إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الإنسان وبدايات الميثولوجيا - ترجمة: سهيل أبوفخر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الإنسان وبدايات الميثولوجيا - ترجمة: سهيل أبوفخر

    الإنسان وبدايات الميثولوجيا
    ترجمة: سهيل أبوفخر


    تكمن التجربة الأولى لكل كائن حي في جسد أمه، وهذه «المشاركة الصوفية» ـ كما يدعوها «لودوبلو» ـ بين الأم والطفل، والطفل والأم، هي السعادة الكاملة. ثم يقوم الوطن الأم والكون بأكمله بنقل هذه التجربة إلى الدائرة الأوسع، وهي دائرة حياتنا كبالغين، فعندما نشعر أن ارتباطنا بالكون كامل وطبيعي مثل ارتباط الطفل بأمه، نكون بتوافق وانسجام مع الكون كله. فالمهمة الأولى للميثولوجيا تكمن في إيجاد هذا الانسجام وهذا التوافق والحفاظ عليهما تماماً.
    وعندما تصل المجتمعات درجةً من التطور تستطيع بموجبها أن تتحرر من شروط حياتها البدائية، تكمن المشكلة كلها في صياغة «المشاركة الصوفية» للفرد في الجماعة. ومن السهل التأكد من صعوبة ذلك في وقتنا الحاضر، ولاسيما في المدن الكبرى.
    عندما يولد الفرد يكون قطعةً من أرضٍ بور، كائناً بيولوجياً صغيراً يخضع لطبيعته الخاصة بصورة عفوية. وبعد ولادته يبدأ المحيط بوضع بصماته عليه بواسطة جسد الأم وحالتها العامة. إذ تكون الأم عذبة ومسرورة حيناً ومستاءة من ولادتها حيناً آخر، وهذا ما يمكنه أن يلوِّن ويشوِّش البنية النفسية للطفل الذي لا يزال مرتبطاً بأمه. ثم يتوجب عليه أن يجتاز فترة عصيبة من التكيُّف على طريق اكتسابه لاستقلاليته النفسية والجسدية.
    ظل المجتمع حتى وقت قريب جداً يرى في أنثى الإنسان كائناً ينحصر دوره في خلق الحياة وصيانتها. تلك هي وظيفتها الوحيدة، فهي مركز الطبيعة واستمرارها، والرجل لا يرتبط بهذه الظاهرة إلا من بعيد وبصورة عابرة.
    وفي صورة ملتقَطة للسكان الأصليين في غينيا الجديدة، نرى نزالاً طقسياً حقيقياً تماماً. حين يكون الغذاء متوفراً بكثرة، فإن القبيلة لا تكون بحاجة لغزو ونهب أية قبيلة أخرى، ولا يكون أمام رجالها ما يفعلونه، كيف سيمضون وقتهم إذن؟ إنهم يشعلون حرباً.. هي لعبة، غير أن الرماح حقيقية وقاتلة. وما إن يُقتَل رجلٌ حتى تتوقف اللعبة، ويتم انتظار الهجوم الآخر طويلاً. فالانتظار يشغل الرجال في هذه الصورة، وها هم أولاء جاهزون بالمرصاد لأية ضربة.. جوهر الأمر أن مهمة الذكور مهمة جدية وخطيرة.
    مما لا شك فيه أن ثمة تبايناً بين الذكر والأنثى، فذاك «تيزيه» يخطف «أنتيوبا» ملكة الفارسات الأمازونيات: إنَّه يصوِّر خضوع الأنثى لقوة الذكر، فالأنثى ضعيفة من الناحية الجسدية، زد على ذلك أنها تمثل غنيمة من الغنائم. وبذلك تكمن إحدى مشاغل الذكر الرئيسة في حماية إناث جماعته من خطفٍ محتملٍ إذاً. وبما أنه قد توجَّب على الميثولوجيا أن تأخذ هذا التباين بعين الاعتبار، فقد مثَّل جسد الذكر وجسد الأنثى قيمتين رمزيتين متباينتين.
    بدأ الإنسان بصنع أدوات تساعده على الاستمرار في حياته منذ عهد موغل في القدم. ولقد روى «جوزيف كامبل» أنه تم العثور على أداة تعود إلى 50000 سنة على حواف نهر «التايمز». وهي من الصغر بحيث لا تنفع في شيء، مما جعله يعتقد أنها كانت تستخدم في طقسٍ ما، فرأى فيها المضغة الأولى لتلك الحاجة الروحية التي يتحلى الإنسان بها، والتي يجهلها الحيوان بشكل كامل.
