رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

حمص سوريا – ص – ب – 5121 جوال 0966326100
نبيه اسكندر الحس
الاحتجاج
رواية
( يبكي ويضحكُ لا حزناَ ولا فرح ..كعاشقٍ خطَ سطراً في الهوى وم ..من بسمةِ النجمِ همسٌ في قصائدهِ ..ومن مخالسةِِ الظبي الذي سنح ..قلبٌ تمرسَ باللذاتِ
وهو فتى كبرعمٍ لمستهُ الريح   فانفتح مالي الآقاحيةِ السمراءِ قد صرفت عنا هواها أرقُ الحسنِ ما سمح لو كنتِ تدرينَ ما القاهُ من شجنٍ لكنتِ أرفقَ من آسا ومن صفح )
13

عاد ” صابر ” إلى البيت خوفا أن يصاب بأذى المطر ،دخل على زوجه ،وجدها طريحة الفراش تعاني من مرض مفاجئ ،ومازالت في ريعان الشباب ، كان يحبها كثيرا ،قبل أن يسعفها إلى المشفى سألته :
– كيف حصلت على المال ؟.
– أرجوك …أنت بحاجة للراحة …
– ولكن …
– لا تشغلين بالك .
تعرف أنه لم يملك شيئا من المال ،يومذاك جمع من رفاق العمل بعض المال ،كجمعية يأخذها كل واحد  حسب ترتيبه بالقرعة ،أيعقل أن يعترف لها بالحقيقة ،تمنع الكرامة أن يبوح الرجل لزوجه بكل شيء.وخصوصا في وأوقات المرض .
اسند رأسها على كتفه ،وطوقها بذراعيه ،وهما في جوف سيارة الإسعاف ،ما إن وصلت السيارة إلى المشفى ،حتى أسرعت الممرضة ونقلتها إلى غرفة الإنعاش ،وقف صابر ينتظر على أحر من الجمر ،فجأة خرجت الممرضة ،تسأل :
– من صابر ؟.
– نعم .
– زوجتك في حالة مخاض ،وعليك مقابلة المدير .
ولج غرفة المدير ،لم يكن يدري أن المدير يخفي شيئا ،وراء بشاشة وجهه فقال :
– الأمر بسيط …نريد موافقتك على إجراء العمل الجراحي .
وقع بصره على عبارة احتشاء في عضلة القلب ،لم يدر من هو المقصود، الجنين أم الأمّ ،وجد نفسه محاطا بكل أتون الخيارات ،كتب اسمه على الأوراق ووقع عليها ،على مبدأ الطبيب يعرف واجبه ،وقبل أن يغادر الغرفة طلب المدير:
– أجرة العمل الجراحي مبلغ كذا …
– أليس المبلغ كبيرا ؟.
– خذها إلى مشفى عام .

أختزل طلب الطبيب مساحة عمر تجمعه ورقة فضفاضة ، تلقى في سلة مهملات ،دفع كل ما بحوزته من مال ، ولم يبق لديه إلا بضع قطع معدنية لا تفي بشيء ،وعليه أن يتدبر أمره على جنح السرعة ،خرج من غرفة المدير.كانت الممرضات يركضن في البهو ،ألقى نظرة سريعة على غرفة
العمليات ،تخيل أشباحا في داخلها ،لمح أمامه جسد ممدد ،لم يدرك أنه جسد زوجه ،فغض الطرف عن ساق عار ، انبرى إلى الشارع ،يبحث عن مكتب عقاري ،حس بفرح حين وجد ضالته ،فلم يساوم على السعر ،رهن بيته مقابل مبلغا لا يتعدى ثمن أرض زراعية غير معدة للبناء ،عاد أدراجه
إلى المشفى ،دفع المبلغ للمدير ،وفجأة وجد نفسه يغوص بالفاجعة .
كان الطبيب يرصد حركاته وموجات الكآبة ،وبدت عروقه بارزة  تلتف حول جبينه العالي ،بدت كخرائط بلدان يضمر الأعداء على تقسيمها ،وقد سموها الشرق الأوسط الجديد دنا الطبيب منه :
– هون عليك …الموت قانون الحياة ،وليس إلا حالة تعيدنا إلى السكينة والإيمان بالله .
– هل نعتبر فساد الأخلاق إيمان .؟..
تركه الطبيب وأغلق باب غرفته ،تجمع الناس وعمال المشفى على صراخه واحتجاجه .قال أحدهم :
– جنّ الرجل !….
