إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

حول رواية (مفترق الطرق) للكاتب يوسف المحمود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حول رواية (مفترق الطرق) للكاتب يوسف المحمود

    حول رواية (مفترق الطرق)
    للكاتب يوسف المحمود

    الثورة - أحمد علي


    لقد أتى على الرواية بتعاريفها ودلالاتها وأدواتها وأحداثها وأغراضها وفنياتها وشخوصها وتقنياتها المعاصرة, حين من الدهر, لم تكن شيئا مذكورا في الأدب العربي, لأسباب معقدة عديدة ربما لا يكون من المفيد عرضها أو الخوض فيها في هذه المقالة,
    وهذا متروك بطبيعة الحال لنقاد الأدب الذين لست واحدا منهم بالتأكيد, إلا أن أمرا لا خلاف حوله أسهم بلا ريب في تأخير ظهور الرواية العربية, مثل بنات نجيب محفوظ الخالدات وعبد الرحمن منيف وحنا مينه وعبد السلام العجيلي والطيب صالح وغيرهم كثير, هو ولعنا نحن العرب بالشعر فمن منا لا يعرف القول السائد (الشعر ديوان العرب) ومن لا يستظهر:‏
    »ألهي بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم«‏
    ولو تأتَّى أن نسأل جميع المتعلمين وغير المتعلمين في أرجاء الوطن العربي لأجابوا أنهم حاولوا في وقت من الأوقات قرض الشعر, وكأن كتابة الشعر حالة لا بل حاجة لا نستطيع انفكاك منها أو الاستغناء عنها, والحق, كل الحق أن حياة العرب, بعامة هي شحيحة الحضور في الزمن المضارع, وهي إما هجرة نحو المستقبل أو هي هجرة نحو الماضي, ولعل هذا القول قصيدة مطولة من أبدع صنوف الشعر وتجلياته.‏
    وجدت نفسي مضطرا لهذه المقدمة البسيطة والتي لا أعرف إلى أي حد أنها مقنعة أو صحيحة وأنا أنوي تسجيل انطباعات شخصية جدا عن رواية (مفترق الطرق) التي أثبت من خلالها وبالجدارة كلها الكاتب المبدع الصديق يوسف المحمود أن أجمل الشعر لا يكتب أبدا بالشعر بل بالرواية فقط, استميح القارىء المعذرة إن قلت (مفترق الطرق)هي ملحمة شعرية من الطراز الأرفع من أول كلمة فيها إلى آخر كلمة, من يشك في قولي هذا أنا أدعوه لكي يقرأ هذا العمل العظيم الذي وصفه الروائي المعروف جدا الطيب صالح بأنه عالمي بجميع المقاييس.‏
    جاءت العالمية متزينة بأفخر ملابسها وأغلى حليها ماشية على استيحاء تبحث في لهفة عارمة عن يوسف المحمود ليتقبلها ملكا حلالا له, أجر ما سقى لنا من أرواح عطشى في زمن ماحل قاحل جديب, محاولة أن تدلف إلى مملكة محليته الساحرة التي جعلها أمنع ما تكون بجيوش من مخلوقات جميلة, نفخ فيها من روحه الأدبي, فتجلت لنا, أبشارا قصصين أسوياء طيبين, صاغوا الحياة في منطقة بديعة من ثرى بلادنا الحبيبة, على طريقتهم الخاصة, وبفطرتهم السليمة التي فطرهم البارىء عليها, عملا وشجاعة واجتهادا وفرحا ومحبة ووفاء وبراءة وكرما وصدقا ونضالا وكبرياء وورعا وتقوى, حمل يوسف المحمود وببراعة نادرة وبأمانة فريدة إلينا سلا ماتهم الحارة وخفيف أرواحهم الطيبة تحية مسكية من سالفين لاقوا ربهم في عالم الشهداء والصادقين والصالحين وحسن أولئك.‏
