إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

بلوتوس ... الخالد الأعمى - ترجمة : حنا عبود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بلوتوس ... الخالد الأعمى - ترجمة : حنا عبود

    بلوتوس ... الخالد الأعمى - ترجمة : حنا عبود

    يروى أن زيوس أحب إليكترا، وهي إحدى بنات أطلس وليست ابنة أغاممنون، فأنجبت له أياسون الجميل الأنيق، الذي قبلت به ربة الأرض ديميتر فالتقاها في حقل حرث ثلاث مرات، فواقعها فزاد الحقل خصباً على خصب. وأنجبت له رباً أسمته بلوتوس، أي الوفرة أو الكثرة أو الثروة أو الممتلكات... ولكن الكثير من الروايات تذهب إلى أن أمه لم تكن ديميتر بل تيكي Tyche وهي ربة الحظ، التي دمجها الرومان بربة الحظ فورتونا (ومن فورتونا Fortuna ظهرت كلمة Fortune أو ما شابهها لتدل على الحظ أو الثروة. وكانت ترسم معصوبة العينين، ولا فرق هنا بين حجب عينيها بالعصابة وحجب نظر بلوتوس بالعمى، فالحظ والثروة مترافقان).
    وبلوتوس هو Ploutus أو Plutus أو Pluton ولكن ليس Pluto رب العالم السفلي، الذي هو أيضاً صاحب ثروة هائلة، إلا أنها ثروة من ضريبة الأموات، حيث يفترض أن يضع أهل الفقيد قطعة نقود تحت لسانه، كضريبة نقل إلى العالم الآخر. فيما بعد دمجوا بين الإثنين، ولكن عندما يتحدثون عن رب الثروة يجعلونه أعمى، وعندما يقولون بلوتوقراطية Plutocracy فإنهم يقصدون سلطة الأغنياء.
    أسرع زيوس ورمى أياسون بصاعقة، لأنه خالف قوانين الآلهة، وهي أنه لا يجوز أن يمتلك البشر ثروة كبيرة حتى لا يشعروا بأنفسهم أنهم آلهة أو مساوون للآلهة، وبذلك تدب فيهم رياح الثورة والتمرد.
    لما كبر بلوتوس صار هو الآخر خطراً على الإله زيوس. ولكن لماذا شعر زيوس وبقية الآلهة بهذه الخطورة؟... لأنه صار ينتقي الأخيار والأبرار ويجزل عليهم العطاء، فلم يشعروا أنهم بحاجة إلى صوم أو صلاة أو تقديم قرابين للآلهة. وكانت الصلاة رشوة للآلهة ودليلاً أن الإنسان في حاجة إليهم. بلوتوس قلَّب الأوضاع، فاحتار زيوس ماذا يفعل به؟
    بعض الآلهة نصحه بأن يستولي على الثروة، ولكن ذلك يجرد الناس منها، فيظهر التمرد في البؤس كما يظهر في الثراء. وبعضهم نصحه بأن يحبسه! وهذا شيء مستحيل فديميتر ثارت بسبب خطف بلوتو Pluto لابنتها برسيفوني... فابتلاه بالعمى فصار يوزع الثروة بلا تفريق بين الأخيار والأشرار.
    كان بلوتوس على وشك أن يمنح الأحرار والأبرار ثروات طائلة لولا أن ابتلاه زيوس بالعمى، فصار يوزع ثروته كيفما اتفق. ومنذ ذلك الوقت ازداد محبو بلوتوس، فحتى الأغبياء استفادوا من عماه. فالحظ والثروة والملكية وكل ما يصيب المرء في الحياة يوصف بالعمى.
    وبلوتوس صوت أدبي صارخ، فهو يشارك بقية الأصوات في صياغة العمل الأدبي. ولا مهرب للأديب من التعامل مع بلوتوس أو بينيا Penia ربة الفقر، أو معهما معاً، كما يرغب في ذلك الكتَّاب اليساريون، مستغلين التفاوت الطبقي ترويجاً لدعوة العدالة والديمقراطية والاشتراكية التي ينادون بها.
    على أي حال، لا يمكن لأديب أن يتخطى بلوتوس. والسبب بسيط جداً، فهو ذو تأثير كبير في نواحي الحياة، بل في كل نواحي الحياة المادية والمعنوية، من الأخلاق حتى احتكار الأرزاق. ومع أن الأديب ينزل تجريحاً في بلوتوس فإنه لا يرفضه بل يتمنى الكثير منه، وهذا ما يجعل أي إله آخر غير قادر على منافسته في حب البشر. إنه الوحيد الذي لا يشبع الناس منه، لهو منشود ومكروه في آنٍ معاً. فالفرد يحبه بيده ويخشاه بيد غيره. إنَّه محرك أدبي من أكبر المحركات المؤثرة في تاريخ الإنتاج الأدبي.
    لا يمكن رصد المؤثرات البلوتيسية، لا السلبية ولا الإيجابية. ولكن بلوتوس يظلُّ مطروحاً في الأدب دائماً، فهو محور قديم جديد، ومعالجته في الأدب لا تختلف من أديب إلى أديب، فهناك موقف موحد تقريباً.
    لم يتغيّر موقف الأدباء من بلوتوس، ففي الحكاية رقم 130 بعنوان «هرقل وبلوتوس» يروي إيسوب (وهو من القرن السادس قبل الميلاد)، «إن الرجال الشجعان يكرهون الثروات، لأن صندوق الثروة يزيل عن البطل إعجاب الناس به. فالآلهة منحت هرقل مكاناً في السماء لصفاته النبيلة. وقد حيَّا الآلهة الذين حضروا لتحيته، الواحد بعد الآخر، ولكن عندما حضر بلوتوس ابن تيخي (الحظ) أشاح بوجهه عنه. فسأله الأب زيوس لماذا فعل هذا. أجاب هرقل: ‘أكره رب الثروة لأنه صديق الأشرار، ويفسد العالم كله بالأموال التي يغدقها». وفي الميثولوجيا اليونانية الكثير من الحكايات عن استخدام بلوتوس على شكل رشوة حتى في العالم الآخر، فسربريوس (كلب الجحيم) يقبل برشوة صغيرة، فلا ينبح ولا يثير ضجة... فبلوتوس مفسد حتى في العالم السفلي.