اخترقت كلماته جدران الزمن ،اندفعت كشلالات ،تحرك الأشياء الهاجعة ،وترصد دوائر مكتب المدير ،الذي يرغب بامتصاص كل شيء ،قبل بروزه للعيان ،ليحوله إلى أطياف ماضية في أتون ،تحوله الأصابع إلى ذكرى .
فجأة خرج شرطيان من مكتب المدير ،وضعا الجامعة بيد ” صابر ” دفعاه بقوة إلى جوف السيارة ،فأحس أنه خرج من داخل إسفنجه ماصة للكلمات ، وثمة تساؤلات في عيني الشرطي ، لم يعرفها ” صابر ” طيلة عمره .

بدأ رحلته مع نفسه بشفافية ليل رطب و ريح ندية، تعرت الطفولة ،و تجردت الروح عن الثوابت ، خرج من سجن المخفر، بعد ساعات حيث أحضرت الشرطة سيارة الإسعاف و نقلت الزوجة إلى مثواها الأخير .
مشى مع الجمع وراء الجنازة و من أمامهم الشيخ الذي سمعه يكفر لكنه صمت حتى نهاية التلاوة فتقدم صابر لينقده أجرته سحب يده حوقل و عوذل و قال :
– أيها المارقون .
نظر إلى عيني صابر ، رأى بحارا و أمواجا ، و ثمة طيور ستهاجمه و تغرس مخالبها في وجهه و عينيه ، فبرقت في نفسه لوثة الخوف ، فأخذ المبلغ دسه في جيبه و طلب للمرحومة متسعا من الجنة .
بعد حديث و حوار بين الناس ، قال صابر :
– نعطيه مالنا و يتكبر علينا .
ضحك ضحكة حزينة ، فاستاء بعضهم من حديثه و انسحبوا واحد تلو الآخر ، و هناك قرب الحديقة تجمعوا بغية قسطا من الراحة ،و راحت ألسنتهم تسوط صابر و تقطعه إرباً .
لكن أحد الأصدقاء أدرك ما يجتاحه من حزن و ألم ، جلس بجانبه و بكل محبة  :
– اسمع يا صاحبي أنت لست الناصري ..
– لكن …
ضحك :
– لا تستطيع أن تصلح العالم و لو أنك تدفع من دمك ثمن ذلك .
– هذه ليست مشكلة .
– أرجو … أن تحافظ على هدوئك .. و انتبه لنفسك و إلا خسرناك .
دس مبلغا في جيب صابر . اغرورقت عيناه بالدموع وحصلت مشاجرة بين النفس اللوامة و بين النفس المتمردة في داخله ، فاعتذر من صديقه و تركه ينصرف إلى شأنه ،و انزوى وحيدا غريبا بائسا في عقله زخم الأفكار و آلاف الأسئلة  ، تتسلق أفكاره سقف الغرفة ، حيث بدا الوقت قطار
يصفر دون توقف ،إلا في المحطة فآن له الالتحاق به ، كان صفيره يعلن الوصول إلى محطة سيبدأ منها الرحيل ، و كانت اللفافة تحترق بين إصبعيه  .
تحركت المشاعر كتيار جاري ،اشتعلت شرارة في مخيلته لتستطلع حالة التأهب للأهوال في ليلة زفافه ، ازدحم المنزل بالناس وضجيج  الموسيقا يلف  أرجاء المنزل فلم يمض شهر العسل حتى أضحى فارغ اليدين وتعالت السحب الداكنة تزحف إلى القبة الفيروزية تعلن أن الشتاء على قاب
قوسين لذا يترتب عليه أن يحضر نفسه لشتاء عاصف فكر أن يبتاع مدفأة و كمية من المازوت و مؤنه، فهو بحاجة أشياء كثيرة و لا باليد حيلة و بعد تفكير طويل قفزت فكرة إلى ذهنه فقصد جاره صاحب المنزل القريب من بيته
ليقترض مبلغا  يفي حاجته حتى نهاية الشهر و بعد جدل مع ذاته حشد كل قوته و قرع  الباب استقبله الجار مرحبا  و انفرجت شفتاه عن أسنان مطوقة برقائق ذهبية فتذكر أحدهم حين قال بكبرياء :
– أعمل عند متعهد و أكسب مالا  كثيرا.
– ما عملك ؟ .
