لماذا كتب لي
الدكتور زكي المحاسني
إهداءه على باطن غلاف كتابه؟
الأستاذ: سلمان إسماعيل
لقد كان الكتاب، في تلك الأيام، أقصد الكتاب الجامعيّ ذا طابع تدريبيّ على البحث، والمقرر لايحيط به كتاب واحد.
ولهذا كنا - نحن الطلاب - أصدقاء لأصحاب المكتبات، وكان قيّم المكتبة يبيح لنا التفتيش، على الرفوف الأرضية للمكتبة، وييسر لنا الصعود إلى الطابق الثاني ا لذي غالباً مايكون واطئاً ((سقيفة في المصطلح المعماري)) حيث الكتب مطروحة بشكل عشوائي، أو مكدسةٌ داخل حاويات كرتونية، ولا نتحدث عن كثافة الغبار المتوضع على الكتب المفردة أو المحشورة رزماً في الحاويات، لم نكن نتأفَف ونحن نصطحب كتاباً أو أكثر وقد حنينا رؤوسنا المغبّرة، وتجاهلنا وضع سراويلاتنا التي طبع الغبار عليها أثراً لجريمة التفتيش والبحث عن اللقى الثمينة من الكتب النادرة.
مرةً، كنت أمارس عادتي التي تتلازم مع تخايل أمل العثور على مفقود، في سقيفة مكتبة العباسية، تلك المكتبة القريبة من نهر بردى، والمفتوحة على الشارع الصاعد بإتجاه محطة الحجاز، لاأدري كم أمضيت في هذه الخلوة الغباريّة المحببّة، وعندما أشبعت فضولي التفتيشي، هبطت السلم الخشبي أحمل معي عدداً من الكتيبات التي حالت ألوانها من القدم والغبار، هبطت أزهو بما حملت ولا أتحرج من منظري الذي أصبح مألوفاً من صديقي صاحب المكتبة، ولكنني فوجئت بجلوس رجل مهيب الطلعة أشقر اللون، له كرشٌ وقورٌ، أدركت من ملاطفة صاحبي له أنه لابد أن يكون ذا مقام مميز في العلم.
انكمشت قليلاً وحاولت أن أخرج إلى الشارع لأطرد بعضاً.. من الغبار الذي خرج معي من السقيفة، قاطعني الرجل الوقور، بل وفاجأني وهو يستوقفني، لم يتركه صاحب المكتبة يباشرني الكلام، بل بادر هو على الفور، وعَّرف بي بعبارات لاتخلو من مبالغة في تقديري، ولكنه الدمشقي الذي اعتاد على التصّرف اللبق، ثمَّ شفع ذلك، وبطريقة السؤال، موجهاً الكلام لي:
-أنت، لابدَّ، تعرف الدكتور؟ الدكتور زكي زكي المحاسني. كنت سعيداً بهذه المصادفة الطّيبة، فللأساتذة، في أيامنا، تقديرٌ أتمنى أن يكون مازال لأساتذة هذه الأيام مثله في نفوس طلاّب العلم.
انحنيت، وأنا أخبىء تلوّثي بتجمع كفيّ على بعضهما، وبدوت كبوذيّ مؤمن في معبد،ولم أتلكأ:الدكتور محاسني؟ كيف لايعرفه أمثالي، صحيح لم اتشرَّف بشخصيته في قاعات القسم، لكنني أعرفه جيَداً من خلال كتبه، أعرف أفكاره وأسلوبه وآراءه.. كيف أكون طالباً في قسم العربّية، ولاأعرف أمثاله..
سُّر الدكتور محاسني وربما أحسَّ بعزاء طيّب، وقد أصبح في مرحلة التقاعد،وبدا صاحب المكتبة، هوالآخر، مفاجأً، واهتَّزت أريحية الدكتور، وفاجأني بما أشار إلى صاحب المكتبة، وقال بما يشبه اللوم له:
لماذا لم تُهدِ الأستاذ كتابي؟.. ((الله الله..أأنا أستاذ وفي حضرة الدكتور محاسني؟))
-عفواً دكتور.. هذا كثيرٌ.. أرجوك..
