إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

آه منا نحن معشر الحمير..تأليف عزيز نيسن

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • آه منا نحن معشر الحمير..تأليف عزيز نيسن


    آه منا نحن معشر الحمير
    تأليف عزيز نيسن
    ترجمة جمال دورمش
    قصص قصيرة
    الناشر: دار الطليعة
    الطبعة الأولى 1994
    آه منا نحن معشر الحمير
    مدين لك بسعادتي
    القطة السعيدة
    من يأكل الحصرم ومن يضرس؟
    أكره التملق
    المفتاح
    العصابة
    البيت الحدودي
    كيف يجب أن يكون ريس البلدية؟
    الطنجرة ذات المزمار
    ش – ت – م – ق – ت
    تقبل الله
    كيف تم القبض على حمدي السمين
    ذئب علي بابا
    فرار يوم الزفاف

    آه منا نحن معشر الحمير
    كنا، نحن معشر الحمير، سابقاً نتحدث بلغة خاصة بنا، أسوة بكم معشر البشر، هذه اللغة كانت جميلة وغنية، ولها وقع موسيقي جذاب كنا نتكلم ونغني . لم نكن ننهق مثلما عليه الحال الآن. لأن النهيق بدأ عندنا فيما بعد، وتعلمون أن جميع حاجاتنا ورغباتنا وحتى عواطفنا، نعبر عنها الآن بالنهيق.
    ولكن ما هو النهيق؟ هاق، هاق.
    هو عبارة عن مقطعين صوتيين، أحدهما غليظ وثخين، والآخر رفيع، يصدران الواحد إثر الآخر.
    هذا هو النهيق.. الذي بقي في لغتنا ، لغة الحمرنة، لكن كيف تغيرت هذه اللغة حتى أصبحت بهذا الشكل؟
    ألا يهمك معرفة هذه الحكاية وكيف حدثت؟
    حسناً إذاً ، بما أنكم تهتمون بذلك، سأرويها لكم باختصار، لجم الخوف ألسنتنا وذهب بعقولنا ، وبسبب الخوف نسبنا للغتنا الحميرية.
    في غابر الزمان كان يلهو حمار هرم وحده في الغابة، يغني بعض الأغاني بلغة الحمير ويأكل الأعشاب الغضة الطرية، وبعد فترة من اللهو تناهت إلى منخريه رائحة ذئب قادم، من بعيد. رفع الحمار رأسه عالياً وعبّ الهواء ملء رئتيه وقال: لا يوجد رائحة ذئب، لا، لا ليست رائحة ذئب ، وتابع لهوه قافزاً من مكان إلى آخر، ولكن الرائحة أخذت تزداد كلما دنا الذئب أكثر. هذا يعني أن المنية تقترب.
    - قد لا يكون ذئباً، قد لا يكون، ولذلك حاول الحمار الهرم أن يطمئن نفسه، إلا أن الرائحة كانت تزداد باطراد، فلما ازداد الذئب اقتراباً، كانت فرائص الحمار ترتعد رعباً، ومع ذلك كان يحاول إقناع نفسه بأن القادم ليس ذئباً.
    - - إنه ليس ذئباً، إن شاء الله كذلك، ولم يكون كذلك؟ ومن أين سيأتي وماذا سيفعل؟ وهكذا ظل الحمار الهرم يخدع نفسه، حتى بات يسمع صوتاً غير مستحب، صوت دبيب الذئب القادم.
    - إنه ليس ذئباً، لا ليس صوت ذئب، ولا يمكن أن يكون كذلك، وماذا سيعمل الذئب هنا، ولمَ سيأتي؟؟؟
    ومع اقتراب الذئب أكثر فأكثر أخذ قلب الحمار يخفق وعيناه ترتجفان، وعندما حدّق عالياً صوب الجبل، رأى ذئباً مندفعاً مخلفاً وراءه سحباً من الغبار.
    - آه آه.. آه إنه ذئب، وكنت أحلم بذلك؟ قد يكون خيّل إليّ أن ما أراه ذئب أو كنت أحلم بذلك.
    وبعد فترة ليست طويلة رأى ذباً قادماً من بين الأشجار، مرة ثانية حاول أن يطمئن نفسه قائلاً:
    - أتمنى أن لا يكون ما أراه ذئباً، إن شاء الله لن يكون كذلك، ألم يجد هذا اللعين مكاناً آخر غير هذا المكان؟ لقد أصاب الوهن عيني، لذلك أخذت أرى هذا الشيء ذئباً قادماً.
    تقلصت المسافة بينه وبين الذئب حتى أصبحت خمسين متراً. أيضاً حاول طمأنة نفسه قائلاً:
    - إن شاء الله أن يكون ما أراه ليس ذئباً، قد يكون حملاً أو فيلاً أو أي شيء آخر. ولكن لمَ أرى كلّ شيء بهيئة ذئب؟
    - - أعرف تماماً أن ما أراه ليس ذئباً ، ولكن لمَ لا أبتعد قليلاً.
    أخذ الحمار الهرم يبتعد قليلاً ناظراً إلى الوراء، أما الذئب فقد اقترب منه فاغراً فاه.
    - حتى لو كان القادم ذئباً ماذا سيحصل... لا، لا لن يكون ذئباً، ولكن لم ترتعد فرائصي؟
    جهد الحمار الهرم أن تكون خطواته أسرع، حتى بات يركض بأقصى سرعة أمام الذئب المندفع.
    - آه كم أنا أحمق فقد صرت أظن القطّ ذئباً وأركض هكذا كالمعتوه، لا ليس ذئباً... زاد الحمار من سرعته حتى أخذت ساقاه ترتطمان ببطنه ومع ذلك استمر في خداع نفسه قائلاً:
    - حتى لو كان الذي أراه ذئباً ، فهو ليس كذلك، إن شاء الله لن يكون كذلك.
    نظر الحمار الهرم وراءه فرأى عيني الذئب تشعان وتطلقان سهاماً نارية، وتابع ركضه مطمئناً نفسه بقوله:
    - لا ، لا يمكن أن يكون ذئباً.
    نظر الحمار خلفه عندما شعر بأنف الذئب يلامس ظهره المبلل، فوجده فاغراً فمه فوق ظهره.
    حاول الركض إلا أنه لم يستطع ذلك لأن قواه خانته، فأصبح عاجزاً عن الحراك تحت ثقل الذئب، ولكي لا يراه فقد عمد على إغلاق عينيه وقال:
    - أعرف تماماً أنك لست ذئباً.
    لا تدغدغ مؤخرتي إني لا أحب مزاح اليد.
    غرز الذئب الجائع أسنانه في ظهر الحمار الهرم، ونهش منه قطعة كبيرة، ومن حلاوة الروح، كما يقولون، إرتبط لسان الحمار ونسي لغته.
    - آه آه إنه ذئب آه، هو آه هو .....
    تابع الذئب النهش من لحم الحمار الهرم ذي اللسان المربوط، حيث لا يصدر منه سوى آه هو ... هاق .... هاق.
    منذ ذاك اليوم نسينا أيها السادة ، ولم نستطع التعبير عن رغباتنا وأفكارنا إلا بالنهيق.
    ولو أن ذاك الحمار لم يخدع نفسه، لكنا نجيد الحديث بلغتنا إلى الآن. ولكن ماذا أقول آه منا نحن معشر الحمير.. هاق ... هاق ...
    **

    مدين لك بسعادتي
    - لقد تعرفت على فتاة رائعة الجمال يا صديقي.
    - هل هي جميلة؟
    - ماذا تقول!!... انظر إلى صورتها كم هي رائعة الجمال.
    - حقاً إنها جميلة جداً.... ولكن حافظ عليها ولا تفرط بها.
    - نعم ، نعم لن أفرط بها.
    - وهل أظهرت لك مودتها؟.
    - أحياناً...
    - إذاً حاول أن تستحوذ على قلبها.
    - حسناً سأحاول إظهار جلّ براعتي في هذا المجال.

    ***
    - ما هي أخبارك يا صديقي، وهل من جديد؟
    - والله، كل شيء على ما يرام، فكما قلت لك سابقاً لقد تعرفت على فتاة رائعة الجمال.
    - ايهـ ـههههيه ؟
    - أحبها يا صاحبي، أحبها بجنون ولا أستطيع الابتعاد عنها، والعيش بدونها ضرب من المستحيل، تصور أن أوار حبها يتأجج في قلبي.
    - وهل هي تحبك أيضاً؟
    - لا أدري!....
    - إذاً حاول أن تجد إلى قلبها سبيلاً.
    - وكيف ذلك؟
    - كما تعلم يا صديقي فإني أمتلك التجربة في هذه المضمار. وذلك، حاول أن تغرقها بالهدايا خاصة بالزهور، فالنساء كما تعلم يعشقن الزهور، خاصة القرنفل الأحمر، كذلك حدثها بشكل دائم عن ذكائك الرفيع.

    ***
    - لا أدري كيف أعبر لك عن شكري وامتناني.
    - ماذا حصل؟
    - كأنك يا عزيزي تعرف تماماً كل رغباتها، لقد نفذت وصفتك كاملة، ولذلك أخذت تنظر إليّ نظرة حب ومودة. بربك قل لي وماذا أفعل بعد ذلك؟.
    - حاول أن تأخذها إلى دور السينما ولكن، إياك والأفلام الجادة، حاول أن تكون الأفلام تراجيدية أو كوميدية أو موسيقية... وعندما تخرجان من دار السينما عرّجا على بائع المرطبات، وحاول أن تدعيها لتناول البوظة بالكريمة. كذلك أن تقتني في جيبك قطعاً من الشوكولا.
    - ذهبنا البارحة إلى دار السينما ، وهناك أعطيتها قطعة الشوكولا، لقد فرحت كثيراً وبعد انتهاء عرض الفيلم عرّجنا على بائع المرطبات وتناولنا البوظة بالكريمة ـ إنك ذو ذوق رفيع ـ سنحاول الذهاب في نهاية هذا الأسبوع إلى منطقة بعيدة وجميلة، لذلك ما هي نصيحتك بهذا الخصوص؟
    - أستطيع القول، حسب تجربتي الشخصية.. أن أفضل منطقة هي "بويوك اذا" (الجزيرة الكبيرة) هناك حاولا التجوال على ظهور الحمير، إجلسا على الشاطئ، وارقصا، ولكن انتبه ، إياك ومراقصة الأخريات.
    - آخ يا صاحبي!!.... لو أستطيع إستحواذ قلبها.
    - ستنجح في ذلك لا محال. إذا نفذت كل ما أقوله لك.
    - ولكن لا أعرف كيف أعبر لك عن شكري الجزيل.
    - أستغفر الله، ما هذا الكلام يا صاحبي، أنا لم أفعل شيء سوى أنني أحاول نقل تجربتي الخاصة كي تستفيد منها.

    ***
    - قالت إنها متزوجة لذلك فإن جميع مشاويرنا كانت ناجحة.
    - ولكن لم تقل لي... هل تحب زوجها؟
    - لا... على العكس فهي تنعت زوجها بالأبله كالحمار، وبالجلف الذي لا يعرف التعامل معها.
    - مسكينة هذه المرأة، ولكن لمَ لا تنفصل عنه؟
    - لقد لمحت ذات مرة قائلة "لو أستطيع الاعتماد عليك لانفصلت عن زوجي" ولا أدري ما العمل؟.
    - لا تتركها، حاول أن تكون صديقها الصدوق، والمعين الوفي.
    - ماذا حصل، وما فعلتما؟
    - لا تسألني يا صاحبي... إلى الآن لم أستطع الحصول على قبلة واحدة منها، إنها خجولة جداً، ولكني واثق من حبها لي.
    - حاول أن تستمر بإغراقها في الهدايا، ولا تنسى العطور الفاخرة والنوع "سكاندال" (الفضيحة). كذلك يجب أن تهديها أقمشة ذات لون سماوي أو أزرق.
    - وإذا عرف زوجها بالأمر فما العمل؟!...
    - ومن أين سيعرف، أليست هي القائلة بأن زوجها رجل معتوه وأحمق؟ وإذا كنت ترغب في أن أذهب معك لشراء الأقمشة فلا مانع لدي.
    - حسناً يا صديقي، وبأقصى سرعة إن أمكن.
    - ما هي الأخبار؟.
    - سارة جداً يا عزيزي.
    - هل تعلم بأنها فرحت كثيراً عندما أهديتها زجاجة العطر، وقالت أنه عطرها المفضل، وعندما رأت القماش... تصوّر يا عزيزي بأنها كانت ستفقد صوابها من شدة الفرح، ولكن إلى الآن ما زلنا كالمراهقين.
    - حاول أن تقرأ لها بعضاً من أشعار يحيى كمال. وقل لها بأنك راغب في الزواج فيما لو انفصلت عن زوجها.

    ***
    - ما بك يا صديقي، منذ فترة طويلة لم ألتق بك، أين أنت؟
    - مشاغل الحياة يا صاحبي! إن تلك المرأة انفصلت عن زوجها.
    - وهل ستتزوجها؟
    - بالطبع ولم لا؟؟؟
    - ولكن لا تضيع الفرصة، هيا أسرع بزواجك منها قبل أن يطرأ على علاقتكما أي جديد.

