رواية ملوك الرمال

الأربعاء 11 آذار/مارس 2015

التخييل يحلّقُ بالسَّرد ليزيح المؤرخ مِن أمامه
لم يكن المؤلف علي بدر يقصد من خلال روايته ملوك الرمال أن يلعب دور مؤرخٍ شاهدٍ على أحداث وقعتْ،بقدر ماكان دوره روائيا بامتياز،اطلق العنان لمخيلته السردية في بناء عالم روائي متخيل لاصلة له بالكيفية التي يُمكن أنْ يتعامل بها مؤرخ مع أحداث التاريخ،مِن هنا لامس في هذه التجربة مشاعر وهواجس شخصيات انسانية إفترَض وجودها عند حافة تحولات عميقةٍ،وجدت نفسها في لحظة زمنية يفصل فيها خيط واهٍ مابين عالم الحرب والسلام،الماء والعطش،الصحراء والمدينة،الموت والحياة .

ارسطو وهو يقارن مابين التاريخ والادب يقول:” إن السرد التخييلي أكثر فلسفية وعلمية من التاريخ لأنه يتعلق بالحقائق العامة،فهو يعالج مايحدث عادة،لامايحدث فعلا “. ( 1 )

من هنا يذهب البناء السردي لهذه الرواية عبر مسار تخييلي للتاريخ،وفيما يبدو لنا هو تاريخ ليس ببعيد عن المؤلف،حتى وإنْ لم يكتو بأحداثه بشكل مباشر عشية حرب الخليج الثانية 1991.وكان تقسيم الرواية الى جزئين كل منهما يحمل عنوان وهي علامة أولى على تحديد التصنيف الاجناسي لنمط الكتابة،اضافة الى كونها استعارة من تقانات الرواية السير ذاتية،مع أن الرواية تعاملت بكل محمولات خطابها مع حدث تاريخي :” كانت هنالك أسراب من الطائرات المتجهة نحو

الشمال،بُهِتُّ أول الأمر،ثم أدركتُ أنْ الحرب قد بدأت،وهذه الطائرات هي طائرات الحلفاء المتجهة لقصف بغداد، كانت هنالك مجاميع أخرى تأخذ الاتجاه ذاته “.

المتن الحكائي

عشية الاستعدادات المحمومة للبدء بحرب الخليج الثانية وتحديدا في شهر يناير كانون الثاني من العام 1991 يتم تشكيل فصيل من كتيبة مغاوير الفرقة الثالثة والعشرين يتألف من تسعة جنود ونقيب،لتنفيذ مهمة قتاليةٍ أطلق عليها”غارة الصحراء “لملاحقة مجموعة من البدو تنتمي لقبيلة جَدلة في مقدمتهم شخص يدعى جسَّاس لأنّهم تورطوا بذبح ثلاثة من ضباط استخبارات الكتيبة كانوا في مهمة استطلاعية داخل الصحراء في جنوب غربي العراق،والأوامر العسكرية العليا كانت تقضي،إمَّا بأسْرَهُم أو قَتلَهُم.أفراد الفصيل الذي تم تشكيله لم يستعدوا لهذه المهمة إلاَّ بما تحتاجه “بندقية رشاشة،وفائضا من الذخيرة الحية،والحربة المسمومة مع عدة ميدان المعركة وكيس التموين الذي يحتوي على الارزاق الجافة مع الخارطة المفصلة والنطاق العريض والبسطار الخاص بالمعارك التي تشن في الصحراء “. من هنا يبدأ مسار رحلة الصراع مع عدو يمتلك قدرة على التآلف والتماهي مع الصحراء،حتى لكأنه يبدو صورة منها، بغموضها، وقسوتها، ومفاجاءاتها،وجمالها. الفصيل يفشل في مهمته ويتمكن جساس المُتهم بقتل الضباط الثلاثة أنْ يقضي على جميع افراد الفصيل الذي يطارده،ولم ينجو منهم إلاَّ جنديا واحداً،يتمكن فيما بعد بمساعدة قبيلة(بني جابر)التي ترتبط بصلة تعاون وثيقة مع الحكومة العراقية من القبض عليه وأقتياده مقيدا إلاّ أنه يُطلق سراحه ماأن يمر بالمدينة وهو متجه به الى وحدته العسكرية لتسليمه عندما يجد أن قوات التحالف الدولية قد تمكنت طائراتها من تدمير الجيش العراقي،وأنَّ حالة من الفوضى والانهيار تسود البلاد .

