رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن حمص سوريا – ص – ب – 5121 جوال 0966326100
نبيه اسكندر الحس

الاحتجاج
رواية
( يبكي ويضحكُ لا حزناَ ولا فرح ..كعاشقٍ خطَ سطراً في الهوى وم ..من بسمةِ النجمِ همسٌ في قصائدهِ ..ومن مخالسةِِ الظبي الذي سنح ..قلبٌ تمرسَ باللذاتِ
وهو فتى كبرعمٍ لمستهُ الريح   فانفتح مالي الآقاحيةِ السمراءِ قد صرفت عنا هواها أرقُ الحسنِ ما سمح لو كنتِ تدرينَ ما القاهُ من شجنٍ لكنتِ أرفقَ من آسا ومن صفح )

………………………..
قبل أن تتوسد الشمس قبة السماء . طلب ” فادي ” من قرينه ” فايد ” أن يذهبا إلى الإبل ، أدرك صابر أن فادي يهرب من منظر قطع ساق والده ، فانطلق مع صاحبه إلى غابة النخيل ، عله يزيل شيئا من الآلام ، و هناك تسلق ” فايد ” شجرة النخيل . قطف عنقودا  من البلح ، و ألقى
به إلى فادي ثم هبط إلى الأرض ، ثم اتجه ليعتلي الذلول ، و راح يقلد الحادي بغنائه الطروب .
انصرف ” صابر” إلى الأولاد :
– كنت أحب العراك .
فايد :
– أنا أعارك رفاقي و أغلبهم .
صابر :
– و أنت يا فادي ؟ …
نظر فادي بشيء من الانكسار ، فأدرك “صابر ” أن الصبي لم يعرف طعم الطفولة … سلبت منه تلك المرحلة الجميلة .
كان ” فادي ” هادئا  وقورا يميل إلى كثير من التحفظات و عدم البوح عن رغباته ، و كل ما في داخله ، يدل على أن طفولته ، قد تعرضت إلى حجر لا حدود له ، و كيف لا … إذا كان قد غادر أمه منذ الفطام ، و ظل ينتقل من مكان إلى آخر مع أبيه ، فلم يعرف الصداقات مع أقرانه
، و لا يعرف اللعب . كل ما في الأمر ، عاش في كنف أبيه يرافقه كظله ليس إلا .
استعجل ” صابر ” الرحيل ،لأسباب عديدة ، حاجة أبو ” فادي ” للدواء ،ومن أين سيحصل عليه ، لقد بات الدواء سلعة نادرة ،وهناك الشعب العراقي فهو الأولى بالدواء .
نظر ” مهدي ” على صابر عرف ما يدور بخاطره ،تحدث في نفسه : ” شعور نبيل منه “.
ورغم ذلك أصر ” مهدي ” على إبقائهم بضيافته ،بدافع الجانب الإنساني ،قدر ” صابر ” موقفه ،وقد استطاع  الفوز بإقناعه بعد حوار طويل .
انفرد ” مهدي ” مع نفسه ، و اتكأ على عمود الخيمة ،نظر إلى الإبل ، ظهرت كأنها أشباح وسط عتمة الغروب ، و تحركت رياح تنبئ خريف قاس .
كان ” صابر” مسترسلا بأفكاره ، ونظراته مشوبة بقلق و حيرة ، تخترق الليل و الريح ، تلملم الأتربة و الرمال . و القمر يغطي المكان بضوئه الساحر هادئا لا يعكر صفوه سوى طائرات جاءت من خلف البحار ، تخترق جدار الصوت تندفع من بحر مجاور لفلسطين و تركيا ، و أرض
مجاورة للسعودية ، كأنها الخفافيش قد وجدت وليمة في الليل .
و ثمة غيمات بيضاء ترفل من جهة حمص تحمل برودة طرية تجعل المرء يبحث عن الدفء و خاصة في تلك المساءات   الراعفات   بقطرات الندى . أينعت الذكريات .
عزم على تنفيذ المهمة ، حمل البنادق و الذخيرة على ظهر الذلول ، و انطلق برحلة طويلة خطرة ، يسير في الليل و يختبئ في النهار خوفا من سقوطه بأيادي ” الهجانة ” حرس البادية ، أيام الأحلاف العسكرية ، ذلك الزمن محير ، ولكنه واضح ، ترى وضوحه على أجنحة الطير ، و
تهدج الإبل ، و في وجوه الصبية ، و عيون العذارى ، لم يكن أحد يهش على القطيع بعصاه ، فقال في نفسه : ” قاعدة الكراسي جماجم ، تارة يجتمعون بالدين ، و تارة بالعلم على الدين ” .
تذكر موت الحجاج فقال في نفسه : ” أيام زمان ، كان المواطن يستطيع أن يفعل شيئا  حيال الأخطار . أما اليوم بات عاجز ” .
و راح يتساءل :
– هل الآن الحاكم أقام المحارق ، أم لأن المحارق باتت تطال الشعب و الحاكم ؟؟ ..
و لكن لماذا ؟ …

31
كان أبو ” فايد ” متكئاً على عمود الخيمة ، و الذكريات غيمة ماطرة تدفعها رياح هوج نحو صندوق الذاكرة ، ذلك المخزون المعمر على جسد قوي ، و عناد عجيب ، جعله يسترجع الماضي ، يعريه يفرد حوادثاً ، يضعها جانباً ، استعداداً لنسيانها أو تناسيها ، تذكر سيدة سألته في
شبابه :
– هل أنا جميلة ؟ ..
– مثل عشتار …
– علام أنفك شامخا ، هل أنت انكيدو … أم جلجامش ؟ …
– ربما كنتما معا ..
– أحدهما شاعر .
– و أنا أقول الشعر أيضا .
– حقا” ؟ … لكنه كتب ملحمة ..
– نعم ، كتب ملحمة .
– الأيدي تتجمع ، و الأرض واسعة .
– لنجرب …
اقتربت منه .. مدت يدها إلى صدره ، داعبت أصابعها اخضرار قصب الزل .. عباراتها توقظ الكمون في جسد الإنسان ، تسري النعومة في الشرايين ، تشعل الدماء تفيض الأنهر تندفع المياه غزيرة إلى السد .
فتحت في جسده شقوقا تغلغلت فيه المياه ، انسربت من جحور عطشى … و ثمة صوت :                     ( هذا هو أيتها الغي
فاكشفي عن نهديك
اكشفي عن عورتك
لينال من مفاتن جسدك
لا تحتجبي ، بل راوديه
و ابعثي فيه الهيام ) .
تشابكت الأصابع ، ثم انفكت ، طوقت خصرها ، تمايلت ، فانسدل الليل على كتفيها … انتقل قسم من على ذراعيه و اندفعا إلى جرف عميق ليباركهما الفرات ، هناك عرف مهدي قول الصياد :
– ( علمي الوحش الغر وظيفة المرأة ) .
حين خرجا من الجرف ، كانت مياسة ، وكان منتشيا  كالسبع …. حين غادرت ملوحة بيدها … شيعها بنظره ، وهي تمضي بين سنابل القمح ، و توارت بين أشجار النخيل نظر إلى يديه فسأل نفسه : ” و الآن يا مهدي ” .
بدت المواجهة كحد فاصل بين عالمين ، الماضي و الحاضر بكل ثقله ، و ثمة فسحة يقطعها الراحل ، فلا يستطيع رؤية البداية إلى أن يحط الرحال في النهاية .