    هذا هو موقف الأدب، منذ أيام إيسوب، بل قبل ذلك بكثير. بلوتوس مفسدة في الأدب. وفي مسرحية أرستوفانيس «بلوتوس» يسخر من العلاقات الإنسانية الهشة وكيف يهشمها ظهور بلوتوس، بل يقلبها رأساً على عقب، حتى إنَّ الشمطاء تحظى بشاب في مقتبل العمر بسبب بلوتوس. ويدير أرستوفانيس سجالاً مع بينيا، ربة الفقر، تجري فيه المقارنة بين الفقر والثروة الطائلة، فتثبت أن بلوتوس لا يغيّر القيم والأخلاق ويجعل من النذل رئيساً فقط، بل إنَّه حتى في حال المساواة بين الناس يضر بهم ويسيء إليهم، فلا يعود أحد يفلح أو يزرع أو يطرق المعادن... وهكذا حتى يهلك البشر.
    وفي مسرحية «هيلين» ليوربيدس تقول البطلة لزوجها: «الرب يكره العنف، يطلب من كلِّ فرد ألا تكون ملكيته من السلب والنهب والسرقة. فتلك الثروة غير عادلة، ولا بد من تجنبها وإن قد تجلب المزيد من السلطة».
    وتابعت أديان الشرق الأوسط مكافحة بلوتوس إلى حدٍّ بعيد. فموسى يؤنب شعبه بسبب العجل الذهبي، والمسيح ينصح الناس بألا يعبدوا ربَّين: اللـه والمال، كما يؤكد لهم بأن من الممكن للجمل أن يدخل في سمِّ الإبرة من أن يدخل غني ملكوت السموات. والقرآن ينذر الذين يكنزون الذهب والفضة بعذاب أليم. والسبب أن الكانزين يمنعون الخير عن الناس، فالمفروض أن ينفقوا أموالهم لا أن يكنزوها حتى يستفيد الناس منها... فموقف الدين لا يختلف عن الموقف الأدبي من بلوتوس، بل متشدد أكثر منه. ومع ذلك لم يستطع أحد أن يمسك بلوتوس أو يقيِّده أو يحدَّ من ضرره، أو يمنعه من إفساد الضمائر والنفوس، فحتى اليوم يمكن لبلوتوس أن يُشوِّه سمعة أرقى العائلات، وأن يرفع نذلاً إلى أرقى المناصب. وهذا هو ما يعنيه الأدب عندما يجعل بلوتوس متعارضاً مع الحياة الطبيعية، أي الحياة التي تقوم على العمل. فالرجل الفاضل هو المتمتِّع بما يقدِّمه عمله، لا بما يرثه.
    كانت القوانين متشددِّة تجاه بلوتوس، ويقال أنها ما تزال متشددة (؟) حتى إنَّ الفيلسوف اليوناني القديم ديمقريط حُوسِب لأنه أنفق مالاً ورثه عن أبيه من دون أن يعود هذا المال على وطنه ومواطنيه بالخير. وعندما أحضَرَ أمام المحكمة المخطوطات التي اشتراها من مصر وما بين النهرين، عفوا عنه، بل كافؤوه بأن جعلوه أرخوناً (محافظاً) على مدينته مدى الحياة.
    وللأدباء فنونهم في معالجة بلوتوس. ففي «البخيل» لا يمدح موليير بلوتوس، بل يذمَّه كثيراً، ويرى أنه هذا البخيل يسيء للبشرية، ويشوِّش العلاقات بين الأفراد، في حين يمتدحه أوسكار وايلد ويجعل «الأمير السعيد» يبذل ما عنده حتى عندما يتحول إلى تمثال، فيطلب من العصفور سمل عينيه لتلبية ضرورات أسرة فقيرة.
    بلوتوس شيء مخالف للطبيعة، فهو زيادة عن الحاجة وأبعد من الضرورة بكثير. وفي قصة تولستوي «كم يحتاج الإنسان من الأرض» يرى أن أي مطلب يزيد عن الحاجة يصبح عبئاً، حتى على صاحبه، فبطل القصة طمعاً في حيازة أكبر مساحة من الأرض يلف مسافة طويلة، وعند الغروب يُصاب بالإرهاق ويموت، فيدفن في قطعة من الأرض لا تزيد مساحتها عن مترين مربعين، ولا يزيد حجمها عن متر مكعب واحد.
    وبلوتوس يُسبِّب الفساد والانتهازية واللصوصية التي تحميها القوانين، كما في رواية بلزاك «يوجيني غرانديه»، حيث يقضي بلوتوس على كل أزاهير قلب يوجيني، وفي الوقت نفسه لا يرتوي ابن عمها مما حاز عليه من أموال وشركات، متخلياً عن كل القيم.
    ولكن من جهة أخرى، ونظراً لدخول بلوتوس في حياة الناس إلى مثل هذه الدرجة حذَّرَ الأدباء من التخليِّ عن بلوتوس، فذلك يجلب الذل والاستهانة. وفي رواية بلزاك «الأب غوريو» قصة مثيرة عن أب له ابنتان ظلتا مثل شجرتين حانيتين عليه ما دامتا في حاجة إلى بلوتوس الذي معه، فلما قدَّمَ لهما كل ما يملك، نسيتاه ولم يتذكرا في يوم أن هناك أباً عمل من أجلهما طيلة حياته، بل نجد الكاهن يقول ما دام ليس هناك مشيِّعون فلنسرع في الدفن. فحتى في الدفن لم تحضر الفتاتان.