بدا لنا اختيارعلي بدر تقانة الرواية السيرذاتية صائبا في بناء عمله.من هنا جاء استعمال ضمير المتكلم بصيغة الماضي للسارد/ الشخصية الرئيسة،وكان اختيار سترايجية نمط الرواية السيرذاتية بما تحمله من آليات،قد منحه فرصة تحريك واستثمار مخزونات الذاكرة التي تعني “انسياب حركة الزمن من الماضي إلى الحاضر الذي يتوغل مع المستقبل عبر جدلية التطور وديناميكية التفاعل على صعيد

 

الحياة والأدب ” ( 2 ). مع أن خيار الرواية السير ذاتية يضع القارى في موقف يحاول فيه أن يفك الاشتباك مابين المؤلف والمؤلف الضمني السارد.وهنا يتردد سؤال لدى القارىء:هل نستطيع أن نفصل مابين الشخصية الرئيسة والمؤلف طالما نحن ازاء بنية سردية تتحرك في ستراتيجية سيرذاتية ليس من السهل في تركيبتها فك الارتباط ما بينهما ؟.فالسارد مؤلف ضمني،يستعيد تجربة مر بها،والمؤلف إستعار قناع المؤلف الضمني لكي ينزوي بعيدا وهو يحرك الاحداث من خلاله.تبدو الاجابة القاطعة مغالطة،مهما كانت،سواءبالنفي أو الايجاب،وهي في الحالتين تحمل رؤية قاصرة لمحمولات الكتابة السردية من الناحية الفنية.

بنفس الوقت هنالك عدد من الاسئلة الازلية رافقت الأنسان في رحلته السرمدية ودائما مايطرحها على نفسه مُذ أدرك حضوره وهو يواجه الموت والقتل في الحروب،اعاد علي بدر طرحها على لسان الشخصية الساردة/الشخصية المحورية بشكل آخر يعكس معطيات عصره الذي تداخل فيه الواقع والخيال من حيث التأثير المتبادل،إذ لم يعد هنالك من حد فاصل بينهما يمكن الامساك به:” ماهي الحرب؟ كنت أسأل نفسي وأنا أرى كل هذه التحضيرات،كما لو كانت في فيلم سينمائي،من تعلم مِنْ مَن؟الفن من الحرب أم الحرب من الفن ؟ ” .

الصوت السارد

يأتي فعل السرد من وجهة نظر الجندي الوحيد الذي ينجو من هذه المهمة لتتكشف أمامنا شخصية على قدر معقول من الثقافة كونها قد انحدرت من بيئة مدنيَّة،إلاَّ أن المؤلف لم يتوقف عندها طويلاً ” فكرت في نفسي:الأحلام بعيدة عني ذلك اليوم، والحرب قريبة جدا،وما من ماض لي أفكر به الآن،ففي الحرب لامعنى للماضي أبدا،ذلك لأن الحاضر وحده الذي يهيمن على تيار الزمن،فاللحظة القادمة مجهولة، والماضي منسي ومتقهقر،والحاضر هو الزمن الأكثر كثافة وواقعية في تيار الزمان”.وقد اكتفى علي بدر باشاراتٍ عابرةٍ عن ماضي الشخصية المحورية/الساردة،ووجد ذلك كافيا لتحديد مرجعيتها الأنسانيةوماستواجه من صراع نفسي عندما تنتقل الى الصحراء،لتصبح دون مقدمات في مواجهة مصيرية

