إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الحصار و الإبداع - سلمان إسماعيل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحصار و الإبداع - سلمان إسماعيل

    الحصار و الإبداع
    وقفة مع تجربة ماياكوفسكي (أبقراط العقد ) ،تميّزه وانتحاره ...
    ترى هل كانت أمّ { يفتوشنكو } محقة عندما أقدمت على كراسات أشعاره و قد كان صبيا رومنتكيا حالما و هي التي تتذوق الفنون و منها الشعر ؟
    أما من جهتها فكانت الأسباب واضحة أمامها لم تكن ببساطة ترتضي لولدها حياة الشعراء و وصائرهم ، عرفت مصير { بوشكين } و { ليرفتنوف} و قد قتلا بمبارزة و مصير { بلوك } الذي احرق حياته ببطء متتابع في دخان الليل و { يسنيت } الذي شنق نفسه و أخير { ماياكوفسكي } قبل ولادة ابنها بثلاث سنوات الذي ترك إلى جانب نفسه مسدساً و رسالة 0000
    باختصار كانت أم { يفتوشنكو } تختصر دفاعها عن محاولتها التفريق بين ابنها و الشعر بجملة تقريرية واضحة :
    " يا ولدي لن يجلب لك الشعر أبدا الحياة الهادئة أو الثروة" ماذا ينتحر الشعراء و لماذا انتحر ماياكوفسكي بالذات ؟
    ولد ماياكوفسكي في قرية { بغدادي } الجيورجية البعيدة عن موسكو و تلقى تعليمه الأولي فيها ثم سافر إلى موسكو و شهد أواخر القيصرية و مثلما كانت الصحافة تشهد هبٌات صاخبة كانت الثقافة كذلك و لم يترك ماياكوفسكي نبوغه الشعري القوي و المبكر ينتظم في الدراسة و مع هذا المسلك التعليمي المضرب اسلم نفسه للشعر مشكلا مع مجايليه الفنانين مدارس جديدة تبلورت عام 1912 بجماعة المستقبلين الذين وجهوا بيانهم الخطير تحت هذا العنوان الاستفزازي للتقاليد الأدبية و الموروثات الثقافية المؤسسة : { صفقة في وجه الذوق العام }
    و طفى صوت ماياكوفسكي على أصوات زملائه المجايلين من الرمزيين و المستقبليين و علت قامتهم قاماتهم جميعا ، لقد سجل مجايليه باسترناك في اعترفاً شخصياً يندر إن يصدر عن ندًٌ :
    " هناك اثر أشياء كثيرة مشتركة فيما بيننا و كنت متفطناً إليها و لكني كنت مدركاً في الوقت نفسه إنني يجب أن أكون على حذر شديد من ازدياد أوجه الشبه بيننا بمرور الزمن ، لأن ذلك سيقضي على تفردي وشخصيتي "
    لقد شعر ( باسترناك ) الذي يعترف بوقوعه تحت تأثير ( ماياكوفسكي ) بالافتقار إلى الموهبة الحقيقية التي كانت تتجلى بصورة تستثير الروعة و الخشوع لدى ماياكوفسكي 0000
    في مطلع القرن العشرين كانت روسيا تشهد تحولاً مشهوداً إذ لا احد يمثل الشرعية و كانت الجماعات السياسية و الثقافية تبحث عن أنصارها من بين الجماهير التي تبحث هي الأخرى عن ممثليها و لم يعدم ماياكوفسكي و جماعته من المستقبلين من يصفٌق لهم أو يحتفل بإبداعاتهم لقد نشر له أوسيب بريك في عام 1915 قصيدته المشهورة غيمة في بنطلون ووجد في ليليا أخت اوسيب رفيقة حياة ممكنة فهي الأخرى كانت نجمة أدبية طالعة في سماء الحظ ذاتها و توهجت نجمة ماياكوفسكي بعد أن تيسٌر لها الحب و الإعجاب و تألقت به المستقبلية به أيضا و استمر في ثورته و توغله لاكتشاف المغاير و المختلف و تجرئه على مجافاة الاعتيادي و الاتباعي المؤسس رافضاً أي سلطة أدبية 00000
    قرأ ماياكوفسكي أشعاره في كل مكان : في النوادي و الساحات في المدن و الأرياف ... وكان هذا الشعر رغم غموضه النسبي ، ممتلئاً بالإثارة ، قادراً على التحريض ، لأنّه يصدر عن شخصية يفيض مظهرها بطاقة تعبيرية آسرة ، وتجسّد بحركاتها إحساساً بعبقرية قويّة
    وكان ( ماياكوفسكي ) يمتلك الدفاع عن غموض شعره وصعوبته ، قالت له أمه مرة ً : لماذا تكتب هذا النوع من الشعر ؟ ولم يتردد في الإجابة : لو كتبت كل شئ بوضوح ، فلن أستطيع العيش في موسكو ، أنما في مكان ما من سيبريا ، أو في ترخانشك ، في المنفى ، إنهم يراقبونني .