    ***
    - لا أعرف كيف أعبر لك عن شكري وامتناني؟.
    - لقد تزوجنا البارحة وبذلك أكون مدين لك بسعادتي.
    - وأنا بدوري لا أدري كيف أردّ لك جميلك، فأنا مدين لك بسعادتي لأنني انفصلت عن زوجتي.

    **

    القطة السعيدة
    إلتقينا مجموعة من الأصدقاء والمعارف في حفل افتتاح معرض للفنون الخزفية الذي أقامته إحدى فناناتنا المشهورات.
    ساد اللقاء جو من الحديث الشيّق والحار، هذا يناقش صديقه، وذاك يعاتب صاحبه وهكذا.. أثناء ذلك تقدمت فنانة أخرى قائلة:
    يا أولاد ، البارحة حلمت حلماً...
    قاطعها أحد الشعراء:
    أكان مزعجاً؟
    لا أدري، لكن أما من أحد يفسر حلمي؟
    وراحت تلك الفنانة تحدثنا عن حلمها.
    - كنت سائرة بين مجموعة من الأشخاص، هذا ذاهب إلى عمله وذاك عائد منه، أما أنا فقد كنت هناك، كما أسلفت ، ذاهبة إلى مكان ما، وفجأة سمعت صوت أحدهم يقول:
    - _ أنا ....!!
    استدار الجميع إلى مصدر الصوت. بينما راح صاحبه يتابع ما بدأ به:
    - أقول لكم ليقف كل في مكانه.
    فوقفنا جميعاً.
    سألها أحد النحاتين:
    ولم وقفتم؟.
    ردت عليه الفنانة قائلة:
    ومن أين لي أن أعرف، المهم وقفنا، ألم أقل لك مجرد حلم.
    تابع صاحب ذاك الصوت قائلاً:
    والآن ليرسم كل منكم دائرة بالطباشير حول نفسه.
    فظهر بيد البعض قطع من الطباشير ورسم كل منهم دائرة حول نفسه.
    لكن أحد المتواجدين هناك استفسر قائلاً:
    ليس لديّ طبشورة ماذا عساي أن أفعل؟.
    أجابه ذلك الرجل:
    من ليس لديه طبشورة ليرسم بقلمه.
    راح البعض يرسم دائرته بقلم رصاص والآخر بالمداد الجاف أ, السائل. بحثت ملياً في حقيبة يدي، علّي أجد قلماً ولكن عبثاً، ولحسن الحظ لم أكن الوحيدة في ذلك، حيث ظهر عدة أشخاص لا يملكون أقلاماً.
    لا أدري ما سبب الخوف الذي تسلل في أعماقي حتى رحت أرتجف وترتعد أوصالي، أحد أقراني ممن ليس لديه قلم سأل صاحب ذاك الصوت:
    ليس لدينا أقلام، ما العمل؟
    ردّ عليه قائلاً:
    - من ليس لديه قلم ليرسم دائرته بنفسه.
    وضعت كعب قدمي كمركز فرجار ورحت أدور حول نفسي راسمة دائرتي المطلوبة. أحد الحضور سأل فنانتنا:
    - ولمّ رسمت الدائرة؟
    - ما هذا السؤال! ألم أقل لك أنه مجرد حلم.
    تدخل ممثل آخر بالحديث قائلاً:
    إن الأحلام عادة لا تتسم بالواقعية.
    وهكذا دبّ النقاش بين الحضور حول واقعية الأحلام.
    وفي النهاية توصلنا إلى نتيجة مفادها أن الأحلام ليست منطقية ولا واقعية.
    بعدما رسم الجميع دوائرهم، طلب صاحب ذاك الصوت عدم مغادرتها، وبالفعل تجاوب الجميع للأوامر. وبذلك أصبحنا أسيري دوائرنا.
    سألها أحد الشعراء:
    - ألم تستطيعوا الخروج من هذه الدوائر إطلاقاً؟
    ردت عليه قائلة:
    - لا، لم نستطع الخروج بتاتاً.
    - ولماذا؟
    - يا أخي ممنوع، ممنوع الخروج من الدوائر، ممنوع ألا تفهم؟.
    عاود أحد النحاتين وسألها:
    - حسناً فهمنا أنه ممنوع، ولكن لماذا؟
    إستشاطت الفنانة غضباً إلا أنها كبتت غيظها وقالت:
    - يا روحي ألم أقل لكم أنه مجرد حلم.
    - أهناك أسباب ومسببات في الأحلام.
    هكذا بقينا داخل دوائرنا.
    - حسناً ولكن ليس لديك دائرة؟.
    - ألم أرسمها على الهواء؟
    - لكنها ليست مرئية، وحدودها ليست واضحة.
    - لم أستطع الخروج منها، ولكن كيف؟ لا أدري!
    - لم لا تخرجي من دائرتك وما المانع؟
    - لأنه لا أحد يخرج من دائرته كي أتشجع وأخرج بدوري.
    - ولم؟
    - آه (أمان يا ربي)، لم لم لم ألم أقل لكم أنه مجرد حلم.
    - آه نعم.
    رغبتي كانت جامحة للخروج...
    لو أستطيع مدّ إصبعي كي تمحوا ما رسمته، حاولت ذلك لكن صراخ صاحب ذاك الصوت زلزل أحشائي ـ لا أحد يمحو دائرته ـ وهكذا أصبحت أسيرة دائرتي.
    ولكن ـ قال أحد الممثلين ـ منذ البداية كان عليك أن لا ترسمي تلك الدائرة.
    - أنت محق بذلك، ولكن عزائي أنني لست الوحيدة حبيسة دائرتها.
    لقد أشفقت كثيراً على ذلك الشاب المشلول، سمعته يقول عشرون عاماً وأنا طريح الفراش لا أستطيع الحراك، أما الآن وبعد احتباسي داخل هذه الدائرة، تولدت في أعماقي رغبة راحت تمزقني وتدفعني للخروج من هذه الدائرة. ولكن كيف سنخرج، ونحن لا نستطيع الحراك؟.
    كما قلت لحظة إنغلاقي داخل هذه الدائرة اللعينة، شعرت بأنني قادر على الخروج مشياً، بل قولي راكضاً، ولو يسمح لنا إزالة هذه الدائرة.
    إلتفت إلى الوراء وإذ بي أمام امرأة نائمة، نظرت إليها بإمعان وجدتها بلا روح، نعم بلا روح، ولكن الغريب بالأمر أنها تتكلم وتقول: آه لو تُمسح هذه الدوائر لخرجت وتفسحت قليلاً.
    سألتها:
    - أيعقل هذا، أنت ميتة وتتكلمين؟
    - ردّت عليّ قائلة:
    - منذ أن فارقت الحياة ماتت في أعماقي رغبتي في القيام بالزيارات، لكن منذ أن حبست داخل هذه الدائرة عادت هذه الرغبة تتفجر في أعماقي من جديد، آه لو لم أكن أسيرة دائرتي لاستطعت المسير والزيارات مثلكم أيها الأحياء.
    التفت ثانية إلى الأمام وإذا بي بشاب مفلوج يقول:
    - آه لو يخرج أحدهم ويزيل خطوط دائرتي ويخرجني من هنا ويخلصني من هذا البلاء.
    قلت له:
    - أنت مفلوج ولا تستطيع الحراك، كيف رسمت هذه الدائرة؟
    أجابني قائلاً:
    - نعم معك حق، أنا لم أرسم دائرتي بيدي، بل برأسي ، وإن ما قمت برسمه لم يكن سوى مشروع دائرة.
    جميعنا هنا محتجزون داخل دوائرنا، رسمناها بأيدينا أو بأقلامنا وحتى برؤوسنا ولا نستطيع الخروج منها، وبذلك نقف عاجزين أمام دوائرنا.
    بعد فترة إحتباس داخل دوائرنا، راحت تتغير العبارات، وتصبح على الشكل التالي:
    آه لو يأتي أحدهم ويمسح دوائرنا، ويخلصنا منها، وهكذا راحت الأصوات تتعالى:
    آه لو يأتي أحدهم وينقلنا، آه لو يأتي أحدهم وينشلنا من دوائرنا.
    وباعتبار أن الجميع كان يردد هذه العبارات، لذلك رحت بدوري أردد أثناء ذلك راح الليل ينسج خيوطه المظلمة ويلقيها علينا.
    - آه سأفقد عقلي أما من منقذ ينقذنا؟
    فجأة صدر صوت جديد وبنبرة جديدة:
    "آه لو يخرج أحدهم من دائرته لخرجت مباشرة"
    وهكذا رحنا نردد نفس العبارة، راحت الأصوات تتعالى "ليخرج ذاك الشخص كائناً من كان".
    ولكن رغم جميع الأصوات لم يخرج هذا (الأحدهم)، وقال: أنا هو الذي تبحثون عنه.
    غطت الظلمة جميع أصقاع المنطقة ونحن ما زلنا محتبسين رهن دوائرنا.
    في تلك الأثناء راحت قطة ذات عينين براقتين تصول وتجول بين دوائرنا، لا أحد يردّها أو يقول لها من أنت وإلى أين ذاهبة؟
    قلت بيني وبين نفسي، آه لو كنت قطة ما أسعد هذه القطة.
    راح الجميع يحسد القطة على حريتها.
    كم هي ذكية هذه القطة، وكأنها عرفت ما يجول في أعماقنا، لذلك راحت تعاكسنا غير آبهة بأحد.
    إنزعجت كثيراً من هذه القطة، وعلى أثر ذلك فتحت عينيّ، وإذ بي سابحة في بحر من العرق. وبعد أن أنهت فنانتنا حديثها عن حلمها قالت:
    - والآن أما من أحد يفسر حلمي.
    حاول أحد الكتاب التظاهر بالمعرفة إذ قال:
    - عندما لا يستطيع المرء أن ينجح بسلك سلوك الإنسان، يحاول أن يهتم بسعادة القطط، على كلّ سأقوم بكتابة كل ما تحدثت به.
    تدخلت تلك الفنانة منزعجة.
    - ولم ستكتب؟.
    تدخل النحات قائلاً:
    - قد يجد أحد القراء في نفسه الكفاءة، ويلقي بنفسه خارج دائرته، وبذلك يظهر هذا الأحدهم الذي كنتم تبحثون عنه وتخرجون من دوائركم.

