إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

نظرة بدوي الجبل إلى المرأة في الشعر العربي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نظرة بدوي الجبل إلى المرأة في الشعر العربي


    بدوي الجبل

    إكتشف سوريا



    الكيان الشعري عند بدوي الجبل
    بدوي الجبل والمرأة
    لا شك أن نظرة بدوي الجبل إلى المرأة تميزت بخصوصيتها في الشعر العربي، فهو كشاعرمرهف الحس قد أعجب بالمرأة أيما إعجاب، وأحبها في أدوارها المختلفة بالنسبة إلى الرجل، أماً وأختاً وحبيبة وزوجة.
    يقول الكاتب هاشم عثمان: لكي نعرف مقام المرأة عند بدوي الجبل لا بد أن نقرأ قوله فيها أولاً: « نعمة الله على الخيال والفن والعاطفة، تمدهن بأروع الصور أملحها وأسماهها، وإنني لا أستطيع أن أتصور أدباً لا يستمد عذوبته وخياله من ابتسامة المرأة وحنانها وحبها أماً وزوجة وحبيبة».
    لكن نظرة البدوي إلى المرأة في شعره تختلف عما اعتدنا عليه في الشعر العربي من موقفين لا ثالث لهما، إما الشاعر العذري الذي لا يعترف بحضور المرأة الجسدي وتبقى له خيالاً بعيداً عصياً عن المنال، أو الشاعر الماجن المغامر على طريقة عمر بن أبي ربيعة، لا يرى فيها روحاً ولا خيالاً، وليس أبعد من اللذة الآنية المباشرة.
    لقد تجاوز بدوي الجبل هذين المفهومين، عندما مزج بينهما بسهولة الشاعر المبدع، ثم أضاف بعداً ثالثاً قلما نراه في الشعر العربي عموماً، إنه البعد الروحي الما ورائي، والانتقال إلى ما تجسده المرأة وترمز له، من قدرة الإبداع والخلق المذهلة عند خالق الكون، الذي وضع في هذا الكائن الضعيف الجميل، أسرار الطبيعة الغامضة، في تقلبها وغضبها ورضاها وجمالها ونعومتها وقسوتها وهجرها وصدها، والشاعر هو الكائن التائه في غموض هذه الرموز وتعقيدها، يحاول أن يفكك طلاسمها عله يظفر بالراحة والاستقرار والهناء، وعله يلقي نظرة أبعد، قد تذهب به خطوة أخرى في اكتشاف حقائق الكون، والتقرب أكثر من خالقه.
    وقد أحب البدوي هذا الغموض والترميز، وشده هذا أكثر فأكثر إلى المرأة وعوالمها:

    أحببتها ساحرة كالرؤى *** مبهمة غامضة كالظنون
    ولكن هذا لم يمنع الشاعر من أن يستجيب لكل مؤثر تشكله فتاة جميلة، فيجود بأجمل قصائد الوصف لهذا الجمال الآسر، وهكذا توالت القصائد الجميلة تصف السمراء والشقراء والعذراء الخائنة، ومما قال في وصف الشقراء:
    شَقْراءُ يا لَوْنَ حُسْنٍ
    وَيَا جَمَالاً غَرِيباً

    لاَ وَسْمُ لَيْلايَ فِيهِ *** مُحَبَّبٍ مُسْتَبِدِّ
    عَلى ظِبَاءِ مَعَدِّ
    وَلاَ مَلامِحُ هِنْدِي

