقد عما قرييب مخبأه الأمن ولكن لأنه فقد قلبا وعطفا وأنسا ، وتمثلت لعينيه في الظـلمة بابتـسامتـها ودعـابتـها وتعـاستها فانعصر قلبه ، ودلت حاله على أنها كانت أشـد تـغلـغلا فـي نـفسه مـما تـصـور ، إنـها كانت جزءا لا يصح أن يتجزأ من حياته الممزقة المترنحة فوق الهاوية ، وأغمض عينيه في الظلام وأعترف اعترافا صامتا بأنه يحبها ، وأنه لايتردد في بذل النفس ليستردها سالمة”(4)
يصف د. طه وادي صورة العاهرة عند نجيب محفوظ بأنها مغلفة بإطار إنساني مما يقترب بها من صورة المومس الفاضلة :”هكذا تلقانا صورة (البغي) في روايات نجيب محفوظ دائما مغلفة بإطار إنساني نبيل ، ليؤكد أن الظروف الاجتماعية مهما تعقدت ، لا تجتث كل ما هو إنسان في الإنسان ، وإنه لضرورات العيش الصعبة يأثم الجسد ،ولكن تظل الروح محتفظة بجوهرها ” (5)
وقد أوردت فوزية العشماوي حديثا لنجيب محفوظ نشر في مجلة الهلال عام 1970 ، تحدث فيه عن رؤيته لهذه الفئة من النساء قائلا :” هناك منحرفات فاضلات ومنحرفات غير فاضلات و الواقع أن كثيرا من المنحرفات في رواياتي ، يرجع انحرافهن إلى أسباب اجتماعية ، المتهم وراءهن لـيس سلـوكهـن بـقدر ما هو المجتمع الذي يعشن فيه ، إن الغالبية العظمى منهن يرتكبن الإثم بسبب الفقر .. بسبب المجتمع ” (6).

الصورة الثانية التي رسمها نجيب محفوظ للمرأة هي صورة إيحابية ، حيث صور نجيب محفوظ المرأة في صورة إيجابية ، فهي تناضل من أجل أن تحيا حياة كريمة مثل زهرة في “ميرامار ” التي ترفض أن يستغلها الرجال ، وتسعى لأن تغير مسار حياتها من فتاة ريفية بسيطة جاءت لتعمل خادمة في بنسيون وتتعرض للتحرض والاستغلال الذكوري ، لكنها تحافظ على نفسها ومن خلال التعليم تحاول تغيير حياتها ، كذلك صورة المرأة الإيجابية في نفس تلك الرواية تتجسد في المعلمة التي تدرس لزهرة ، فهي فتاة من الطبقة المتوسطة ، تعمل بالتدريس ، ولا تجد بأسا من أن تذهب للبنسيون لتعطي دروسا خصوصية لزهرة ، كذلك نجد في الثلاثية أكثر من نموذج يمثل صورة ‘إيجابية للمرأة ، فنجد عايدة شديد المتعلمة التي تعرف الكثير من اللغات ، والتي يقع في عشقها كمال عبد الجواد ، كما نجد وسوسن حمادة الصحفية التي ترصد الحراك الاجتماعي في المجتمع والتغيرات في البنية المجتمعية .

كذلك من النماذج النسائية المحفوظية شخصية الست ” عين ” في رواية ” عصر الحب” الأرملة الغنية التي توجه مالها لفعل الخير ، والتي كان لها عظيم الأثر في محيطها الاجتماعي والتي تبرعت بمنزل كبير لبناء مستشفى يحمل اسمها حتى اليوم ( القصر العيني ) .