    تكمن الإشارات الأولى التي تدل على وجود فكر ميثولوجي في دفن الموتى وتقديس جماجم الدببة، فقد اكتُشِفَ فكُّ خنـزير في مدفنٍ في جبل الكرمل في فلسطين يعود تاريخه إلى نحو 60000 سنة، وبعبارة أخرى فإن أضحيةً طقسيةً قد صاحبت عملية الدفن. كما اكتُشِفَتْ ستةُ كهوف مقدسة صغيرة فيها مخابئ لجماجم الدببة في جبال الألب العليا، وقد وُجِدت بعض هذه الجماجم ضمن غلاف معدني، وفي بعضها الآخر وُجِدت عظمةُ الساق مغروسة في فمها كما لو أن الدب يأكل نفسه.
    لم يكن الإنسان يرى الحيوان أدنى منه، بل كان يحترمه ويبجله، وإن كان يصطاده ويأكله. كان الإنسان يعتقد أن الحيوان ضحيةٌ راضٍ بكونه ضحية، شريطة أن يتم ذبحه مع شعور الإنسان بالعرفان بالجميل اتجاهه، وشريطة أن يقوم بطقسٍ يتيح له أن يعود ويُبْعَثَ في العام التالي من جديد، وفي هذه النقطة تتشابه جميع الأساطير في أي مكان في العالم، إذ كانت المجتمعات البشرية تقدس حيواناً معيناً تضعه في المرتبة الأولى، ليكون ممثلاً لجميع الحيوانات، وشفيعاً تُوَجَّهُ له طقوسٌ معينة.
    وفي هذه الأيام لم نعد نذبح الحيوانات التي نأكلها، إذ يضطلع الجزارون بهذه المهمة، ففي حين كانت الشعوب القديمة تشكر الحيوان لكونه قد ضحى بنفسه، نقوم نحن بشكر اللـه الذي زودنا بوجبة طعام. ويستشف «جوزيف كامبل» من ذلك أن السيكولوجيا قد تبدلت بشكل كامل مما أدى إلى تغيير الميثولوجيا بشكل كامل أيضاً.
    إن المنحوتات الأولى التي تعود للعصر الحجري القديم هي تماثيل صغيرة لفينوس، يبلغ ارتفاعها بضعة سنتيمترات، وقد وُجِدت بالمئات على طول شريط يمتد من الشاطئ الأطلسي الفرنسي والإسباني حتى بحيرة «بيكل» الواقعة على حدود الصين. وهي تعود لطراز واحد أينما وجدت: وجهٌ يخلو من التعبير، وجهٌ مجردٌ من الملامح بالفعل، في حين أن النهدين والوركين والكفل قد نحتت برشاقة فائقة، لأنها تمثل خصوبة الجسد الأنثوي. إنها سرُّ الجسد الأنثوي الذي يخلق الحياة ويغذيها، سرُّ جسد الأم الذي نشأت منه الحياة في بدايتها.
    أما فينوس «لوسيل»، فتحمل بيدها قرن ثور عليه ثلاثة عشر حزاً طولياً (عدد الليالي التي تفصل بين البدر والهلال)، في حين تضع يدها الأخرى على بطنها. وإذ لم يصلنا أي نص مكتوب من تلك الحقبة، فنحن نفترض أن النحات أراد أن يشير إلى وجود علاقة بين دورة الطمث ودورة القمر.. أي إلى وجود تناغم بين إيقاع الحياة السماوية والحياة البشرية! ويعتبر «ألكسندر مرشك» في كتابه «جذور الحضارة» أن انبثاق وعي رياضي وفلكي قد تَوَافَقَ مع اهتمام النساء بالإيقاع الذي اكتشفنه في أجسادهن.
    وليست فينوس «لسبوج» تصويراً طبيعياً واقعياً، بقدر ما هي تكوين جمالي إبداعي. إنَّ مفاتن المرأة موجودة ضمن أشكال دائرية: هناك تماس بين النهدين والوركين، ونلاحظ الخط المندفع الذي يربط بين الرأس والقدمين. وقد تأثر «رانكوسي» بها في القرن العشرين، علماً بأنها تعود إلى 1800 عام قبل الميلاد.
    تلك بعض الإرهاصات الأولى التي تدل على وجود فكر ميثولوجي عند الإنسان القديم حتى العصر الحجري، وقد تطور هذا الفكر وأينع، لدى السومريين والفراعنة والإغريق لاحقاً.