    وعندما آلت روسيا إلى البلاشفة عام 1917 م ، لم يتردد ماياكوفسكي أن يخلص لهم ، فبدايات الثورة تتيح له أن يتابع تمرده ، ورتب عليه هذا الولاء الجديد أن يميل شعره إلى الوضوح أكثر منشداً الثورة ، ومصوراً أحلام البائسين و الحالمين ، مجمّلاً الأفاق ، وراصداً معالم التغيير ..
    لقد اكتسب ماياكوفسكي مفردات المرحلة ، وأضاف ، وغدا يكتب في كل شيء : الكوصمول ، البترول ، البرولتاريا ، الحزب ، الإمبريالية ، الحرب ، المسؤوليات ... الخ ، ويعبّر بكل ألوان الفنون الممكنة ( بالإضافة إلى الشعر ) ، عبّر بالرسم ، وبلغة الإعلان ، وابتكارات الشعارات ، بسيناريوهات الأفلام ، بالمسرح ، باعتلاء خشبة التمثيل .... لقد أعطى كل ما لديه للتحول الجديد ، وغدا شاعر الثورة بلا منازع و لكن إلى متى ؟ هل يمكن أن يضل العقد قائماً بين شاعر ٍ مبدع وسلطة أصبحت واتفاً ؟
    لو حدث هذا لتغيّرت قوانين صار لها اختبار كافٍ لتأخذ شكل المعادلة العلمية و التي تتلخص في استحالة تحمّل فنّان مبدع من دولة شموليّة تنظر إلى الفن أداة تقدّم خدمة محددة ..
    هل يستطيع الشاعر الاستمرار مع ثورة صارت دولة ؟ وهل تستطيع دولة الثورة أن تتحمل الإبداع المنطلق الذي يصعب تكييفه لمتطلبات الثورة ؟
    يستطيع أن يستمر المصفق و مروج الشعارات ، ولكن الشاعر أمامه أن يصمت أو يهاجر أو يموت .... خيارات الأدباء المبدعين في روسيا كانت تتحرك ضمن هذه الصّيغ ( الصمت ، المنفى الداخلي ، المنفي الخارجي ، وأحياناً الانسحاب بالموت . )
    ماذا عن ماياكوفسكي أن يختار ؟ هو حاول الاستمرار ، ولكن كيف تستطيع السّلطة أن تتقبله ؟
    عندما كتب قصيدته (150.000.000) مئة وخمسين مليوناً ، عام 1921م ، سمح ( لوناتشاريسكي ) وهو مفوّض الشعب للتعليم آنئذٍ ، أن يطبع منها خمسة آلاف نسخة ، لكن (لينين ) ولم يكن يمثّل المحافظة تماماً ، يقرّع المفوض بقوله : ألا تشعر بالخزي من نفسك ، وأنت تقترح طبع هذه الكمية ، إن عُشر الكمية فقط هو الذي يستحق الطباعة من أجل المكتبات والمهاويس (!) ، ولم يستطع غوركي وهو المعروف بحمايته للمبدعين ، أن يثني (لينين) رغم حظوته عنده ، عن رأيه إزاء أشعاره (ماياكوفسكي ) .. لقد استطاع فقط ، أن يخفف من حدّة نبرته ( كل ما يكتبه ليس مطلوباً تماماً ، فيما أرى ، ليس هو المطلوب كما أنه صعب الفهم ، وكل شيء عنده مبعثر للغاية ، وصعب القراءة ، سترى )
    السلطة تريد أدباً محدداً ( مطلوباً ) ، وتريده مفهوماً تماماً ، وهيّن التناول ، السلطة تحدد الإبداع ليتطابق مع الإعلام ، ليصيح للدعاوة.....
    وهكذا يدخل ( ماياكوفسكي ) مع الدولة في حالة ( حذر متبادل ) ، ويتلقى الكتبة الصّغار ، بموقف لينين ، إشارة الهجوم على الشاعر ، ويفصّل الكتاب الطامحون لود السلطة ، في مواطن الشبهة ، يرذلون الغموض ، ويضخمون النزعة الفرديّة ، ويعارضون بين أشعاره و الأشعار الممجّدة من الشعب ( أشعار بوشكين وليرمنتوف ) .. ليصلوا ، بعد ذلك ، إلى مثل ( كفانا ماياكوفسكية ) .
    ولمن يحتكم الشاعر والطابع السياسي يلوّن كل شيء ، ويهيمن على كل شيء ..؟ إذا قال له أحد المحاربين : " لماذا تكرر في كلامك ضمير أنا ؟ هل يتجرأ أحد أن يناصره ، وهو يرد : هل تعتقد أن نيقولا الثاني كان يؤمن بالروح الجماعية عندما يقول : نحن .. ، نحن ..؟
    أليست الجماعية هي فلسفة المرحلة أيضاً ..؟ وهل يستطيع ماياكوفسكي أن يدّعي فهماً آخر للواقعية في الفن ؟
    وتزداد المسافة اتساعاً وتمدداً بين الشاعر و الواقع القائم ، وكيف يستطيع أن يعمد بعد أن تمكنت الستالينية من الحياة كلّها ؟
    لقد عاش ماياكوفسكي هذه السنوات القليلة ، ليرى كل أحلامه تتأجل أو تتحقق تحققاً مشوهاً مرعباً ، البيروقراطية – التشدق العقدي – سيادة الرياء ، ماذا عليه أن يفعل ، أو ماذا يقدر أن يفعل ؟
    لا شيء .... الصمت – الهروب – التعرض للنفي الداخلي – أو .. أو الموت (!)...