-لا، إنَّ من يفعل فعلك لابدَّ أن يصبح أستاذاً.. أنا واثقٌ يابني ((قال رحمه الله)). للحظة لم يدرِ السيد تحسين ماذا يفعل.. أقصد صاحب المكتبة.. لم يتركه الدكتور لتردّده وحرجه:
كتابي عن أبي نواس، ناولني نسخة.
استدار السيد تحسين، وجال ببصره على الرفوف، ثمَّ توجه إلى رفٍّ خلفي، واستلَّ كتاباً صغيراً غلافه خفيف وبلون واحد.. قدمه للدكتور..
-كتاب صغير في حجمه، متواضعٌ في طباعته.. ربمَّا أنت تفكر في ذلك، ومعك الحَّق ،لكن تعرفُ.. هذا الكتاب الذي تراه الآن كلّفني كثيراً، لاأقصد كلفة الطباعة.. لا هي زهيدة. لكنه جرَّ عليّ عداوات، وطوّل عليَّ ألسنة، ورتّبَ عليَّ اتهامات، تستغرب؟ لقد كنت أول أستاذ في الجامعات العربية يقرر دراسة الشاعرابن هاني، أي نعم يابنيّ، نحن عانينا أيضاً، هذا الشاعر الماجن الداعر السكيّر يستأهل أن يقدم للأجيال؟ هكذا كان المسؤولون في القسم يناقشون اقتراحي تدريسه.. كانوايرون في إشاعة شعره وسيرته مفسدةً للجيل، ويرون ترشيحه للقسم لايليق بمثلي.. قد يأتي ذلك من مستشرق، وهؤلاء المستشرقون مقاصدهم معروفة، وأقلها إفساد ذائقاتنا الفنية وزعزعة أخلاقيا تنا... هكذا هكذا...
لم أسعد هذا اليوم بمعرفتي الشخصية، فقط، بالدكتور محاسني، ومثلي كان يعدُّ ذلك حظاً طيباً، بل اكتسبت درساً سيكون له أثرٌ في تحصيني إزاء الصعوبات التي اعترضت اختياراتي، وهي لاتلقى قبولاً من الآخرين.ومع ذلك. لم يشأ الدكتور محاسني أن يشرّفني بتقديم كتابه لي هكذا، بل أخرج قلمه من جيب سترته البيضاء الصيفية، وأخذ يخطُ كلماتٍ، ولكن لاعلى الصفحة الأولى البيضاء من الكتاب.. بل على باطن الغلاف الأوّل.. هذا دعاني لتساؤل داخلي لم أكن قد صادفت كتاباً يهدى، ويكتب الإهداء في هذا الموضع.. لماذا؟
-تعجب! لكتابتي الإهداء، هنا، وأشار إلى باطن الغلاف الأوّل. كان يقرأ أفكاري، ولكني أجبت لاعلى المشهد هذا، بل اهتبلتُ
الفرصة لأردَّ جميلاً:
- أنا يا أستاذي خجولٌ لأنك تكتب لي على كتابك إهداء، فمن أنا حتى على الأستاذ المحاسني أن يصفني بهذه الكلمات التي لا أستحقها..
- لا، دعك من هذا.. فأنا أحببتُك.. ولكن لتعلم أنَّ ما فعلته جاء بعد خبرة في هذا المجال: تهدي لمن تحبُّ، ولمن تتوقع أنّه يستحقُّ، فتفاجأ بكتابك ملقىً على الشارع بين كتب الأرصفة وقد نزعت القطعة الورقية الصغيرة التي عبرت عليها عن حبّك وعلاقتك بالمهدى إليه.
ولهذا أنا الآن أكتب على الغلاف.. عرفت الآن ماوراء الذي فعلت؟
بعد حوالي عشرين سنةً، وقد أصبحت أستاذاً كما توقع المحاسني طيب الله ثراه.. بل، وأصبحت كاتباً، بعد أن أصبت بعدوى صناعة الكتب، وما أكثر أمثال هؤلاء الصناع اليوم!
عندما أعددت كتابي الأول في منتصف الثمانينيات، ووصلتني النسخ التي منحتنيها المؤسسة الناشرة اندفعت أوزع على زملائي من الكتاب، وممن أقدِّرهم من القّراء..