    **

    من يأكل الحصرم ومن يضرس؟
    مرّ بجميع مكاتب التشغيل بلا استثناء، والرد الوحيد دائماً "دع عنوانك وسنخبرك عند اللزوم". عند عودته إلى البيت، وفي كل مرة كانت زوجته تقابله بسؤالها المعهود والممل: هل وجدت عملاً؟
    ولكن، في هذه الأيام، أن تجد نقوداً في الطرقات أهون من أن تجد عملاً. وكثيراً ما كانت زوجته ترخي العنان لقنابلها الثقيلة:
    - لم أر رجلاً مهملاً وأحمق، وعديم الثقة بنفسه مثلك.
    - وعدني أحد الأصدقاء بأن يساعدني غداً.
    - وبماذا سيساعدك؟ هاه!
    - لإيجاد عمل يا حياتي.
    لقد خلقت الزوجة من هذا الرجل الملاك أكبر كذاب.
    - وأي عمل هذا؟
    - عمل رائع، وعال العال.
    - فهمنا، ولكن ما العمل؟
    - العمل يقوم به المرء بقدميه وهو جالس في مكانه!
    - وأيّ عمل هذا الذي تتفصح به؟!
    - نعم.. العمل على مكنة الخياطة.
    - وكم سيدفع لك؟
    - ثلاث مائة ليرة.
    استفساراتهم وحديثهم السفسطائي والخالي من الطعم كثيراً ما كان يستمر لساعات طويلة.
    في اليوم التالي سألته زوجته:
    هل بدأت العمل؟
    - ذهبت .. ولكن لسوء الحظ فقد توفيت زوجته، الله يرحمها... وتأجل الموعد إلى يوم الأربعاء.
    الأربعاء.... الخميس.... وتتتالى الألاعيب والأكاذيب لا تنتهي.
    وذات يوم طفح الكيل، كما يقولون، فهددته زوجته:
    - تعلمت على الكسل، لذلك إن لم تجد عملاً، فوالله العظيم لن أدخلك هذا البيت.
    في ذات اليوم وضع عنوانه في أربعة خمسة مكاتب. وفي المساء عاد إلى المنزل فراح يطرق الباب بطرقات سريعة صائحاً بأعلى صوته..
    - البشارة ... البشارة يا زوجتي؟ تهانينا، وجدت عملاً وبدأت به مباشرةً.
    فتحت الزوجة الباب سعيدةً بزوجها وهو بدوره راح يحدثها عن هذا العمل بل أخذ يجمله بنظرها لدرجة بات يصدق ما يقول:
    - هيا يا عزيزي نم باكراً، كي لا تتأخر صباح الغد.
    وفي الصباح شيعت الزوجة بعلها متمنية له الخير والنجاح، أما هو فقد أخذ يتسكع باحثاً عن عمل في الشوارع والحدائق. وعند المساء عاد إلى البيت وراح يصرخ ويهدد مثل كل الرجال. استمرت هذه الحياة المليئة بالأمل لمدة خمسة وعشرين يوماً. ولكن المسكين راح يضطرب أكثر فأكثر مع دنو موعد قبض الراتب.
    كان قد أبلغ زوجته بأنه سيقبض ثلاثمائة ليرة لذلك كانت تخطط في سبل صرف المبلغ المحترم.
    قال لها:
    - خذي الأولاد، واذهبي إلى أمك، وفي أول الشهر تعودين!
    حملت المسكينة أولادها ميممة شطر أمها دون أن تنبس ببنت شفة.
    أما الرجل النشيط فقد اتخذ قراره في السرقة، عاين الشقة التي سيدخلها.
    في الليلة الأخيرة من الشهر.. أخذ يتجول حول البناء المذكور، لحظات وانطفأت الأنوار في الشقة المستهدفة، وفي الطابق الثاني كانت الأسرة صاحبة الشقة معتادة على الخروج من المنزل في مثل هذا الوقت، إما إلى السينما أو للسهر عند الجوار.
    خطة رائعة، وحظ أروع، إذ كان يستطيع الدخول دون وجل، دار خلف البناء، لم يكن هناك من أحد، تسلق جدار الحديقة المنخفض ، تمسك بحديد النافذة السفلية. ثم تسلق ماسورة المياه، وبهذا الشكل لم يكن الصعود إلى الشرفة صعباً. ما هذا القدر حتى باب الشرفة كان مفتوحاً! دخل الشقة بجرأة وكأنه مالكها، أنارها! مسح أغراضها بعينيه مستطلعاً الموجودات، لم تكن الشقة تحوي أغراضاً غير صالحة للسرقة، ففي البوفيه وداخل العلب المذهبة كانت الفناجين النفيسة. وكانت الخزائن مليئة بالملابس الفاخرة. مدّ يده مباشرة إلى جيب الجاكيت وسحب حقيبة النقود المنتفخة والمليئة، وتجمدت عيناه عندما وجدها مليئة برزم من ذات الخمسين والمئة، لذلك لم يكن بحاجة للاستمرار باحثاً في غرفة النوم. سحب ثلاثمائة ليرة فقط وجلس إلى الطاولة كاتباً:
    "سيدي العزيز:
    دخلت شقتكم بقصد السرقة، كنت بأمس الحاجة إلى ثلاثمائة ليرة، صدقاً سأعيد المبلغ حال توفره لدي."
    وضع القصاصة وخرج من الشقة بسهولة مثلما دخلها، وبذلك سيتخلص من لسان زوجته شهراً وسينام مرتاحاً لأول مرة منذ فترة طويلة.
    إقترب من منزله فوجد الضوء مناراً، استغرب كثيراً فزوجته في بيت أهلها، ربما عادت! حسناً سيلقي المبلغ في وجهها ويصرخ كي يثبت رجولته. فتح الباب فجأة أشهر في وجهه المسدس:
    - إرفع يديك!!!
    بينما اقترب منه شخص آخر قائلاً:
    - ولك ! أي إنسان أنت؟ أما فكرت أن لصاً سيدخل بيتك يوماً ما! نحن هنا منذ ساعتين ولم نعثر على شيء ألا تخجل!!!
    فتشوه فوجدوا المبلغ في جيبه أخذوه وانصرفوا.
    أشرقت الشمس والرجل يفكر بالأكاذيب التي يمكن أن تنطلي على زوجته، طرق الباب، قد يكون الطارق زوجته، فتح الباب وفرائصه ترتعد رعباً، لكن المفاجأة كانت كبيرة إذ برجلي شرطة ممسكين باللصين! إلتمعت عيناه من الفرح... سأله الشرطي:
    - النقود لك؟
    شيء ما تحرق في جوفه، كيف لا وهو السارق أيضاً.
    - إن هذين الأحمقين إعترفا أنهما دخلا منزلك وأخذا النقود بالقوة.
    إذاً هذه النقود أصبحت من نصيبه ونصيب زوجته.
    - ولكن من أين حصلت على هذه النقود؟
    صعق الرجل وتغيرت سحنته من هول ما سمع.
    ... إذاً عرفوا أنه سارق أيضاً.
    - إن النقود التي بحوزتك مزيفة يا أفندي.
    تهاوى الرجل في مكانه إثر قول الشرطي.
    طلب منه الشرطي أن يرافقهم إلى المخفر.

    **

    أكره التملق
    دخل إلى المركز الصحفي الذي أعمل فيه، وكنا يومها بحدود تسعة صحفيين وكانت المرة الأولى لذلك لم أعرفه، ومما زاد استغرابي أن جميع أصدقائي هبّوا واقفين، لذلك وبشكل لا شعوري وقفت. نكزني أحد أصدقائي قائلاً:
    - هيه إنتبه إنه كاظم بيك!
    ارتعبت كثيراً حتى ظننت أن قلبي هوى إلى ركبتي، كيف لا؟!! وهو ذاك المليونير الذي يملك الملايين، عدا عن ذلك فهو صاحب هذا المكتب الصحفي...
    - اجلسوا...!... صرخ كاظم بيك بأعلى صوته.
    جلس الجميع إستجابة لأوامره عدا شوقي أفندي ظلّ واقفاً، فمن الجدير ذكره أن شوقي أفندي هو رئيس التحرير.
    - هيا إجلس فأنا لا أحب التملق.
    - على رأسي يا بيك، لنجلس إذا كانت هذه رغبتكم.
    إلا أنه ظل واقفاً كالقصبة، والأنكى من ذلك أنه ضمّ كلتا يديه فوق بطنه ولوى عنقه على كتفه.
    من المعروف عن كاظم بيك كرهه الشديد للتملق والمتملقين /برافو/ أحييه على هذا الموقف الرائع.
    تفرست في وجه شوقي أفندي دون أن يشعر بي لأنه كان منشغلاً بتحريك عنقه الملوي مبدياً إعجابه بكلمات كاظم بيك، لم يكتف بذلك، بل راح يكرر كلماته المعهودة، "نعم هذا واجب مقدس على كل واحد منا".
    صرخ كاظم بيك وبأعلى صوته:
    - هيا اجلس في مكانك..؟
    - نعم يا سيدي سأجلس وأنفذ كل ما تأمرون به.
    لكن هذا الصفيق بقي واقفاً ولم يجلس.
    ما هذه الصفاقة والوقاحة! كاظم بيك يأمره بالجلوس ويقول له إنه لا يحب التملق والمداهنة بينما هذا يقف حانياً عنقه على كتفه مردداً نعم يا سيدي وأمرك يا سيدي، ولكن ، آخ لو كنت بجانبه لدققت عظامه وصرخت في وجهه بأعلى صوتي:
    - لم لا تجلس أيها المعتوه...
    غضب كاظم بيك من هذا الموقف وصرخ ثانية..
    - لم لا تجلس أنا لا أحب التملق ولا حتى المتملقين، هيا اجلس وتابع عملك!...
    مرة أخرى راح يكرر نفس العبارات "على رأسي يا سيدي، تأمر أمر أجلس" وكذلك ظل واقفاً دون حراك.
    شده كاظم بيك من هذا الموقف حتى أنه لم يستطع الحديث إلينا ولا حتى الانصراف لقد لجمه تصرف هذا المعتوه وما كان إلا أن يغير طريقة تعامله مع شوقي أفندي، وبذلك راح يحدثه بكل لطف ومودة.
    - لم لا تجلسون يا عزيزي، تفضلوا بالجلوس يا صديقي، أرجوكم اجلسوا ولا تزعجوا أنفسكم.
    أجابه شوقي:
    - أستغفر الله يا سيدي، عذابكم راحة لي يا سيدي، أتمنى أن لا أقصر أمام شخصكم الكريم.
    لم يستطع كاظم بيك تحمل هذا الموقف وما كان منه إلا أن أطلق ضحكة مجلجلة ملؤها التهكم والسخرية وقال له:
    - إسمكم الكريم شوقي أليس كذلك!!!
    - نعم يا سيدي. أستغفر الله يا سيدي، أرجوكم يا سيدي، لم أفعل شيئاً بعد.
    تأجج الغيظ في داخلي وراحت رغبة عارمة تمزقني وتدفعني كي أصفعه على وجهه وأمسكه من خناقه وأرفعه وألقيه في مكانه. كثيراً ما كان أصدقائي يحدثوني عن شخصية شوقي أفندي هذا، والجدير بالذكر أنني حديث العهد في هذا المكتب ولم يمض على تعييني أكثر من شهر.
    - لم لا تجلس يا أخي!...
    - أستغفر الله يا سيدي، إن الجلوس يسيء الأدب لشخصكم الكريم، لذا أستميحكم عذراً بالسماح لي بالوقوف لأنه يريحني ويجلب السعادة والطمأنينة إلى قلبي.