وفي رواية ” السراب ” نجد رباب جبر الموظفة ظلت متمسكة بوظيفتها رغم كل الظروف وهذا تطور ملحوظ على واقع المرأة الاجتماعي . كما تقدم رواية ” الشحاذ ” صورة إيجابية للمرأة في شخصية زينب زوجة بطل الرواية الحمزاوي ، وهي فتاة مسيحية ، أحبت البطل فتزوجته و أسلمت وكانت وفية مخلصة لزوجها المحامي إخلاصا شديدا ، لكن البطل يتيه في طريق حياته حين يلتقي المومس وردة ويقيم معها علاقة ، فيضيع الرجل بين المرأتين مع أن الأولى بقيت على إخلاصها الأمر الذي زاد في تمزق البطل وتشتته. كذلك نجد إلهام في رواية ” الطريق ” تمثل صورة إيجابية للمرأة، فهي سكرتيرة الجريدة التي نشر فيها الإعلان الذي تضمن معلومات عن والده. ولا ينكر أحد تلك الصورة الإيجابية التي رسمها لسمارة بهجت بطلة “ثرثرة فوق النيل ” وهي صحفية شابة مهتمة بالمسرح ، لا تتعاطى الحشيش لذلك يقع عليها دور مهم في مراقبة ما يجري داخل العوامة لسببين هما الأول : أنها صحفية ، والثاني أنها بكامل يقظتها كونها غير واقعة تحت تأثير المخدرات .

وسوف أركز على شخصية زهرة في رواية “ميرامار ” حيث رسم الشخصـية الريفية بكل صفاتها الـجسـدية و الأخلاقـيــة والشجـاعة و الجـرأة و الاعتـداد بالنفـس ،وقد استطاعت أن تـؤثـر فـي المتـواجدين حولها إما بالسلب أو الإيجاب،فنجده مـن خـلال الأحـداث يوضح لنا مدى قوة شـخصية زهـرة وشـجاعـتها وجـرأتـها ،فـهي لم يـغلبها أحـد مـهما كـانت منزلته ومهما كانت قـوته ، وهي تؤمـن بـأن الـشـرف هــو الـعـرض و الأرض والحرص علـيهما هو الحفاظ على حياة كريمة وسط المجتمع ، ومن خلال الفلاش باك يرصد لنا حادثة تؤكد ما يصرعليه طول الرواية بأن زهرة لاتخاف أحدا ولا تخشى أي إنسان يحاول أن يغتصب حقها فتحدث صديقها عامر وجدي:” أراد زوج أختي أن يأكلني فزرعت أرضي بنفسي !

  • الم يشق عليكي ذلك يا زهرة ؟
  • كلا ، إني قوية بحمد الله ، لم يغلبني احد في المعاملة لا في الحقل و لا في السوق “(7 )
    وحين هربت من القرية لـكي لا تـتزوج مـن الـرجـل الـعجـوز وعـلى الـرغم من توسلات أختها وإقـناع زوج أختها لها بالرجوع وموقف أهل القرية من هروبها إلا أنها ظـلت قـوية وشـجاعـة تقابل هذه المواقف بقوة وشجاعة ، وتصر على عدم الرجع :” لن أرجع و لو رجع الأموات .
    وهم زوج أختها بالكلام ولكنها بادرته : لا شأن لك بي ! (8 )

كما رأينا أن نجيب محفوظ قدم صورة تفضح واقع المرأة المصرية بصفة خاصة والعربية بصفة عامة ، حيث القهر الذكوري لها وتسليعها واستغلال جسدها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع :

1 – نجيب محفوظ ، اللص و الكلاب، دار القلم، 1973 ،ص 100.
-2 ـ نفس المصدر،ص 58.
3ـ نفس المصدر،ص 116.

4 ـ المصدر السابق ، ص 126
5 ـ طه وادي، صورة المرأة العربية في الرواية المعاصرة، مركز كتب الشرق الأوسط ،ص 302
6 ـ فوزية العشماوي ، المرأة في أدب نجيب محفوظ ، مكتبة الأسرة 2005 ص 116 .

7 – رواية ميرامار – نجيب محفوظ / دار الشروق 2005 ، ص 42 .
8 – نفس المصدر ، ص 68.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر / موقع الحوار المتمدن

من almooftah

اترك تعليقاً