– فقط أقوم بجمع عظام الموتى من المدفن ، و قبل ترحيلها إلى مكان آخر أتفقد أسنان الموتى و أصابعهم و لن أنسى الأضراس أيضا ، فكلما وقع بصري على خاتم أو سن ذهبي أقلعه و أحتفظ به .
جعلته الذكرى يشرد بخياله بعيدا  و لم يصح حتى سأله جاره :
– إيه .. نصف الألف خمسمائة . أهلا  بك يا جار الرضا ، ماذا سنشرب ؟ .
– أرجوك …. في الحقيقة لست ضيفا  بل صاحب حاجة . ( لك أم للديب ) ؟ .
– تفضل …
– يلزمني بعض المال .
أجاب صاحب الأسنان الذهبية ، ارهن مصاغ زوجك ، شعر صابر بطعنة من جاره .. لم يدرك الجار أن زوجة صابر لا تعرف الذهب لا من قريب و لا من بعيد ، فصمت صابر هنيهة فداخلته لحظات نسختها أرواح الكتب على روحه و تحكمت بانطباعاته الحديثة فلا تخرج من رفعتها إلا كما تشاء
ممزوجة بالكبرياء ، فرجفت يده و رجف كأس الشاي بين أصابعه ، فارتشف منه رشفة بغير لذة ، و راح ينظر إلى نصف الكأس الفارغ و النصف الملآن ، فلا يجد إلا فراغا مخيفا وراء شفافية الزجاج و أخذ يبحث في نفسه عن شبيه لصاحب الأسنان المذهبة فلم يجد شبيها إلا في أحد
الكتب المنسية على الرف فلم يأخذ منه سوى الجانب المضحك ، فضحك ساخرا .
سأله :
– أراك تضحك ؟ .
فلم يرد عليه ، و دارت قصص البخلاء دورتها في رأسه :
-رأيت كلبا أبرشا .
– أين .. لا وجود للكلاب في حينا .
حدق بوجه جاره جامعا جذوة عينيه :
– نعم ، يشبهك يا جار .
صمت الجار على حرقه و راح يستحضر جوابا فبلع لعابه :
– و لو .. لم أتوقع هذه الإهانة من مثقف مثلك .
نهض من مكانه بزهو مازجه فخر ينبع من أخدود عميق في النفس و وقف بمحاذاة الباب و يده على قبضة الإغلاق :
– اسمع.. الكلب حيوان وفي للإنسان ، يبدو أني ظلمته ، وربما تحتج جميع الكلاب على وصفك بأحدهم .

فقر مدقع
تذكر فقرهم المدقع ، و قرعت العبارات أذنيه ، نحن نموت جوعا و أنت تعاند و تكتب ما نفع ما تكتبه و طلبك لم يوافق عليه ، الناس الأقل موهبة نالوا الحظوة و أكثرهم لم يكن لديهم أكثر من بيضة الديك ، ضحك صابر :
– و هل للديك بيضة ؟ .
– لا …. لكن يستعير بيضة من دجاجة و تنسب إليه .
– الأيام تحكم .تجاوزت البيضات أصابع اليد ، لكن لي قصة مع أولاد … أعرفهم بالأسماء رغم أنهم يبدون كل احترام ..
و راح يسترجع الأسماء أمام ( المحظية ) ، بعثت نظراتها في داخله قلقا ، و بخبث أسدلت جفنا و رفعت آخر قائلة :
– ما حاجتك ؟ .
– الأستاذ .
– إياهم ؟ .
– ما شاء الله كم أستاذ عندكم ؟ .
قال متعجبا :
– تنهدت بحدة :
– الإناث عشرة ، و الذكور حدث و لا حرج …
– يا إلهي ! ….إذن عددهم بعدد أيام السنة .
– و أكثر .
فاخترع اسماً من بنات أفكاره :
– الأستاذ نحس،الذي يتذرع أنه جاء بعرش بلقيس إلى سليمان عوضا عن الجني .
– باسم الله ، ما هو طلبك ؟.
– أنت تعرفينه، ربما يدرأ عني العوز في عاديات الزمان .
نظرت إلى جيبه الخاوية و يديه الفارغتين:
– يا فارغ اللب ، أين الهدية ؟ . نحن لا نبيع الخيار .
ضحك حين وقع اسم الخيار على مسمعه :
– يقولون عندكم خيار و فقوس .
– أيعقل ؟ … أنت تقول هذا .