    ولأن ماياكوفسكي أتيح له ، أيام صعوده ، أن يرى العالم ، أن يتنفّس من هواء ( خارج ) في ألمانيا وفرنسا ، في الولايات المتحدة وثم في بولونيا وتشيكوسلوفاكيا .. وقد التقى ، هناك ، السياسيين والشعراء والرّسامين ، وأكثر من ذلك عرف الحب ، حب ( تاتانياياكوفليفا ) ، و ( الكسندروفنا ) ، فإنه لم يعد يطيقه الدّاخل ، لقد فكر لحظة باختيار المنفى الخارجيّ ، ألم تعجب به (باكوفليفا ) وتتحدث عن روعته ؟.. لقد حاول من جهته ، أن يفك الحصار الذي رآه يكاد يكمل التفافة من حوله ، واتجه صوب منافذ (الخروج)، معبراً عن ذلك ( يخيّل إليّ أحياناً أن أرحل إلى مكان ما ، ,أعيش فيه سنة أو سنتين فقط ، حتى لا أسمع الشتائم ....
    ويكتب لـ باكوفليفا المقيمة في باريس :" العمل و انتظارك هما فرحتي الوحيدة في الحياة " و راهن على جواز السفر و لكن البيروقراطية أعطت للهواجز الفرصة الأولى و يأتي زواج الحبيبة التي يئست من الانتظار ليزيد في اختناق الشاعر .....
    و ترفع أعماله من واجهات المكتبات و يزداد النقاد الجزارون في متابعة أعماله بمعايير السلطة و الفعالية الجماهيرية من مثل :
    ما فائدة قصائد الحب للجماهير و ما نفعها لحركة ؟
    لقد حصل ماياكوفسكي على المجد و لكنه لم ينتصر كما بدا له و لم يتوقف رغم الحصار و المتابعة .... عبّر عن الواقع بطريقته بالشعر و بالمسرحيات لقد كتب في السنوات الأخيرة القليلة قصائد من مثل { فظائع الأوراق ـ مجنون الاجتماعات } و مسرحيات {البقّة ـ الحمّام } وقد مُثلتا بصعوبة ثم { روسيا تحترق } وكانت تعد للعرض قبل انتحاره ..
    لقد أثبت ماياكوفسكي على أنّه وفيٌّ للحقيقة ، وفي ذلك انتصاره ، ففي أعماله الخيرة كلها انتصر للإنسان وقد هدرت قيمته ، وشلّت فاعليته ، ومحيت فرديته الخلاّقة ، وأعيق تفتحه الإنساني الكامل .
    ورغم ذلك ، وفي الأيام الأولى من إطلالة الربيع ( في الرابع عشر من أبريل 1930م ) وجد الشاعر في حجرته راقداً على جنبه ، ووجهه نحو الحائط ، وبجانبه مسدس ورسالة .
    إنّه من المؤسف حقاً أن يقدم إنسان على الانتحار ، ولكن جريمة ماياكوفسكي لا يصعب على المحققين تحديد القاتل فيها على الرغم من أن الشاعر ترك رقعة بخطه تبرئ الجميع من أيّ تهمة تجاهه : " إلى الجميع : إنني أموت الآن ، ولا أتهم أحداً ، ولا أريد أدنى ضجة ، فالموتى يبغضون ذلك ، يا أمي ، يا أخوتي ، سامحوني إنّ ما فعلته ليس مخرجاً ، ولا أنصح به أحداً ، ولكنه كان مناسباً لي ، ولا حلّ ، غيره ، كان يلائمني ....
    يا ليليا أعطيني حبّكِ ..."
    لقد انتحر لأنه فقد شيئين يبحث عنهما الكائن الإنساني ، باستمرار ، بدءاً من الطفولة : الحبّ والتقدير .
    حتى لوتشارسكي ( كوميسار التعليم ) أدرك ذلك رغم موافقته على الصّيغة الأولية لتفسير الانتحار ( نحن لا نعرف الظروف ) .
    لقد نطق ( لوتشارسكي ) بعد حين ، وبعد استشارة ( ماركس نفسه ) من خلال مأثوراته طبعاً .
    ألم يقل المعلم : إنّ تجربة الشعراء تحتاج إلى كثير من الحنان ؟
    لهذا أعلن لوتشارسكي أخيراً : لم نفهم أن ماياكوفسكي كان بحاجةٍ إلى الحنان الكثير ، ذلك أنه لم يكن محتاجاً لشيء قدر حاجته إلى كلمة حنونة ، ربّما كانت أبسط الكلمات .....



    سلمان إسماعيل



    إضاءة : امتدت حياة ماياكوفسكي بين 1893 – 1930 م




يعمل...
X