باح بعشقه لفتاة صادقة ميالة للجزم ، لا تتنكر ، و لا تتقنع ، لكن ضاع الحب ، رغم عدم المخاطرة به ، فالذي لم يقع عليه البصر ، هي الحقيقة التي ستظهر ، عند النهاية ، فالحقيقة نزاع دائر بين الذات الحقيقية و الذات المثالية ، الأولى يغذيها الواقع و الثانية تغذيها
الأحلام ، .
نظر إلى الأعلى و أحب فتاة ، لم يكن يعرف أن والدها نائب ، كل الذي يعرفه أن الحب لا يعرف المحال . تعرف عليها بعد أن حصلت على الثانوية في بغداد ، حيث العلم يختصر على أولاد الأغنياء ، يومها سجلا معا  في جامعة بغداد ، لم يكن يعرفها مسبقا ، لكن القدر جمعه بها ،
حين جاءت مع والدها الذي جاء إلى بيت والده الفلاح ، خوفا من حكومة ” نور السعيد ” . عاش عندهم عشرة أشهر ، علمه والدها أشياء و أشياء … و ذات يوم قال مهدي :
– الفرد لا يساوي شيئا  إلا مع الجماعة .
– المجتمع فاعل .
– ثمة طليعة لكل مجتمع .
تذكر مهدي رحيل صابر فاندفع نحو الإبل يقود جملا  و حوارا … عقلها أمام الخيام ، كانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل ، و ثمة نجوم تومض من بعيد ، و نجوم الميزان تدله على الطريق ، فمن خلالها حدد جهة المسير ، و لم تنس أم فايد أن تحضر الزاد لأربعة أشخاص أما
طعام الجمال فكان من اختصاصه .
جرى كل شيء بحرفية و إتقان لقد أنهى عمله ، أشعل لفافته عب منها ، ثم دخل مسرعا ، أخرج بندقيته ، وضعها في قتب الجمل , صنعه خصيصا لمثل هذا الغرض .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اعتلى ” صابر ” ظهر الذلول قبيل الفجر ،رأى أبا ” فايد ” يقود الذلول والقتب تأرجح كأنه مثبت على نوابض ،تعجب مما رأى ،وخصوصا من المخلوق الذي سماه السلف سفينة الصحراء ،لقد عرف ذلك من خلال أستاذ التاريخ ،الذي أشعل شموعا كثيرة ،أمام الأجيال ,لم يكن يعرف أن
الظروف ستقوده إلى هذه الصحراء ،ويركب على ظهر هذا المخلوق ،اجتازوا مسافة ليس قليلة ؟،حيث تلاحقهم شمس الصباح ،كان أبو فايد يغني الحداء ،فأرهف صابر سمعه ،وأبو فادي يشنف أذنيه عند نهاية كل مقطع ،وحين يتوقف الحداء ،كانا يسمعان خبب الدلول فتبدو كإيقاع الشعر
،وبين الفينة والفينة ،ينظرون إلى مؤنسهم الفرات ،الذي يجعلهم يحسون بأمان سيرهم الصحيح ،وحين يغيب الفرات بسبب التعرجات يشعرون بالملل .
وكان الحداء يتغير تبعا لحركة الريح ،تلك الريح المحملة بالرطوبة ،وأحيانا بالقسوة ،وحين يشتد القيظ في المنخفضات ، كان الصوت يصل إليهم على ألسنة من لهب ، ثم يخبو ، و يرتفع تدريجيا مع رنين حنجرة لا تعرف الجفاف، حتى إذا ما دخلوا سهل الفيض وجه أبو فايد جمله نحو
تل  عال ، مد الجمل عنقه على شكل التراب ، ثم هبط ليرفع عنقه على شكل انحناءة ، و هناك عند الهضبتين قفز أبو”  فايد ” عن ظهر البعير ، وقف أمام الذلول المندفع كمركبة فقدت فراملها ، و شيئا فشيئا أخذ الدلول يخفف من اندفاعه ، ملبيا إرادة صاحبه ، الذي يقبض على
لجامه ، ثم يأمره بلغة ، فانصاع لأوامره و مد عنقه طاويا قائمتيه الأماميتين رافعا ذيله ، وهو يبرك مطلقا رغاء مصحوبا بالزبد من مشفره ، فأخذ أبو “فايد ” يمسد رأسه و عنقه ، جلل العرق أصابعه ، و برك الجمل الأكبر ، دون أي إشارة ، قفز فادي و اتجه إلى صابر :
– سبقناكم .
فجأة عبرت طائرات الحلفاء ، اخترقت جدار الصوت ، فاندفع فادي إلى فايد يحتمي به ، ربت على كتفه :
– لا تخاف يا بني .
فأسرعوا بإنزال الحمولة ، و أدخلوا الأمتعة إلى مغارة بين الهضبتين ، يعرفها أبو ” فايد ” منذ زمن بعيد . فسأل صابر :
– هل ستبقى طويلا ؟ ..
عقل أبو ”  فايد ” جمله من ساقه اليسرى و ترك الدلول ، فأخذ الجمل يسير على ثلاثة قوائم و هو يرعى الشوك ، فأسرع ” صابر “يعد الطعام ، و أبو ” فادي ” أخذ يمسد ساقه ، وينظر إلى صابر نظرات لا تخلو من حيرة .
لازم ” فادي “قرينه “مهدي ” يتحرك معه كيفما يتحرك ، أخذ أبو ” فايد ” حفنة تراب من كوم  صنعها الخلد ، ووقف يزروها ببطء ، فقال :
– ليس الجو على ما يرام .
و دخل إلى جوف الغارة ، تحسبا من كل طارئ . كان الصبي يقف أمام الكهف بجانب خاصرة الذلول .
فجأة أعلن المذيع استخدم الطيران أسلحة جرثومية . صرخ أبو ” فادي ” :
– الله أكبر … فليصمدوا الأعداء إذن .
ضحك صابر :
– انتبه يا أبو فادي ترانا سنموت خنقا .
– بعد العرض و الأرض ما نفع الحياة .
– لا تصدق … و لا تكن ساذجا .
سأل الصبي صابر :
– صحيح أن تحت كل قصر قاعدة صاروخية .
أجاب أبو فايد :
– نعم دعاية تبرر بناء القصور .
قال صابر :
– اسمع كيف تحلل الظواهر … بطريقة علمية .
قال أبو فادي :
– يعني أنا لا أفهم العلم .
– أنتم معارفكم جاهزة .
– أراك تهاجمني كثيرا .
– يا أخي الدين هو الدين . أما أن أعترف بأن معارفنا جاهزة شيء آخر .
– الاتهامات . أنا مسلم متنور ، أختلف مع الآخرين بوجهات نظر .
جمع أبو فادي جذوة أفكار حزمها كجملة مطلقة :
– وجهة نظر كافر .
– ترى من نصبك أميرا ؟ .
عاد الصبي ينظر إلى العواصف و تمنى أن يتحول إلى طائر يحلق فوق هاتيك الأمواج ، ليرى أية يد عملاقة تحركها ، و تذكر حين كان على ظهر الجمل ، فقال لنفسه : ” يا إلهي ! .. كأنه برج متحرك ” .
قبل ساعة كان الجو صحوا إلا من نسمات رطبة فواحة برائحة العشب ، و ما أن وطأت أقدامهم واحات الخور ، حتى انفتحت الواحة عن اتساع مخيف ، فتعجب من نبوءة أبي فايد و كيف عرف الطقس .
أشعل أبو فايد النار و جاء بأبي فادي و أجلسه لينعم بالدفء ، وطلب صابر من فادي أن يبقى بجانب أبيه لعله يحتاج شيئا .
جلس الصبي بقرب أبيه و عشرات الأسئلة تعصف برأسه .
مع الدفء تشابكت الأحاديث تارة في السياسة ، و طورا في أمور أبي فادي و أحياناً تخرج الأفكار عن إطار الكهف و تعود القهقرى إلى مرحلة الشباب و الطفولة ، و إلى الجمل و الصحراء ، و الشعر و البادية ، و فجأة قفز الصبي ليشاهد إذا هدأت العاصفة :
– السماء سوداء .
أسدل الليل جناحه ، و انعدمت الرؤيا ، فعاد إليهم يصغي إلى أحاديثهم ، و جمرات النار تتقد و تشع فينعكس وهجها بلون الوجوه ، فتتحول إلى صور عجيبة ، راقه المشهد . نظر إلى وجه أبيه ، رآه يتطاول في العرض ، و يمتد إلى الأمام ، و في زاوية الرؤيا يؤلف دائرة ينبت
وسطها أنف طويل ضخم ، أما صابر فقد رآه محطوط العنق يمد وجه نحو الأمام ، كوجه بقرة هولندية ، فضحك من أعماقه ، فسأل صابر : – ما وراءك ؟ ..
– تغيرت وجوهكم .
– كيف ؟ ..
ضحك من جديد و حشر رأسه تحت إبط أبيه ، أدرك مهدي ما يجول بخاطر الصبي فقال :
– شوه إشعاع الجمر صورنا .
قال أبو فادي :
– أكيد سيصبح قردا . لأنه تأثر بكما .
– ثمة خطأ ؟ .
– نعم ، أفكاركما عجيبة … شيطانية … كافرة … أما الصبي تعلق بكما … لم أدر ما سر هذا التعلق ؟.
قال صابر :
– حظه قوي … و لو بقي مثلك لكنت ظلمته ..
بعصبية :
– أنا ظلمته ؟ …
– اسأله …
نظر أبو فادي إلى ابنه :
– تكلم يا ولد؟ …
– نعم لأنك أبعدتني عن أمي و مرة لأنك تريدني مثلك .
طأطأ أبو فادي رأسه :
– ( أولادكم و أموالكم عدوا لكم فاحذروهم ) .
متحفظا” :
صرخ صابر :
– عدوا ؟ … أولادنا … هكذا تفهم القراءة . تدخل فايد :
– المعنى غير ذلك .. المهم فادي يحب أبيه .
و نظر إلى فادي سأله :
– أليس كذلك ؟ …
– بلى … أحبكم جميعا .
قال صابر : و نحن نحبك أكثر من أبيك .
لم يكن فايد ميال إلى هذا السجال الذي لا طائل له فحسم الأمر :
– هيا إلى النوم … أمامنا ساعتين و تكون هدأت العاصفة .

