إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مصطفى خليفة - القــوقعـة - يوميات متلصص

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مصطفى خليفة - القــوقعـة - يوميات متلصص





    مصطفى خليفة



    القــوقعـة

    (( يوميات متلصص ))










    جلست وسوزان في كافيتيريا مطار أورلي بباريس ننتظر إقلاع الطائرة التي ستقلني إلى بلدي بعد غياب دام ست سنوات.
    حتى ربع الساعة الأخير هذا، لم تيأس سوزان من محاولة إقناعي بالبقاء في فرنسا، أخذت تكرر على مسامعي نفس الحجج التي سمعتها منذ شهور عندما أعلمتها بقراري النهائي بالعودة إلى الوطن والعمل هناك.
    أنا ابن عائلة عربية تدين بالمسيحية والمذهب الكاثوليكي. نصف العائلة يعيش في باريس، لذلك كانت الأبواب مفتوحة أمامي للدراسة في هذا البلد، دراستي كانت سهلة وميسرة وخاصة إنني كنت أجيد الفرنسية حتى قبل قدومي إلى باريس، درست الإخراج السينمائي وتفوقت في دراستي. وها أنا أعود بعد تخرجي إلى بلدي ومدينتي.
    سوزان أيضا ابنة عائلة عربية، ولكن كل عائلتها كانت قد هاجرت وتعيش في فرنسا، أصبحنا صديقين حميمين في السنتين الأخيرتين من دراستي، وكان يمكن أن نتزوج بمباركة العائلتين لولا إصراري على العودة إلى الوطن، وإصرارها على البقاء في فرنسا.
    قلت لها حسماً لآخر نقاش في الموضوع ونحن في المطار:
    - سوزان .. أنا أحب بلدي، مدينتي. أحب شوارعها وزواياها.هذه ليست رومانسية فارغة،إنه شعور أصيل، أحفظ العبارات المحفورة على جدران البيوت القديمة في حينا، أعشقها، أحن إليها. هذا أولاً، أما ثانياً فهو أنني أريد أن أكون مخرجاً متميزاً، في رأسي الكثير من المشاريع والخطط، إن طموحي كبير، في فرنسا سوف أبقى غريباً، أعمل كأي لاجيء عندهم، يتفضلون علي ببعض الفتات ... لا... لا أريد. في بلدي أنا صاحب حق وليس لأحد ميزة التفضل عليّ، بقليلٍ من الجهد أستطيع أن أثبت وجودي، هذا إذا نحّينا جانبا حاجة الوطن لي ولأمثالي.
    لذلك قراري بالعودة نهائي، وكل محاولة لإقناعي عكس ذلك عبث.
    ران صمت استمر بضع دقائق. سمعنا النداء. آن أوان صعود الطائرة، وقفنا، شربنا ما تبقى في كؤوسنا من بيرة دفعة واحدة، نظرت إليها متأثراً، لمحت مشروع دمعة في عينيها، ألقت بنفسها على صدري، قبلتها سريعاً. " لا أطيق هكذا موقف"
    قلت : أتمنى لك السعادة.
    - وأنا كذلك، أرجو أن تنتبه، حافظ على نفسك.
    وصعدت الطائرة.

    * يوميات متلصص:

    إن التلصص الذي مارسته لم يكن تلصصاً جنسياً - وان لم يخل الأمر من ذلك.
    هذه اليوميات كتبت معظمها في السجن الصحراوي، وكلمة ( كتبت ) في الجملة السابقة ليست دقيقة.
    ففي السجن الصحراوي لا يوجد أقلام ولا أوراق للكتابة.في هذا السجن الضخم الذي يحتوي على سبع ساحات إضافة إلى الساحة صفر، وعلى سبعة وثلاثين مهجعاً، وعلىالعديد من المهاجع الجديدة غير المرقمة والغرف والزنازين الفرنسية (السيلول ) في الساحة الخامسة، والذي ضم بين جدرانه في لحظة من اللحظات أكثر من عشرة آلاف سجين، في هذا السجن الذي كان يحتوي على أعلى نسبة لحملة الشهادات الجامعية في هذا البلد، لم ير السجناء - وبعضهم قضى أكثر من عشرين عاماً -أية ورقة أو قلم.
    الكتابة الذهنية أسلوب طوّره الإسلاميون. " أحدهم كان يحفظ في ذهنه أكثر من عشرة آلاف اسم، هم السجناء الذين دخلوا السجن الصحراوي، مع أسماء عائلاتهم، مدنهم أو قراهم، تاريخ اعتقالهم، أحكامهم، مصيرهم .....".
    عندما قررت كتابة هذه اليوميات كنت قد استطعت بالتدريب تحويل الذهن إلى شريط تسجيل، سجلت عليه كل ما رأيت، وبعض ما سمعت.
    والآن أفرغ "بعض" ما احتواه هذا الشريط.
    - هل أنا نفس ما كنته قبل ثلاثة عشر عاما ؟! ... نعم ... ولا. نعم صغيرة، ولا كبيرة.
    نعم، لأنني أفرغ وأكتب "كتابة حقيقية" بعضاً من هذه اليوميات.
    ولا.. لأنني لا أستطيع أن أكتب وأقول كل شيء. هذا يحتاج إلى عملية بوح، وللبوح شروط. الظرف الموضوعي والطرف الآخر.












