Image result for ‫عصام الياسري‬‎

في أي إتجاه تسير الثقافة في العراق؟

عصام الياسري

أكثر من عشر سنوات مضت على غزو العراق في العام 2003واحتلاله، والخطاب السياسي العراقي “الديمقراطي”؟ لا يزال ملتبساً يراوح في مكانه، ولم يتضح بعد لا المضمون المؤسساتي ولا الإداري للدولة. كما بدأ الشك في ضوء الاحداث السلبية واضحا في عجز صناع القرار الجدد في مختلف مجالات “عصر” التوافق الطائفي، في الحفاظ على الثوابت الوطنية والمواءمة بين الرؤية الواقعية للمجتمع، وامكاناته التقنية والبشرية لتجاوز الأزمات المتعددة التي تمر بها البلاد منذ الاحتلال. إضافة إلى غياب خارطة طريق سياسية واضحة تقنع الرأي العام برغبة “السلطة” في عملية التغيير باتجاه التقدم والبناء وإنشاء مؤسسات “وزارات” كفوءة تخضع لمراقبة القضاء والقانون والمجتمع. ولم يصار لحد الساعة لا تقييم الحقبة الديكتاتورية السابقة بشكل موضوعي، ولا العمل على معالجة آثارها ومنع تكرار مظاهرها السلبية وفق مفاهيم وأهداف وغايات وطنية واضحة المعالم.

وبعد عشر سنوات على تلك الحرب على العراق وشعبه، نسأل: ماذا حصد هذا البلد العريق بحضارته وثقافاته وتنوع طوائف مجتمعه؟ وكيف سيكون مستقبله في ظل تناحرات طائفية وعرقية، تبدو عسيرة على الحل؟.

لكن يبقى ايضا السؤال الكبير: ما المصلحة في خراب ثقافة هذا البلد ونهب آثاره وتدمير حضارته؟.

في عام 2003 قامت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في حلف شمال الأطلسي “الناتو” بمساعدة المنظومة العربية والأقليمية بشن حرب كونية ثانية على بلاد الرافدين “العراق” أستعملت فيها كل أنواع الأسلحة منها “اليورانيوم والكيميائي” المحرم دولياً والذي خلف ولا يزال الكثير من الخراب والضحايا والأمراض والعذابات، وفي ظل تداعيات سياسية وعسكرية غامضة تعرض العراق قبل ذلك الزمن بإثنا عشر عاماً لحرب ما يسمى بـ “تحرير الكويت” بقيادة الولايات المتحدة ومساعدة قوات التحالف الأجنبية والعربية. سلخت هاتين الحربين اللتين خلفتا دمار المدن والمؤسسات والبنى التحتية، العراق لعقود عن مداره المعاصر وجرى عن قصد تدمير هويته الثقافية ونهب إرثه الحضاري. وأصدرت آنذاك المنظمة الدولية “هيئة الأمم المتحدة” قراراً تفرض بموجبه الحصار الأقتصادي والعلمي والثقافي على المجتمع العراقي، لتصبح شريكاً في العدوان وتشجيع الحرب على بلد كالعراق، عضواً في المنظمة الدولية وأحد مؤسسيها، الأمر الذي أدى إلى حرمان أبنائه بمن فيهم الأطفال من الحصول على ابسط وسائل التعليم: الكتاب والدفتر وقلم الرصاص بالإضافة إلى حجر وسائل المعلومات الألكترونية.

واليوم يواجه المجتمع العراقي أسوأ مسارٍ لا يتناغم مع بصيرة الانسان وعقله، حيث يجري وسط جدل مثير للغاية وبحجة تنمية الفكر والاصلاح الاسلاموي خنق “الثقافة” وتهديم أركانها الهامة في تطور المجتمع وإنماء وعيه. وبواسطة العملية السياسية المترنحة على أطلال هلامية لم تفرخ بعد أحلام السلطة كـ “الديمقراطية و الحرية”، يتعرض أهل العلم والفكر والثقافة والإعلام العراقيين للقتل والملاحقة، الأمر الذي أدى إلى هجرة العديد منهم خارج وطنهم حيث يعانون من مشاكل إنسانية ومجتمعية جمة. ويبدو أن المشروع الثقافي في إطاره العام في العراق تحت رحمة الكتل والأحزاب الطائفية والشوفينية الحاكمة، لن يستطيع إعمار وهيكلة أوضاعه أو المساهمة ببناء كيان مستقل للدولة، ليصبح مشروعاً لا يستطيع في ظل “ثقافة الجهل” أن يتنقل بشكل صحي بين واحات المعاهد والمراكز والمؤسسات الثقافية داخل الوطن وخارجه.