كان الكتاب قد طيع على نفقة مؤسسة إعلامية أرادت يوماً أن تتظاهر بأنها معنية بالتآليف المحلية، ولا مجال لمناقشة مقاصدها وتعليل توقفها عن هذا الغرض الذي أعلنته... فليست هذه الخاطرة تتسع للفضائح. وزعت النسخ التي خصصتها لي المؤسسة على من توقعت أنهم على الأقل سيجاملونني بقراءة هذا الكتاب الأول فوجئت أني قد وزعت آخر نسخة كانت في حوزتي. لم أشأ أن أشتري من المؤسسة نسخاً أخرى فهي لم تولِ كتبها التي طبعتها ودفعت مكافأتها اهتماماً توزيعياً, ولم تعبأ بذلك وفي ظني أنها تعفنت في المستودعات أو أتلفت شأنها شأن أوراق الطباعة الأخرى التي تتلف بالأطنان..
لم أر الكتاب في مكتبة, ولم أصادفه في معرضِ لكتاب, ولكنني وأنا أزور هذا المعرض الدائم في المدينة - حمص صدمتني رؤية كتابي فيه. هي نسخة و حيدة لماذا وحيدة؟! هل قررت المؤسسة أخيراً أن تتخلص من هذه الكتب التي تورطت بشرائها من مؤلفيها ؟ و إذا كان الأمر كذلك فلماذا هنا نسخة واحدة فقط؟ تناولت النسخة ومن غير أن أقلّبها فلماذا أفعل ما دمت أنا الذي أدرك عدد حروفها؟
نقدت مسؤول المعرض ثمن الكتاب وكان يومئذ زهيداً (20 ليرة) فقط وعندما وصلت المنزل وأنا أقلّب الاحتمالات حول مثول هذا الكتاب اليوم في معرض الكتب بحثت في مكتبتي له عن فراغ أودعه فيه وخطر لي أن أفتحه لأتأكد من سلامة تسلسل صفحاته فواجهتني في البداية كتابةٌ على الصفحة الأولى. إذاً هذا كتاب لأحدهم... ولم أبتعد أكثر في تخميناتي... ها هو خطي وهي كلماتي والمهدي إليه صاحبي وتذكرت: هذا الصاحب هو نفسه صاحب المعرض.. هكذا إذاً !
هو صاحب دارٍ للنشر وعلاقته بالنشر قائمة على الجانب الربحي التجاري. وعندما في اليوم التالي فاتحت ابنه وهو المسؤول عن البيع أمنته أن يبلغ أباه:
-لو كان (صاحبك) يعرف أن ما تحتاجه منه (عشرون ليرة) لكان أعطاك بطيب خاطر. وأوصيته أن يتحلى فالمعرض لا يبيع كتباً عليها إهداءات بالحبر الناشف. ومرة ثانية، بعد أكثر من عشر سنوات، واجهتني نسخة ثانية من الكتاب عينه، ولكن هذه المرة على الرصيف... لقد كان الصديق المهدى إليه، في هذه المصادفة، شاعراً. هالني الأمر، وقد تضمنت كلماتي كلمات الإهداء إشادة بالموهبة والخصوصية وبالعلاقة الطيبة معه.....
-لقد كانت كتب أخرى لصديقي الشاعر قد انتقلت إلى هذا الرصيف عرفتها من الاسم المثبت على التجليد الفني لمعظمها، لقد صفعت جبهتي عندما تذكرت أن هذا الصديق كان قد انتقل إلى جوار ربه منذ سنتين، والمسألة الآن لا تعدو أن تكون من قبيل أن الأبناء ليسوا ممن يطيقون بقاء الكتب في منازلهم، حتى لو كانت من رائحة الوالد الراحل. هذا تخمين فقط...
رحم الله الدكتور زكي المحاسني الذي كان يخشى على كتاب أهداه لصديق أن يصل إلى الأرصفة ولا أظن أنه كان لا يولي أهميةً لكتب الأرصفة بالمطلق, بل لعله يعرف أكثر مني أن كثيراً من الكتب النادرة وجدت على الأرصفة إما لأن طبعتها الوحيدة قد نفدت وإما أن الكتاب منع من الظهور لأمر آخر لا علاقة له بمعيار الأهمية.
أنا على المستوى الشخصي مدين لمصادفات الكتب الرصيفية التي عجزت أن أجد مثلها في المكتبات الشهيرة .
أ.سلمان اسماعيل
Comment