    كان شوقي أفندي يستجدي كاظم بيك بالسماح له بالوقوف بصوت أقرب ما يكون إلى البكاء وعندما لم يتمكن كاظم بيك من إجلاسه إستدار نحونا وقال:
    - أنا لا أحب التملق ولا المتملقين، أفهمتم؟! إسمعوا جيداً ، عندما أدخل ثانية لا تقفوا لي فهذا يزعجني، فمن الأجدر بكم متابعة العمل.
    استدار وخرج من الغرفة غاضباً.
    تبعه شوقي أفندي مردداً ديباجته التي باتت معهودة للجميع: "نعم يا سيدي على رأسي يا سيدي".
    في فرصة الغداء راح كريم يعبّر لي عن إستيائه وتذمره من شوقي أفندي.
    - يوه، كم هو متملق! فأنا لم أصادف بحياتي متملقاً مثل هذا ولا حتى سمعت عن ذلك.
    - يوه ه ه ... لا تقل ذلك، صحيح أن مجد التملق الشرقي قد ولّى دون رجعة ولكن هذا لا ينفي عدم وجود تملق غربي أوربي.
    من المعرف عنه، بأنه يبدأ بحديثه بشكل دائم، بأنه لا يحب التملق والمداهنة إنك لا تعرف ماهية التملق الغربي، وإلا لعرفت الفرق بين التملق الغربي والشرقي.
    على كل إنسان وخاصة الأغنياء جمع عدد من المتملقين حولهم، مسكين كاظم بيك يملك كل هذه الأموال والبيوت، والعزب، والسيارات، والزوجات والعشيقات، ومع ذلك تجده بائساً لا يحب الحياة لماذا؟ لأنه لم يستطع جمع عدد من المتملقين، عندما تسمعه يقول:
    "لا أحب التملق" فإنه يقصد بأنه لم يستطع العثور ولا على واحد منهم، إنني أحزن عليه كثيراً مسكين كاظم بيك، قل لي ماذا تعمل السكرتيرات لدى الأغنياء في أمريكا، بالطبع يتملقن لكن، على الطريقة الغربية.
    - لقد أثبت لي يا كريم بأنك ضليع في علم التملق.
    - نعم ، لقد تعرفت على علومه وتبحرت في فلسفته ، وقريباً إن شاء الله ستسمع أشياء كثيرة... وبالفعل لم يمض على حديثنا هذا فترة طويلة حتى ارتفع راتبه وأصبح بحدود ـ ثلاثمائة ليرة عليما أن أجره الشهري كان مثل أجري بحدود المائتين لأنه بدأ العمل قبلي بثلاثة أشهر.
    لقد أدت هذه الزيادة غير الطبيعية إلى ضجة وبلبلة وسخط بين أوساط العاملين القدامى والذين تجاوزت خدمة البعض منهم السنتين.
    ليثرثروا ما شاء لهم فإن راتبه إرتفع إلى الأربعمائة ليرة أي أنه يساوي خمسمائة ليرة، وعيّن رئيساً للمكتب، بينما أصبح شوقي معاوناً له، لم يعد كريم كما كان ، فمجيئه إلى العمل كان نادراً، مرة في الأٍسبوع أو مرتين، فيما بعد إرتفع راتبه إلى سبعمائة وخمسين ليرة، هكذا كان يزداد راتبه وبذلك تزداد الهوة في علاقتنا، بينما راح الأصدقاء في المكتب يطلقون عليه لقب البيك، وبالأخص صاحبنا رئيس المكتب السابق ـ شوقي بيك فقد كان يقف أمام كريم مزرراً جاكيته ومردداً ـ "يا سيدنا شخصكم الكريم."
    راح كريم بمرافقة كاظم بيك في سفراته الياوروية، وذات مرة إرتفع راتبه إلى الألفي ليرة بعد عودتهما. وبعد فترة أخرى إلى خمسة آلاف ، والغريب في الأمر أن لا أحد يعرف طبيعة عمله، البعض يقول إنه معاون كاظم بيك والآخر يقول إنه سكرتيره أو وكيل أعماله. ولكن المعروف للجميع أنه كان ينوب عن كاظم أثناء غيابه.
    صديقي كريم والذي أعرفه تماماً ـ شخص لا يتسم بأية سمة غريبة، لا ذكاء خارق ولا ديناميكية غير طبيعية ولا حتى مكانة علمية ـ شخصية كانت غير مفهومة بتاتاً وحتى أنها غامضة ولم يفهمها أحد سواي، لأنني أعرف تماماً كيف صعد السلم الوظيفي، وكيف تسلم مناصب عدة كل هذا تم عبر التملق الغربي. لكنني لم أتعرف على كنه هذا التملق، لكن فيما بعد تعلمت أبجديته، تماماً، كاظم بيك، غني جداً كما أسلفت، يملك خمس أو ست مؤسسات ومن بينها المكتب الذي أعمل فيه.
    ذات يوم وبمناسبة مرور عقدين على تأسيس المكتب قدم لكل واحد منا مكافأة بحدود أجر شهر، كذلك أقام حفلة ساهرة في أفخم فنادق المنطقة.
    في هذه الأمسية بالذات تعرفت على سر نجاح كريم، وكيف استطاع إستيعاب مبادئ التملق الغربي.
    جلس كريم بجانب كاظم بيك، إذ كان لا يبعد عني فبيني وبينه ثلاثة أشخاص لذلك كنت أسمع حديثهما بشكل جيد، أو بالأحرى أتقصد سماعهما بشكل جيد، في نفس الوقت كنت أراقب تصرفات وسلوك كريم أفندي، عندما وقف كاظم بيك كي يشرب بصحة الحاضرين، أمسكه من يده وقال:
    - لا يجوز!... إنه مضر بصحتك.
    - لا، لا يهم، أجابه كاظم أفندي، قدح واحد فقط.
    رد عليه كريم بقسوة وعجرفة:
    - لا يجوز يعني لا يجوز، وإذا كنت راغباً بذلك، إشرب، فلن أكون مسؤولاً بعد ذلك عن صحتك.
    أعاد كاظم بيك القدح وتكوم في كرسيه ثانية، وبعد هنيهة قال:
    - الجو حار جداً في هذه القاعة الخانقة، هيا إفتحوا النافذة..
    قفز متملقنا الشرقي نحو النافذة إلا أن صراخ كريم جمد الدم في عروقه.
    "لا تفتح النافذة!!"
    وإلتفت بعد ذلك صوب كاظم بيك قائلاً:
    - ماذا تفعل؟... والله أنت كالأطفال لقد عرقت يا روحي ولا يجوز أن تتعرض إلى لفحة هواء وإلا ستمرض.
    رد عليه كاظم بيك:
    - لا ، لم أعرق.
    - كيف لم تعرق، وهل أنا لا أعرف ذلك.
    هكذا عدل كاظم بيك عن فتح النافذة بتناول كوب ماء، مدّ يده كي يكلأ الكوب وإذ بكريم يؤنبه أشد تأنيب.
    - آه ه ه ه ! أجننت يا كاظم بيك؟.
    - لا، لا شيء أرغب بشرب كأس ماء..
    إلتفت كريم أفندي يمنة ويسرة وكأنه يستطلع شيئاًُ ما وبعدها قال:
    - الله. الله. ما هذا التصرف، لمّ لمْ تقل لي أنك راغب بكأس ماء؟
    غارسون كأس ماء بسرعة...
    كريم أفندي هذا، كان يحاول بكل السبل لجم حركة كاظم بيك، أما كاظم بيك فكان يستمع إلى توجيهاته وهو مطأطئ الرأس، حتى أنه في بعض الأحيان يتدلع كطفل صغير.
    - أرجوك يا كريم أفندي، أرغب في شرب قدح واحد فقط.
    - ألم أقل لك يا روحي يا عيني لا يجوز ألا فكرت بصحتك.
    كريم أفندي كان متناقض المواقف فقبل لحظات رفض أن نفتح النافذة والآن يقول لكاظم بيك:
    - الجو خانق هنا والحرارة عالية، أليس كذلك يا كاظم بيك؟
    - يوه ه ه .. لا لست متضايقاً من شيء.
    - نعم أنت متضايق فأنا أعلم بذلك، هيا افتحوا النافذة.
    إرتمى متملقنا الشرقي نحو النافذة كي يفتحها مردداً عبارته التملقية والتي إعتدنا عليها.
    - تأمرون يا سيدي.
    استشاط كاظم بيك غضباً من هذا التصرف وصرخ فيه:
    - دع النافذة ، النادل هو الذي سيفتحها.
    - على رأسي يا سيدي، تأمرون، سأجلس لا تغضبوا يا سيدي.
    إلتفت كاظم بيك نحو كريم وسأله عن إمكانية تدخينه سيجاراً واحداً فقط.
    أجابه كريم:
    - السيجار يجر سيجاراً، وأنت اليوم دخنت أربع لفافات، كم طلبت منك ألا ترتدي هذه البذّة البنية في مناسبات رسمية كهذه، والله "نبت الشعر على لساني" كم أنت عديم الذوق، والله لو أبتعد عنك لمدة دقيقة واحدة فقط لقمت بحماقات جمة.
    أجابه كاظم بيك بلهجة طفولية مدلعنة:
    - لقد نسيت.
    التفت كريم إلى الحضور وقال لهم:
    - كاظم بيك مثل الطفل، أنتم لا تعرفونه.
    تدخل متملقنا الشرقي قائلاً:
    - أمان يا ربي، ما هذا الكلام أستغفر الله، استشاط كاظم بيك غضباً وصرخ فيه:
    أيها المتملق، نعم أنا مثل الطفل ولو لم يكن كريم بيك وعنايته الفائقة لكنت فارقت الحياة منذ فترات طويلة. نظر كريم إلى ساعة يده وقال:
    - هيا يا كاظم بيك لقد حان موعد النوم.
    أجابه كاظم بيك لاوياً عنقه:
    - لنجلس قليلاً يا كريم.
    - لا يجوز لقد أصبحت التاسعة والنصف وكي نصل البيت نحتاج إلى نصف ساعة على أقل تقدير، هذا يعني أننا تأخرنا ويجب أن تكون في سريرك الساعة العاشرة.
    وعندما همّا بالذهاب أمسك كريم أفندي القدح كي يدلق بمحتوياته في جوفه ، عند ذلك لم أتمالك أعصابي وصرخت به:
    - ما هذا؟.. ماذا تفعل هاه؟!! إنني أراقبك هذا القدح الخامس إنك لا تعير صحتك الاهتمام الكافي هيا ضع القدح. أخذ كريم يتزلف لي قائلاً:
    - هذا القدح فقط أرجوك.
    - سأسمح لك هذه المرة، ولكن إياك والتكرار، وضع يده على كتفي وسحبني جانباً وقال:
    - برافو لقد استطعت التمييز بين التملق الشرقي والغربي، كم من الدروس التي يجب استخلاصها عن كثب، تصور أننا لا نجيد حتى التملق الغربي كم راتبك الشهري؟
    - مئتان وخمسون ليرة.
    - حسناً إعتبره خمسمائة ليرة، وغداً ستصبح رئيس قسم، وشوقي هذا سيصبح معاوناً لك.
    في هذه الأثناء دنا شوقي من الباب وأخذ يتملق كاظم بيك هذا كعادته، "الله يطيل عمرك، كم كنا ذوي حظ وفير بمشاركتنا لمائدتك."
    صرخت به:
    - إبتعد عن طريقي أيها المتملق، لقد أهنت التملق. هيّا ابتعد حتى لا تراك عيناي.

