إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التـوحـد (( علّة في المشاركة العاطفية )) - المترجم محمد الدنيا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التـوحـد (( علّة في المشاركة العاطفية )) - المترجم محمد الدنيا

    التـوحـد
    المترجم محمد الدنيا
    التوحد، الذي فهم فيما مضى على أنه نتيجة صدمة عاطفية وخيمة حدثت في السنوات الأولى من الحياة، يظهر اليوم كمرض يحكمه إلى حد كبير تضافر عدة عوامل مرضية مخية عميقة.
    دخلت خبيرة علم نفس النمو " جاكلين نادل " إلى حجرة في مدرسة للأطفال المصابين بالتوحد، وجلست على أريكة، بوجه يخلو من التعابير، وجسد ساكن. أدخلوا إليها " ماريون "، بنتاً صغيرة عمرها عشر سنوات شُخصت حالتها على أنها مصابة بالتوحد. تقدمت البنت، ثم مكثت واقفة في وسط الحجرة، وأخذت تفتل يديها وتنظر جانباً، متجاهلة الدمى والمجرِّبة حولها، وبدت كما لو أنها مستغرقة في أفكارها. بعد ثلاث دقائق، نهضت " جاكلين نادل " وراحت تقلد حركات البنت التكرارية فأشرق وجه الصغيرة فجأة، وتخلت عن سلوكها النمطي، وراحت تقفز بقدمين مضمومتين، ثم بدأت تلعب بالأشياء باستمتاع واضح، في الوقت الذي كانت خبيرة علم نفس النمو ما تزال تقلدها إلى أن عادت وجلست بوجه يخلو من العبارات مرة أخرى. إلا أن لا مبالاتها هذه المرة دفعت الطفلة إلى التفاعل فوراً: بدت مهتمة فجأة، وجلست بجانبها على الأريكة، وسعت إلى الاهتمام بها، حتى أنها أمسكت يدها التي وضعتها على خدها. وبعد ثلاث دقائق من محاولات " ماريون " هذه، التي لم تجد نفعاً، تحركت " جاكلين نادل " من جديد: نظرت في عيني الصغيرة، وابتسمت لها. أشرق وجه الطفلة هو أيضاً بابتسامة، وضمّت عالمةَ النفس بحنان.
    تقول " جاكلين نادل " إن الأطفال المشخصين على أنهم مصابون بالتوحد لا يتوقعون قبلياً أي تآثر اجتماعي من جانب شخص غريب، على عكس الأطفال الآخرين ،، الأسوياء ،،، من عمر النمو نفسه، الذين يتوقعونه بشكل فطري. وهكذا، فعندما يدخلون إلى الحجرة، يبدون لا مبالين بمكوث المجرِّبة جامدةً ولا يكترثون بعدم إعارتها لهم أدنى انتباه، وهو ما لا نلاحظه عند الفرد ،، السوي ،، ".
    " التوحد هو علة تعتري المشاركة العاطفية عند صاحبها " حسب عبارة البروفسورة " كاترين برتليمي "، أخصائية التوحد في المعهد الوطني للصحة والأبحاث والدراسات الطبية / تور- فرنسا. مع ذلك، هناك فوارق هامة بين الأشخاص الذين نطلق عليهم صفة التوحد. يتسنى لبعضهم مثلاً أن يطوروا " خليّات كفاءة " îlots de compétenceمذهلة في الموسيقى أو في الرياضيات، بينما يُظهر آخرون مستوى تطور متدنياً ومتجانساً؛ ويتمكن بعضهم من السيطرة على اللغة، بينما لن يتكلم آخرون أبداً. إلا أن القاسم المشترك بينهم جميعاً هو الاضطرابات القاسية التي يتعرضون لها قبل سن 36 شهراً من الحياة، وتصيب ميادين التأهُّل الاجتماعي، والتواصل، والتكيف. " ولكن، كي