وضع أبو”  فايد ” إبريقا من الماء فوق الجمر و راح يدخن ، و تمدد أبو”فادي “،وبجانبه ولده ، وبعيدا عنهما صابر فسأله :
– ألا تنام ؟ ..
– كيف … المكان بحاجة حراسة ؟ …
لم يرد صابر أغمض عينيه في محاولة أن يخلد للنوم ، حلم أنه يقف على نهر العاصي ، وثمة امرأة تبكي وليدها ، تضرب على صدرها ، تطاير شعرها على أرجاء القلعة ، ومن حولها جمهرة من النساء ، يهدأن بالها ، و انبرت من بين الجمع جدة بزيها الشعبي ، تقدمت من أم فادي :
– لا تخافي سيعود ولدك .
و مسكت خصلة شعر تدلت على فودها .
فجأة أحس ” صابر ” بيد تلكزه ، و همسات فيها بحة قرب رأسه .. نهض مذعورا” ، ولكن بصمت . فرأى أبا فايد يتناول البندقية ، حرك آليتها بهدوء … ثم وشوشه :
– اتبعني …
وقف ” صابر ” بجانب أبو فايد ، مد فوهة بندقية صوب اليمين و أشار إلى صابر أن يبقى في مكانه ، حدد الهدف و أطلق عيارا ناريا ، ارتفع عاليا و سقط على الأرض ، يعر عريرا  فاندفع أبو ”  فايد ” ينظر إلى الأسفل كانت أنثى الضبع تتجه صوب المغارة ، يبدو أن الدماء تحظر
آكلة اللحوم ، فأسرع صابر ينبه أبا فايد خوفا أن تأخذه على حين غرة .
فاستيقظ أبو ”  فادي ” ، و لكز ابنه الذي استيقظ من حلمه ، فرأى أبو فايد يقرع على الدف ، و هو في وسط الناس يرقص و بيده سيفا طويلا، و على امتداد البصر رأى جردا  يأكل الأخضر و اليابس ، فجأة يتحول المنظر إلى جثث مكفنة بالبياض ، و حين توقف الإيقاع ، هدأ الرقص ،
وفجأة قابله تمساح كبير فاتحا  شدقيه يريد التهامه ، فأخذ يصرخ ، ويبحث عن ” صابر ” لينقذه من التمساح ، و راح يستغيث ، لكن لا من عجيب ، و حين أصبح بين فكي التمساح فأيقن أنه هالك لا محالة . انبرى صابر و غرس سيفه في حلق التمساح ، الذي لفظه بعيدا ، فراح يرقص
بعنف ، كانت يد أبيه توقظه فصرخ :
– أين العم صابر ؟ …
رد والده :
– لا تشغل بالك …
اندفع الصبي إلى خارج الكهف ، رآهما يجلسان خلف صخرة و عيونهم إلى الأسفل ، ترصدان شيئاً ما . نادى عليهما :
– أين أنتما ؟ …
فعاد أبو ”  فايد ” و من وراءه ” صابر ” ألقى البندقية جانباً :
– الضباع كثر …
ردّ الولد :
– و التماسيح أيضاً .