    فمن العصر النيوليتي (عصر الحجر المصقول)، نجد تمثالاً لقائد يحمل على كتفه صولجاناً على شكل منجل: إنه لا يحمل سلاحاً، بل أداة برونزية تستخدم في الزراعة، مما يدل على وجود مدنٍ زراعيةٍ هادئةٍ، ذلك أن الحضارات الزراعية قد ظهرت في وديان الجبال العليا في البدء، ثم حول الأنهار الكبرى (دجلة والفرات والنيل)، وتعرضت هذه الحضارات لغزوات الساميين عبر الصحراء العربية السورية من الجنوب، ولغزوات الأوروبيين من الشمال. كان الهنود رعاة أبقار، وهم أول من روَّض الخيل، في حين كان الساميِّون رعاة أغنام وهم أول من روَّض الإبل.
    ثمة فئتان من الآلهة في الميثولوجيا: فئة تمثل قوى الطبيعة، وفئة أخرى تخص القبيلة وحدها. وآلهة القبيلة أدنى من آلهة الطبيعة في معظم الأساطير، لكن الصورة معكوسة في الأساطير الساميِّة.
    ومن الطبيعي أن تكون الحياة الثقافية راسخة عندما تخص مجتمعاً صغيراً أو قبيلة بدوية يكون الناس سواسية فيها، فلا تمييز ما بينهم إلا على أساس العمر والجنس. غير أن الجماعات قد توسعت بفضل الزراعة وتربية الحيوان، مما أدى إلى ظهور مهن ووظائف متعددة. فبدلاً من أن يجتمع العموم والهواة ـ إن صح التعبير ـ أصبح هناك مجتمع يتألف من المهنيين والأفراد الذين يصبحون بالوراثة حُكَّاماً أو كهنة أو تجاراً أو مزارعين، وبذلك ظهرت الشرائح الاجتماعية المتناقضة التي ما فتئت تفكك بنيتنا الثقافية حتى وقتنا الحاضر.
    وهكذا فقد حصل تغيير كبير في البنية الثقافية مع ظهور المدن الأولى في إقليم دجلة والفرات، حيث عرف الإنسان الكتابة والحساب ونظام العد العشري والعد الستيني الذي ما زال يستخدم في الفلك وفي حساب الزمن إلى الآن. وعبر مراقبة المجرة، تبيَّن أن الكواكب تتحرك بسرعة قابلة للقياس، وبذلك تمَّ تشكيل فكرة عن نظام كوني يمكن حسابه رياضياً. وهكذا منح الإنسان اهتمامه الميثولوجي إلى الكهوف أولاً، ثم إلى الحيوانات والنباتات ثانياً، ثم إلى الكواكب والأبراج ثالثاً.
    وفي بلاد ما بين النهرين، تم اكتشاف أوانٍ فخارية تعود إلى 4000 سنة قبل الميلاد وتدل على تقدم في الوعي الجمالي عبر اعتمادها على التجريد، في حين كانت الأعمال القديمة منقوشة على جدران الكهوف ولم تأخذ حيِّزاً خاصاً بها.
    تقول الأسطورة إنَّ «سارغون» (الإمبراطور السامي الأول) قد وضعته أمه في سلة من القصب، وقامت بتمليطها بالقار ثم رمتها في النهر. وحدث أن رآه بستاني الملك، فانتشله من الماء وقام بتربيته، ولما كبر أحبته الآلهة، فأعلت شأنَه، وجعلته ملكاً. وبذلك يكون «سارغون» أول فاتح تم تمجيد نجاحاته.
    كانت الحرب قبل تلك الحقبة عميلة تقتصر على غزو قرية، في حين أصبحت عملية تصاحبها الأناشيد الحماسية وتتكلل بالمجد. وهكذا نشأ، منذ ذلك التاريخ (حوالي 2400 ق. م)، مفهومُ الحرب بمعناه الحديث: تدمير شعوب كاملة بلا رحمة.
    وهناك منحوتة تم العثور عليها مؤخراً، تمثل جنازة الملك، حيث دفن معه أحياءً كلُّ من كانوا يعملون في بلاطه، وإلى جانب معظمهم كأسٌ تحوي مادة مخدرة يشربونها قبل أن يموتوا. ولقد استمرت هذه العادة لدى السلالات الفرعونية الأولى في مصر، كما استمرت في الصين إلى أن رأى فيها «كونفوشيوس» فظاعةً يجب وضع حدٍّ لها.

    هذه بعض بدايات الميثولوجيا التي رافقت تطور الإنسان، علماً بأن هذا الحقل واسع ومتشعب، ويحتاج إلى دراسات مستفيضة من أجل الإحاطة به.

    ترجمة: سهيل أبوفخر

يعمل...
X