    وفي رواية «الأرض» يُصوّر إميل زولا العواطف البشرية وكيف تتحوَّل وتتغيَّر بسبب بلوتوس، فعندما تكون الأراضي باسم الأب نجد أولاده وزوجاتهم من أخلص المخلصين وأحدب الحادبين على الرجل، ولكن بعد أن يُوزِّع الأرض بموجب سندات رسمية، ولا يستطيع استرجاعها، صار يستجدي أولاده وزوجاتهم من أجل لقمة خبز فقط. ففي هذا العالم يتخلق بلوتوس بأخلاق صاحبه، فإن كان شهماً كريماً فبلوتوس مفيد وشهم وكريم... وهكذا.
    وفي الحكايات الشعبية شيء كثير عن المال سواء في «ألف ليلة وليلة» أو في المتداول الشعبي. ومما شاع في الحرب العالمية الثانية أن هناك شخصاً أهمله أبناؤه ونبذته كنائنه. فاحتار فيما يفعل، فنصحه أحدهم أن يحمل مزهرية صغيرة مملوءة بغائط الحيوانات، ويغلقها بطين الآجر القاسي، ويحملها تحت إبطه، ففعل. فلما شاهدنه سألنه فأجاب: هذه المزهرية لآخرتي. فاعتقدن أنها مملوءة بالذهب، فرحن يعتنين به، فلما مات وفتحت المزهرية لم يجدن ما كن يحلمن به.
    ولا نظنُّ أن هناك شعباً لا تشتمل آداب الأمثال عنده الشيء الكثير عن بلوتوس وأثره الإيجابي والسلبي. فحتى الأديان تجعل نعمة الآلهة شيئاً من بلوتوس، فعندما أراد يهوه التعويض على أيوب بعد أن ابتلاه الشيطان منحه شيئاً من بلوتوس.


يعمل...
X