    **

    البيت الحدودي
    كان ذلك في اليوم الثاني من انتقالنا إلى المنزل الجديد، إذ استوقفني شيخ هرم يقطن في الجانب الأيمن من بيتنا قائلاً:
    - ليتكم لم تستأجروا هذا المنزل؟...
    استغربت كثيراً حديث هذا الكهل فرددت عليه قائلاً:
    - عندما يسكن المرء في منزل جديد يقول له الجيران "منزل مبارك"، فماذا تقصد بهذه التمنيات الغريبة؟
    لم يهتم جاري بما قلت، بل تابع حديثه الفظ:
    - تقتضي علاقة الجوار أن أرشدك وأنصحك بالابتعاد عن هذا المنزل لأنه مقصد للصوص.
    - ولمَ منزلنا بالذات دون جميع المنازل الأخرى، هاه؟.
    تركته يثرثر بكلماته واتجهت صوب البقال كي أشتري علية سجائر فقد أستطيع أن ألجم جام غضبي، وهناك سألني البقال عن سبب غضبي، قلت له: بقرب منزلنا يسكن رجل هرم وخرف، قال لي بينما كنت أمر من أمام منزله أن بيتنا مقصد للصوص وكان علينا أن لا نستأجره، بربك قل لي أليست هذه الحماقة بعينها.
    أجابني البقال:
    - نعم جارك محق في ذلك وهو يريد أن يعلمك بوضع المنزل، فعلاً كان من الأفضل أن لا تستأجروا هذا المنزل بالذات.
    انزعجت من البقال كثيراً، فلم أنتظر حتى يتم حديثه، فخرجت مباشرة وبقيت يومي معكر المزاج.
    في المساء أتى لزيارتنا جارنا القاطن في الجانب الأيسر من بيتنا، واستمرت سهرتنا حتى منتصف الليل ، وعندما هم بالانصراف قال لي:
    - منزلك مبارك إن شاء الله، ولكن يجب أن تكون على بينة من أمرك، إن هذا البيت مقصد للصوص.
    لاحظت زوجتي مدى غيظي وحنقي، فحاولت أن تخفف عني قائلة:
    - أوه ـ وه ، ألا تدري أن أصحاب المنزل لديهم ألف حيلة وحيلة كي يدفعوا المستأجر للإخلاء، ولعل هذه الحيلة واحدة منها، هدفهم إدخال الرعب في قلوبنا وبذلك نخلي المنزل وهم بدورهم يعملون على تأجيره لأحد أقاربهم أو أصحابهم.
    .... بهذه الكلمات استطاعت زوجتي أن تهدئ من روعي.
    لقد وترت هذه الحادثة أعصابي حتى إنني بقيت فترة طويلة أحاول أن أغفو ولكن دون جدوى، ثم غفوت، كم دام ذلك لا أدري كل ما أعرفه أنني استيقظت على صوت خربشة غير طبيعية، سحبت المسدس من تحت الوسادة وقفزت في الظلمة الحالكة وأنا أصرخ بصوت عالي...
    - لا تتحرك من مكانك وإلا أطلقت النار.
    ولكن المصيبة التي اعترضتني تتجلى بعدم معرفتي مكان مفتاح الضوء، أخذت أتحسس جدران غرفة النوم، لكن كل جهودي باءت بالفشل، وبينما كنت أ‘مل جاهداً في سبيل إيجاد المفتاح وإذ بقدمي ترتطم وأسقط على الأرض والمسدس يسقط من يدي، ولكن كيف سقطت وبماذا تعثرت قدمي. قهقه اللص بصوت مرتفع وأجش، فارتعبت كثيراً من شدة صوته، لملمت شتات شجاعتي المتبقية وقلت له:
    - "ولك" دعني أراك إذا كنت رجلاً ولا تظن أنني خائف منك.
    أجابني قائلاً:
    - من المؤكد أنك تبحث عن مفتاح الضوء، لا يهم جميعكم هكذا، ولست أولهم.
    صرخت بأعلى صوتي علّني أستطيع إخافته.
    - "ولك" مع من تورطت ماذا سأفعل بك هاه؟.
    - لا ، لا، لا أ‘رف، ولكن إذا كنت بحاجة لمساعدتي ، إسمح لي كي أنير لك الغرفة.
    - تك....
    وإذا بالنور يعم جميع أرجاء الغرفة، أما أنا فقد كنت منبطحاً تحت الطاولة وزوجتي كانت مختبئة تحت السرير. أما اللص فقد كان طويلاً جداً فلو وقفت على قدمي لما أدخلت الرعب إلى قلبه.
    ولذلك قلت بيني وبين نفسي الوسيلة الوحيدة هي أن أصرخ بصوت خشن وقوي:
    - "ولك" من أنت؟.
    أجابني:
    - لص.
    - قلت:
    - لا، لن تستطيع إرهابنا، ولم نترك المنزل ولن نتركه وأنت لست بلص.
    أجاب:
    - الآن ستعرف إن كنت لصاً أم لا.
    - أخذ ذاك اللص يالتجوال داخل المنزل وكأنه يعرف كل تضاريسه ويعبث بأغراضه يقلبها ويرميها حيث يشاء، أما الحاجات التي تعجبه فكان يجمعها في مكان واحد كي يأخذها.
    وفي أثناء ذلك قال لي:
    - حسناً، ما فعلتم، إذاً خصصتم هذه الغرفة للنوم، لكن المستأجر السابق خصصها للجلوس، كذلك الذي قبله.
    قلت له:
    أظن أنك نسيت ، وأنت تسرق حاجياتنا أنني سأقدم شكوى ضدك.
    أجابني لامبالياً حتى أنه لم يكلف نفسه عناء رفع رأسه:
    - إفعل ما تشاء ولكن لا تنسى بأن تبلغهم تحياتي.
    - بالتأكيد سأقدم شكوى ضدك ولكن كل ما أخشاه أن تنتهز الفرصة وتهرب.
    - لا، لن أهرب.
    - أقسم لك بأنك ستهرب بعد ما جمعت ما جمعته، لذلك سأربطك . وفيما بعد أستطيع الذهاب مطمئناً إلى مخفر الشرطة.
    تجمع الجوار على صوت هرجنا ومرجنا ودخلوا المنزل دون أن يعيروا ما جرى أدنى اهتمام، بل الأنكى من ذلك أن بعضهم أخذ يتهامس.
    - لص آخر دخل المنزل.
    - آه ه ه .. نعم لص، هيا لنتعرف عليه. بعض الجوار استطاع التعرف عليه مباشرة لذلك بدأ السؤال عن حاله وأحواله.
    طلبت من الجوار مساعدتي:
    - ساعدوني يا إخوان كي أربطه بالحبل، وأذهب إلى مركز الشرطة وأتقدم بشكوى ضده.
    أجابني اللص:
    والله أنتم أحرار في أن تتقدموا بشكوى ضدي، ولكن ما أود أن أقوله هو لا تتعبوا أنفسكم.
    جلبت زوجتي الحبال المخصصة لنشر الغسيل وأخذنا نشده إلى الكرسي، كل هذا دون أن يمانع وبعدها أوصدنا الباب واتجهنا إلى مخفر الشرطة. وهناك سألنا الضابط عن موقع المنزل وعندما أبلغته عن المكان قال:
    - هاه _ _ _ اه !! ... إذاً ذاك المنزل؟
    قلت له:
    - نعم ذاك المنزل.
    أجاب:
    - نأسف عن التدخل لأن منزلكم لا يقع ضمن البقعة الجغرافية المسؤولين عنها.
    - حسناً وما العمل؟ وهل قمنا بربطه عبثاً؟.
    أجاب:
    - لو سكنتم في المنزل المجاور لكنا على أتم الاستعداد لتقديم كل المساعدات الضرورية، إن منزلكم هذا يقع ضمن صلاحيات البوليس.
    لقد كان مركز البوليس بعيداً نوعاً ما لذلك لم نصل إليه إلا مع انبثاق الشفق.
    وهناك سألني الضابط المسؤول عن موقع المنزل. وعندما أجبت عن مكان البيت قال:
    - ها ه ه ه ..!!! ذاك المنزل؟.
    قلت له:
    - نعم ذاك المنزل.
    أجاب:
    - أخ لو كان منزلكم هو المنزل المجاور لكنت قدمت المساعدة الضرورية، ولكن مع الأسف منزلكم هذا خارج حدود صلاحياتنا.
    تدخلت زوجتي بالحديث قائلة:
    - واه ، واه وماذا سنفعل بذاك الذي ربطناه.
    سألت الضابط:
    - حسناً وماذا باستطاعتنا أن نفعل؟ أرشدنا بالله عليك.
    أجابني مشكوراً:
    - منزلكم يقع ضمن حدود صلاحيات الجندرمة.
    اقترحت زوجتي الذهاب إلى البيت خشية أن يصاب ذاك الرجل بمكروه أو قد يكون فارق الحياة وبذلك نكون قد ارتكبنا جناية القتل.
    دخلنا المنزل فوجدناه جالساً بمكانه:
    سألته:
    - كيف الحال؟
    - جيد، ولكني جائع جداً.
    جهزت زوجتي مائدة الطعام لكن للأسف لم يكن اللص يحب "البامياء" لذلك ذهبت إلى القصاب وجلبت له قطعة لحم "بفتيك" وحضرتها وقدمتها للص. وبعد ذلك خرجنا متوجهين نحو مركز الجندرمة وعندما وصلنا إلى هناك شرحت الموقف للضابط إلا أنه استغرب وقال:
    - هاه ه ه !! إذاً ذاك المنزل.
    - وكأن جميع الجهات الأمنية تعرف قصة منزلنا.
    - إن بيتكم لا يقع ضمن حدود صلاحياتنا بل بقع ضمن حدود صلاحيات البوليس.
    قلت له مستغرباً:
    - عجباً يا سيدي! أيعقل ذلك؟! لقد ذهبنا إلى مركز البوليس وقالوا أن منزلنا يقع ضمن حدود صلاحياتكم. وأنتم تقولوا العكس! لكنه يقع ضمن صلاحيات جهة ما دون ريب.
    أخرج ضابط الجندرمة الخارطة من خزانته الحديدية وبسطها على المنضدة وقال:
    - انظر... ولكن هل تفهما بالخارطة؟
    هذا الرقم (140) يدل على السهل وهذا (208) يدل على التلة، من هنا تمر حدود صلاحياتنا الادارية، ولو كان منزلكم أبعد بمترين فقط نحو الغرب لوقع ضمن حدود صلاحياتنا.
    قلت له راجياً:
    - يا عيني، يا روحي كل هذا من أجل مترين؟
    ماذا سيحصل لو غضضتم البصر قليلاً؟ أجابني:
    - ماذا سيحصل هاه؟ أنتم لا تعرفون ماذا سيحصل ولكن نحن نعرف تماماً.
    إنظر هنا، هذا موقع المنزل، إنه يقع تماماً على الخط الفاصل بين حدود صلاحياتنا وحدود صلاحيات البوليس، هل فهمتما؟ يعني أن حديقة المنزل ضمن صلاحياتنا ولكن عملية السرقة كما شرحتم تمت في غرفة النوم.
    لم يكن أمامنا إلا التوجه ثانية إلى مركز البوليس، ولكن طلبت زوجتي الذهاب إلى المنزل أولاً للاطمئنان على اللص.
    سألته عندما وصلنا:
    - كيف حالك؟
    - عطشان، إسقوني...
    وبعد أن شرب الماء وأطفأ ظمأه قال:
    - سأرفع عليكم دعوى حجز حرية وهذا ليس من حقكم.
    قلت له:
    - حسناً يا أخي ولكن ماذا بوسعنا أن نفعل إذا كان بيتنا يقع على الخط الحدودي.
    - أجيبه!.
    أطلق اللص تنهيدة طويلة وأردف قائلاً:
    ألم أقل لكم منذ البداية اتركوني وشأني. سأرفع عليكم دعوى وأجرجركم في المحاكم . قلت له:
    - اصبر علينا قليلاً، بالله عليك ساعدنا هذه المرة كي نذهب إلى مركز البوليس مرة أخرى.
    - إذا كنتما راغبان بالذهاب فعليكما بذلك، ولكنني أعرف هذا الشيء أكثر منكما. في البداية يجب إتخاذ القرار اللازم حول تبعية هذا المنزل أو تغيير حدود المنطقة كلها. وعند ذلك يلي ضرب...
    ذهبنا إلى مركز البوليس ثانية وهناك بسط الضابط الخارطة على الطاولة وقال:
    هذه حدود صلاحيات الجندرمة يعني أن الحديقة تابعة لهم،.... أي أن قسم من المنزل يقع ضمن حدود صلاحياتنا الادارية.
    سررت كثيراً من حديث الضابط، لذلك قلت له على الفور:
    - إذاً غرفة النوم تابعة لكم، وهكذا فالمشكلة حصرت بمسؤوليتكم عنها أليس كذلك؟.
    - نعم، نعم ولكن هل لديك دليل أن السرقة تمت في غرفة النوم، وهل دخ اللص إلى غرفة النوم من الجو دون المرور بالحديقة، وكما تعلم فإن الحديقة تقع ضمن صلاحيات الجندرمة، هذه القضية ليست جديدة يا عزيزي والمسألة قيد الدارسة، وفيما بعد سنرى تبعية المنزل لأية جهة أمنية. وبعد ذلك سنقوم بإجراء اللازم.
    في أثناء عودتنا إلى المنزل استوقفني جاري الخرفان وسألني:
    - الحمد لله على سلامتكم، سمعت أن لصاً سطى على منزلكم.
    - نعم سطى.
    - ألم أقل لك أن هذا المنزل مقصد للصوص، ولا أحد يستطيع السكن فيه ولهذا السبب بالذات فأجرته رخيصة، حتى صاحب المنزل لا يستطيع السكن فيه، لذلك قرر أن يهدم قسماً من المنزل ويرجع مترين نحو الخلف، في هذه الأثناء ظهرت على الساحة واستأجرت البيت، وبذلك عدل عن فكرته.
    في أثناء حديثنا تدخلت زوجته قائلة:
    - الذنب ليس ذنبك، بل ذنب صاحب البيت فهو لا يحسب حساب الخط الحدودي، عندما قام ببناء المنزل، وهل يعقل أن يبني إنسان عاقل منزلاً كهذا؟
    ولكن وبما أننا دفعنا لصاحب المنزل سلفة لمدة عام فلن نخلي المنزل الآن.
    فككنا وثاق اللص وجلسنا سوياً لتناول العشاء، وبعد ذلك طلب اللص السماح له بالذهاب على أن يعود ثانية.
    لقد أصبح في منزلنا أربعة أو خمسة لصوص زوّار دائمين. وبتنا نقوم ببعض الأعمال المنزلية معاً كي لا يأتي إلينا لصوص آخرون.
    ولكن لا أدري ماذا سنفعل؟!
    إمّا أن نبقى هنا حتى نهاية العام، ونصبح في المنزل ثمانية أشخاص، أو نجد حلا لهذه المشكلة العويصة.
    ولعد انتهاء دراسة وضع المنزل سوف أرفع دعوى على هؤلاء اللصوص. ولكن مجرد التفكير بهذا الشيء معيب جداً بالنسبة لي كيف لا، وقد تناولنا الخبز والملح سويةً. لا، حتى لو تحملت كل المصاريف وحدي.