كانت الحوامات تجوب الأفق ، انفردت واحدة عن السرب ، هبطت وراء التل ، قال أبو ” فايد ” :
– ساعة و نبدأ الرحيل .
صابر :
– ما رأيك الآن ؟ ….
لم أفهم .
– نحن في نهاية الشهر .
افتعل صابر سجالا مع أبي فادي :
– ما العمل لو دهمنا جنود الأمريكان ؟ .
ضحك أبو فادي :
– لا يستطيعون رؤيتنا .
– أنا قلت لو …
– أهلاً بهم .
– ألا تخاف الموت ؟ ..
– من لا يخاف الملك القابع خلف أذن المرء ، لكن الأعمار بيد الله . يتربص و يختار فله نهاية ، و أنه يا صديقي صابر مخيف جدا ، إني لا أستطيع إلا أن أفكر به ، حين أشعر بالأسى ، أو المرض كحالتي هذه تنتابني أفكار عجيبة ،فأشعر بالوحدة مع أنني معكم ،و أعرف أنكم لن
تتخلوا عني ، لكن فكرة الموت تأخذني إلى الماضي إلى كل ذنوبي السابقة سامحوني … و بلغوا أم فادي سلامي علها تسامحني ، لقد ظلمتها … وظلمت ابنها الوحيد ، الذي حرم من العلم ، أقول ذلك ليس بغاية التوبة ، و لكنها اكتشاف أمام محكمة الذات . كان علي أن لا أسير
خلف ذلك الرجل … المفروض أن أكون طيبا رقيقا معها و لكنني غبي … نعم غبي لدرجة أنني ارتكبت تلك الحماقة ، التي لا أستطيع التكفير عنها على الأقل أمام نفسي ،إلا بالموت الذي أخافه .
و غرق في بكاء مرير …
نهض صابر :
– ما بك يا صديقي ؟ … كنت أمزح … تقطع أبو فادي في داخله … تشنج ، تدخل أبو فايد :
– لا .. ليس لنا البكاء . يجب أن نتقدم خطوة نحو الحياة .
اندفع ” فادي ” إلى أبيه ، قبله ، مدّ والده يده ، و أخذ يمسح على شعره :
– لا تترك صابر …
– سمعا ..
– كن مخلصا له .
فتحركت مشاعر الخجل ، و الصبي غارق بصمت البكاء على صدر أبيه .

ذهب ” صابر”  إلى فراشه مقهوراً مسحوق الفؤاد ، بشعور الرحمة ..فرأى “مهدي ” يحمل القتيب على ظهر الجمل بهدوء . دونما ضجيج ، حيث النجوم تضيء زبالتها الناعسة ، جهجة الضوء ، و ظهرت الواحات تمتد متشابه ، ترسل النظرات الآدمية بتلويح العتاب ، و هي تستقبل الصباح
بضحكات ساخرة … وحدها الإبل كانت تلوح ذيولها ، كأنها اشتاقت لغناء الطبيعة و الحداء ، ما زال صابر مكتئبا و الصغير يبدو أنه نسي ليلته ، وعاد إلى حركته السابقة و بدا أبو فادي فرحا أكثر من اليوم الماضي .. وقف على رجل واحدة ،يحجل باتجاه باب المغارة ، جلس على
صخرة ، يراقبهم و السعادة تغمر قلبه ، هيأوا كل شيء للسفر ، قفز أبو “فادي ” على رجل واحدة إلى ظهر الذلول ، استعدادا  لرحلة جديدة .
فقال مهدي :
–  أتمنى لك صحة جيدة .
– دعوني … اللياقة تحتاج إلى بعض الوقت .
شقت الجمال طريقها باتجاه الحدود السورية . بدت الشمس عروسا تكلل الأفق بوجه رائع … و الفرات يضيء مجد البادية ،بخط يلمع تحت الشعاع . عزفت لحن الديمومة ، تذكر البشر بالحب و الحياة .
تفاعل أبو ”  فادي ” مع اللحن ، و أخذ يغني ، فأثار صابر :
– ما بالك يا أبا فادي … أراك تحرك أصابعك ، كأنك تحك قدمك ،مع عدم وجودها .
– أحسبها معلقة .
كان الحداء يأخذهم بعيداً ، يرحل كل منهما إلى ذاته ، يؤنبها أحيانا , و أحيانا يلوذ إليها ، زادت سرعة الذلول ، بازدياد سرعة الجمل … الذي مد عنقه حتى تساوى مع انسياب جسده ،مشكلا  رسما  لسفينة فينيقية ، في بحر هادئ .
فسأل صابر :
– ما هذه القرية ؟ ..
– كركوك .
– يتجنبها  أبو فايد .
أبو فادي :
– أهل مكة أخبر بشعابها .
– لديك حق .
مرت ساعة أو ساعتين . قطعت الشمس شوطا  طويلا ، في سماء بدت مغبشه بغيوم متقطعة ، وقد مال الطقس إلى البرودة . فتوقف الجمل ، و من وراءه الذلول ، و مط الصبي رأسه ضاحكا ، و قال أبو ” فايد “:
– إنها الحدود .
– إنها الحدود سنمضي ليلتنا هنا ، ثمة مغارة على ما أذكر ،وسوف نأوي إليها بعيدا عن حرس الحدود ، و غدا سنفترق ،هذه الليلة ليلة الوداع . هللت الوجوه ببشاشة ، و اندفع الجمل إلى شعاب جديدة ، لا يعرف الشيطان أسرا رها .