نتخاطب اجتماعياً، ونتمكن من إقامة تواصل اجتماعي، والدخول في حديث متواصل مع الآخر، ينبغي علينا أن نكامل باستمرار بين المعلومات التي تصلنا عبر مستقبلاتنا الحسية كي نفك رموز عواطف وانفعالات هذا الآخر، أي كي نتوافق معاً بالنتيجة "، تضيف " برتليمي ". إن الحياة الاجتماعية عند المصابين بالتوحد معوقة جداً بنتيجة صعوباتهم في أن ينسبوا للآخرين حالات عقلية ( نوايا أو انفعالات )، وأيضاً من حيث أنهم يبدون فاقدين للتناغم الوجداني تجاه أمثالهم. أما فيما يخص التعبير عن انفعالاتهم، فإنه مدهش، إن لم نقل إنه مشوِّش. " غالباً ما يعاني هؤلاء المرضى من ضحالة كبيرة في رصيد تعبيراتهمالوجهية، أو أنهم يواجهون صعوبات في ضبط تعبيرهم الانفعالي وفقاً للسياق. مثلاً، يبتسم بعضهم علىالدوام، حتى أن الناس يحسون عموماً بالضيق معهم "، تؤكد " كاترين برتليمي ". ولا تظهر التعابير عند آخرين من مرضى التوحد إلا في الأوضاع الشديدة، أي أنهم بلا تعبير معظم الوقت إلا في حالة الانفعال القوي، إيجابياً كان أم سلبياً. كما أن بعض الأطفال المصابين به لا يبكون عندما يؤذون أنفسهم، أو لا يظهرون أي انفعال خوف في بعض الظروف، رغم أن هذه الظروف مخيفة بنظر أشخاص سليمين، وهذا ما يدفعهم إلى أن يتبنوا سلوكيات خطرة، كالسير في وسط المرور في شارع رئيسي مزدحم بالسيارات، أو تسلق جدار بارتفاع عدة أمتار. ومن الغريب أن هؤلاء الأشخاص أنفسهم هم من يمكن أن يظهروا مروَّعين إبان حَدَث لا أهمية له بنظر الأشخاص " الأسوياء "، مثل تفريغ حوض الحمام.
    أما صعوباتهم في فهم انفعالات الآخرين، فقد أظهرتها دراسات وتجارب عديدة، غير أن نتائج مثل هذه الدراسات هي وثيقة الارتباط بمدى تعقيد التطبيقات التي يجريها الباحثون، وأيضاً بصفات وخاصيات المجموعة المرجعية ( الشاهدة )، مثلما تؤكد " كاترين أ. لفلاند "، أستاذة طب الأطفال النفساني في جامعة تكساس في هيوستون. لقد قارنوا لياقة أفراد يعانون من التوحد في تمييز انفعال يدل على " الابتهاج "، و " الحزن "، و " الغضب " في صورة لأحد الوجوه، باللياقة المثيلة عند أفراد مجموعات أخرى ممن يتمتعون بمستوى لغوي مشابه، وعند أطفال " أسوياء " صغار جداً، أو أيضاً عند أطفال يعانون من مرض نفسي آخر. وأظهرت النتائج أن من الصعب أحياناً لمس فوارق واضحة على مستوى هذه اللياقة. " يشيرذلك إلى أنه إذا كانت مشكلات تمييز الانفعالات هذه هي من خواص التوحد، فإنها ليست نوعية في هذا المرض وليست مستقلة عن عوامل النمو "، تؤكد البروفسورة " لفلاند ". مع ذلك، تصبح هذه الفوارق أكثر وضوحاً عند اختبار أداء الفرد في حالات انفعالية دينمية أو ضمن شروط أدق وأعقد. " بتنا نعتقد أن المشكلة تكمن في تأويل انفعالات هي متغيرة وعابرة ,, بالزمن الحقيقي ,,، خلالمحادثة ما مثلاً، أكثر مما تكمن في التمييز ,, الأساسي ,, basique لتعابير انفعالية جامدة "، تعلق " جاكلين نادل ".
