إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

معرفة الحقیقة ووحدة الوجود - عند ميخائيل نعيمة - سهاد جادري

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • معرفة الحقیقة ووحدة الوجود - عند ميخائيل نعيمة - سهاد جادري

    سهاد جادري
    كاتبة إيرانية دكتوراة في الأدب العربي


    معرفة الحقیقة ووحدة الوجود:
    وها هومرداد فی العالم ولیس من العالم، لأنه بشوقه إلی الإنعتاق عرف كیف یخترق غلاف الزمان ویجتاز تخوم المكان، وأراد لكل إنسان أن یتوق إلی فهم المقدس، عندما سأله الرهبان عن أبی الآباء، فدعاهم إلی التركیز فی (أناهم)، فإن عرفوها وركزوا فیها، ركزوا جمیعهم فی (أنا) واحدة شاملة وهی وجود الله الذی لا وجود غیره. وهذا ما یعنی إلی ان لازمة معرفة الحقیقة الأزلیة هی معرفة الإنسان.

    فنجد أن أقرب الطرق الی معرفة الله هی معرفة النفس الإنسانیة. كما صرح الله سبحانه وتعالی فی القرآن الكریم:

    «وفی أنفسكم أفلا تبصرون» [9]].

    وأیضاً فی الحدیث الشریف: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»

    فمن الصعب فهم إیمان نعیمة بالله بدون الایمان بالانسان، فالله والإنسان یمثلان الحقیقة فی إیمان نعیمة " لولا إیمانی بالله لما كان إیمانی بالإنسان، ولولا إیمانی بالإنسان لما كان إیمانی بالله، فالإیمانان واحد" [10]]. الإنسان برأیه یمتد إلی اللانهایة لأن جذوره فی الأزلیة والأبدیة، فقال مرداد: " تمتدوا إلی أن تلاقوا الله" [11]].

    هناك الواحد الذی مهما تكرر وتجزأ أبقی ابداً واحداً. وهذا ما یدل علی أن تلك ال " أنا " الذی یدعومرداد إلی معرفتها هی واحدة وبتعبیره تتحول من" الله أنا " إلی " أنا الله " وهذا ما یشبه إلی كلام الحلاج عندما قال " أنا الحق" فتقطع إرباً إرباً عقب هذه الكلمة الجریئة الصریحة.

    ویمكن لنا أن نقول الله بهذا المعنی ظاهر فی جمیع المظاهر، لكنه منزه عنها جمیعاً وهوغیرها. وأقرب تشبیه للأمر هوتجلی الوجه فی المرآة، فأنت تری نفسك فی المرآة ومع ذلك فما یبدوفی المرآة هوأنت وایضاً لست أنت. وأنت موجود فی المرآة دون حلول ودوإ اتحاد ودون إنتقال وإنما مجرد ظهور أوتجل. وبمثل هذا یتجلی الله فی المظاهر المختلفة دون أن یحل فیها أویتحد بها أوینتقل إلیها، فهوحیث كان ولا شئ معه، وهومازال علی ما علیه كان دائماً تتجلی كنوزه وأسراره فی عالم الممكنات كما تظهر صورتك متعددة فی مرایا متعددة تبدوفی كل مرآة بزاویة خاصة ووجه مختلف.

    «« وما الوجه إلا واحد غیر دنه إذا أنت عددت المرایا تعددا»» [12]].

    والحدود المشاهدة هی بسب المرآیا ونوعیاتها كل منها یعكس جانباً ویجلوزوایة بعینها ولكن الأصل غیر محدود. ركز نعیمة كما إستنتجنا من نظرة مرداد، إنّ غایة الإنسان من وجوده هی التحول من المخلوق إلی الخالق. وقد أنصب جهده علی إبراز الإله فی الإنسان. فأهم ما فی " مرداد "، أن " الإله الجرثومة "، الإنسان، یحوی فی ذاته كل قوی الألوهة الشاملة. فحقیقة الله عند نعیمة لیست میتافیزیقیة، بل هی نظام تخضع لإرادته كل المخلوقات وإرادته كلیة تقبض علی الأشیاء والنفس وتیسرها. "وكل ما فی الكون مسوق ومنظم اتم التنظیم بإرادة الكلیة التی لا تخطئ فی شئ ولا تسهوعن شئ" [13]].

    كانت لنعیمة صلة بالبیئة الطبیعیة، فتأمل فی جمالها وأسرارها وخفایاها. فهذه الصلة أدت به إلی اتخاذ الطبیعة طریقاً لوصوله إلی خالقه. كان منذ حداثته یمیل إلی الوحدة لیراقب الطبیعة ویفرح بكائناتها، متبهجاً بأشعة الشمس المنیرة وغروبها، وبالنجوم الغامزة، وبالقمر الذی یملأ الأرجاء نوراً. وقد عاشر جمیع الكائنات، فشعر بالظلال السحریة التی عانقته، وقد مشت الطبیعة بأسرها لتلاقیه مهللة.

