إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رؤى / المعلم الثاني - محمد راتب الحلاق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رؤى / المعلم الثاني - محمد راتب الحلاق

    رؤى / المعلم الثاني

    6-9-2010
    السيطرة على النفوس والعقول أشد من السيطرة على الأبدان ، والسيطرة على المدارك وطرائق الفهم من أهداف الحروب القديمة والحديثة ، وكم انتصرت شعوب على أعدائها بالرعب دون أن تخوض أية معركة من المعارك ، لأن المهزومين ذهلوا عما بحوزتهم من القوة والإمكانات ، وفقدوا إرادة المقاومة والممانعة ، واستسلموا لأعدائهم دون قيد أو شرط .وتقوم وسائل الإعلام الحديثة بهذه المهمة ، أي بإعادة تشكيل
    المدارك عند مستقبليها ، لتجعلهم ينظرون إلى أنفسهم ومجتمعاتهم وتراثهم وأعدائهم وقضاياهم من الزوايا التي تريد لهم تلك الوسائل أن ينظروا منها ، وهو ما يعرف بإعادة تشكيل الرؤوس ، ويوم تنجح هذه الوسائل في تحقيق أهدافها فإن الشعوب المستهدفة ستدرك الأحداث والقضايا بصورة تخدم مصالح أعدائها ، وستفقد الثقة بأوطانها وتاريخها ، وستنظر لنفسها على أنها شعوب متخلفة ، وأنها مازالت كذلك منذ وجدت وفي الأزمان كافة ، وأن انتماءها إلى القيم التي تؤمن بها مدعاة للخجل والاستحياء . والمتابع الواعي لوسائل الإعلام الغربية ( ومن والاها من وسائل الإعلام المحلية ) سيجد كيف أنها لا تني تصور بلاد الشرق عموماً وكأنها موئل لكل تخلف ، وأنها تتمتع بقدرة كبيرة على ممانعة التقدم ، مما يبرر التدخل في شؤونها لتطويرها وتحديثها ، حتى وإن اقتضى ذلك استعمارها وقتل أعداد كبيرة من سكانها ( المتخلفين والهمجيين ) ، لجعل تلك الشعوب تتمتع بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ( بالمفهوم الغربي ) . والمشكلة أننا بتنا نصدق تلك الصورة النمطية عن تلك البلاد وعن سكانها ، وصرنا نضرب بهم المثل عن التخلف والهمجية والتعصب والتطرف والأصولية ... إلى آخر المصطلحات التي غدونا نرددها دون تفكير وكأنها من المسلمات .. فالفكرة السائدة عن أفغانستان وما حولها ( مثلاً ) أنها مناطق مازالت تعيش في عصور ما قبل التاريخ ، وأن سكانها مازالوا في الحالة البكر ، لم يبرحوا الحالة البدائية بعد ، مع أن الأفغان ومن جاورهم كانوا في يوم ما جزءاً فاعلاً من الدولة العربية الإسلامية ، التي كانت مركزاً للحضارة الإنسانية وعنواناً للتقدم . ويحدثنا التاريخ أن تلك البيئة الثقافية والاجتماعية قد أنبتت رجالاً مازال العالم كله يزدهي بعلمهم وإنتاجهم ، وسأحاول في زاوية اليوم أن أعطي لمحة عن واحد من هؤلاء الذين أهدتهم تلك البيئة الثقافية إلى العالم ، واعني به الفيلسوف الفذ ( أبو نصر الفارابي ) ، ولكن قبل أن أقدم الفارابي لابد من الإشارة إلى أن أفغانستان وما حولها ، والتي تشكل بيئة ثقافية واحدة ، لم تتوقف في يوم من الأيام عن العطاء الفكري والثقافي ، بل إن واحداً من أهم رموز مشروع النهوض في بلاد الشرق جاء من تلك البلاد ، وأعني به جمال الدين الأفغاني . وفي مدينتنا حمص ، وفي القرن التاسع عشر عاش عالم متنور كان يدّرس المنطق والمعقول للشباب الذين كانوا يستعدون لقيادة عملية النهضة والتطوير ، وأعني به الشيخ عبد الباقي الأفغاني ، وكان من تلاميذه الشهيد عبد الحميد الزهراوي وأبناء جيله. وأعود إلى ( أبو نصر ، محمد بن محمد بن طرخان .... ) الذي ولد عام 259 هـ في إقليم فاراب من بلاد تركستان وإليه انتسب ، وتوفي في دمشق عام 339هـ ودفن فيها .