    20 نيسان
    وقفت على سلم الطائرة قليلاً أتملى أبنية المطار. أنظر إلى الأضواء البعيدة، أضواء مدينتي. إنها لحظة رائعة.
    نزلت، أخذت حقيبتي وجواز السفر في يدي، إحساس بالارتياح، إحساس من يعود إلى بيته وزواياه المألوفة بعد طول غياب.
    طلب مني الموظف الانتظار. قرأ جواز السفر، رجع إلى أوراق عنده، بعدها طلب مني الانتظار، فانتظرت.
    اثنان من رجال الأمن استلما جواز السفر وبلطف مبالغ فيه طلبا مني مرافقتهما.
    أنا وحقيبتي – التي لم أرها بعد ذلك – ورحلة في سيارة الأمن على طريق المطار الطويل، أرقب الأضواء على جانبي الطريق، أرقب أضواء مدينتي تقترب، ألتفت إلى رجل الأمن الجالس إلى جواري، أساله:
    - خير إن شاء الله ؟ .. لماذا هذه الإجراءات ؟!
    يصالب سبابته على شفتيه، لا ينطق بأي حرف، يطلب مني السكوت، فأسكت!
    رحلة من المطار إلى ذلك المبنى الكئيب وسط العاصمة. رحلة في المكان.
    ومنذ تلك اللحظة ولى ثلاثة عشر عاماً قادمة! رحلة في الزمان.
    "عرفت فيما بعد أن أحدهم، وكان طالبا معنا في باريس، قد كتب تقريرا رفعه إلى الجهة الأمنية التي يرتبط بها، يقول هذا التقرير إنني قد تفوهت بعبارات معادية للنظام القائم، وإنني تلفظت بعبارات جارحة بحق رئيس الدولة، وهذا الفعل يعتبر من اكبر الجرائم، يعادل فعل الخيانة الوطنية إن لم يكن أقسى.
    وهذا جرى قبل ثلاث سنوات على عودتي من باريس".
    ذلك التقرير قادني إلى هذا المبنى الذي يتوسط العاصمة – قريباً من بيتنا هذا المبنى الذي أعرفه جيداً، فلطالما مررت من أمامه. كنت حينها مُثاراً بالغموض الذي يلفه، وبالحراسة الشديدة حوله.
    رجلا الأمن يخفراني، اشتدت قبضاتهما على ساعديّ عندما ولجنا الباب إلى الممر الطويل. في آخر الممر شاب، صاح عندما رآنا:
    - أهلين موسى ..شو ؟! أخضر ولا أحمر؟
    - كلّو أخرى من بعض.
    من الممر إلى ممر آخر، درج داخلي، ممر علوي، غرفة إلى اليمين... قرع الباب... صوت من الداخل: أدخل.
    فتح مرافقي الباب بهدوء، ثم خبط الأرض بقدميه بقوة:
    - احترامي سيدي .. هذا مطلوب جبناه من المطار .. سيدي.
    انسلت إلى أنفي رائحة مميزة، لا يوجد مثيلها إلا في مكاتب ضباط الأمن، هي خليط روائح، العطور المختلفة، السجائر الفاخرة، رائحة العرق الإنساني، رائحة الأرجل.
    كل ذلك ممزوج برائحة التعذيب. العذاب الإنساني. رائحة القسوة.
    ما أن تصل الرائحة إلى أنف الإنسان حتى يشعر بالرهبة والخوف، وقد شعرت بهما رغم اعتقادي أن التباساً ما وراء كل هذا.
    التفت إلينا شخص عملاق، أبيض الشعر ذو وجه أحمر، لمحت عند قدميه شاباً مقرفصاً معصوب العينين، قال العملاق:
    - خذه لعند أبو رمزت.