ومع ضجر المجتمع العراقي بمختلف إتجاهاته من سلوك السياسة والسياسيين، تضاءل دور المثقفين وحوصرت الثقافة ووضعت العراقيل أمام تطورها ما تسبب من خراب لعقل الانسان والفكر. واتجهت دوائر الدولة المعنية وبشكل خاص وزارة الثقافة عن عمد لتطويق المؤسسات الثقافية كإتحادات الفنانين أو الأدباء وسواها. وقامت بالإمتناع عن تقديم المساعدات المادية لها أو تأسيس مراكز ثقافية رديفة تتمتع بدعم متعدد الأشكال. ولم يتمحور هذا النشاط حول الأسرة الثقافية في الداخل إنما إتجه نحو الخارج في خطوة لإستهداف نشاط الجمعيات الثقافية العراقية في المهجر، لتصاب بالقطيعة وتحرم من تكافؤ الفرص حالها حال دور الثقافة غير الطائفية في العراق. ففي السنوات الأخيرة رصدت الدولة العراقية مبالغ طائلة لتأسيس مراكز ثقافية في الخارج، لم تعرف لحد الآن اهدافها ولا هوية طواقمها. وبات مكشوفاً بأن هذه المراكز الثقافية التي أنشئت في بعض العواصم كبيروت واستكهولم ولندن وأمستردام وبرلين لاحقاً “والحبل على الجرار”، لم تستطع قياساً بحجم المبالغ التي تصرف لها، القيام بأي مشروع ثقافي جدير بالاستحسان. ولم تصنع مناخات ثقافية عراقية متنوعة تخدم حضارة وادي الرافدين العريقة.

عندما نتحدث هنا عن الثقافة نقصد بذلك إجمالاً “الفن والأدب والإعلام” التي يستقيم نحوها كل إعتبار ومال، كونها وبكل ما تملكه من عناصر ومقومات، قبلة المجتمع في أي ظرف ومقياس.. والأنظمة القائمة في العديد من الدول على أسس ديمقراطية تأخذ برأي المثقف، وتضع له منزلة خاصة في الشأن الاجتماعي السياسي ذاته، لأنها تدرك أن صناعة العقل لا تتحقق إلا بوساطة المثقف والثقافة المتحررة من هيمنة وقيود السلطة. إن احترام الدولة للثقافة والمثقف واجب من صميم مسؤولياتها وإحترامها للمجتمع الذي يجل تراثه ويعتز برواد تقافته ومبدعيها.

إن انتشار ظاهرة ثقافة “التظليل” التي تمارسها السلطة السياسية عبر وسطاء “الثقافة” يشكل أسلوباً بدائياً متخلفاً ويروج لثقافة العشيرة التي ينبغي مواجهتها بحزم من أجل إرساء مفاهيم تجعل من الثقافة عاملاً مؤثراً في حل الأزمات ومشاكل المجتمع السياسية والإقتصادية والإجتماعية بشكل ينسجم وعناصر الدفاع عن مصالح الأمة الوطنية.. يقول الكاتب والمفكر د. سّيار الجميل: “منذ أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان والبنيتين التحتية والفوقية وما تبدعه في مجالات الثقافة والفنون، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره”.ـ على المثقف العراقي تقع اليوم مهمة الدفاع عن إرثه الثقافي والحضاري كي لا يتعرض العراق وأجياله إلى تداعيات خطيرة غير محسوبة قد تؤدي بمستقبله.