ظل لحظة صامتا ،وكان عليه أن يهيئ نفسه لأن يعقل الجمال ، و يفرشون أمتعتهم بعد تنظيف الأرض ، ثم يجلسون ، كان لدى أبو ” فادي ” كلاما كثيرا ، و اعترافات كثيرة …الدقائق تتمطى ،وتنفخ كإعصار، أشعل ” صابر”  النار و هيأ القدر لصنع الحساء ، و كان أبو فايد يطعم
الجمال ، أما الصبي ، فقد انزوى كقط شريد ، يراقب كل شيء عن كثب .من حوله زهور متفتحة قبل الأوان ، وبدت شمس سورية ،ما يشبه انفجار ضوء ، جعله منظرها أن يتخيل صورة أمه، حاول استنباطها من ذاكرته، فتوقف عند صورة لامرأة جميلة ترتاح لها النفس … و في كل مرة يصل
إلى إحباط لا يستطيع أرشفتها في ذاكرته ، و فجأة ارتسمت أمامه أمه بوجه جميل ، أنفها المستقيم الدقيق فوق ثغر كفلقة جلنار ، و عينان واسعتان فوقهما قوسان ، و شعر داكن يأخذ سواد الليل . و كمن لسعه عقرب ، قفز إلى أبيه :
– أرجوك أن تنصف أمي .
سؤال الابن أربك الأب و صابر ،ضحك مهدي و انتظر جواب أبو فادي ليرى هل هو صادق في مشاعره . لكنه سرّ في نفسه:”ينبغي على المرء ألا يكون عجولا “.
ارتبك صابر ، وقف دهشا ،راودته الأفكار ،أعاد بناءها من جديد ،خيل إليه أنه لمس ذروة سعادته ، ارتجفت يده كاد ينزلق الصحن على الأرض ،  حدق في وجه أبي فادي،يحسب أنه يحسن صنعا ، فأجاب :
– تشبه القمر … و إن غضبت تبدو كالعريف حميد جارنا ، ألا تذكره حين يغضب .
وأخذت عيناه تبرقان ، وهو يصفها .
صرخ فادي :
– يا إلهي ! .. أتخيلها …
صابر :
– هل صفحت ؟ ..
– نعم .
– أتحبها ؟ …
– نعم .
– لماذا وصفتها بصفتين . الأولى سعيدة ، و الثانية غاضبة . و شبهتها بالعريف حميد لقد أفصحت عن حالة قرار نفسك .
قال أبو فادي موجها” كلامه لأبي فايد :
– أخونا نفساني و لا ندري .
– لا يقول غير الصواب .
ردّ أبو فادي :
– صحيح …. صحيح ..
صابر :
– كنت تخاف العريف حميد ؟ .
– بلى .. وجارتنا أيضا .
ربت على كتف الصبي :
– كيف تخيلت أمك ؟ .
– ملاك …
الدقائق تتدافع في غير انتظام ،جلجل دوي ضوء احمر خرج من الظلام ، اندفع ” فادي ” إلى باب الكهف يراقب . وقع بصره على طائرات تحوم ، و ارتسمت ظلالا على الأرض بحجم كبير ، أثارت فضول ” فادي ” ليركبها و لكنه ما إن قفز نحو الأرض المستوية حتى هربت الظلال ، و ظهرت
من جهة الشرق حوامة . صرخ :
– حطت طائرة هناك .
قفز أبو ” فايد ” و مدّ يده داخل القتيب تناول البندقية،نظر بهيئة عابسة  :
– ربما نتعرض للهجوم …
أسرع ” صابر ” و اندفع صوب الحدود ،ومن خلفه فادي كان عليه أن يحذو حذوه  ، صرخ أبو ” فايد ” :
– بسرعة لا مجال لإضاعة الوقت .

عاد أبو ” فايد ” ووقف في باب الكهف ،أوقع فراق ” صابر ” به أشد الآلام  ،فتهيا  إلى العودة  ،أدار أبو ” فادي ” إبرة المذياع ،فصدح غناء :
( كان الوداعُ ابتسامات مبللةً …
بالدمع حينا وبلتذكار أحيانا
حتى الهدايا وكانت كل ثروتنا
ليل الوداع نسيناها هدايانا )
ذهب أبو ” فايد ” يضرب في الصحراء ،كان يعرف ما آلت إليه كثبان الرمل ، وحين رأى ( الحوامة ) جلس  بين الصخور .ارتسمت أمام ناظره صورا خرافية ،لم يتوقعها ،نظر إليها عن كثب قال : لقد فات الأوان .
و ظل أبو ” فادي ” في المغارة ، تسيطر عليه مشاعر خوف و خيبة ، وقف على رجل واحدة ، يسحب بساطا من الوبر إلى آخر الكهف ، فاراً من أية مفاجأة ، تمكنه من المقاومة و هو الأعزل ، جلس في العتمة ، يتذكر كيف طلق زوجه و رحيله ، مع صابر أحس بشيء من البهجة التي تناسب
الرجال قبيل العراك ، لكن إحساسه بالارتباك كان الأقوى ، كان يحس بالعجز من أي اشتباك ، مع أي مخلوق ، فقال لنفسه : ” لا ربما أنا أحمل عقلية مختلفة و غاية مختلفة ” .
فجأة دخل أحد الجنود ، تراجع خائفاً أن يكون قد وقع في الخديعة ، فاجتمع الجند تغلي في نفوسهم شهوة الدماء .كان أبو”  فادي ” يؤدي الفرض ، و كانت الصور تمرح في ذاكرته صور لأصدقائه وقع بصره على بعض الجند يدخلون المغارة ببطء فقال أحدهم :هذه الآثار لها علاقة
بإنسان ، أو ابن آوى شحط فريسته .كان مرهقا تحت عبء المسؤولية ،لم يعرف ما ينبغي عليه أن يفعل ، يراقب الإجراءات البطيئة لمحاصريه ،و نمت بداخله نزعة مبهمة للقيام بشيء ما ، شيء يجعله راض عن نفسه ،يتخبط وسط طقوس أخترعها بنفسه ، وقف على قدم واحدة ، فأحس الجندي
بالحركة ،تراجع خطوة نحو الوراء و يده على الزناد .
ظهر أبو ” فادي ” على ساق واحدة مما جعل الجند يستلقون على ظهورهم من الضحك ، تقدم أحدهم ، ليفتشه ، و أمرهم رئيسهم :
–  أننقلوه إلى (الحوامة ).وأردف :
– و مغادرة المكان فوراً .