    ويحكى أن المطربة الكبيرة الراحلة أم كلثوم قد طلبت من الشاعر أن يسمح لها بغناء هذه القصيدة شرط أن تبدل شقراء إلى سمراء إلا أنه رفض ذلك.
    ومن طرائف قصص البدوي الغزلية ما رواه الأديب الكبير عبد السلام العجيلي في مقابلة له مع الأستاذ فيصل عمران، ودونها في كتابه «ذكريات السياسة»:
    «كنت في المجلس النيابي زميلاً للشاعر الكبير بدوي الجبل الذي كان نائباً وأميناً لسر المجلس، وكان الرئيس فيه العلامة المرحوم فارس الخوري. وفي أصيل أحد الايام كنت في زيارة لصديقي الشاعر الكبير في فندق الأوريان بالاس، فاقترحت عليه أن يحضر معي ندوة لحلقة الزهراء كان موعدها بعد ظهر ذلك اليوم، على أن نخرج من الندوة إلى جلسة المجلس النيابي التي كانت ستعقد في وقت لاحق في المساء. لم يبدِ الأستاذ البدوي استجابة لما اقترحته، وتعلل في البدء بواجبه في أن يصل قبل النواب الآخرين إلى مكتبه، ثم نزل على إلحاحي وقبل مرافقتي بعد أن وعدته بأن نترك الجلسة مبكرين.
    كان اجتماع الحلقة في تلك الأمسية مثل كل اجتماعاتها ندوة أدب وسمر رفيعين. كما إنها حفلت ، إلى جانب روادها من المثقفين والكتاب، بزمرة رائعة من السيدات والأوانس تألقت بينهن صبية فاتنة الحسن رقيقة التهذيب تفيض ظرفاً وحيوية. وبدا لي أن صديقي الشاعر الكبير لم يندم على نزوله عند اقتراحي ، بل أن جو الندوة راق له إلى درجة نسي فيها جلسة البرلمان التي حان انعقادها. وكما فعلت حين استصحبته الى هذه الندوة كان علّي أن ألح عليه، وان أذكره بمقعده إلى جانب رئيسنا وأستاذنا فارس بك، حتى يطاوعني فيغادر مقر حلقة الزهراء إلى دار مجلس النواب.
    وفي الجلسة، وبينما كنت في مقعدي إلى جانب زملاء من النواب الشباب كنت أؤلف وإياهم كتلة نواب واحدة، جاءني أحد السعاة يحمل إلي ورقة مطوية من أمين سر المجلس الذي كان في مقعده إلى جانب الرئيس. فضضت الورقة فإذا فبها بيت شعر هو التالي :

    لاتبالي والخير في أن تبالي *** الهجرُ لصدٍ أم لــدلال

    ضحكت وساءلني زملائي ماذا تريد الرئاسة مني فتهربت من الجواب. كنت أعرف ماذا حرك شيطان الشعر في صدر صديقي، أو من حركه. فتناولت قلمي ورحت أجيبه، وكتبت تحت البيت الأول هذه الأبيات:
    لو تراها وأومضت مقلتاها
    أين لا أين عاشقٌ "بــدوي"
    قلت أودى بلبه ياســـــليمى

    كلنا في هــواك صبٌّ عميــدٌ *** تسكب الشوق في ثنايا السؤال
    ملهم الروح عبقري الخصال
    خافـــق هام في فنـون الجمال
    مثل بدو السهول بــدو الجبال

    وأعدت الورقة مع الساعي إلى المنصة وعيني عليه، وكذلك عيون زملائي. ولحظنا جميعاً كيف قرأ البدوي الورقة ومال بها إلى الرئيس يتلوها عليه، وكيف كان فارس الخوري يهز هامته الضخمة لتلك التلاوة. وانصرفنا بعض الوقت الى أعمال الجلسة ورفاقي في تساؤل عما بيني وبين أمين سر المجلس ورئيسه من مراسلة. ولم يلبث الساعي أن عاد إلي بعد قليل بورقة أخرى مطوية، فضضتها فإذا بها تحمل هذه الأبيات الرائعة :
    ما لسلمى بعد المشيب ومالي
    إن حب الجمال أصبح عندي
    كلما لاح بارق من سنــاه
    وأنا الظامىء القنوع كفاني
    أعشق الحسن نظرة وحناناً

    وأحب الجمال يلهمني السحـْـ *** بدعة الحب صبوتي واكتهالي
    بعد شيبــي عبــادة للجمال
    جن قلبي وضلّ أي ضلال
    عن ورود الغدير ومضة آل
    ورؤى حالمٍ وطيف خيــال
    ــرُ وأهواه مشرّباً بالـدلال

    قرأت الورقة وطويتها محتفظاً بها لنفسي، غير مشبعٍ فضول رفاقي، ولا فضول الصحفيين الذين كانوا يرقبون من شرفتهم رواح السعاة ومجيئهم بين منصة الرئاسة وكتلة النواب الشباب في قاعة المجلس بهذه الأوراق المكتوبة. لقد ظنوها تتعلق بإحدى المناورات السياسية التي كان المجلس النيابي مسرحاً لها، فجاءوا إليّ بعد انفضاض الجلسة يسألون ويلحّون في السؤال. غير إني لم أطلع أحدا على الحكاية، ولم أنشرهذه الأبيات التي أوحتها حسناء في حلقة الزهراء ونظمها نائبان من نواب الأمة، قبل هذا اليوم».
    إلا أن القصيدة الأجمل في رأيي بين قصائد البدوي في المرأة هي قصيدة «خالقة» التي تماهى فيها الجسد بالروح، وتماهت فيها الكلمات بالصور، فانتقلت بالقارئ أو السامع إلى عالم آخر، ساحر الجمال.

يعمل...
X