–  معاذ الله … أبيع نفسي و لا أصفكم بهذه الأوصاف يا مدام .
– تجاوزت حدك ، أنا عذراء.
– ما صلة القرابة مع الأستاذ نحس ؟ .
– ماذا يعني إذا كنت خادمته ؟ أنت ظنون و أبله ، أين الديك البلدي و الخروف و سلة البيض الملقحة ؟ ..
– أقسم أن كل البيض لدينا ملقح بجدارة ، تشهد على ذلك (بحيرة الملح) القابعة بهدوء على تخوم البادية ،فتغنى الشعراء بفطرتها ،والفدية ( الذبح  العظيم )،  جاء به جبريل إلى سيدنا إبراهيم ، و فك إسماعيل من ذبح محتم ، و هل تتوقعين (غضب النورس )تصوري رغم وداعته ،
إذا غضب غضبت لغضبه كل أمواج البحر ، و أكيد سيصيبك الهول من (مطر الملح ) الذي يشفي قروح الأدمغة التي أصيبت بالأدران ،و لأنك عذراء ستقابلين (عاشق أخرس ) يدلك إلى الصراط ،و ستتوقفين بهدوء أمام ( محراب العشق )،فيذكرك بمعبد ” عشتار “، و أكيد سيصيبك التباس
عندما تقرئين ( أحلاما مشتتة ) ،التي نوهت إلى سرقة أثار بابل ،ردا على ثأر قديم ، و عندما يهاجمك العدو تدركين أنك بحماية ( سورية الأم )،فتؤكد لك  أن الأرض هي العرض ، و ( الهدية ) تشد أزر أطفال الحجارة ، ستنال موافقتك ولو كانت البيضة الأولى،لكن مذاقها شهيا .
فجأة تغير لون وجهها و بتلعثم قالت :
–   تفضل .
عبر الممر و هو يتلو أسماء الأنبياء و الرسل و لم ينس الصالحين و الصالحات الأحياء منهم و الأموات ، و راح يردد أسماء الله الحسنى ، و يطلب من السموات السبع ،أن يفرج عن طلبه المعتقل منذ نصف عقد ،و أن يوافق الأستاذ عليه ،هذا الأستاذ الذي يدعي أنه جاء بعرش بلقيس
إلى ” سليمان بن داوود” ، ولج المكتب و جلس على طرف الكرسي ،كمن يجلس على كرسي الاعتراف أمام الكاهن ، فتذكر حلم ليلة أمس حين صرخت جدته :
–  اترك الديوك يا صابر .
وقد نسي باقي الحلم عندما أقبل الأستاذ بقامة طويلة و جسم هزيل تؤطر  وجهه المثلثي لحية سوداء كثة ، فبدا كناسك من النساك على غرار ذلك الناسك الذي صادف أحد الفقراء ، فسأله :
-علام تكفر .
– خرجت لأطلب من ربي أن يرزقني .
وراح يضحك بجنون ،مما أثار فضول الناسك فسأله :
– وهل استجاب لطلبك ؟.
– لا … جاءت زوجي و أخبرتني أن الذئب افترس شاتنا اليتيمة فأخذت أكفر عوضا عن الدعاء .
فقال له :
-لا عليك ، سوف أجعلك تدفن الفقر و إلى الأبد .
تعجب الرجل:
– اتركني و شأني .
أجابه الناسك :
– أستطيع  بلمح البصر أن أتحول إلى طاووس لا يضاهيه طاووس في الجمال، و ما عليك إلا أن تأخذني إلى الوالي ،و تقبض ثمني أكياسا من الدراهم ،و تنصرف إلى شأنك .
وبلمح البصر تحول الناسك إلى طاووس لا يضاهيه طائر بالجمال .
سرّ في نفسه :” تدفعك الحاجة أن تتعامل مع أبالسة ،يلبسون مسوح النساك ،لكنهم يجهلون أنك تعرفهم ،ولأنك لا تحب النميمة تقطع لسانك على  حرقة ،وهؤلاء ليس في وجوههم حياء يظنون أنك رعديد “.
صمت مليا ،فتذكر بيتا من الشعر قتل صاحبه .كان سيلقيه بصوته الجهوري لولا ،أن وقع بصره على الأستاذ الذي جاء بعرش بلقيس ،وقبل أن يجلس على الكرسي الوثير سأله :
– أنت صابر ؟.
مع حفظ الألقاب :
– حضرتك من جاء بعرش بلقيس..