    جذبني المرافقان، هذه المرة بعنف ظاهر. ممرات وأدراج، كم يبدو البناء صغيراً من الخارج، بينما هو بكل هذا الاتساع من الداخل، خلال سيرنا تصلني أصوات صراخ إنساني واستغاثات، كلما تقدمنا أكثر تزداد هذه الأصوات ارتفاعاً ووضوحاً، نزلنا – على ما أعتقد - إلى القبو، فتح أحد مرافقيّ الباب، رأيت مصدر الصراخ والاستغاثة، فاجأتني صرخة ألم عالية إثر ضربة كابل على قدمي الشخص الممدد أرضاً والمحشور في دولاب سيارة خارجي، رجلاه مرتفعتان في الهواء.
    "أحسست أن شيئي بين فخدي قد ارتجف".
    بينما كنت مذهولاً من رؤية الكابل الأسود يرتفع ثم يهوي على قدمي الشاب المحشور في دولاب السيارة الأسود ثم يرتفع ناثراً معه نقاط الدم ونتف اللحم الآدمي، جمّدني صوت زاعق. التفت مرغماً إلى مصدره، في زاوية الغرفة رجل محتقن الوجه، محمرّه، والزبد يرغي على زاويتي فمه:
    - طمّش عيونه ..ولا حمار!!
    قفز أحد مرافقيّ قفزتين، واحدة إلى الأمام، وأخرى إلى الوراء، وإذا بشيء يوضع على عينيّ ويُربط بمطاط خلف رأسي، ولم أعد أرى شيئا.
    - وقفوه على الحائط.
    دفعة على ظهري، صفعة على رقبتي، يداي إلى الخلف، أسير مرغما، يرتطم رأسي بالجدار، أقف.
    - إرفع يديك لفوق ..ولك كلب ...
    أرفعُهما.
    - إرفع رجلك اليمين ووقف على رجلك اليسار ..يا ابن الشرموطة.
    أرفع رجلي، أقف.
    في الخلف يستمر ما كان يجري، أسمع صوت الكابل، صوت ارتطامه بالقدمين، صوت الشاب المتألم، صوت لهاث الجلاد، أكاد اسمع صوت نتف اللحم التي رأيتها تتطاير قبل قليل.. أصوات.. أصوات.
    عند الأعمى الصوت هو السيد.
    الكرسي المريح في مطار اورلي، سوزان، مرطبات، بيرة، المقعد الوثير في الطائرة، المضيفة التي تفيض رقةً وجمالاً، العصير.. الشاي !!
    تتعب رجلي اليسرى التي تحمل كامل جسدي." لو بدلت اليمنى باليسرى، هل سينتبه الرجل ذو الوجه المحتقن؟! وإذا انتبه ماذا سيفعل ؟!" .
    تتخدر اليسرى، لم أعد أستطيع الاحتمال، أغامر ..أبدل !!.. لم يحصل شيء، لم ينتبه أحد، أشعر بالانتصار!.. "بعد سنين طويلة من السجن مستقبلاً، سأكتشف أنه في الصراع الأبدي بين السجين والسجان، كل انتصارات السجين ستكون من هذا العيار!!".
    الزمن ثقيل .. ثقيل .. حالة من اللاتصديق تنتابني!! ما الذي يجري؟! ولم أنا هنا ؟! آلاف الأسئلة، أحاول أن أستند بيدي إلى الحائط، ألمسه برؤوس أصابعي .... فجأة يصيح الشاب المحشور في دولاب السيارة الخارجي الأسود:
    - بس يا سيدي ..بس، مشان الله، ما عاد فيني أتحمل! رح أحكي كل شي.
    بهدوء وبلهجة المنتصر، يقول الرجل ذو الوجه المحتقن:
    - بس إبراهيم .. كافي، اتركه، طالعه من الدولاب وخذه لعند الرائد.
    اسمعه يتكلم بالهاتف مع الرائد. فكرت: جاء الآن دوري !!؟ .
    فعلاً، سمعت صوت سماعة الهاتف تعاد إلى مكانها، صاح المحتقن:
    - ولك أيوب ..أيوب.
    - نعم سيدي.
    - تعال شوف هذا الزبون.
    أحس بأيوب خلفي .
    - دخله عـ الدولاب ..يا لله بسرعة.
