Announcement

Collapse
No announcement yet.

نشوء الحضارة السورية-بحث مهم جدا"-1-

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • نشوء الحضارة السورية-بحث مهم جدا"-1-

    [email protected]
    د.بشار خليف


    إذا كان الوجود البشري في سورية يعود بحسب التنقيبات الأثرية الى مليون سنة خلت، فإن الحضارة السورية تعود في بداءتها الى هذا التاريخ تماما" .
    فعلى قاعدة أن الأداة الأولى التي صنعها الإنسان القديم تعبرّ عن بدء الحضارة الإنسانية، فإن هذا ينسحب على الإنسان القديم لذي جاء الى سورية من أفريقيا، حاملا" حضارته و ثقافته، التي تنتمي الى الإنسان الصانع أولا". ثم اعتبارا" من 1,5 مليون سنة سوف تنتمي الى حضارة و ثقافة الإنسان المنتصب، الذي خلف الإنسان الصانع و جاء الى بلاد الشام من أفريقيا، ليبدأ بتأسيس ثقافته و حضارته التي سوف تنطلق من مليون سنة،1 و تتواصل تباعا" حتى العصر الحالي . و ما نعنيه هنا في مجال الثقافة سوف يتبع المساق الأنثروبولوجي لأن الإنسان الأول في سورية لم يترك سوى أدواته و آثاره العمرانية و ما الى هنالك في غياب لغة مدونة أو وثيقة مكتوبة .
    و لسوف ننتظر متابعة مسيرة الإنسان في سورية على مدى مليون عام إلا ثلاثة آلاف سنة حتى نصل الى بدايات عصر الكتابة. مما يعطي انطباعا" على أن الكتابة و اختراعها جاءت بزمن حديث نسبيا" حسب تأريخ وجود الانسان في المشرق العربي .
    و على هذا سوف نتابع خط التطور الثقافي / بالمعنى الأنثروبولوجي /، عند الإنسان السوري القديم وفق مناحي حياته كافة، تبدأ من نمط الحياة و العيش ،مرورا" باختراعاته البدئية،2 من أدوات و أبنية وصولا" الى طقوسه و شعائره و نمط حياته و تفكيره، في نظره الى الحياة و تفاعله مع البيئة الطبيعية و مجاله الحيوي الطبيعي .
    ووفق هذا المنحى لابد أن نجري مقاربة، بين تطور بنيته الدماغية و تطور سلوكه تبعا" لذلك . فبالإضافة الى وعي مسألة عامل البيئة والمجال الحيوي الطبيعي ، الذي قدم للمجتمعات الأولى الإمكانات و المحرضات، التي ساهمت في تطور البنية الدماغية لديه، ما انعكس بالتالي على تفاعله الإيجابي مع البيئة، فاستطاع الانسان آنذاك استغلال الطبيعة لصالح تطوير حياته و أنظمته الاقتصادية – الاجتماعية، و أدى هذا الى تطور في حياته الروحية والذهنية .3
    لهذا سوف نجد أنفسنا محكومين بأن نناقش تطور الثقافة في سورية منذ البدء وفق أنساق ثلاثة :
    1- نسق الجسم .في بعده الحركي –النفسي .
    2- نسق الدماغ – العقل .التطور والاستجابة .
    3- نسق البيئة و المحيط الحيوي . المحرض والإمكانات .
    و لعل التفاعل بين هذه الأنساق الثلاثة هو الذي أدى في النهاية، الى تبلور الشخصية المشرقية العربية ضمن المنظور الاجتماعي التاريخي . زاد عليه أيضا،" نسق التفاعل مع البيئات الاجتماعية الأخرى، و الذي أخصب تلك الشخصية المشرقية، بما أدى الى النظر نحو منطقة المشرق العربي على أنها منطقة الثورات الحضارية الإنسانية الكبرى .
    عنيت بهذا ثورة الزراعة و تدجين الحيوان - التجارة– ثورة إنشاء المدن الأولى – ثورة اختراع الكتابة ، والثورة الروحية التي تجلت في نشوء المعتقدات الأولى، و التي جاءت كأرضية لما سيأتي بعدها من أفكار و فلسفات و رسالات .