وعلى ما يبدو فإن المشهد الثقافي سيبقى جزءاً من اللعبة السياسية، وبسببه سيتراجع مضمون الثقافة وتتدنى كثيراً من ناحية انتاج مستوياتها الإبداعية. ففي ظل مفارقة غريبة، رشحت “بغداد” من قبل مجلس الجامعة العربية لأن تكون عاصمة للثقافة العربية لعام 2013. لكن هذه الموافقة كما ورد في وسائل الإعلام لم تكن لتتم إلا بعد أن قدم المسؤولون العراقيون تعهدات لدول عربية وإقليمية، لا تخلو من مقايضات سياسية لها علاقة بما يجري في المنطقة، بالإضافة للأموال التي أغدقتها الخارجية العراقية على شخصيات في مجلس الجامعة لتمرير المشروع بإنسيابية. لكن ما الهدف من ذلك والعراق يعاني من قيد ظلامي شائك، ومن حكم طوائف وميليشيات لا تهمها الثقافة بقدر ما يهمها نهب المال العام وممارسة الابتزاز والتهديد والرشق المتبادل. أزمات كثيرة يعاني منها المجتمع العراقي أكثرها تعقيداً أزمة الثقافة، التي لا يستطيع السياسي دون “المثقف” الحقيقي توفير الشروط اللازمة ليجعل العاصمة “بغداد” تقوم حقا بمثل هذا الدور الحضاري الكبير.

رصدت الدولة العراقية “وزارة الثقافة” لهذا المشروع الذي جاء بعد مشروع “النجف” مدينة للثقافة الإسلامية 2012 والذي شكل فضيحة كبرى في هدر المال العام. “نصف مليار” دولار أمريكي رغم أنه لا يمتلك مقومات مؤسساتية حرفية وفنية وإدارية ومهنية، ويشاع في الأوساط الإعلامية بأن الرقم الحقيقي هو “مليار” دولار. ذهب ثلثين منه لجيوب المسؤولين وأحزابهم وأتباعهم، فيما صرف الثلث المتبقي على أمور الإدارة والتنظيم وتمويل الفعاليات وسفر وإقامة المشاركين. ويبدو أن ميزانية كلا المشروعين قد أقر وفقاً لمبدأ “التوافق”، إذ لابد وأن يتم الاتفاق على حجم الحصص وتوزيعها بين جميع الكتل السياسية قبل الشروع بالتوقيع على اي مشروع حتى وان كان مشروعاً ثقافياً.

السؤال لماذا يقوم المسؤولين العراقيين بهدر كل هذه الأموال الطائلة في زمن يعاني العراق من الخراب والمواطن من القهر والارهاب وإنتشار الفوضى والأمراض الخطيرة؟. ولماذا يتم سحق الثقافة والمثقفين، ولا يصرف لأحدهم فلس إلا بالوفاء لهذا الحزب أو تلك الكتلة.

لقد آن الأوان لإعادة النظر بعقلانية وموضوعية ليس تجاه الشأن السياسي وحسب، إنما تجاه كل مدارات “الثقافة” وجوهر مفاهيمها الفلسفية والفكرية التي نالها أخطبوط الصراع على السلطة وحول هذا القطاع الهام في حياة الشعب ومستقبله إلى أنماط وتصنيفات هامشية. كما ينبغي ان يكف المسؤولين السياسيين عن إعتبار الثقافة والمثقفين العراقيين مشروعاً ايديولوجياً مؤطراً لصالح هذا الحزب أو ذاك.

سؤال أخير: متى يخرج المثقفون العراقيون من عهد الوصاية للمطالبة بتأسيس مجلس أعلى للثقافة ينتخب من قبلهم على غرار ما هو قائم في أغلب دول العالم وتحويله إلى هيئة مستقلة تدار بشكل ديمقراطى بعيدا عن أي تدخل من قبل السلطة، في سياسته، الثقافية الوطنية؟.

عصام الياسري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*تنويه / مجلة المفتاح  لا تتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم.

من almooftah

اترك تعليقاً