    **

    كيف يجب أن يكون رئيس البلدية
    تتم التحضيرات لانتخاب رئيس البلدية في إحدى المدن الصغيرة، ويتنافس فيها ممثلا أقوى حزبين، أما باقي المرشحين فقد كانوا خارج ظل المنافسة.
    لقد انتهت الحملات الدعائية التي كانت تجري في المحلات والمنازل والمقاهي ولم يبق سوى المقابلات المباشرة مع المتنافسين.
    بشير أفندي كان أحد المتنافسين، وهو الذي خدم في الجيش برتبة عالية وبعد ذلك عمل بصفة مدّع عام قرابة ثلاثين عاماً.
    أما المتنافس الآخر فهو البقّال كاظم أفندي، مختار المدينة منذ سنوات طويلة، رجل أميّ، يجيد القراءة قليلاً، والكتابة لا يجيدها إطلاقاً، أما حسابات دكان البقالة فكان يقوم بها من خلال مجموعة إشارات ومصطلحات وضعها لنفسه.
    ساحة المهرجان تقع مقابل مركز الحكومة في المدينة، حيث جهزت المنصة ووضع عليها إبريق ماء وكأس.
    وبما أن الأجواء السائدة بين الحزبين اللذين يمثلهما المتنافسان كانت جيدة، لذلك دخل بشير أفندي وكاظم متأبطاً كل منهما ذراع الآخر.
    تجمع أهالي المدينة والقرى المحيطة في الساحة. وبما أن بشير أفندي كان معروفاً من قبل الجميع فإنه كان على يقين تام من أنه سيصعد المنصة أولاً.
    فتقدم من كاظم أفندي قائلاً:
    - تفضل يا كاظم أفندي كي تلقي كلمتك أولاً.
    أجابه كاظم أفندي:
    - أستغفر الله ومن أنا حتى أصعد أولاً، تفضل واصعد يا بشير أفندي.
    استمر بشير أفندي كريس بلدية طيلة فترة ثلاث دورات متتالية وهذا ما جعله يتدلل قليلاً، إلا أنه صعد المنصة في نهاية المطاف، وبدأ كلمته مباشرة ودون أي اضطراب وهذا نابع من طبيعة عمله في محكمة المدينة سنوات طويلة.
    "أيها الأخوة المواطنون، كان لي الشرف إذ أنني كسبت ثقتكم العزيزة مدة ثلاث دورات ولكي أحافظ على هذه الثقة جهدت أن أكون أهلاً لهذه المهمة التي أوليتموني إياها والآن ونحن ندخل مرحلة إنتخابية جديدة لا أقول لكم إنتخبوني ولا أصر على ذلك، وما أود قوله أنني متعب جداً وفي نفس الوقت مشغول جداً ولديّ الأعمال الخاصة ولكنني رشحت نفسي ثانية خدمةً لمواطنيّ الأعزاء، ولهذا فالقرار قراركم في اختياري أو اختياره، رمق كاظم بيك بنظرة جانبية، ولكن عليّ توعيتكم فيما يتعلق بسمات رئيس البلدية، وسأقوم بذلك قدر طاقتي الشخصية.
    إن رئاسة البلدية مهمة شاقة ومرهقة لذلك يجب أن لا يكون رئيس البلدية هرماً، ولا يضع طقم أسنان _ كاظم أفندي كان أكبر من بشير أفندي بأربعة عشر عاماً أصلع الرأس ويضع طقم أسنان ـ يعني رئيس البلدية يجب أن يكون عمره بحدود الخمسين عاماً ـ بشير أفندي كان في الخمسين من العمر ـ إياكم أن تنتخبوا شخصاً لا يفقه شيئاً في القانون أو النظام فيعطل أعمالكم ـ في المدينة كلها لا يوجد غير بشير أفندي رجل قانون ـ أنا لا أقول إنتخبوني ولكن يجب أن تحسنوا الاختيار، لا تنتخبوا شخصاً لا يجيد القراءة والكتابة!. ولأن رئيس البلدية يذهب إلى كل مكان، يجب أن يكون بنطاله مكوي، إياكم أن تنتخبوا رجلاً لا يضع ربطة عنق، وإلا ستفقدون شرف مدينتنا وكرامتها ـ في المدينة كلها لم يكن سوى بشير أفندي من يرتدي بنطالاً مكوياً، ويضع ربطة عنق ـ إياكم أن تنتخبوا شخصاً يرتدي قبعة غير لباديّة، إياكم أن تنتخبوا شخصاً لا يعتمر قبعة لباديّة ـ خلع قبعته اللباديّة وعرضها على الحضور ـ وإلا ستهينوننا ـ في المدينة كلها لم يعتمر القبعة اللباديّة سواه ـ أنا لا أذع عليكم كي تنتخبوني ولكن عند اختياركم ريس البلدية يجب أن تكون سماته كما شرحت لكم."
    أخذ القرويون الذين ملؤوا الساحة يتهامسون عندما كان بشير أفندي ينزل من على المنصة:
    - نعم يقول الصدق.
    - إنه محق تماماً.
    بعد ذلك صعد كاظم أفندي المنصة وبدأ كلمته قائلاً:
    " بشير أفندي أوضح لكم كل شيء ـ مشيراً بيده نحو بشير أفندي ـ إن أنياب رئيس البلدية يجب أن تكون مغطاة بصفيح من الذهب ـ أنياب بشير أفندي كانت مغطاة بالذهب، تابع قوله مشيراً أيضاً بيده نحو بشير أفندي ـ ريس البلدية يجب أن يكون له عينان زرقاوان..."
    أما القرويون فقد كانوا يقهقهون بأعلى صوتهم ، تابع:
    "رئيس البلدية يجب أن يكون شخصاً أقف على يساره."
    استشاط بشير أفندي غيظاً وغضباً. تابع:
    "كذلك رئيس البلدية يجب أن يحمل مثل ذلك العكاز ويسند على أرنبة أنفه نظارتين."
    كان القرويون يقهقهون بشدة من حديث كاظم أفندي.
    "رئيس البلدية يجب أن يكون إسمه بشير.."
    نزل كاظم أفندي من على المنصة أما الحضور فكانوا لا يستطيعون التماسك من شدة الضحك. أما بشير أفندي فقد كان يقضم شاربيه بأسنانه من شدة الغيظ.
    استمر المهرجان الانتخابي في اليوم الثاني، أما الجماهير المحتشدة والتي زاد عددهم عن الضعفين، فانقسمت إلى قسمين، الالبية تقف إلى جانب بشير أفندي.
    تخلى بشير أفندي هذا عن المواقف اللينة لذلك راح ينشر الغسيل الوسخ لمنافسه. وهذا ما جعل الأحاديث كلها تدور حول أملاك كاظم أفندي.
    إعتلى بشير أفندي المنصة متوتراً من حديث البارحة ولذلك بدأ حديثه مباشرةً:
    "أيها المواطنون:
    إنني مجبر على الإفصاح عن جميع القضايا، هل هناك أحد لا يعرف ما قدمه كاظم أفندي طيلة فترة مخترته. عندما يزور مدينتنا أي ضيف كبير فإلى أين يذهب أولاً، من المؤكد أنه سيذهب إلى بيت المختار كاظم أفندي، ولكن لماذا؟ أنتم جميعاً تعرفون السبب. هل تذكرون ما جرى في العام الماضي عندما استضاف ثلاثة زوّار، هنا أشفقت على أمينة يومها! أليس هو الذي داعبها في البستان وترك زوّاره..."
    دبت همهمة واضحة بين القرويين:
    - صحيح تماماً.
    - نعم صحيح ما يقوله.
    "أيها المواطنون:
    هل تعلمون ماذا فعل بجلود الأغنام التي أخذها في عيد الأضحى الماضي؟ إن هذا الرجل الذي يود أن يصبح رئيساً للبلدية تزوج من أربع نساء بعقد غير قانوني. هل هناك من لا يعرف ذلك؟.."
    إرتفع صوت القرويين قليلاً:
    - حلال على الشاطر.
    "أيها المواطنون:
    كلكم يعرف تماماً أن هذا الرجل لم يكن يملك سوى دكان بقالة فقط قبل أن يصبح مختاراً ولكن خلال عشر سنوات كلكم تعرفون أنه يمتلك نصف هذه المدينة.."
    ارتفعت أصوات القرويين ثانيةً:
    - كم هو بارع هذا المختار.
    "أيها المواطنون:
    إن الحديث الذي أود قوله لم ينته بعد وهناك الكثير ولكن لا يجوز الاستمرار أكثر من ذلك، ولذلك أنتم أصحاب القرار في الاختيار."
    اعتلى كاظم أفندي المنصة بعد انتهاء التصفيق الحاد وبدأ خطابه:
    "صحيح تماماً كل ما قاله بشير أفندي إنه مدّع عام منذ ثلاثين عاماً ولكن لا يملك قطعة أرض صغيرة ولا حتى زوج ثيران!... إنه إنسان شريف جداً وإذا نزل عنده أي زائر فهو لا يملك مكاناً يجلسه فيه، أو سريراً ينام عليه. أما إذا كنتم تودون أن تعرفوا وضعي فأستطيع القول أنني لم أكن أملك أي شيء قبل أن أصبح مختاراً، أما الآن ولله الحمد فأملك قطعة أرض تبلغ مساحتها /250/ دونماً وقبعة لباديّة... لديه نظارتان وربطة عنق، أما أنا فإنسان أمّي لا أجيد القراءة ولا الكتابة. هذا ما رغبت في قوله وعليكم الاختيار".
    انتهى المهرجان الخطابي وتفرق الجميع، أما الإقتراع فسيبدأ بعد يومين.
    إجتمع أصدقاء المختار في بقاليته:
    - ماذا فعلت يا كاظم أفندي؟ ما هذا الكلام الذي قلته؟ لقد جعلت منه ملاكاً طاهراً، ولا يملك شيئاً وأنت تعرف تماماً أن لديه القدرة أن يزينك بالذهب.
    ضحك كاظم أفندي وقال:
    - لنر ماذا سيحصل في الانتخابات؟
    - ياهوه... ألم تكن لديك مائتا رأس ماشية، والدونمات الثلاثون التي ورثتها عن والدك، وزوج الثيران. ألم يكن لديك كل هذا قبل أن تصبح مختاراً، وأمينة التي أشفق عليها أليس هو الذي هتك عرضها.
    - هدئ من روعك.. لنر ماذا سيحصل في الانتخابات.
    إنتهت الانتخابات وتم فرز الأصوات. ولم يستطع بشير أفندي رئيس البلدية السابق الحصول على ربع الأصوات التي حصل عليها المختار. وهكذا أصبحت نتائج الانتخابات الشغل الشاغل لأهل المنطقة.
    - يلزمنا تعبيد الطريق وتمديد أنابيب المياه، كذلك يلزمنا بذار وماشية. بشير أفندي ماذا فعل طيلة هذه السنوات ماذا استفدنا من علمه، إنه إنسان غير ماهر.! أما المختار فهو رجل كبير لا شك ولا يستطيع عمل شيء، ولكنه إنسان مدبر.
    بعد تلك الانتخابات تغيرت أساليب الدعاية الانتخابية ولذلك أخذ المرشحون يعرفون أنفسهم على النحو التالي:
    "أيها المواطنون مائة رأس من الماشية، أربعة أزواج من الثيران، وأربع نساء، وخمسمائة دونم أرض، وكل أسبوع أداعب امرأة وأهتك عرضها، وببراعتي حصلت خلال شهر على كل ذلك."