    یتساءل " ناسك الشخروب " عن حقیقة نفسه، ومادة الوجود، من خلال علاقته المتینة الأصول بالطبیعة، ویحار هل من الأمواج أتت؟ أم من الشمس هبطت؟ أم من اللحن جاءت؟ كما نجده فی قصیدة " من أنت یا نفسی "، فهویقول فی قصیدته موجّهاً الحیث إلی نفسه:

    " أیة نفسی! أنت لحن فیّ رنّ صداه، أنت ریح ونسیم، أنت موج انت بحر، أنت برق، أنت رعد، أنت لیل، أنت فجر، أنت فضل من اله" [14]].

    إن إیمان نعیمة بوحدانیة الحیاة وإحترامها جعله ینجذب إلی أحضان الطبیعة التی نشأ فیها، وإن حبه لها هداه إلی توحده فیها، فهوكان یمضی معظم أوقاته فی " الشخروب " ویتأمل فی الطبیعة.

    ونجد الأرقش أحد شخصیات آثاره فی " المذكرات " یتكلم عن حب الطبیعة والتأمل فی مظاهرها، والإستغراق فی هذا التأمل إلی درجة تذوب فیها النفس حتی تصل إلی وحدة الوجود. الأرقش یبین " أنا القسم الإنسانیة الساكت وما بقی متكلمون ... أدركت حلاوة السكوت ولم یدرك المتكلمون مرارة الكلام، لذلك سكت والناس متكلمون" [15]]. یجد الأرقش السكوت مجالاً للتأمل والمعرفة وهذا السكوت هوالذی دفعه إلی مناجاة شعریة هادئة عمیقة یقول فیها: " یا بحر، یا مهدی ومهد الحیاة، یا بحر، یا صوتی وصوت الدهور، یا بحر، یا فوارة لا تغور، یا بحر، یا قلبی وقلب الإله و... " [16]]. الأرقش فی هذه القطعة یمثل التشابه الموجود بینه وبین الطبیعة فهما یدعوان إلی الوجود الواحد، ویعلنان عن كائن واحد، وهوالله ( جل جلاله ).

    نجده ایضاً فی " همس الجفون "، له شوق عمیق إلی الإتصال بالعالم الخارجی، والولوج الیه، ویتراءی هذا الشوق من خلال إیمان كامل بوحدة الكائنات والأشیاء، یقول نعیمة فی قصیدة " إلی دودة " یستصغر الناس قدرها:

    « لعمرك باختاه فی حیاتنا
    مراتب قدروا تفاوت اثمانٍ
    مظاهرها فی الكون تبدولناظرٍ
    كثیرة اشكالٍ عدیدة الوان
    واقنومها باقٍ من البدء واحداً
    تجلت بشهب ام تجلب بدیدان»
    [17]].

    فهویری أن هناك وحدة وجودیة، موجودة بین الدود والإنسان، وهویدرك هذه الأسرارعن طریق قلبه لا عقله، هذه الفكرة ایضاً موجودة فی قصیدة " من أنت یا نفسی " كما أسلفنا، حین یحس بصلة عمیقة بین نفسه وبین أمواج البحر، ویحس الإحساس نفسه إزاء الرعد والبرق فی السحب. فیشعر أنه یتحد مع كل هذه المظاهر الطبیعیة اتحاداً وجودیا ً كاملاً، وهوإتحاد تتجلی فیه أضواء الذات الإلهیة.

    كذلك یری أن الله والعالم شئ واحد، فإنه یشهد بأن تلك المظاهر، ظواهر لحقیقة واحدة، هی حقیقة الذات الإلهیة التی تتجلی فیه، وفی صوره وأشكاله المختلفة، كما نری فی قصیدة الإبتهالات:

    " كحّل اللهم عینی، بشعاع من ضیاك، كی تراك: فی جمیع الخلق، فی دود القبور، فی نسورالجو... » [18]].

    فنعیمة یری حلول الله فی خلقه كله، لا خارجاً عنهم بل فیهم وفی علیِّهم ودنیّهم. هكذا نری الله فی كل شئ، حتی فی المتناقضات التی یظن المرء أنها علی طرفی نقیض لا جسر بینهما. إنطلاقاً من هذا الإیمان الذی یوحد بین الكائنات والأشیاء ویمزج بینها، نجد أن إنسان نعیمة یری نفسه فی كل كائن اومظهر من مظاهر الطبیعة البادیة أمام ناظریه. تتفرع سائر آراء نعیمة، وفكرته التقمصیة، والإنسانیة، والإلهیة، والطبیعیة عن هذه النقطة الأساسیة، فما دام الوجود كله واحداً غیر منفصل فلیس هناك إله، وإنسان، فالله هونحن ونحن الله لإننا منه الجسد، وهوفینا الروح. وفی هذا یقول:

    "كما انّ بزرة الأرز الصغیرة تنطوی كل أسرار الأرزة الكبیرة التی ولدتها. هكذا إنطوت فیكم كل أمجاد القدرة التی بعثتكم من اللاوجود إلی الوجود. فانتم سرمدیون كالقدرة التی من رحمها انبثقتم، وفیكم كل أسرارها" [19]].

