قراءة في مجموعة شعرية :عباس حيروقة في ( محزونة القصبات ضفة نهرنا عند الغروب )

بعد مجموعاته الأربع ( تراتيل الماء ، قيامات الفرات ، سغب الضفاف ، و ماء وأعشاش ضوء) يطل علينا الصديق الشاعر عباس حيروقة في مجموعته الشعرية الجديدة :

(محزونة القصبات ضفة نهرنا عند الغروب ) وكأنه ما فتئ يلهث وراء نقطة ماء، أو نهر يطفئ عطشه الذي لم ولن ينتهي ….والمتأمل في شعر حيروقة ، والمتابع لتجربته الشعرية يجد قواسم مشتركة في قصائده والتي راح يسكبها صوراً شعرية تضج بالحركة والحيوية منذ عقدين ونيف ، ولعل أبرز تلك القواسم وجود الماء بدلالاته الشعرية والحياتية كواحد من أبرز مكونات الوجود والديمومة في جل قصائده إن لم نقل جميعها …‏

تضم المجموعة بين دفتيها خمس وعشرون قصيدة ومقطوعة توزعت بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر إضافة إلى بعض القصائد الخليلية .. والشاعر حيروقة ينحاز بقوة إلى قصيدة التفعيلة التي بدأ مشواره الإبداعي من خلالها ، متجاوزا ً كل ما قيل أو كُتب عن قصيدة النثر والتي يراها البعض ترفا ً شعريا ً ..‏

تقع المجموعة في /166/ صفحة من القطع المتوسط وهي من إصدارات اتحاد الكتاب العرب يحاول الشاعر التحليق في أفق الصورة الشعرية تاركا ً لخياله العنان متذكراً كل الرموز والشواهد من حين إلى آخر .. فالظمأ لا يفارقه وهو يمتطي عباب المراكب باحثاً عن ضالته المنشودة ، هذا البحث المترافق مع مسحة ظاهرة من الحزن تتوغل أحيانا ً في رحاب القصيدة ، وتبتعد أحيانا ً أخرى تاركة كلّ الأسى والحزن وخيبات الأمل ……‏

في قصيدته التي حملت المجموعة عنوانها (محزونة القصبات ضفة نهرنا عند الغروب ) يقدم الشاعر رؤيته التي حاول من خلالها أن يحلّق بعيدا ً نحو الضفاف ، نحو الشواطئ ، حاملا ً أمله وفرحه ، تاركاً أحزانه التي راكمتها سنوات العمر ،فمن بلدته المحروسة في مصياف ، إلى الواحة في حلب ثم العودة ثانية ً إلى المحروسة ، وما بين الرحلتين تنداح الذكريات بحلوها ومرّها ، فلا يجد في النهاية ملاذاً آمناً غير ( الفرات ) الذي نجد فيه كل دلالات الحياة و الديمومة والبقاء …‏

( وجهت وجهي للفرات‏

بُعيدَ غصّات ٍ‏

يراكمها‏

الزمان‏

بداخلي‏

فأطوف في أمدائه‏

سرباً تهدهده‏

الغمامة في‏

حنّو الراهبات …. ) ص/102/‏

تتزاحم الصور الشعرية وأنت تنتقل من قصيدة إلى أخرى ، ولا تجد بداً من تزاحم الأسئلة‏

المشروعة ، والتي تحاصرك شئت أم أبيت ؟؟ قد يبدو القلق… الحزن … الخوف مشروعا ً عند الشاعر فيلجأ إلى الذاكرة التي لا تهرم فيجد ضالته ، فيرخي للقوافي العنان غير آبه ٍ بما حوله ..‏

( القمر ُ الأبيض ُ ربّت‏

في لطفٍ كتفي ،‏

أنزلني في درب ِ‏

طفولتنا الطيني ِّ‏

لأركض عرياناً كصبي‏

ألف الماء كما‏

ألف الآن َ‏

حديثَ الطين…) ص( 27)‏

من يقرأ نتاج الشاعر حيروقة يلحظ نفحات صوفية في شعره تبدو جلية ً واضحة من خلال المفردات الصوفية …( سر الوجود ، الخلود ، كاهن ، التأمل ، النساك …..) واستطاع عبر دراسات وبحوث نشر جلّها في صحف ومجلات محلية وعربية الغوص في هذا الجانب موظفاً إبداعه وطاقاته الشعرية صوراً طافحة بالدفء والتأمل والحياة …‏

( قطراتُ ماء ٍ يستوي في‏

جوفها سر‏

الوجود‏

وهي ال…تصافح ُ تربتي‏

في دهشة ِ الوجه‏

المعفِّر‏

بالشرود‏

وهي الفراديس الوسيعة ُ‏

والمليئة ُ بابتداع‏

الخلق من روح‏

الخلود …) ص( 39 )‏

وإن كان الشعر كما يقول الشاعر حسان عربش ( ياسمين الكلام ، والحلم الجميل) فإنه عند الشاعر عباس حيروقة بوح ٌ حزين وعطشٌ دائم ، بحثٌ عن عوالم دفينة … عن الظمأ الذي لا يطفئ لهيبه إلاّ حفنة ماء أو نهر غادر سريره إلى الخلود الأبدي ..‏