    **

    تقبل الله
    في السادسة صباحاً مثلما عليه الحال في كل مرة، راح صاحب عمارة الأمل حمزة بيك ينادي، وهو يسعل سعالاً جافاً، البواب أمين أفندي، القاطن في القبو.
    - أمين أفندي، أمين أفندي.
    - أمين أفندي هذا يعمل بواباً في تلك العمارة منذ أربعة عشر عاماً، وبالإضافة لعمله الأصلي هنا، فقد كان الناطق الرسمي وصديقه القريب مستوعب آلامه، مدير أعماله، حتى عرّافه ، باختصار كان كل شيء بالنسبة له.
    - أمين أفندي، أمين أفندي.
    إتجه أمين أفندي، وهو ينظف حلقومه، باتجاه النافذة الخلفية حيث مصدر الصوت.
    - أتيت، أتيت.
    عمارة الأمل هذه مؤلفة من ستة طوابق وكل طابق من شقتين سكنيتين عدا الطابق الأرضي الذي يقع فوق القبو كان مؤلفاً من مخزنين تجاريين أحدهما لتجارة الأجواخ والآخر لصنع الفطائر. أما القبو، بالإضافة لكونه مكان سكن البواب فقد كان مستودعاً لحرّاقات التدفئة.
    - أمين أفندي، بينما كنت في حضرة الله أثناء صلاة الصبح.
    - تقبل الله.
    - هل تعلم ماذا تذكرت؟ فجأة تذكرت الشقة الرابعة، هل أخذت منهم أجرة هذا الشهر؟.
    - نعم أخذتها وسلمتك إياها البارحة.
    - نعم أعرف ذلك، ولكن أقصد الإجرة التي استلمتها هل كانت دون زيادة أم ماذا؟ تصور يا أمين أفندي أنني تذكرت ذلك فجأة عندما كنت أصلي، لقد طار صوابي، لا، لن أسمح بذلك. هيا يا أمين أفندي إلى المحامي وقل له... الله، الله... هل هؤلاء المستأجرين بلاء فوق رأسي؟ أستغفر الله!.. تصوّر أنهم يشغلون ذهني حتى أثناء الصلاة، اذهب إلى المحامي واطلب منه أن يخليهم من منزلي... إذهب حالاً وقل له أن يرفع دعوى مستعجلة عليهم.. عندما أخذت الأجرة منهم هل أعطيتهم وصلاً يشعر بذلك؟ حسناً قل للمحامي بأنهم لم يدفعوا إجرة البيت حتى لحظته. أوه ألا يستطيع المرء أن يجلس بين يدي ربه صافي البال، هيا يا أمين أفندي.
    - ولكن يا بيك لا يمكن أن يكون المحامي في مكتبه.
    - أيعقل هذا يا أمين أفندي؟ لقد انتصف النهار، عليه الحضور إلى مكتبه بعد صلاة الصبح مباشرةً... إذهب وانتظره هناك.
    - حسناً يا بيك، ولكن لم لا تتصل به هاتفياً.
    - ماذا تقول!... لا يجوز حل القضايا الجديّة والحساسة بالهاتف، هيا إذهب وقل له كل شيء هيا اذهب ولا تتكاسل، ما هؤلاء القوم لقد فقدوا دينهم وضميرهم، أستغفر الله يسكنون في شقة مكيّفة صيفاً شتاء وبألف وثمانمائة ليرة.
    أمين أفندي كان يعرف تماماً أنه لن يستخدم الهاتف ولن يدفع ليرة واحدة إجرة المخابرة حتى لو دفع أمين أفندي إجرة الطريق من جيبه الخاص. حمزة بيك هذا كان من أصحاب الملايين، لديه معمل يديره إبنه وحصص في مصرفين إثنين حيث أن حصته في الأول عشرون مليون ليرة وفي الآخر ثلاثة ملايين ونصف المليون من الليرات. بالإضافة إلى مصنع لإنتاج الصابون يديره حفيده. هذا ما عدا الشقق الكثيرة، خاصةً العمارة التي بناها العام الماضي، عمارة مثل المدينة ذات ثمان وعشرين شقة. هذا عدا عن سوق تجاري كامل في الطابق الأول.
    ذات يوم وبينما كان أمين أفندي يتناول طعام الغداء سمع طرقات متتالية على النافذة وبعدها سمع صوت يقول:
    - أمين أفندي، أمين أفندي.
    فتح الباب وإذ حمزة بيك هو الطارق:
    - تفضل يا بيك.
    - شكراً يا أمين أفندي، ولكن بينما كنت أصلي صلاة الظهر.
    - تقبل الله يا بيك.
    - هل تعلم ماذا خطر ببالي، تماماً وأنا في حالة السجود؟
    - ماذا يا بيك؟
    - في الصباح مررت بنيخو صاحب محل الفطائر تصوّر يا أمين أفندي أنه لا يستطيع تلبية طلبات الزبائن، مثل خلية النحل، تصوّر أن زوجته تساعده في المحل ولكن دون جدوى، كم إيراد المحل يومياً، أموال مثل الكشك، بالله عليك هل أنا على حق، أنا أحمق هاه؟ لا حول ولا قوة إلا بالله أستغفر الله، لا يجب أن أرفع الأجرة... هل إنتفت الأخلاق . إذهب وقل لنيخو، هذا الكافر، بأن أجرة المحل أصبحت واعتبارً من هذا الشهر ألفا ليرة، هل فهمت؟ قل له ذلك كي لا تدخل في متاهات المحاكم. كان سيفسد صلاتي هذا الكافر، لعنة الله عليك يا نيخو...
    حمزة بيك، وحسب البطاقة الشخصية، في الثانية والسبعين إلا أنه كان يحاول إظهار نفسه أكبر من ذلك كثيراً. يقول أنه في الخامسة والثمانين، ومنذ أن بلغ الخمسين عاماً راح يردد عبارة إحدى قدماي في القبر لأنه كان يفكر أن إطالة العمر يعني الوقار والاحترام.
    ذات يوم راح حمزة بيك، القاطن في الطابق السادس، يصرخ بأعلى صوته:
    - أمين أفندي...
    كان يصرخ على الرغم من وجود جرس كهربائي يصل ما بين شقته وبين أمين أفندي ولكن لم الجرس الكهربائي والتبذير؟.
    أطلّ أمين أفندي من نافذة بيته قائلاً:
    - أمرك يا بيك.
    - هيا اصعد إليّ.
    صعد أمين أفندي ستة طوابق مثل لمح البصر، بينما كان حمزة بيك في انتظاره.
    - يهو: يا أمين أفندي بينما كنت أصلي صلاة العصر... الله يتقبل مني... هل تعلم ماذا تذكرت؟...
    - يهو... ومن أين لي أن أعرف...؟
    - الله، الله... ألم أقل لك.. صبرك يا أيوب. ألا يستطيع المرء الوقوف بين يديه مرتاح البال... ماذا قلت لك؟... ألم أخبرك ما جرى للخط الكهربائي الذي ينير الدرج... هيا إذهب إلى جميع القاطنين واجمع من كل واحد خمس عشرة ليرة كي أصلح الخط... آه يا أمين أفندي كم هو رائع أنني تذكرت ذلك.. هل جمعت المبلغ أم نسيت مثل كل مرة؟ هيا اذهب إليهم واجمع منهم المبلغ المطلوب، أو قل لهم أن يبحثوا عن الشخص الذي خرب خط الإنارة كي يصلحه على نفقته... البدو... يسكنون بشقق فخمة مكيفة.. والله لم يبق سوى أن أوزع عليهم مصاريفهم اليومية... أستغفرك يا رب... أنت الوحيد يا ربي العارف بعذابي... قل لهم أن حمزة بيك لن يصلح التيار ما لم تدفعوا ما عليكم، هيا إذهب وقل لهم ذلك... إن الله مع الصابرين.
    ذات مرة أتى خادم حمزة بيك إلى بيت أمين يخبره بأن حمزة بيك بانتظاره، ولإنشغال أمين أفندي بحلاقة ذقنه، قل له أن البيك بانتظاره وعليك الصعود إليه بعد الانتهاء من حلاقة ذقنك.
    صعد أمين أفندي من فوره يستطلع الأمر قائلاً:
    - أمرك يا بيك لقد شغلت بالي.
    - يهوه يا أمين أفندي الله يتقبل صلاتي وبينما كنت أصلي صلاة العشاء فجأة هل تدري ماذا تذكرت؟.
    - ماذا يا بيك؟.
    - بعد الغداء مررت بصاحبنا كامل بيك صاحب مخزن تجارة الأجواخ وسألته عن أحوال العمل، أجابني جامد السوق، واقف لا بيع ولا شراء!.. ولك هل شظن أنني أحمقاً أو معتوهاً، أليس لديه غير هذا الرد، أوف لقد فقد الانسان مصداقيته وأمانته تصور، مخزنه مليء بشتى أنواع المنسوجات والأجواخ والرجل يشكو من قلة البيع والشراء هل تعلم لماذا يا أمين أفندي؟ يقول ذلك حتى لا أرفع إجرة المخزن، لا والله لن أدعه يسرقني. تصوّر يا أمين أفندي مخزن كبير بألفي ليرة، لا والله لن أدعه يخدعني هل فهمت؟ تصور كل ما أدخل إليه يدعو ربه كي لا يأتي إليه أحد حتى لا أراه يعمل، ولو دخل أي زبون كان يعتذر عن بيعه لعدم توفر المطلوب. إنهم بلا ضمير يا أمين أفندي بلا إيمان، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لقد ارتفع ضغط دمي ثانية.. آه يا أمين أفندي، ماذا أفعل مع هؤلاء المستأجرين، سيقتلوني.. تصور أنني أتذكرهم في حضرته عز وجل... هيا يا أمين أفندي. إذهب إليه وقل له: "طالما أنك تخسر في المخزن لمَ لا تخرج وتسلم المخزن ها؟" أنا لا أحب الضرر لأحد لأن إحدى قدماي في القبر... قل لعديم الضمير "كامل بيك" أن هناك من سيدفع 50 ألف ليرة فروغاً للمحل... وسلفة مقدمة عن عام بحدود خمسة آلاف ليرة، قل له أن يخلي المحل أو ستصبح الأجرة ثلاثة آلاف ليرة.
    اضطرب حمزة بيك وأخذ يصرخ بأعلى صوته سيقتلوني أنا الرجل العجوز ، ها قد بدأت بالرجفان هل سيدفعون لي ثمن الدواء فيما لو مرضت؟
    سمع أمين صوت الجرس الكهربائي بينما كان يهم بالدخول إلى غرفة النوم ومن المعروف أن الجرس الكهربائي كان يستخدم في الليل فقط لدعوته، لذلك إرتدى ثيابه وصعد مسرعاً كأنما لدغته أفعى.
    - أمين أفندي...
    - نعم يا بيك.
    - ليتقبل الله صلاتي، هل تعلم ماذا تذكرت في صلاة العشاء؟ عزيزي أمين لا تشغل جهاز التدفئة غداً. الطقس والحمد لله لم يعد بارداً. ما شاء الله سيكون فصل الصيف في هذا العام حاراً، لقد نظرت إلى التقويم وجدت أن طيور السنونو ستمر غداً من فوق بلادنا... لم التدفئة المركزية؟ حرام... سيحاسبنا الله على تبذيرنا سيسألني الله يوم القيامة يا عبدي لقد أرسلت لك طيور السنونو مبشرةً بقدوم فصل الصيف وأنت ما زلت تشغل جهاز التدفئة، حرام إن الله لا يحب المبذرين، لذلك لا تشغل جهاز التدفئة غداً فأنا أخاف الله، قل لهم لقد انتهى فصل الشتاء. أمين أفندي لقد سمعت أحوال الطقس من المذياع عندما كنت أصلي، لقد أذاعوا بأن سرعة الرياح ستكون طبيعية وأن درجة الحرارة ستتجاوز الخمس مئوية.
    أوف يا ربي ، المسألة مسألة نهب واحتيال، يدفعون مائتي ليرة مقابل تشغيل جهاز التدفئة وكأ،هم بذلك يريدون تشغيل التدفئة ليلاً نهاراً آه يا ربي ألهمني الصبر. آه آه... وحتى المياه الساخنة إقطعها عنهم، ومن لا يعجبه هذا الاجراء ليخرج من البيت، لأنني لا أجبر أحد على البقاء في بيتي. مثلما عليه الحال كل يوم طرق الباب:
    - أمين أفندي، أمين أفندي...
    أردف إثر هذا الصباح بمعزوفته اليومية والتي تتجلى بالسعال الجاف. فتح أمين أفندي الباب وهو يرتدي بنطاله:
    - تفضل يا بيك.
    ليتقبل الله صلاتي، بينما كنت بين يدي الله في صلاة الصبح، قلت في نفسي طالما أنهم يسكنون مرتاحي البال ها ه ه ه؟... خطرت ببالي فكرة، لمَ لا أعلن عن بيع البناء برمته، إعلان كاذب وهكذا سيتوافد الزبائن ليتفحصوا الشقق، ألن يدفعوا نقوداً مقابل شراء الشقق؟ لذا من حقهم تفحص ما يودون شراءه. من الطبيعي لن يأتي الزبون لوحده بل مع زوجته وأولاده ليشاطروه الرأي. أمين أفندي... سأعلن عن بيع البناء بأسعار متهاودة جداً كي أجلب الزبائن وهكذا سيتدفق الزبائن، وبذلك سيفتح قاطنو الشقق أبوابهم مرات عديدة، قل ثلاثين مرة على أقل تقدير يومياً كي يدخلوا ويتفحصوا ، نعم ثلاثون مرة سيدخلون ويخرجون، هل فهمت؟ وهكذا سنخرجهم من جلودهم طوال العام، سنعيشهم على القلق ما بين الاستقبال والوداع ولن يستطيعوا الإعراب عن إستيائهم لأن الشقق ملكي ومن حقي البيع والشراء.
    لقد أتعبوني يا أمين أفندي، لذلك علينا مضايقتهم كي يخرجوا من هنا؟ كيف؟ أليست فكرة ذكية هاه؟ وبذلك نرغمهم على الإخلاء وبشكل غير مباشر، فأنا يا أمين كما تعلم طيب القلب تصور يا أمين أن هذه الأفكار تراودني أثناء الصلاة.
    بينما كان أمين أفندي منهمكاً بمسح جدران الدرج صدفه حمزة بيك قادماً من الزقاق.
    - أمين أفندي، انظر واسمعني جيداً ها أنا ذا قادم من المسجد بعدما أديت صلاة الجمعة، الله يتقبل مني صلاتي، هل تعلم يا أمين أفندي ما تذكرت عندما كنت أصلي؟ لقد تذكرت أولئك القاطنين في الشقة الثامنة؟ لقد نسيت إخبارك بأن المياه تتسرب من عندهم طوال الليل، لقد خربوا ماسورة المياه إنهم سيهدمون عمارتي... فأنا إحدى قدماي في القبر.. لقد.. صلاة الجمعة بسببهم... أفهمت؟ هذه العمارة ليست ملك كفار، قل لهم أن حمزة بيك يرغب أن تدفعوا له أجرة سنوية سلفاً، سلفاً، هل فهمت... لأنك لن تجد هذه الأيام شقة يمئتي ليرة، تصور يا أمين أفندي أنهم خربوا الحديقة، آه منهم، إن ما فعلوه تعجز عنه قوات الاحتلال.
    - أمين أفندي، أمين أفندي.
    - نعم يا بيك.
    إنني قادم من صلاة العيد، الله يتقبل مني، لقد راودتني فكرة أثناء الصلاة ولكن ما هي يا ربي؟... آه لقد نسيت ما أود قوله... إن تصرفات أولئك المستأجرين ستزهق عقلي. آه شيئاً ما كنت أود إعلامك به تصوّر كنت في حالة الركوع عندما تذكرت ولكن ما هو...؟ لقد أخذوا عقلي... آه نعم لقد تذكرت، عندما كنت أصلي ، الله يتقبل مني، تذكرت أولئك القاطنين في الشقة الثالثة، خدعوني، تصور لقد قالوا بأن ليس لديهم أولاد، وإذ بهم يرزقون بولد بعد ثلاثة أشهر من سكنهم وهكذا في كل سنة، هذا ل يجوز يا أمين أفندي، قال الله إن الكذب ممنوع في الدين الاسلامي، آه يا أمين أفندي لقد تذكرت ذلك وأنا في حضرة الله، قل لهم أنني أمهلهم مدة شهر كي يجدوا شقة أخرى. إقطع عنهم الماء وتحجج لهم بأن المواسير مكسورة، ما هذا طفل في كل عام!.. وهل افتتحت بيتي داراً لحضانة الأطفال أن أعشاش لهم، أوف ألا يستطيع المرء أن يقف بين يدي الله مرتاحاً،أوف يا أمين أفندي حتى صباح هذا اليوم المبارك يشغلون تفكيري.
    صعد أمين أفندي الذي يعمل بواباً منذ أربع عشرة سنة إلى الشقة السادسة وقرع بابها، سأل الخادم...
    - أين البيك؟.
    - يصلي...
    دخل غرفة الانتظار وقال للخادم:
    - عندما ينهي صلاته أخبره بأنني هنا.
    بعد لحظات دخل حمزة بيك غرفة الانتظار وقال:
    - يا للمصادفة، كنت سأرسل خلفك لأقول لك منذ قليل بينما أنا بين يدي الله...
    رفع أمين أفندي يده مشيراً لحمزة بيك بالتوقف عن الكلام:
    - قبل أن تقول لي ماذا تذكرت أثناء الصلاة سأقول لك بأنني قبل لحظات دخلت المرحاض وبينما أنا هناك قلت بيني وبين نفسي لمَ ينزعج بيكنا؟ لم؟ قلت أفضل شيء، لم لا يبيع هذه العمارة ويستريح من هم المستأجرين ، هكذا فجأة ولكن هذا الشيطان الملعون قاتله الله. قلت، عفوك يا بيك، هذا القواد يملك العمارات ، هذا الكافر يملك الملايين هذا عديم الضمير يملك المعامل، ولك هذا الشيخ الهرم قدميه الاثنتين في القبر، هل فهمت؟ هكذا والله يا بيك، خطرت ببالي بينما كنت في المرحاض، أموال لا تأكلها النيران. أوف إنه لا يريحني حتى في المرحاض!!
    إصفر لون وجه حمزة بيك، ويداه أخذتا بالرجفان وخار على الأريكة.
    - أمين أفندي، لا تصدق ما أوحاه لك الشيطان، نعم أملك الكثير من الأموال والعقارات ولكن لو بعت هذه العقارات فإني سأموت نعم سأموت يا أمين أفندي لأنني اعتدت على المشاجرة مع أولئك المستأجرين. ماذا أفعل؟
    في اليوم التالي اقترب حمزة بيك من مقهى الحي وكأنه يعرف أن أمين البواب موجود فيه، ولعل ما زاد استغرابه أن ذاك الوقت لا يصادف أي موعد للصلاة، وكما هو معروف أن حمزة بيك لا يتذكر الأشياء إلا أثناء الصلاة:
    - أبحث عنك يا أمين أفندي، أين أنت منذ ساعة، فاليوم أنا معكر المزاج.
    بالفعل، مظهره الخارجي كان يدل على ذلك، صوته يرتجف كالباكي.
    - أوف يا أمين أفندي لقد واريت صديقي، بل أعز أصدقائي، الثرى وها أنا ذا قادم من الجنازة. إيه هذا مصير الانسان، إنا لله وإنا إليه لراجعون. ولكن أتدري ما خطر ببالي أثناء صلاة الجنازة؟ لقد قدم إليّ أحدهم وطلب مني أن أقبله بواباً للعمارة وأن يدفع ثلاثة آلاف ليرة شهرياً، تصوّر يا أمين أفندي، سيدفع كي يعمل بواباً وأنا لا آخذ منك ولا متليكاً واحداً.
    قال أمين البواب:
    - حسناً ، ليأتي ذلك الرجل وليستلم البيت الذي أسكنه وليستلم العمل وأنا ذاهب لأجمع حوائجي.
    استغرب حمزة بيك تصرفه كثيراً بل إنه لم يصدق ما يحدث أمامه..
    - كيف ، الآن، ولماذا؟..
    - نعم حالاً.
    - هكذا بكل بساطة دون أن تغضب أو تنزعج، وتعويضاتك عن خدماتك، هكذا دون محامي وقاضي حتى دون مخافر!
    - لا أريد قلت لك لا أريد، سأذهب وأجمع حوائجي.
    - يا خسارة الدنيا، لم يعد لها طعم ولا لون. آه، لأذهب، إذ حان موعد صلاة العصر.