مع بيئة أخرى هي نقيض البيئة التي عاشتها في المدينة،لتكون بالتالي أمام مواجهة حاسمة مع قدرها ووجودها الانساني وسط عالم مجهول وغامض ومفاجىء مِن الصعب الامساك بتفاصيله المتغيِّرة مع تغيّر رمال الصحراء المتحركة :” كنت أشعر بأن الأرض يغمرها ضوء شاحب،ضوء خفيف كأنه قادم من تبخر بحر في السماء،وكنت أرى هذا الصمت الإلهي العظيم،هذا الصمت الأخرس في الليل،وكأن الصحراء هي الصرخة الأخيرة للرب،فيالها من اشياء تلك التي سمح لي الله برؤيتها على أرضه !.إنها بوابة سامية أدخل منها في اليوم التالي الى الصحراء،حتى كأن الليل يختلط بالسماء،وهذا الضوء الشاحب الذي يغمر الخليقة قادم من اقدام الإله الذي أنار النجوم بضوء ثابت يبرق مثل الماس على بساط اسود ناعم” .

دلالة السارد

ضمن خصوصيات فن كتابة الرواية “يكون المتكلم أساسا هو فرد إجتماعي، ملموس ومحدد تاريخيا،وخطابه يمثل لغة اجتماعية وليس لهجة فردية،ومن ثم يمكن لخطاب شخصية روائية أن يصبح أحد عوامل تصنيف اللغة ومدخلا للتعدد اللساني “. ( 3 ) ولغة الشخصية المحورية في هذه الرواية وإن كانت تعكس وجهة نظر ذاتية لشخصية تعيش عالمها الايدولوجي الداخلي الخاص بها الذي يعكس فهمها وقناعاتها متجسدة في افعالها ومنطوقها اللفظي،إلا انها تعكس بنفس الوقت دلالة اجتماعية طبقية.

حمَّل علي بدر وهو يختبر مشاعر شخصيته الساردة لغة خطابهِ قيمة ايدولوجية داخل بنيتها الجمالية وهو يتغنى بفرادة عالم الصحراءوغموضها التي مررها على لسان الشخصية المحورية :” لقد شعرت بالتماس مع هذا الرمل،وكأني أذوب في نوع من السرية المطلقة،لقد شعرت وأنا في الأعلى بلحظة غياب مكشوفة مع الصحراء،وأحسست بأصابعي تستدفىء بهذا الوهج القادم من الرمل أولا،ومن الشمس ثانيا،ومن المدار ثالثا وكأن الصقور التي يخشاها الطيارون تفر من خاصرة الرمال لتوقظ في التجرد المديد أنداء الأقاصي ” .

الصحراء بمفراداتها هي المحور الرئيس الذي تدور حوله الاحداث،فكانت تجربة علي بدر بمثابة محاولة لفك شفرات البدو او كما يسميهم ارستقراطيي الصحراء وهذا ماجاء على لسان السارد في احدى جمله في الرواية “كان فزعهم يعيد الأمور علينا مقلوبة،دون ابتسام يقرءون ويفكون رموز العالم الذي يحيط بهم ثم يهبطون ليلا في الوديان،يهبطون مثل آلهة قديمة بحركاتهم الرشيقة والبطولية معا ويتلاشون في الظلام “.

أوصل لنا علي بدر مرادفات سردية معادلة لما يحتشد في رمال الصحراء وامتدادتها مِن صورٍ تأتي متداعية من خلال المؤلف الضمني/شخصية الجندي السارد للأحداث الذي هو الناجي الوحيد من هذه المهمة،الذي تحوَّل فيما بعد الى كاتب روائي بعد انتهاء الحرب،فأستثمر هذه التجربة التي خاضها ليعيدَ استدعائها عبر حبكة روائية.

1- نظريات السرد الحديثة – والاس مارتن – ترجمة حياة جاسم محمد

2- في الذاكرة الشعرية :قيس كاظم الجنابي

3- نفس المصدر رقم (1 )

من almooftah

اترك تعليقاً