تدور معظم قصائد المجموعة حول قضيتين هامتين : الماء ، والحزن ولا تكاد تخلو قصيدة من مفردة توحي بذلك وهذا ما نلحظه في قصيدة ) الزبّال ) والتي أهداها للشاعر الراحل ممدوح عدوان ، و (تبكي الرياح ، في أخاديد الغمامة …..)‏

يلّون الشاعر في أدائه وأسلوبه فنراه فناناً أجاد الرسم بالكلمات مع قدرة واضحة على تطويع اللغة بما يتناسب مع الموضوع المطروح ، وينسجم مع الصورة الشعرية المعبّرة ..كما في قصيدة ( حواء ) :‏

( في سالف الأزمان يروى‏

والدهور‏

عن أنها تتوشح ُ الأشجار َ‏

والأنهار َ‏

في روح الزهور‏

هي ذي كأرض ٍ دارت‏

الأقمار ُ في أمدائها‏

هي حول محورنا‏

تدور …) ص ( 134 )‏

والقصيدة التي يبحث عنها الشاعر صعبةُ المنال ، هي بوح ٌ .. سراب ٌسرمدي تضيع ُ تفاصيلها في صحارى العمر ، لكنهّا تتقاطع أحيانا ً مع حكايا صغيرة تسردها الذاكرة من حين ٍ إلى آخر …‏

( لقصيدتي بوح ُ الرياح‏

لنخلة ٍ تعبى‏

إذا ما هالها كثبان ُ‏

رمل ٍ في الخباء‏

ولها حنين ُ‏

الطين إن هاجت‏

بعبرته حكايا بيدر ٍ‏

ما زالت الحيطان ُ تذكُرها‏

دروب ُ جدتي عند المساء ..) ص ( 157 )‏

والحلم عند الشاعر لا يتوقف أبداً ، فهو في ترحال ٍ دائم … يبحث عن حلمه الضائع ، الحلم بالفرح .. العودة إلى الحضن الدافئ ، القصيدة المتمردة التي تعيد لقلبه الفرح والسرور وطمأنينة النفس ..‏

( إنّي أدور ُ مع الكواكب ِحالما ً‏

فأنا الملاك ُ أجيئها ….أو قابا‏

هي جبّتي أحرقتها لأطوف َ حول‏

سريرها متعبدا ً .. إعجابا ) ص ( 80 )‏

في قصيدة ومضات يقدم الشاعر فلاشات سريعة ، أو لوحات خاطفة يتداخل فيها الهم الذاتي ، العاطفي ، الوطني ،الإنساني … مثل ( يتم ، وشم ، راية ، رتق ، حواء ، روح ) فتبدو اللوحة زاهية الألوان ، واضحة المعالم ، بهية ُ الحضور ، راسخة الجذور كالوشم في وجه الصبايا …‏

( تلك الحمولة‏

باعدت بيني وبين‏

طفولتي‏

ثم ارتمت في‏

كاهلي تلقي‏

الحداد بفرحة ٍ‏

تلك الحمولة قد‏

أضاعتني بدهر ٍ‏

مظلم الأيام …) ص ( 128 )‏

لا بد ونحن نختم هذه القراءة لمجموعة الشاعر عباس حيروقة (محزونة القصبات ضفة نهرنا عند الغروب ) أن نُشير لمسألة بنية النص التي تقترب من التكثيف والإيحاء ،‏

بعيداً عن السرد والإطناب في التفاصيل ، بلغة أدبية رشيقة وشفافة ، وصور شعرية مكثفة ، مع محاولة الشاعر التكيّف مع عوالمه الداخلية بلغة بسيطة ومعبرة ، لا تخلو أحياناً من الترميز في محاولة للتحليق في آفاق القصيدة الرحبة ..‏

مع الحفاظ على استمرارية الإدهاش والإمتاع في تقديم الصور الشعرية التي تمزج بين اللون الداخلي وحرارته ، والمساحة الواسعة …في لوحة شعرية تشكيلية تعبر عن رؤية فيها من الشفافية والبساطة الشيء الكثير…‏

بقي أن نُشير أن مجموعة (محزونة القصبات ضفة نهرنا عند الغروب ) للشاعر عباس حيروقة جديرة بالقراءة ، وهذا التقديم المبسط لا يُغني القارئ من العودة للمجموعة والغوص بين دفتيها والسفر عبر الكلمة والصورة الشعرية في آفاق ٍ رحبة لا تنتهي ….‏

• عباس حيروقة مواليد مصياف ، المحروسة 1972‏

• عضو اتحاد الكتاب العرب .‏

• عضو جمعية الشعر.‏

• عضو مشارك في اتحاد الصحفيين .‏

• عضو جمعية العاديات .‏

• يكتب الشعر والقصة والبحث الأدبي .‏

• نال العديد من الجوائز الأدبية محلياً وعربيا ً في مجالي الشعر والقصة .‏

• صدر له خمس مجموعات شعرية هي : (تراتيل الماء ، قيامات الفرات ، سغب الضفاف ، و ماء وأعشاش ضوء، محزونة القصبات ضفة نهرنا عند الغروب)‏

• شارك في العديد من الندوات النقدية والمهرجانات والأمسيات في مختلف مدن ومحافظات القطر .‏

• نشر نتاجه في مختلف الصحف والدوريات المحلية والعربية .‏

 

الكاتب:

حبيب الإبراهيم

من almooftah

اترك تعليقاً