– نعم ،طلبك سرق ،ضاع والله اعلم ،لكن كيف تسأل عن حقك ،ولم تسأل نفسك أين الديك ؟.
– هل لديكم دجاج ؟.
– نعم ،و إوز  . ولدينا حمارة وخادمة أيضا
– دون يمين الديك موجود ،ومعه ذكر من الإوز .وحضرتنا الخادم ،و زوج جارتنا لحمارتكم ) .
وانبرى إلى عرض الشارع ،يشير إلى البناء …ولم يعط فرحته لأحد .

عبر الشارع الطويل ، تزدحم الأفكار في مخيلته ،تذكر ذلك اليوم حين غادر الحافلة ،وفي داخله عشرات الصور ،لم يشعر بمسافة الطريق ،وحين دخل البيت ،كانت جالسه تعد الدقائق بانتظار عودته ،تألقت لملكوت التوحد ،فأخذها على ذراعيه ،مقلدا البجع الأبيض ،ارتقى معها هضاب
التيه ،وقبل أن يصلا الذروة وشوشته :
– الحر شديد .
برر لها لظى الدفء :
– البقاء في النار أفضل ….
– أحب البحر …
– ألسنا في خضمه .
كانت مشغولة بأشياء عابرة ,كلم نفسه : ” يا إلهي !…انتهى العمر ولم ارتو من ارتشاف كأسي ” .
لم يكن يدري ،أنه شرب الكأس من اللحظة الأولى ،وربما لم يحسن الارتشاف ،حركت الأسئلة شعلة الذاكرة ،وفجأة ابتعدت الأسئلة ،ككل سنوات عمره ،فلم يبخل بالعطاء ،ولكنها طوت كل الأزمنة ،وانزلقت كالزئبق  .
قطع أبو زايد انسيابه مع الذكرى حين استوقفه ،وأقسم بالثلاثة :
– ألسنا أصدقاء يا أستاذ ؟.
– نعم .
– ستشرب الشاي بضيافتنا .
– أنت في القلب .
– كنت مع أبي الأسنان الذهبية .
– نعم .
– أراك مشغولا ؟.
– حقيقة الأمر ،أركض وراء الحياة ولم الحق بها .
هزّ أبو زايد رأسه :
– غيرك الحياة تركض خلفه .
صمت أبو زايد مليا ،ثم نادى على زوجه ،وطلب منها أن تعد وجبة غداء لضيفهم العزيز ،وقفت تسترق السمع من خلف الباب ،سأله أبو زايد  :
– هل انتهت المشاكل معهم ؟.
– أي مشاكل ؟.
– سمعت أنهم أحالوك إلى دائرة ما .
لم يرد على السؤال .
وتابع أبو زايد :
– ترى أستاذ مثلك ما نفعه في غير اختصاصه . مع عدم المؤاخذة أنت لم تعرف غير فك الحرف ؟.
حديث أبو زايد ذكره بمثل لجدته : ( إذا جارت عليك الأيام فدونك أولاد الدلال ).
ضحك صابر :
– يا أخ …فك الحرف يتضمن تعليم الأخلاق ،وتعليم حب الوطن .خلق  الإنسان بلا وطن .
–  وأنتم تبنون له وطنا .
ابتسم صابر :
–  نعم ،لكن الوطن ليس سروالا تحيكه أمّ زايد على مقاسك .
– تعني الوطن كلمة تكتب بجريدة ،يلقيها متعلم ؟.
– لا …لا تقولني كلاما لم أقله .
– إيه …حيرتني !…
– يا أخي …الوطن يعني المتعلم والجاهل والصانع ،وكل الناس خير وبركة .
– أنا وأختك أمّ زايد وطننا هذا الدكان فيه خبز …بندوره…خس …فجل وغيره ،وعندما يكون الخبز مفقودا .والله العظيم يصبح الوطن سرابا .
– ولكن …
قاطعه أبو زايد :
– قال المسيح  ( ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ) .
– يتغير الزمن و نحن أيضاً .
– سألتك عن أمورك … و لم أسألك عن الأنبياء و الصالحين .