لونت الشمس قمم الجبال ،تأمل ” صابر ” المنظر  في إعجاب ،وكان ” فادي ” جالسا على حجر وضعا قدميه في الماء ،يبدو أنه منحرف المزاج ،فسأله :
– ما رأيك أن نستحم ؟.
– لست متحمسا لذلك .
تأمله في إعجاب :
– ينبغي على المرء أن ينظف نفسه من الأدران .
– انتظر قليلا .
فخلع صابر ثيابه ،و قفز إلى النهر ، و فعل فادي مثله ، ليتعمدان بمياه الفرات العذبة ،فأرهفا الآذان إلى اصطخاب الأمواج ، و لما خرجا غسلا ثيابهما ، علقاها على أغصان الشجر ، و جلسا بوجه شمس مكللة بالبهاء ، فقال الصبي وهو ينظر إليه بهيئة عابسة  :
– أين يكون أبي ؟ …
ولد السؤال في قلبه بحيرات من التفكير ،فأجاب وفي عينيه القلق :
– حيث الأقوياء الذين نصبوا من أنفسهم آلهة على البشر .
– آلهة ! ..
– نعم … ستعرف من أمك ، أن كل كلمة سمعتها أثناء الرحلة ، هي مرموز تعزفه النهايات في كل المنعطفات الماضية .
– لم أفهم .
– ستفهم … لا بد ستفهم .
دخل صابر و الغلام مدينة البوكمال عند الصباح . فاتجها إلى مطعم ، و طلبا بعض المأكولات . كانت رزمة من مجلات قديمة أمام البائع ، يستخدمها للف “السندويش ”
سحب ” صابر” أحد المجلات القديمة ،لا أثر لعنوان لها أو مرجع فقرأ :
– دعني أراك .
– لا أعتبر نفسي نابليون .
– بالله عليك اصمت .
رحل ” صابر” مع مداد الكلمات ، حتى كاد ينسى نفسه، لكن صوت صاحب المطعم :
– حمص بحمض .
– نعم .
و تذكر أن عليه أن يتصل بأمّ ” فادي ” سأله :
– هل لديكم هاتف .
– تفضل …
تلقت أمّ  ” فادي ” مكالمة من ” صابر ” ، أحست بفرح كبير ،طلبت السائق ،جاء على جنح السرعة ،رأى تعبير السرور على وجهها ،ودون أن يستفسر السبب سألها :
– مري سيدتي .
– كم الوقت التي تستغرقه السيارة من حمص إلى البوكمال ؟.
– خمس ساعات تقريبا .
– إذن هيا بنا ..
– حاضر …
جلست بجانبه ،ضغط برجله على دعسة البنزين ،وراح ينعطف من شارع إلى آخر إلى أن أصبح خارج المدينة ،وقف على اليمين بجانب مستديرة تدمر ،تفقد الدواليب ،وبعد أن اطمأن  من سلامتها ،عاد وحشر نفسه أمام المقود ،واندفعت السيارة تشق عباب الهواء ، انطوت الأزمنة ، و قصرت
المسافة ، لكن التمني و الرغبة ، غير الواقع و الحقيقة ، بينهما مفارقات تضيع فيها العقول ، و تنتفي الأحلام ، تنزوي أو تتموضع على رفوف الآتي فلربما تتحول إلى حقيقة .فطلبت :
– أرجوك …. بسرعة .
ابتسم متمنعا حريصا على شرف المهنة … كانت السيارة تسبح كمركب بحري في بادية لا حدود لها .
أدار إبرة المذياع . فأعلن المذيع عن رحلات مكوكية ، للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل .
كان ” صابر ” يعيش أحلاما ،لفتت حركاته صاحب المطعم ،فسأله :
– يبدو عليك من أهالي الحضر .
– نعم .وأنا في غاية التعب .
– لا وجود للفنادق في بلدتنا .
– أرجوك …أريد بيتا   للإيجار و لو لأسبوع .
أرسل صاحب المطعم صانعه مع ” صابر ” إلى أحد المكاتب العقارية في  البلدة ،و هناك تعرف على صاحب المكتب ،اصطحبه إلى أحد البيوت ،قرع على الباب ،بعد دقائق ظهرت امرأة ترتدي خمارا ،سألها  عن حميد ،فأجابت :
– نعم موجود .
التفت إلى صابر :
– حظك كبير .
قالت المرأة :
– تفضلا …
عبر الرجل الممر ومن خلفه ” صابر” ،ولما أصبحا في وسط البيت،نادى الرجل :
– يا أهل البيت .
ردّ حميد :
– أهلا …تفضل عطوان .
ولج عطوان البيت ومن وراءه صابر . كان حميد يرتدي عباءة تتخللها خيوط  ذهبية ،يعتمر كوفية ،بلغ عقده السادس ونيف ،يجلس أمام كانون ،اصطفت الدلال النحاسية على أطرافه ،وانتشرت الفناجين حول الدلال بانتظام ،يحرك الجمرات بملقط حديدي .
عاد إلى جلسته بعد المصافحة ،وأشار لهما أن يجلسا في الجانب المقابل ،دون أن يفوه بحرف وبإشارة سريعة لم تلحظها إلا العين الخبيرة ،فهمت ذات الخمار مغزاها ،ودون أن يحرك جذعه …صب لهما السادة ،انتهز عطوان الفرصة :
– شيخ العشيرة .
ردّ صابر :
– تشرفنا .
تابع حميد حديثه عن المستأجرين  ،روى قصصا عنهم ،فبدا عليه كأنه يعرف البلدة بيتا بيتا ،وأسماء سكانها ،وأسماء القابلات  ،وتاريخ مواليد أهل البلدة ،ومع بسمة من تحت شاربين كثين :
– اسمع يا عطوان .
– تفضل …
– تعرف تاريخ ميلادك .
– لا …
– يوم طقع سعود .
ضحك “عطوان ” واحمر وجهه خجلا من ” صابر ” ،ولأنه كان ثرثرا ،فلم يعلق على صاحبه ،فاخذ يتكلم بعبرات حفظها عن ظهر قلب ،وكعادته أخذ يرواغ تارة مع المؤجر ،وتارة مع المستأجر ،هذا سر المهنة ،ويعمل قصارى جهده حتى يستطيع إقناع الطرفين ،ولم يبق عليه سوى أن يكتب
العقد ،ثم يأخذ عمولته وينصرف إلى شأنه .
كان فادي يلعب في فسحة البيت ،فاستأذن صابر بعد أن أخذ المفتاح ،وخرج إلى فادي رآه يلعب مع الدجاجات ،أخذه من يده وقصدا المأجور،فهما بحاجة للراحة   ،دخل إلى الحمام ،وراح ينعم بالماء الساخن ،ورغوة الصابون ،وعندما أزال الأدران العالقة على جسده ،أحس أنه بحاجة
للنوم ،استلقى على السرير،حدق في سقف الغرفة ،ومسح بنظره الأخشاب عدّها مرات ومرات ،حتى غالبه النعاس ،وبقي فادي يلعب في البيت ،ومن خلال شخير صابر وحركاته أدرك أنه يعيش حلما ،كان صابر يحلم  أن  عدد الأخشاب  اثنان وعشرون خشبة ،عشرون   منها جاءها السوس ولم تبق
سوى واحد في حالة جيدة ،وأخرى لم تزل في حالة الوسط ،يا إلهي !… يجب أن أرحل قبل انهيار السقف ،ومن ثم أبحث عن حل لهذه المشكلة مع أصحاب البيت لعلهم يستجيبون للأمر ،ويقومون بترميمه ،ولو كلفني ذلك أن أبني مدرسة على نفقتي الخاصة ،وانفق  الأموال التي سأقبضها من
أم فادي في سبيل ذلك ،هذه الأموال لم تكن بالحسبان ، فجأة هيمن الصمت ،نظر إلى السماء ثمة طيور غريبة تحلق فوق خيام أبا ” فايد ” جاءت من خلف البحار ،تعلق الملايين من عيون  القطعان  في هذه الطيور ،كانت العيون تنتظر المعجزة بصمت ،فقال :
– لم تحصل المعجزة .
سأل الصبي :
– علام يا عم صابر ؟.
– لأنها  وهم .