    نشوء الثقافة و الحضارة في سورية :
    لنعطي تحديدا" و تعريفا" للثقافة /الحضارة، فهي مجمل المعارف و العقائد و الفنون و الأخلاق و الأعراف و القوانين ، و كل مهارة أو عادة اكتسبها الانسان بوصفه عضوا" في مجتمع ما ، نتيجة تفاعله مع البيئة الطبيعية و مجاله الحيوي الطبيعي .
    و إذا شئنا تحديد تعريف للثقافة المجتمعية لقلنا : أنها تفاعل مجتمع ما مع بيئته الطبيعية و مجاله الحيوي الطبيعي، بما يؤدي الى نشوء خصوصية ثقافية- حضارية لهذا المجتمع، تميزه عن ثقافات المجتمعات الأخرى . ومن هنا تنبع نسبية القيم و المعايير و الرموز بين المجتمعات الإنسانية .
    و طالما أننا حددنا ظهور الإنسان في سورية نحو مليون سنة فإننا سننطلق اعتبارا" من هذا التاريخ في رصد لتطورات الحضارة المشرقية العربية.
    فمن موقع ست مرخو في اللاذقية، جاء أول كشف عن وجود إنساني في سورية حيث عثر على أدوات ذلك الانسان الحجرية، التي صنعها و استخدمها في تفاعله مع البيئة و صراعه معها، حيث تم العثور على فؤوس و معاول و قواطع و سواطير و شظايا و نوى ، كما قدم موقع خطاب في حوض العاصي معطيات أثرية كانت عبارة عن أدوات حجرية صغيرة ، ثم و في فلسطين سوف يظهر موقع العبيدية، أدواتا" أكثر تطورا" و تقنية من أدوات ست مرخو ، ذلك أن هذا الموقع / العبيدية / يعود الى حوالي 700,000 سنة .
    و إذا كان موقع ست مرخو قد قدم الدليل الأول على وجود أول إنسان في بلاد الشام و المشرق العربي القديم، فإن موقع العبيدية قدم آثارا" إنسانية للإنسان المنتصب كانت عبارة عن أجزاء من جمجمة و أسنان .4
    و عليه فلابد أن نتتبع الخطوط الأساسية لعوامل نشوء الحضارة في المشرق العربي القديم ، عنيت بذلك الدماغ بوصفه المحرك الأول للنشاط الحسي – الحركي عند الانسان، و البيئة والوسط الطبيعي المحيط، بما تقدمه للإنسان من إمكانات و محرضات .