شرد بخياله بعيدا ، يحاكم الأمور ، لقد غلب من أول معركة ، و أمام من ؟ شخص مثل أبي زايد ، الذي جعله يقف على رجل واحدة مثل دجاجة كسرت ساقها .كل ذلك سببه رفض الطلب ترك في نفسه أثر كبير، وقد نال حصته من نظرات الأدنى منه ،فجعله الرفض أن يبدأ مشواره بين اندفاع و
تراجع ، لقد باع كل ما تركه والده من ثروة في القرية ليبني ذلك البيت الصغير ،و يتزوج كغيره من الشباب ، و لكن القدر كان أقوى منه ، فقد أخذ زوجه بعد أن رهن البيت و لم يبقى شيئا مما جنته يداه ، غير مكتبة عامرة بأمهات الكتب ، فجرت الأحرف بدمه مع الكريات الحمر،
فهو من شجع بعضهم على الكتابة ،و عندما تبوؤا منصبا في مؤسسات ثقافية تنكروا له ،فقد أغرتهم الكراسي ،و ما زال يوثق قراءاته و كتاباته على حساب لقمة العيش و شراء القميص ،ضخمت القراءات عقله و يبست عروقه حتى تحول إلى هيكل عظمي و رغم ذلك بقي محافظا على رشاقته .

اختزن ” صابر ” اللوحات الجميلة في ذاكرته ،تذكر  أحد،الأصدقاء،يدعوه  إلى حضور معرض لأحد الرسامين في المركز الثقافي بدمشق، في أثناء صعوده إلى جوف الحافلة ، شعر اضطرابا، جلس في المقعد يحمل في داخله نفحات حب نقي ، ومن خلال النافذة تأمل الأفق ، وارتسمت غيوم
معلقة بأهداب شروق الشمس ، رحل المنظر به إلى ذلك اليوم ،لقد تخيل رتلاً من النساء، جئن ليودعن عشاقهن ، و في قلب كل منهن لوعة فراق لا لقاء بعده ، فتذكر زوجه عندما قبلت أطراف بنانها و قذفت قبلة عبر الأثير فقال لنفسه : ” رغم الفاقة منحتني أجمل ما في الحياة ” .
بكى بصمت ،و هو يتخيل وجهها بين أرجاء الضباب ، أصبحت الدقائق عناكبا أمام ناظره  ،وارتدت الثواني ثياب اليعاسيب ،و تحولت كل الأشياء من حوله إلى نقاط و إشارات تعجب .
لم يشعر بمسافة الطريق ، ولج المركز الثقافي ، طاف بين اللوحات ، صادف أحد الشبان ، تعرف عليه و هما يطوفان بين اللوحات في المعرض ،أدرك ” صابر ” أن صديقه ليس من الرجال الذين تخور عزائمهم ،كان “صابر ” واقفا أمام إحدى  اللوحات ،حين سأله ” مهدي “:
– هيّا بنا إلى  الفندق …
فسأله وهو يتفرس فيه تفرس من يقرأ ما بذهنه :
– بكل سرور .لكن أين ؟.
– فندق ابن الوليد .
كان ” صابر ” يتنبأ بأسئلة يلقيها عليه ” مهدي “و من هناك ذهبا معا إلى فندق ابن الوليد ، ظلا  مستيقظين حتى لونت الشمس زجاج النافذة ، و قبل أن يغادرا الفندق بدقائق قدم النادل الأبكم لهما إبريقا  من الشاي ، ضحك مهدي :
– يجب أن نقطع لسانينا .
هز صابر رأسه ، و ارتبطت فكرة قطع اللسان ، مع قصة الدمشقي هشام بن عبد الملك فسأل مهدي :
– ما الحل يا أخوي ؟ .
– يكمن الحل في نضوج البطيخة .
قال مهدي :
– ما أدراك … أن تجد السكين ؟ …
– وضعت الشاي على نار هادئة .
أشعل لفافة تبغ مجّ الدخان ، رسم حلقات ضبابية في الغرفة على شكل سحابات حلزونية فقال :
– ماذا لو هاجمنا التنين ؟ .
– سندافع عن أرضنا .
– هل نحن أكفاء … لحماية الأوطان ؟ .
– ربما …
انتهى من شرب الشاي ، و ظل الشك قائما .
سكبت الشمس حبالا حمراء على الستائر الزرقاء ، فعبر مهدي عن مشاعره :
– منظر و لا أجمل …
قال صابر مازحا . بغية أن يلمس جانب اللاشعور عند ه :
– نعم ، ينسحب على رومانسية ، فاقعة من نوع مثالي ، ذاتي .
ردّ مهدي ساخرا :
– أتقصد على طريقة النشمي؟ .
– هل لديه مرتزقة ؟ .