عاد الصمت من جديد ،ابتلع التساؤلات وتحركت الحشود ، غطت الطيور على بغداد وراحت تبني أعشاشا  في أوابدها ،تحرك الطفل في مكانه فزعت الطيور فاحترزت ،ثمة طير بشع كاد أن يلقي على رأس الطفل حجرا كبيرا ،فصرخ آخر لا تقتلوه أريده حيا ،لعله فكر أن وراءه جوقات من
العصافير ،فانقض عليه بأظافر قوية ،كاد أن يخطفه ،فصرخ :
– أين أنت يا عماه ؟.
لم يرد عليه لأنه كان يجاهد الريح ،لكن الطير الكبير سأله :
– لأي عصافير تنتمي ؟.
– الآن بمفردي .
– أفصح ؟.
– غدا جميع عصافير الرافدين ستكون معي .
– الم تخف ؟.
– أبدا الموت والحياة عند العصافير سيان .
– من أي الفرخ أنت ؟.
– فرخ قطا ،عقاب ،نسر ،حمام لا فرق .
– سأمزق جسدك .
– أعرف …لا محال سيقتل أحدنا الآخر .
– أنت ضعيف أمام أظافري القوية .
– أنا أقوى منك .
– لم أفهم ..
– أنا أملك قراري . وأنت قرارك من أسيادك ،ألست من المرتزقة ؟.
صمت مليا :
– حسنا سأطلق سراحك .وعليك أن تجتاز الحدود قبل أن تحمر أظافري .
وقبل أن يبعد العصفور أنقض عليه بأظافره فهوى على كثبان الرمل ليرسم بدمه رافدين موحد .
اقترب فادي من السرير ،دنا من صابر ،وأخذ يوشوش في أذنه :
– يا عم صابر …يا عم صابر .
نهض صابر مرتبكا ،فرك عينيه ،ونظر من نافذة البيت ،رأى نجمة المساء تومض من بعيد .لكنه كان بحاجة للنوم ،فتركه الصبي وعاد إلى اللعب .. طار صواب حمدان , و أخذه احمرار التراب , و مجرى الماء الذي شكل شريانا” يشق طريقه إلى واد لا يعرف أحد أين يلقي برأسه التعب .
لم يدر إلا و هو يقرع باب صاحب الأرض , أنقده مبلغا” و ذهبا معا: إلى الدائرة العقارية , تأبط الملكية خوفا” من عاديات الأيام .
جلس في البيت و شرد بخياله بعيدا” , يفكر كيف سيتأبط صك الزواج , و اشترط على نفسه أن تكون رؤوفة بالحيوان , و خصبة كهذه التربة الحمراء . فجأة غالبه النعاس , و تعاقبت الفصول , اشرأبت الأشجار و أثمرت و أغدقت الخيرات عليه , و زقزقة العصافير و رقصت أيام الإخصاب
, دخل عليه مالك الأرض السابق , و حين حدثه عن المحاصيل و نوعية الثمار , وخصوصا” ثمار الكرمة و عصيرها اللذيذ , رأى الحسد يشع من عينيه . انقض ليمسك بتلابيبه , فاستيقظ مذعورا” , فقال لنفسه :”” حلم جميل لولا الرجل التعس ” .
اصطحب عددا” من عمال البناء إلى أرضه و شيد غرفتين للسكن و على مسافة بنى زريبة , و خم للدجاج , و لم ينس برج الحمام , و بعد أن سور الأرض بأسلاك شائكة , غرس أشجارا” من اللوزيات و الزيتون و عدد من أشجار التين و العنب , و ابتاع من المدينة ثلاث بقرات , و ست
دجاجات , و ذات العدد من الإوز , و قبل غروب الشمس اطمأن على الحيوانات و عاد إلى البيت ليأخذ قسطا” من الراحة , في دبيب العتمة تراءت له خيالات من خلال النافذة , و خوفا” من هجمات اللصوص , فكر أن يبتاع بندقية , لكنه تراجع خوفا” أن تعرضه للمساءلة , و بقي يفكر
حتى طلع الصباح , فسافر إلى البادية و بعد لأي صادف أحد الرعاة . ابتاع منه كلبا” مدربا” على حماية القطيع . أنيابه حادة , و ابتاع مؤنه للحيوانات , وطعاما” خاصا” للكلب . راودته فكرة الإنجاب , فأخذ يستعرض وجوه الصبايا , لكنه تراجع حين سمع خوار البقرة , فأسرع
ليستطلع الأمر , فاستقبله الكلب يهز ذيله , دنا منه و مسح على رأسه :
– لك عروسا” تليق بك .
تكور الكلب بجانب الزريبة , فاستقبلته البقرة بالخوار , فتعهد لها بثور قوي , و لم ينس الدجاجات , تناول الدفتر و كتب , أنثى من الكلاب , و ثور قوي , و ديك فصيح .
و نسي نفسه , و عاد أدراجه إلى البيت , و أخذ يسترجع الأسماء , فتذكر نفسه :
– اللعنة …
تذكر إحداهن فقال :
– هي لا غيرها !..
لكنه تراجع عن فكرته , لأنه شاهدها , تضرب شاة بقسوة فقال :
– لا…. لن أقترن بفتاة لا ترأف بالحيوان , كل من لا يحترم الخصب , غير جدير بالإنجاب .لمع الأفق , و دوى الرعد …وزرفت السماء دموعها , انتعش قلبه بالأمل , حين استقبلت الأرض دموع الرحمة , أشعل الفوانيس , و أوصد النوافذ , كانت أرباب السماء تعقد اجتماعا”
نوعيا” , فانضمت السحب المبعثرة فتحولت إلى جزر باكية , و فجأة دخلت الفتاة القاسية , و أدت أمامه القسم :
– أقلعت عن عادتي ….
– حسنا .
ردت :
–  فأنا راغبة في الإنجاب .
دوت القذائف في قبة السماء , سمع عواء الكلب تحت سياط المطر , و خارت إحدى البقرات أشعل النار , و أخذت الفتاة تساعد البقرة فاندفعت عجلة ولدت لتوها غير أن أمها فقدت أثداءها مؤكدة ولادة جديدة .
وصلت أم فادي إلى بلدة البوكمال ومن خلال السؤال استدلت على  صاحب المطعم.فسألته عن صابر ،رحب بها :
– نعم أعرفه .
ضحكت :
– خذني إليه فورا .
– هيا بنا .
ركب معها في السيارة ،وانطلقوا إلى المكتب العقاري ،فاستقبلها ” عطوان”  إيما استقبال وذهبوا إلى  حيث يقيم صابر ،دلها ” عطوان ” على البيت ،وعاد من حيث أتى ،قرعت الباب ، لكن سلطان النوم أقوى ، ، فتح فادي الباب ، دخلت أمه ، صوتها أيقظ صابر ، وهي تقول :
– ها أنت عدت يا حبيبي ، عدت إلى ساعدي سأضعك في قلبي … نعم سأقفله عليك .
وقف صابر :
– الحمد لله على سلامتك .
فتح ” فادي ” عينيه ، رأى جمهرة تحيط بالسرير و شاهد امرأة ، أدرك أنها أمه ، وقف ” صابر ” يلقي نظرة أخيرة ،غرق في اليأس ،لم يملك الجرأة للنظر إليهم ،كان حائرا لا يدري ما يفعل ،استحوذت عليه قضايا المهنة ،كان  خائفا من أمّ فادي أن تقدم المبلغ المتفق عليه أمام
الصبي ،  فخرج من غير أن ينبس بحرف و اتجه إلى النهر ،ونهشت الجراح قلبه ، اندفع فادي وراءه يصرخ :
– أين أنت يا عماه .
غرق في المبهم من الأشياء ،حين طرق سمعه نداء ” فادي “،سبح صوت الصبي مع الموج الناعم ،عبارات تنفذ فوق نسيج المشاعر ،التفت  فرأى الصبي يركض صوبه، و أمّه تلحق به ،و السائق ،و صاحب المنزل . و الشمس الآفلة ترسم عند الغروب لوحة من دماء .
أهداء
إلى الوطن