    البنية الدماغية و النشاط العقلي عند الانسان المنتصب في سورية :
    حين جاء الانسان المنتصب الى سورية ،كان يمتلك بواكير حضارية تجلت في مقدرته على صنع الأدوات الحجرية، بالإضافة الى امتلاكه للغة ابتدائية. و يعتقد أن عوامل بيئية قد دفعته للمجيء الى بلاد الشام قادما" من أفريقيا في حدود المليون سنة ./ و لعلنا أيضا" امام ميل للاعتقاد بوجود فضول لديه دفعه للانتقال للبحث عن شروط مناخية – بيئية أكثر دفعا" للتحضر و التطور /.
    و المعلوم أن الانسان المنتصب تحدّر عن سلفه الانسان الصانع ، هذا الانسان الذي بلغ حجم دماغه 500 – 800 سم3 و يعتبره علماء الحياة أول إنسان حقيقي صنع أدواته ، و لم يعثر الى الآن على دلائل أثرية توحي بوجوده في بلاد الشام، غير أن خلفه الانسان المنتصب جاء الى بلاد الشام، و كان أكثر تطورا"في بنيته الدماغية عن سلفه . فقد بلغ حجم دماغه 750 –1250 سم3 و يعتقد الدكتور كارل ساغان أن حجم جمجمة هذا الانسان توافق حجم جمجمة الانسان الحديث5 . و هذا سوف يؤدي الى تطور في مناحي حياته المختلفة تبعا" لتطور ا لبنية الدماغية، و تبعا" لمحرضات البيئة و استجابة الدماغ لها، ما يشكل دفعا" للتطور الحضاري للإنسان . و على هذا يقول ساغان :
    " إن تطور الثقافة الإنسانية و تطور تلك السمات الفيزيولوجية التي نعتبرها خاصة بالإنسان، سارا غالبا" جنبا" الى جنب، فكلما تطورت استعداداتنا للسير السريع و الاتصال و البراعة في استخدام الأيدي، كلما ازداد احتمال تطوير الأدوات الفعالة و استراتيجيات الصيد و ازداد احتمال استمرارية المواهب الموروثة " .6
    و لعل الإضاءة على عالم الدماغ و البنية الدماغية سوف توضح انعكاس تطوره على مجريات الثقافة الإنسانية في سورية .
    في الدماغ و البنية الدماغية :
    يتميز الدماغ عبر ثلاثة مراكز هي :
    1- المخيخ : الذي يشكل مركز تنسيق الحركات و توافقها، و يعتبر الناظم الأساسي للحركات الإرادية .
    2- جذع المخ : وهو مركز الوظائف اللاإرادية الضرورية للحياة ،كالتنفس و ضربات القلب و الدورة الدموية و ضغط الدم . و يملك هذا الجذع اتصالا"بالجهاز الطرفي ( الحوفي ) للدماغ الذي يختص بالانفعالات و إثارة الانتباه. و هذا الجهاز ساهم في تطور الثقافة البشرية .
    3- المخ الجديد : و يشمل نصفي كرة المخ اللذين يتكونان من مادة رمادية قريبة من السطح تعرف بالقشرة الدماغية، التي تستقر فيها الخلايا العصبية المتحكمة بالملكات العقلية العليا كالذكاء. و يعزى الى نموها في الانسان تميّزه عن ما دونه من الكائنات، فضلا" على اعتبار الحضارة الإنسانية نتاج مباشر لعمل القشرة الدماغية .
    4- نصف المخ الأيمن : يعنى بوظائف الانفعال و الحدس و الإبداع و استخدام الخيال، لهذا يطلق عليه اسم ( النصف الحدسي ). و يعتبر هذا النصف نصفا" صامتا" في أغلب الأوقات، و زيادة فاعليته تؤدي الى نشاط و فاعلية ذات منحى فني و حس إبداعي .
    5- نصف المخ الأيسر : و هو النصف التحليلي و العقلي بامتياز حيث يتولى إدارة و تحريك الأعضاء اليمنى في الجسم، و يضبط مركز الكلام و بعض جوانب التفكير النقدي التحليلي . و يعتبر هذا النصف أكثر نشاطا" من النصف الأيمن لدى معظم البشر .
    و تتحدث الدراسات البيولوجية عن أن وظيفة المخ المثلى، تتحقق حين يكون أحد نصفيه نشيطا" و الآخر صامتا" أو متوقفا"بشكل مؤقت عن العمل. بالإضافة الى أن أغلب النشاطات الخلاقة المهمة للحضارة الإنسانية، سواء في الأنظمة القانونية و الأخلاقية و في الفن و الموسيقى و العلم و التكنولوجيا، لم يتم تحقيقها إلا بالعمل المشترك و المتناسق و المتعاون لنصفي كرة المخ .
    6- القشرة الدماغية :
    تشكل حوالي 85 %من الدماغ عند الانسان ، و تتمحور وظيفتها الأساسية في الادراك، و تشمل نصفي كرة المخ ، تتوضع فيها معظم الوظائف المعرفية الخاصة بالإنسان . و تتألف هذه القشرة من أربعة فصوص :
    1- الفص الجبهي : الذي يملك وظيفة لتفكير بالعمل و تنظيمه و يساهم في التوقع الحركي – الحسي معا" . و يؤثر في العلاقة بين الرؤية ووضعية وقوف الانسان على قدميه . و في الجزء الأيسر منه تتوضع منطقة / بروكا / المسؤولة عن توليد و استخدام اللغة .
    2- الفص الجداري : له علاقة بالإدراك المكاني و تبادل المعلومات بين الدماغ و بقة الجسم .و يبدو أنه أسهم في كل ما يتعلق باللغة الرمزية البشرية .