    ظهور الاضطرابات المبكر هو إحدى خواص التوحد. إن الجهاز الانفعالي موجود ووظيفي منذ الولادة في الأحوال العادية، ولو أن رصيده حينذاك يقتصر على الابتسامات والبكاء، والمظاهر الأساسية لانفعاليْ اللذة والنفور. ولدى حديثي الولادة " النموذجيين " أفضلية للوجوه البشرية، ويلتفتون برؤوسهم أو بأعينهم باتجاه الأصوات وحساسون جداً إزاء الصوت البشري، خصوصاً صوت أمهم، إذ أنهم يتحركون حتى وفق إيقاعات محددة متناسقة معها منذ اليوم الأول عقب الولادة. يتفاعلون بذلك مع محيطهم، مما يمكنهم من إثراء رصيدهم كل يوم، لاسيما عبر تقليد إيماءات الآخرين التي يدركون ارتباطها ببعض الأحداث. " ولكن، لوحظ عند الرضع الصغار جداً، ممن أمكن تشخيص التوحد لديهم، وجود شذوذات لها علاقة بـ ,, فك رموز البيئة حسياً ,, "، تشرح البروفسورة " برتليمي ". يبدو هؤلاء وكأنهم صمّ، ولديهم تماس بصري " عين لعين " غير سوي؛ وعند وجودهم بين ذراعي أحد الكبار، تكون وضعيتهم إما رخوة أكثر مما ينبغي أو متصلبة أكثر مما ينبغي. " وهكذا، يمكن أن يتسم تعلمهم للحالات الانفعالية بسوء الفهم. مثلاً، يدرك الرضيع المداعبة - وهي حركةعطوفة - على أنهاعدائية إذا ما أحس أنها مؤلمة أو مزعجة "، تحلل خبيرة التوحد.
    كان باحثون قد أشاروا إلى أن اكتساب هذا الرصيد من الانفعالات مختلٌّ بفعل شذوذات في عمل دماغ هؤلاء المرضى. وهكذا، أثبتت الباحثة " هيلين جيرفيه " / مفوضية الطاقة الذرية في " أورساي " / ومعاونوها ( بالتصوير الطبي الدماغي )، أن الباحة المخية المتخصصة في إدراك الصوت البشري لا تتنشط عند الأشخاص المصابين بالتوحد حينما يستمعون إلى شريط مسجل. ويعني ذلك، خلافاً للأشخاص الأسوياء، أنهم يبدون وكأنهم يعالجون الصوت البشري على أنه مثل أي صوت آخر.
    " عدوى انفعال؟ ":
    من جهة أخرى، بينت دراسات حديثة أنجزت على مصابين بالتوحد وجود عيب في تنشُّط الخلايا العصبية المرآوية neurones miroirsالتي تتوضع في المنطقة الحركية من المخ، والتي يعتبرها بعض العلماء على أنها الحامل العصبوني للتناغم الوجداني. " في الأحوال العادية، تتنشط هذه العصبونات ( الخلايا العصبية ) عندما نراقب شخصاً وهو يؤدي حركة ما نكون نحنأنفسنا قادرين على القيام بها "، تشرح الباحثة " جويل مارتينو " / تور. إلا أن " عدوى الانفعال " يمكن أن تنتج عن " عدوى الحركة " هذه. مثلاً، عندما تبتسم أم الطفل الرضيع، يبتسم هو بمخه قبل أن يبتسم بوجهه. " أظهرت نتائجنا أن العصبونات المرآوية لا تتنشط عند الأطفال المصابين بالتوحد عندما ينظرون إلى رياضي وهو يؤدي حركة بسيطة، ونقوم الآن بتقييم ما يحدث عندما نعرض عليهم وجهاً يبتسم "، تضيف " جويل مارتينو ".
    " لسنا بعد إلا في بداية استكشافنا لهذا المرض، وتطرح نتائج الأبحاث من الأسئلة أكثر مما تقدم من نتائج في الوقت الراهن. إلا أن التوحد يتيح دراسة المسألة الأساسية المتمثلة في المشاركة العاطفية بين شخصين "، تختم البروفسورة " برتليمي ". وهكذا، تجري أبحاث هذا المرض اليوم بمستوى أسس العلاقات الإنسانية، بعد أن كانوا يرونه بشكل خاطىء على أنه نتيجة لعدم وجود لياقة لدى الأم في فهم انفعالات رضيعها والاستجابة لها.
    المصدر Science & Vie الفرنسية ترجمة محمد الدنيا
    [email protected]

يعمل...
X