إلى براعم الوطن
إلى أمهات غزة
إلى أبناء العراق الشرفاء
الأديب نبيه إسكندر الحسن يكتب القصة منذ مطلع الثمانينيات
صدر له  الهدية – سوريا الأم – أحلام  مشتتة – دليل الأم – آلهة الطحالب مخطوط – سنابل في رحم الصخور .
نعم القصة هي تلك الدروس التي تلقيناها،وأصبحت في مخزون الذاكرة سلاحا نشهره حين الحاجة إليه ،دون أن ندفع ثمنه غير ذلك الانقطاع عن العالم والناس والأشياء ،هذه الخسارة غير الملحوظة  التي عرفتنا على النفس النبيلة والنفس المنحطة الذليلة والتجار والشاري والشاري
ورأينا الكاذب والمنافق كما في رواية ” الأنفس الميتة لغوغول .
إلى أي حد وصلت القصة القصيرة ،وفي أي أرشيف دخلت …؟ وهل ثمة كاتب استطاع إقناعنا بوجهة نظره الابداعيه  أو عرضه …او انه جعلنا نركض وراء وضعه السحري .
صدر للمؤلف :
– رواية غضب النورس .جمعية التعاونية دمشق 1989
– = الفدية .دار المعارف 1990 ط 1 دار إنانا دمشق ط 2/ 2000
– = محراب العشق .دار المعارف 1994ط1 / دار إنانا ط2 /2000
– = بحرية الملح خمسة أجزاء .دار التوحيدي 2004 ط1
– = عاشق أخرس .دار إنانا 2005 ط1 دمشق
– = رياح العنف .=    =      =     =
– = مطر الملح . =    =      =     =
– =  قيم وثعالب .=    =      =     =
– قصص الهدية . جمعية التعاونية للطباعة دمشق 1989 ط1
– = سوريا الأم .دار المعارف حمص 1990 ط 1 دار إنانا 2000 ط2
– = أحلام مشتتة .دار المعارف 1994 ط 1 دار إنانا 2000 ط 2
– = دليل الأم .دار المعارف 1989 ط1
– = آلهة طحالب .قيد الطباعة .
– = سنابل في رحم الصخور .
– = موال العاشق مخطوط .

==================================
سوريا حمص – ص – ب -/ 5121 / جوال 0966326100

___________________________الى اللقاء في أعمال قادمة …للقاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

من almooftah

اترك تعليقاً