– نعم ، لقد عمل بنظرية تعدد الأنماط السياسية .و أعتقد هذا الأبكم أحد الجواسيس .
انتصف الليل من ليالي عام 1989 ، انسل كليهما إلى فراشه و قال صابر :
– عمت صباحا على فكرة جديدة ، لا علاقة لها بالبكم .
كان” صابر ” يعيش حلما ، رأى طيورا ذات أجنحة معدنية ، تجوب الآفاق تنفث حمما تحرق واحات النخيل ، حطت على أرض الرافدين ، و أخذت تطأ بأرجلها كل شيء ، حتى ورد القداح لم يسلم من أظافر أصابعها ، و كانت جدته تلوح بمنديلها :
– ماكو خير يا مهدي . أين النشامة ؟ .
ردّ مهدي :
– لا عليك …. سنبدد ظلمة الليل .
– كن كفؤا … أرى الأغصان تتفرق .
– اطمئني ….. الأغصان ستلد من جذع النخلة الأمّ . يا ما عبثت الزوابع بها، ولكن بقيت الأرض ،و بقي الفرات يشق طريقه بين الحصى .
استيقظ ” مهدي ” على حركة داخل الغرفة ،فأيقظ  صابر وسأله :
– لم تنم يا صديقي .
– نعم أغمضت عيني فقط …. أما أنت نمت كطفل لعب لدرجة الإرهاق .
– أين تشرب القهوة ؟ …
ردّ صابر :
– أصبت … لا أعرف ،لكن هاجسي التعرف على ذلك المقهى .
فتح صابر دفتره و كتب عليه بعد غد سيكون عيد رمضان لعام 1989 .
قال مهدي :
– ماكو بيت ماكو عيد .
تلقى صابر كلمة ( ماكو ) بيت ( ماكو ) عيد ، بمساحات جسده ، دارت مع الكريات الحمر دورتها بدت مؤلمة حادة ، كنصل أنغرس في القلب ، فاستدرك :
– بيتي بيتك ،و بلدك سوريا .
كادت تسقط دمعة من عيني ” مهدي ” ، دمعة أبية تجمدت في ساحة العين، و بدأ بكاءه صامتا ، أدرك ” صابر ” ما يدور بداخل صديقه ،فهو يعد رجلا واسع المعرفة ،وكان ارتياب الرجل يزداد مع نبضات القلب ،  أشاح ” صابر”  بوجهه ، و سبقه بخطوات ، فلا مجال في مثل هذه الحالة
لأي تردد ،عبر رصيف المشاة  و من خلفه ” مهدي ” ،كان الناس في حركة دائمة ذهابا و إيابا ، هياكل متحركة ، فقال مهدي :
– ما شفاعة المعابد بدون وطن . بالأمس ، نوهت  سوريا عن مؤامرة .
هز رأسه :
– من يعلم ما هو المخبوء ؟ .
قفل حاجبيه ، حدق بالأرض ،كأنه وجد ضالته ، أيقظه صابر من رحلة ضيعته :
– أين شردت ؟ .
تأمل مهدي وجه صابر ،وقد استرد أنفاسه بكثير من المشقة ،فجمع جذوة عينيه :
– لا تفاجأ يا صاح …إذا دخل أحدهم شاهرا  مسدسه  و أطلق النار ! …
ضحك صابر :
– إن هذا عمل مجنون ! …
– مهلك هناك من يفعلها …
– اطمئن كل الاطمئنان … أنت في سوريا .
– ما قصدك ؟.
– دولة المؤسسات .
– عندنا أفعال لا تخضع لسلطان العقل .
سأله صابر :
– كيف نرى الأشياء بتجلياتها ؟ … في الحقيقة تحاصرنا المفاهيم ، و جميع الأبواب مفتوحة نصف فتحة ، و نحن نعيش على النصف في كل شيء .
و انتهى الحوار ، لأن ثمة من جلس على الطاولة المجاورة ، يشنف أذنيه فقال صابر:
– لنذهب إلى طاولة أخرى .
-علام ؟.
حين انتبه مهدي ضحك:
– انتبه لنفسك .
شعر بدهشة :
-” فهمت “.
– حسنا .
وساد الصمت .

___________________________الى اللقاء في الحلقة القادمة من – رواية ” الاحتجاج ” بقلم القاص والروائي السوري نبيه اسكندر الحسن

من almooftah

اترك تعليقاً