    على كل بيدر وفي كل حاموش وعند كل نبع وعلى كل مفرق طريق وفي كل درب وتحت كل سقف, تحرك شخوص (مفترق مطر) شعرت بكل صدق أنني كنت بينهم وواحدا منهم, وأنني عشت معهم في كل أفراحهم وأوجاعهم وعذاباتهم الصغيرة والكبيرة, وأسمع أحاديثهم, وارى ما يفعلون وما يأكلون, وأشاطرهم وأقاسمهم حالا عميقة, من الضنى الكوني اللذيذ الذي هو المعنى الحقيقي للحياة وللوجود والذي هو فلسفتها الأكيدة من دون أدنى ريب: فلاحون وعمال ورعاة وحصادون وحيوانات وطبيعة وشتاءات وغيوم وشموس ومواسم وزواريب وحواكير وبراري وطيور وحمائم وأشجار سنديان وبلوط وخرنوب وبطم وتين وعنب وبدرة وخاتون وعلي الضرغام وتمرة العلي وأضرحة أولياء وسماوات زرقاء صافية وأقمار ووديان وبيادر وتلال وأسفار إلى طرابلس وتوكومان وبوينس آيرس وسقوف بيوت ترابية تتفطر من الدلف وخميس وحمورة وكلب بيت الشيخ علي وتنانير ونيران والجندرمة والتحصيلدار بجزمة البيليك, قصص وحكايا وصور برع يوسف المحمود في أنسنتها وسردها وكأنها مكتوبة أمام ناظريه بحرف كبير على لوحة عملاقة, ولا عجب أن تهرع الأشياء والأمكنة والأزمنة إليه لتطوى له المسافات فيرى في اللحظة الحاضرة وقائع وأحداثا جرت منذ ستين عاما ونيف, بكل تفاصيلها وتعرجاتها وطيوفها وأشكالاها وتلاوينها, وكأنها صورت بكاميرا, حقوق ملكيتها وعملها له, كيف لا, وهو الإنسان الشفيف ذو الوقعة الواحدة (أبو وقعة) كما كان الناس يسمونه على مدار الأربع والعشرين ساعة, والذي كاد أن يتخلص من كثافة الجسد ويتجد بعالم الملائكة اللطيف مرددا قول السيد المسيح (مملكتي ليست من هذا العالم) إنه شخص لا يتناول إلا وقعة واحدة وذلك عند الظهيرة وفي أغلب الأحيان البرغل, طعامه الأثير وكانت تلك عادة لازمته طيلة الحياة وحتى اللحظة, أنا على يقين أنه حاول مرارا وتكرارا البقاء بلا طعام, وهو بقية من كائن فلم يستطع إلى ذلك سبيلا إذ إن نفسه لا كما قال المتنبي: بها أنف أن تسكن اللحم والعظما, يقول في الصفحة (588) من الرواية أنا في أي حال كانت وفي أي مكان كان, لا أستطيع أن أمسك دموعي إذا ما سمعت استهلال الأرغول للمرسح, إنه النغم الفرد الذي يرميني في عمق الحياة, ويجعلني في الذرة التي كانت مع البشر جميعا في صلب آدم.‏
    تزيد كثيرا على وردثوورث شيخ الرومانسيين الإنكليز في ننوستالجياه للعودة إلى النور الأول الذي كأنه في قصيدة (الحاصدة المنفردة) يود الشاعر وردثوورث أن يعرف معاني مفردات الأغنية المؤثرة للحاصدة التي يفيض بها الوادي والتي هي في جوهرها حنين موجع إلى رتق فتق, ولما أعيته الحيلة في استنطاق المبهم, قدر أنها كلمات حزينة حول واقعة أو وقائع مؤلمة غير معروفة الأسباب جرت منذ أزمنة قديمة لكن نغم الأرغول ينقل كاتبنا الفذ إلى آماد سحيقة لا يمكن قياسها بوحدات الزمان الوضعي فهو لا ترضيه الحياة في الحدود الضيقة لمفهومي الزمان والمكان, إنه نزاع إلى السفر إلى الزمان والمكان الالهيين, يحاول يوسف المحمود كالرهبان البوذيين والمتصوفة من خلال رياضات روحية قهر الجسم الإنساني وإفنائه بالعزوف شبه الكلي عن الطعام والشراب إلى ما يقيم أوده فقط, في سعي حثيث منه, طبعا بالوصول إلى عالم التسامي والانطفاء (النيرفانا) فكان له ما أراد وهذا ما أغدق عليه روحا شفيفة تخترق الحجب والأستار وتجترح معجزات الكشف والرؤية الصوفية المتجاوزة للماديات الكثيفة والأدران, وقادرة في الوقت ذاته على نقله إلى حبيبه الأول وموطنه الأول وبهذه الروح الشفيفة استطاع أن يرى كل هذا الكم الهائل من التفاصيل التي احتواها (مفترق المطر).‏
    يؤدي الأدب في صنوفه جميعها وظائف شتى وعلى مدى العصور ولعل أكبر مكافأة يسديها في هذا الزمن الكئيب المحتقن بالخطايا هي تطهير النفس البشرية مما يعلق بها من الشرور بحيث يغدو هذا التطهير علاجا عظيم الفائدة لا تستطيع أن تقدمه المشافي الحديثة ولا الأطباء المعالجون المختصون انتشالا من مستنقعات الركود والانهزام والعبثية والانعزال واليأس والعدمية إلى دنيا الحب والأمل والحق والجمال والخير والتفاؤل.‏
يعمل...
X