إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الطواف حول الكعبة - عند ابن عربي - إعداد المحامي : بسام المعراوي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الطواف حول الكعبة - عند ابن عربي - إعداد المحامي : بسام المعراوي

    الطواف حول الكعبة - عند ابن عربي
    إعداد المحامي : بسام المعراوي
    وفيما هو يدنو من منتصف الثلاثينيات من عمره قرَّ ابن عربي على مغادرة مسقط رأسه إلى الأبد. وقد حضَّه جزئيًّا على اتخاذ هذا القرار الوضعُ الديني–السياسي المقلقَل في المغرب الإسلامي (الأندلس وشمال أفريقيا)، حيث لم يدعْ تزمتُ العلماء و"فقهاء الرسوم" وتعصبُهم أيَّ مجال لانبساط أيِّ منظور لاهوتي جديد، ولكن بخاصة بسبب رؤيا رآها في العام 1198 في مرسية، حيث أمره طائر يطير حول العرش الإلهي المحمول على أعمدة من نور بشدِّ الرِّحال فورًا نحو مشرق العالم الإسلامي. وبذلك بدأ الطور الثاني من حياته الخارجية–الداخلية الممتد من العام 1200 حتى 1223: ثلاث وعشرون سنة من التجوال في الشرق الأدنى، حتى حطَّ الرحال أخيرًا في دمشق.
    في العام 1201 – وكان له من العمر يومئذٍ 36 سنة – زار ابن عربي للمرة الأولى مكة المكرمة، وفيها نزل في ضيافة أسرة فارسية أصفهانية شريفة. ولقد كان ربُّ الأسرة نفسه شيخًا صوفيًّا هاجر من إيران إلى الحجاز وشغل منصبًا رفيعًا في مكة.
    وبحسب رواية ابن عربي نفسه، كانت لهذا الشيخ الفارسي بنت اسمها نظام، فتاة باهرة الجمال، ذات باع عقلي كبير وخبرة روحية عميقة؛ وسِحْرُ لَحْظِها، وحلاوة منطقها، وتواضع هيئتها اللطيف، كما يقول، كانت من العظمة بحيث إن حضورها كان يفتن كلَّ من يجلس في حضرتها. وهكذا وقع ابن عربي في حبِّها من فوره. وقد عبَّرت نفسُه المفتونة عن هذه الخبرة في ديوانه الشهير ترجمان الأشواق.
    يبدو ترجمان الأشواق من حيث الظاهر – أي لدى قراءته قراءة سطحية – وكأنه مجموعة قصائد غزل عادية مفعمة بصور عشقية دنيوية. والواقع أن غالبية العلماء والفقهاء فهموه على هذا النحو؛ وهو أمر أتاح لمن كانوا دومًا في ارتياب من صحة تعاليم ابن عربي إسلاميًّا ذريعةً لرميه بالفساد الأخلاقي. لكنهم، باتخاذهم، هذا الموقف من قصائد الديوان، فضحوا جهلهم بأن صورة الفتاة الفارسية الجميلة نظام، إذ ترتقي من عالم الأجسام إلى البُعد الرؤيوي أو "الخيالي" للوعي، تتحول إلى تجسيد عيني للـ"أنثى الأزلية"، وتصبح صورة متجلِّية للـ"حكمة الخالدة" Sophia æterna، بما يشبه بياتريتشه، حبيبة دانتي في الكوميديا [الإلهية]. والديوان كلُّه، بهذه المثابة، هو التعبير الغزلي لإنسان سورِر بـ"دين الحب"، أو بما يدعوه هنري كوربان البُعد "الحِكَمي" sophianique للحب.
    وبقصد توضيح هذه المسألة كتب ابن عربي نفسه شرحًا مطوَّلاً على الترجمان. وهذا المصنف ذو أهمية باطنية قصوى، من حيث إنه يلقي ضوءًا على واحد من المبادئ الأساسية الحاسمة في تعاليم ابن عربي: التأويل، الذي يعني حرفيًّا "إرجاع الشيء إلى أوَّله". [4] وهو يشير، اصطلاحًا، إلى طريقة معينة لتعليل شيء، مهما كان المرئي منه على السطح، وسواء كان نصًّا كاملاً أو مقطعًا أو عبارة أو حتى كلمة واحدة، بالرجوع إلى معناها "الخام"، غير المرئي على السطح.
    يُفهَم من ذلك أن استعمال التأمل لم يكن، من أيِّ وجه من الوجوه، مقتصرًا على شرح قصيدة غزلية، بل على العكس؛ إذ بعدما يرسخ المبدأ، كان يتيح منهاجًا تفسيريًّا ذا تطبيق واسع مَرِن لكلِّ المهتمين باستنباط المعاني الباطنة المكنونة في أعماق نصٍّ معين. ولقد استعمل ابن عربي هذا المنهاج في تأويل القرآن الكريم والحديث الشريف. والواقع أن كافة التعاليم التي صاغها ابن عربي في النصف الثاني من حياته تُعتبَر ثمرة تطبيق مبدأ التأويل على القرآن والحديث اللذين كان يستنبط معانيهما "الباطنة" في ضوء خبراته الرؤيوية.
    ولقد توارث مبدأ التأويل عددٌ من مشايخ الصوفية والعارفين الكبار في العصور اللاحقة. وفي التشيُّع احتل التأويل المنزلة الأرفع في التأمل الفلسفي، بحيث إنه أصبح سمة نوعية للبنيان العقلي الشيعي برمَّته وخاصية من خاصِّياته الأساسية.
    على أنه لا بدَّ لنا أن نشير هاهنا إلى أن التأويل لم يكن عند ابن عربي مجرَّد مسألة تفسير لغوي، لفظي، بل كان يتسم بمغزى أونطولوجي. فعنده أن كلَّ ما هو موجود في عالم الحسِّ يستر في أعماقه الأونطولوجية حقيقة باطنة، الأمر الذي يعني أن كلَّ ما في الوجود تجلٍّ خاص. بعبارة أخرى، فإن كلَّ شيء صورة ظاهرة يتجلَّى فيها الحق غير المرئي؛ وعالم الوجود الخارجي ("عالم الشهادة") ليس على الحقيقة إلا صورة ظاهرة على السلَّم الكوني لعالم الغيب، يتجلَّى من خلالها الحقُّ باسمه "الباطن" برهةً عبر صور لا نهاية لها من التعيُّنات.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعمل...
X