    فهكذا نری أن الوجود عند نعیمة، كله وحدة متماسكة، مترابطة الأطراف، لا إنفصال لها ولا تجزئة، ولا حدود. تلك الأجزاء، الحقیقة الكبری التی ندعوها الوجود، أوالحیاة، أوالطبیعة، بالتالی ندعوها " الله " الأزلی الأبدی غیر المحدود. فالله هوالوجود، والوجود هوالله. هذه هی حقائق الحیاة التی تركز علیها فلسفة نعیمة " وحدة الوجود " أو" وحدة الإنسانیة " التی یشترك فیها الإنسان بألوهیة الخالق، كما یجعل له شركة فی كل ما فی الوجود.

    وهكذا یمضی نعیمة متتبعاً مظاهر الطبیعة من حوله مازجاً بینه وبین نفسه بما یوحی بأنها لیست إلا صدی.

    فلسفة الموت عند نعیمة: یعرف نعیمة الموت علی طریقه قائلاً: «لو... كان الموت تلاشیاً واضمحلالاً كما یتوهم أكثر الناس، لكان للحیاة ان تتلاشی وتضمحل من زمان، ولكنها تتجدد بالموت، ولأنها تتجدد بالموت، فالموت لیس النهایة التی تتوهم، بل هودرب من دروب الحیاة. الموت درب من دروب الحیاة ولا نهایة للحیاة» .

    هذا هوالرأی الغالب عند نعیمة فی الموت ونراه یكرره فی مواضیع مختلفة وبطرق متنوعة، ثم یأتی الموت فیفرق بین الروح والجسد. أما الجسد فیعود الی أصله، الی التراب. وأما النفس فلا علم لأحد بما تصیر الیه بعد مفارقة الجسم، فیصور نعیمة هذه الحالة، قائلاً فی قصیدته « أوراق الخریف »:

    «عودی إلی حضن الثری
    وجددّی العهود
    وانسی جمالاً قد ذوی
    ما كان لن یعود
    فلا تخافی ما جری
    ولا تلومی القدرا
    من قد أضاع جوهرا
    یلقاه فی اللحود
    عودی إلی حضن الثری»
    [20]].

    فتلك سنة الحیاة التی نحیاها، واللحود لیست فناء، وإنما هی دورة جدیدة من دورات الحیاة الغیر متناهیة. وهوینظر هذه الدورة بدوره قریر العین، ولا یشعر نحوها بأی خوف، بل یملؤه الأمل بأنه یستخلص من ثیاب حیاته وهمومها وأحلامها، ویستقبل حیاة جدیدة ... . فهوینظر إلی الموت وكأنه وقت الخلاص أووقت التحرر من سجن الطین أوسجن الجسد.

    الحیاة والموت مسألة شغلت تفكیر میخائیل نعیمة منذ حداثته: ما هی الحیاة؟ وماذا بعد الموت؟ وهل من حیوات أخری بعد هذه الحیاة؟

    كلها مسائل كانت تقلق راحة « ناسك الشخروب » إلی أن إلتقی یوماً بشاب إسكتلندی فی أمریكا، إسمه « بل »، فجری بینهما حدیث عن التقمص، ولم یكن نعیمة قد سمع بالتقمص من قبل، علی حدّ قوله، أما « بل » فقد شرح له ذلك بأن « كل من یموت یعود بعد فترة من الزمن فیولد من جدید كما تفعل الحبة بالتّمام، فهی تموت لتولد حبّة من جدید» [21]]. یقوم إیمان نعیمة بوجود حیاة بعد الموت، علی فكرة العودة الی التجسد « التقمص »،

    فیجب هنا أن نقوم بتعریف التقمص وما هومعنا التقمص؟

    معنا التقمص أنّ كل من یموت یعود بعد فترة زمنیّة فیولد من جدید. فهذا لیس بمعنا أنّ كل من یموت یعود فی مثل جسده وظروفه التی كان فیها، لا بل یولد فی جسد جدید یهیأ له حسبما تقتضیه أعماله وإستعدادته وعلاقاته التی حملها معه عند الموت من حیاته. فنجد هذه الفكرة فی كتاب لقاء التی نتطرق إلیه فی التالی.

    هكذا بدأ نعیمة یؤمن بأنّ الموت الذی یفاجئ الإنسان، إنّما هودعوة الی حیاة جدیدة، من هذا قوله: « أنا سأموت، وكل حی علی وجه البسیطة سیموت، والأرض ستموت، والنجوم ستموت، وما من شئ علی الإطلاق إلا سیأتیه یوم یتحول فیه شیئاً آخر، وتبقی البوتقة العجیبة التی فیها تنصهر الأشیاء القدیمة، وتولد منها الأشیاء الجدیدة، وحدها التی لا تموت » [22]]. فأصبح بعد إعتناقه عقیدة التقمص، لم یعد یحزن علی الموتی حزن الناس العادیین، بل أصبح علی یقین أنه سیلقاهم یوماً، كما شعر بالتمام عند وفاة أخیه، الذی قال عن موته: إنه كان « حلقة فی سلسلة حیاته، وسلسلة حیاته لم تبدئ ساعة ولد، ولم تنقطع ساعة مات» [23]].

يعمل...
X