    3- الفص الصدغي : له علاقة بمختلف مهام الإدراك المعقدة .
    4- الفص القذالي : له علاقة بالرؤية التي تشكل الحاسة المسيطرة عند البشر .
    و الجدير ذكره هنا، أن القراءة و الكتابة و الرياضيات تقتضي نشاطات متناسقة لكل من الفص الجبهي و الصدغي و الجداري و ربما القذالي ، و هذا لم يتحقق في المشرق القديم إلا في حوالي نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، و بداية الألف الثالث ق.م. بمعنى أن هذه النشاطات المتناسقة أخذت وقتا" طويلا" حتى أدت الى غايتها في إبداع الكتابة و الرياضيات .
    أما بالنسبة للقسم الطرفي أو الحوفي من الدماغ فله تأثير على عواطف الفرح و التدين و الغيرية . و على العواطف الإنسانية بشكل عام .7
    بناء" على كل هذا يمكننا تتبع تطور الثقافة الإنسانية في سورية، وفق معيار التطور المتبدي في بنية الدماغ ،و الذي حصل تبعا" لاشراطات ذاتية في المنظومة الدماغية، و تبعا" لقواعد المحرض و الاستجابة ، المحرض البيئي و المحيطي و الاستجابة الدماغية- الفيزيولوجية له، ما سوف يؤدي الى تطور مناحي الحياة و الثقافة الإنسانية مع التذكير بأن المنعطف الكبير في تطور الدماغ موجود في القشرة الدماغية = الإدراك .
    ويشير ساغان الى أن كلا أسلوبي حياة الصيد والالتقاط ،التي مارسها الانسان ،قبل اختراع الزراعة والحضارة التكنولوجية ، هما من نتاج القشرة الدماغية .8
    وعلى ذلك ،فصفاتنا الحالية كبشر ،تجمع صفات عديدة من كل العصور .وان تزايد حجم الدماغ ، وتعقد النظام العصبي المركزي ، وتطور الرؤية المجسمة ،تعود في أصلها الى ملايين السنين في تطور الرئيسيات التي نحن جزء منها .9
    ويطابق كارل غوستاف يونغ ،في رأيه ، ما توصل ساغان إليه ، ويشير الى الرابط النفسي العميق ، بين الانسان القديم والإنسان الحديث بقوله : كل إنسان متمدن ، مهما بلغت درجة وعي نموه ، لم يزل إنسانا" قديما" في الطبقات السفلى من كيانه النفسي ، وكما أن الجسم البشري يوصلنا بالثدييات ، وكشف لنا عن بقايا كثيرة من مراحل تطور أولية ترجع الى عصر الزواحف ، فكذلك النفس البشرية نتاج تطور إن تتبعنا أصوله ، تكشّف لنا عن عدد لاحصر له من السمات القديمة 10.
    وطالما تحدثنا عن البنية الدماغية ، فلا بد أن نعرج على العلاقة التبادلية والتفاعلية ، بين البيئة والدماغ بمعنى العلاقة بين المحرض والاستجابة ، والتي دفعت الحياة الإنسانية الى أفاق تطورية مهمة ،إن في بنية الدماغ ،وتطورها وتعقدها ، أو لجهة تطور الحياة الثقافية للإنسان بما تشمله من أبعاد اقتصادية – اجتماعية – روحية .أدت الى منعطفات كبرى في مساق الحضارة الإنسانية .
    البيئة والدماغ ، علاقة تبادلية =تفاعلية :
    أثبتت التجارب العلمية أنه بقدر ما تقدم البيئة الطبيعية والمجال الحيوي الطبيعي من غنى وتنوع ، يقدر ما يؤدي هذا الى استجابة دماغية تتبدى في زيادة وزن الدماغ وثخانة القشرة الدماغية ، بما يؤدي لاحقا" الى استثمار هذا التطور في استغلال موارد البيئة واستيعاب حركتها ، والسيطرة على عمائها ، فقد أجرى الباحث الأميركي مارك روزنويغ من جامعة كاليفورنيا ، تجارب على فئران المختبر ،وكانت غايته تحديد دور البيئة في تطور البنية الدماغية ، فجاء بفريقين من الفئران ، الأول ،تم وضعه في بيئة نشيطة وحيوية وغنية ، بينما وضع الفريق الثاني في بيئة محدودة الموارد وفقيرة ورتيبة ،مملة .
    وتوصل في النتيجة ،الى أن الفريق الأول أبان عن زيادة مذهلة في وزن وثخانة القشرة الدماغية بالإضافة الى تغيرات في كيمياء الدماغ ، وبالتالي في حيوية العمليات الدماغية ، دل على ذلك تطور اتصالات عصبية جديدة في القشرة الدماغية .11
    ويشير أيان ايلينيك في كتابه (( الفن عند الانسان البدائي )) ، الى أن التطور الثقافي والبيولوجي مرتبطان ببعضهما البعض ،وبشكل وثيق ، ولايمكن النظر إليهما بشكل معزول كل عن الآخر .
    فمنذ ظهورها كانت الثقافة واحدة من أهم عوامل التطور البيولوجي ، مبدية تأثيرا" قويا" عليه ، وبنفس الوقت استوعبت تأثيره عليها .12
    وعلى هذا يمكننا الآن أن نقارب تجربة الانسان المنتصب في سورية ، منذ وجوده على أرض سورية ،لجهة إنشاء ثقافته وحضارته والتي سوف تؤدي لاحقا" وبنهج تراكمي ونوعي ، الى حدوث منعطفات حضارية كبرى
    قيمة المرء ما يحسنه
Working...
X