درس الفارابي علوم عصره في مسقط رأسه ، ثم تابع دراسته في بغداد وحرّان فدرس فيهما الفلسفة والمنطق والطب والموسيقا وعلوم اللغة العربية ، ثم انتقل إلى بلاد الشام وعاش فيها زاهداً متقشفاً يرضى بالقليل القليل من متاع الحياة الدنيا ، ولو شاء لرتع ، ولاسيما أن صلة قوية كانت تربطه بالسلطة الحمدانية الحاكمة أنذاك ، بل كان من خاصة سيف الدولة الحمداني .حمل الفارابي لقب المعلم الثاني نظراً لمكانته الفلسفية الكبيرة ، ولمتابعته لآراء أرسطو ودراستها وتوضيحها ، ونقدها إذا اقتضى الأمر ، إذ لم يكن يقلده تقليداً أعمى ( لأن إيثار الحق أحق من إيثار أرسطو ) . ولما كان أرسطو يحمل لقب المعلم الأول فقد منح الفارابي لقب المعلم الثاني . وحسب كثير من الباحثين والدارسين فإن الفارابي هو المؤسس الحقيقي للفلسفة العربية الإسلامية ، إذ لا نجد فكرة تناولها من جاء بعده من الفلاسفة العرب والمسلمين إلا ونجد جذورها وإرهاصاتها في كتب الفارابي الكثيرة جداً ( ومن كتبه التي وصلتنا 40 رسالة في الفلسفة والاجتماع والموسيقا وسوى ذلك من العلوم ) . وقد سعى الفارابي لأن تحتل الفلسفة منزلة الصدارة بين العلوم والفعاليات الثقافية والفكرية الأخرى ، كما سعى إلى تفسير المفاهيم والمصطلحات الإسلامية من وجهة نظره الفلسفية . وبعد أن أحصى الفارابي العلوم المشهورة علماً علماً عدّ علم الحكمة ( الفلسفة ) أشرف العلوم وأجلّها . وقد وضع لطالب هذا العلم شروطاً منها : الشباب .. وصحة المزاج .. والتمتع بالآداب والأخلاق الحميدة .. وأن يكون قد تعلم القرآن واللغة العربية وعلم الشرع قبل البدء بدراسة الفلسفة .. وأن يكون عفيفاً صدوقاً زاهداً بعيداً عن الفجور والفسق مؤدياً للفرائض والسنن الشرعية ....... وأن لا يتخذ من علمه آلة لكسب المال ..... والفيلسوف عنده من حاز الفضائل الأخلاقية والخصال الفكرية والإرادة الواعية ، والذي يعمل بما علم ، لأن تمام العلم لا يكون إلا بالعمل ، حيث يبدأ الفرد بإصلاح نفسه أولاً ثم يبدأ بعد ذلك بإصلاح غيره مبتدئاً بأهل بيته ثم القريبين منه متنقلاً من الأقرب إلى الأبعد فالأبعد حتى يعم الإصلاح العالم كافة .... .فالفيلسوف ، حسب الفارابي ، صاحب رسالة اجتماعية نبيلة ، غايته تحقيق المدينة ( الدولة الإنسانية ) الفاضلة وقيادتها ، مثله في هذا مثل الرسل والمصلحين ، وبذلك يتفق النقل والعقل ، والفلسفة والعقائد ، والسياسة والأخلاق .وقد قسّم الفارابي المجتمعات إلى مجتمعات كاملة ومجتمعات ناقصة ، وأكمل المجتمعات عنده هو المجتمع الذي يضم الناس كافة ( المكوّن من مجموع الأمم والأوطان ) ، ومن المجتمعات الكاملة الأمة التي تتوحد ( تجتمع ) في دولة ، ومجتمع المدينة التي تكون تحت قيادة حكيمة . أما المجتمعات الناقصة وغير الحقيقية فيعددها نازلاً من الأكبر إلى الأصغر كما يلي : مجتمع القرية فمجتمع الحي فمجتمع الشارع فمجتمع العائلة أو الأسرة . وهكذا فالمجتمعات عند الفارابي تسير نحو كمالها انطلاقاً من الأسرة وصولاً إلى العالم : ( الأسرة ـ الشارع ـ الحي ـ القرية ـ المدينة ـ الدولة الأمة ـ العالم ) في وعي مبكر منه لوحدة الجنس البشري ، فهل البيئة التي أنتجت مفكراً إنسانياً من هذا الطراز بيئة متخلفة ؟؟؟!!!! .‏‏
    محمد راتب الحلاق
يعمل...
X