    **
    *متليك: من أجزاء الليرة العثمانية القديمة.

    ذئب علي بابا
    أيها السادة، ألم تصدم أعينكم كلمة عيب في المعاجم. العدل والانصاف نصف الدين، كما يقولون، ولنقل ربعه في أسوأ تقدير.
    بالله عليكم ماذا فعلت لكم، لمَ كل هذا الحقد؟
    اعتقلت ذات مرة بسبب مجموعتي القصصية "عزيز نيسن" والتي أحدثت ضجة دولية أدت إلى رفع دعاوى قضائية من قبل بريطانيا، ومصر وإيران. على كل أمضيت فترة سجني حوالي ستة أشهر وبعدها أطلق سراحي. في اليوم التالي من إعتقالي قامت قائمة الصحافة كعادتها، وراحت تنشر الأخبار والتعليقات حسب رغباتها وتوجهاتها..
    لنقرأ إحداها إذاً:
    "ألقت الشرطة السريّة على عزيز نيسن مساء أمس في أحد المقاهي والجدير بالذكر أنه كان في حالة يرثى لها، إذ إتحد شعر ذقنه بشعر رأسه بشكل كاريكاتوري.
    لنقلب صفحات غيرها، ولنقرأ النبأ التالي:
    "إعترف عزيز نيسن بأنه كان يختبئ في الحدائق ليلاً، أما نهاراً فقد كان يجد في المقاهي ملاذاً له من أعين الشرطة."
    لنقرأ خبراً آخر:
    "أخيراً ألقي القبض على عزيز نيسن في كاديكوي بعدما وضع احتمال فراره خارج البلاد، تم ذلك عندما كان يهم بدخول إحدى الحانات"
    لنقرأ في صحيفة أخرى:
    "بعد فرار إستمر قرابة أربعة أشهر، تم إلقاء القبض وبصعوبة بالغة على عزيز نيسن إذ قام رجال الشرطة بتطويق جميع الأماكن التي يمكن تواجده فيها".
    سامحكم الله!!!... من أكون حتى تكتبوا عني بهذا الشكل؟ تصوروا أنني بتّ أخشى من نفسي، هل أنا ذئب ديار بكر، أم ذئب علي بابا؟
    لم تمض فترة طويلة حتى أتحفتنا إحدى الصحف بخبر آخر:
    "تمت ملاحقة عزيز نيسن بسبب إقترافه جريمة خطيرة مهدداً أمن الدولة".
    ملخص القول أنكم جميعاً تدركون لماذا كتبوا عني بهذا الشكل، كذلك فأنا أيضاً أعرف ذلك تماماً.
    نعم كنت مختفياً طيلة هذه المدة، ولكن ممن، ولم؟ حتى أنني أفصحت عن ذلك في حضرة المحكمة.
    إستأجرت غرفة نائية في كاديكوي، ولكي لا ألتقي بأحد كنت أمضي جلّ وقتي في القراءة والكتابة في مكتبات استنبول لأنني كنت مقتنعاً بالمقولة الشعبية التي تقول:
    "بقدر ما الشياطين بعيدين كل البعد عن المساجد، كذلك رجال الأمن أيضاً بعيدين عن المكتبات" ولكن ـ كما يقال ـ "الجنة بلا ناس لا تداس"، فأعصابي أخذت بالانهيار ، قاتل الله الوحدة، كثيراً ما كنت أفكر وأنا أسير في الطرقات، ألن أستطيع العيش بهناء وأمان، ألن أستطيع العمل في حضرة الناس بلا خوف أو وجل، هذه الأفكار التي كانت كثيراً ما تراودني دفعتني تلك الليلة نحو كازينو مهردار الساحلي، هناك حيث النسيم العليل يداعب أطراف شعري يدغدغ نهايات أناملي.
    أمواج البحر ترتطم بالشاطئ محدثةً صخباً ممتعاً ورائعاً، أما القمر فقد اكتمل وألقى بظلاله على البحر جاعلاً منه مرآة تنعكس عليها روعةً وجمالاً مدينة استنبول. لحظات سعيدة لا بد الاستفادة منها خاصةً وأنا بعيد كل البعد عن أخطار الملاحقات. هذا الكازينو بالذات ضم بين جنباته كبار الشعراء والكتاب. تفقدت نقودي وجدتها كافية لمثل هذه الأمسية طلبت زجاجة بيرة وبعض المازاوات.
    - آه يا مزاجي الرائع!... لم لا أتوج أعوامي الأربعين بمثل هذه الأمسية؟ قمر وبحر، موسيقا وبيرة... آوه ... ولكن يا خسارة لو كانت صديقتي معي لاكتملت متعة هذه السهرة. إذاً لأرخي العنان لخيالي، قد أستطيع تجسيدها بجانبي، وهذا ما فعلت ألقيت بيدي على الكرسي الجانبي ورحت أعتصره كفتاة ، أذناي تسكران بصدح الموسيقى وعيناي ترتشفان خمرة جمال استنبول، أما يداي فعلى كتف حبيبتي.
    - زجاجة أخرى أيها النادل.
    لأنتهز هذه الفرصة الفريدة التي قد لا تتكرر ثانيةً. في هذه الأثناء شعرت بشيء ما يدغدغ يدي الملتفة على الكرسي. شيء ما دافئ ومتحرك ينساب فوق يدي، ولكي لا أفسد نشوة الاستمتاع لم أكلف نفسي عناء الإلتفاف. تناهى إلى مسامعي صوت.
    - عزيز بيك.
    - أجبت:
    - نعم يا روحي.
    - عزيز بيك.
    - نعم يا حبيبتي.
    ها هي حياتي وحبيبتي تتجسد أمامي، نعم قد تتحول الأحلام إلى حقيقة ولكن راح الصوت يزداد أجاشةً وخشونةً.
    - عزيز بيك.
    - أمرك يا كبدي.
    - ستذهب معنا إلى مديرية الأمن.
    قفزت من مكاني كالمعتوه محطماً أحلامي. إذاً حبيبتي التي كنت أناغشها. لم تكن سوى رجل أمن.
    رحت أستدر عطفه قائلاً:
    - أرجوك دعني فاليوم السبت، هذا يعني أنني سأبقى في مديرية الأمن ليلتين، أرجوك دعني أذهب، والله! أعدك بأنني سآتي إليك يوم الاثنين صباحاً.
    - لا ، لا يمكن.
    - حسناً إذاً دعني أكمل زجاجتي.
    - لا، لا يمكن.
    - تصوروا أنه لم يتح لي فرصة تسديد الحساب.
    وهكذا اعتقلوا ذئب علي بابا، ولكن ما أود قوله لعنة الله عليك يا..." لأنك لم تسنح لي الفرصة بتتويج أعوامي الأربعين".

    ملحق
    تعرضت لهذه الحادثة الحقيقية في عام 1948 عندما كان الحزب الاجتماعي الشعبي في أيامه الذهبية متربعاً على عرش السلطة، عرش الحزب الواحد. ولكن فيما بعد إزداد عدد الأحزاب وتوصل الحزب الديمقراطي إلى ذاك العرش وبذلك رحنا نقاسي هول الاستبداد والبطش وتحول شغلنا الشاغل إلى النضال ضد الاستبداد والمستبدين.
    في عام 1959 إزداد البطش والإرهاب ... لذلك رحنا نناضل ضد البطش والإرهاب.
    في يوم من الأيام إلتقيت صدفة بذاك الرجل ذي الصوت الأجش في إحدى المناطق الراقية، عندما كنت أنتقل من كاديكوى إلى استنبول. تصنعت عدم رؤيته، فكرت بيني وبين نفسي "بعد هذه الفترة الطويلة قد يكون صاحبنا هذا قد رقي إلى رتبة مفوض عام أو مساعده. إقترب مني وجلس بجانبي وراح يعبر بصفاقة لا مثيل لها عن إعجابه بكتاباتي ويمتدح بطولاتي وعلى أنني كنت منقذ الوطن، صاحبنا هذا كان عضواً في الحزب الاجتماعي الشعبي. استغربت أمر هذا الرجل ولكن الذي زاد إستغرابي إجابته على سؤالي:
    - هل أصبحت مفوضاً عاماً؟
    - لا يا روحي، لقد ابتعدت عن هذا الجهاز من زمان طويل، وهل يستأهلون الخدمة؟
    وراح يحدثني عن نجاحاته في ميدان البناء والتعهدات.
    صاحبنا كان يعمل في مجال تجارة العقارات، يبني الشقق على نفقته الخاصة ومن ثم يبيعها، تذمر كثيراً من غلاء المواد وندرتها.
    إفترقنا على الجسر، نظرت إليه مليّاً بعد أن مضى هذا الشرطي السري السابق ومتعهد البناء الحالي. لقد حيّرتني هذه الحادثة الصغيرة، ولا أدري هل حيّرتكم أ

    على الغلاف:


    تخطت مؤلفات عزيز نيسن الأدبية حدود الجغرافيةواللغة، ولامس أرواح القراء في بلدان العالم المختلفة. ورغم أن عمله الأول قد صدربعد أن تجاوز الكاتب الأربعين فقد قدم خلال عقود أربعة أكثر من تسعين مؤلفاً فيالقصة والرواية والمسرح والشعر.
    يبرز في أعمال نيسن عمق في ملامسة هموم الإنسانضمن إطار ساخر فكه، ولعل ذلك من الأسباب التي أسهمت في انتشار نتاجاته.
    في معرضجوابه عن أسباب الانتشار المطرد لمؤلفاته يقول عزيز نيسن:
    "..
    هاجسي الوحيد هوتجسيد الفكرة ـ أية فكرة تجول في أعماقي ـ على الورق دون إهتمام بأي شيءآخر".
    خلق عزيز نيسن عالماً أدبياً متميزاً، له ملامحه الجمالية الخاصة به، وفيمجموعته القصصية "آه منا نحن معشر الحمير" يمكننا أن نرى ذلك بوضوح.

    عش كل يوم على أنه اليوم الأخير
    asrar

  • #2
    رد: آه منا نحن معشر الحمير..تأليف عزيز نيسن

    قصص رائــعة شكرا جزيلا

    تعليق

    يعمل...
    X