    شعرت بأن أكثر من خمسة رجال قد جذبوني وأوقعوني أرضاً. " الى الآن، بعد أربعة عشر عاماً مضت على تلك اللحظة، لم أستطع أن أفهم أو أتصور كيف أن أيوب قد حشرني في ذلك الدولاب الخارجي للسيارة، بحيث أصبحت رجلاي مشرعتين في الهواء، لا أستطيع الفكاك مهما حاولت، ولا كيف انتزع حذائي وجواربي !!".
    - سيدي ..كابل ولاّ خيزرانة؟
    - خيزرانه .. خيزرانه، يظهر الأستاذ نعنوع!
    سيخ من النار لسع باطن قدمي، صرخت. قبل انتهاء الصرخة كانت الخيزرانه قد لسعت مرة أخرى .. الضرب متواصل، الصراخ متواصل. رغم ذلك سمعت صوت الرجل المحتقن:
    - أيوب.. بس استوى ناديلي.
    لا أعرف لماذا يضربونني! لا أعرف ماذا يريدون مني، تجرأت وصرخت:
    - لك يا أخي شو بتريد مني؟.
    - كول خرى.. ولامَنيك.
    هذا كان رد أيوب الذي لم أر وجهه أبداً. وبدأت أعد الضربات وأنا أصرخ ألما. "بعد ذلك بزمن طويل، أخبرني المتمرسون: إن عدَّ الضربات أول علامات الضعف، وإن هذا يدل على أن المجاهد أو المناضل سينهار أمام المحقق!!..وقتها قلت في نفسي: ولكنني لست مناضلاً ولا مجاهداً. وأخبروني أن من الأفضل في هذه الحالات أن تكون لديك قدرة كبيرة على التركيز النفسي بحيث تركز على مسألة محببة لك، وتحاول أن تنسى قدميك !!".
    عند الرقم أربعين أخطأت العد، وبدأت أفقد إحساسي بجسدي، صراخي خفتت حدته، حالة من عدم التوازن و الدوار، الغمام – رغم الطماشة – بدأ يطفو أمام عيني "هل بدأت أفقد وعيي ؟" غمام ..دوار .. مطار أورلي .. العصير البيرة ..الطائرة والمضيفة اللطيفة ...
    إحساس مبهم بأن كل شيء قد توقف.. استعدت استيعاب الموقف.. نعم حتى الضرب توقف! خدر... خدر ..
    دقائق قد تكون طويلة ... قد تكون قصيرة ..لست أدري !! صحوت!.
    صوت الرجل ذو الوجه المحتقن ثانية:
    - شو يا أيوب .. صحي ولاّ لأ؟
    - صحي .. سيدي.. صحي ، بس .. شخ تحتو!!
    - العمى بـ عيونه ..الظاهر إنو الأستاذ كتير خروق!!
    أحسست بلكزة في خاصرتي، وصوت المحقق:
    - ولك شو ؟ .. مانك رجّال ؟! العمى بعيونك ما بتستحي تشخ تحتك ؟! شو اسمك ولا ؟
    قلت له اسمي.
    - ولا كلب .. شوف ، لسه ما بلشنا معك، صار فيك هيك، لسه هذا كله مزح وما بلشنا الجد، الأفضل من البداية تريح حالك وتريحنا ... بدك تحكي ... يعني بدك تحكي!! هون عندنا الكل بيحكوا ... وبدك تحكي كل شي .. من طق طق ..لـ السلام عليكم ! هاه ..؟ مستعد تحكي ؟
    - يا سيدي بحكي شو ما بتريد .. بس قولولي شو بدي أحكي!
    - طيب ..هات لنشوف ..شو أسماء أسرتك ولا؟
    بدأت أعد له أسماء أهلي، بدءاًً من والدي ووالدتي، لكنه قاطعني صارخاً مهتاجاً:
    - ولا جحش ..عم تجدبها علي ؟ أنا بدي أسماء أهلك !! خراي عليك وعلى أهلك، قل لي أسماء أسرتك بالتنظيم ولا ... كرّ.
    - أي تنظيم يا سيدي؟ أي تنظيم؟
    - يا أيوب .. يبدو هـ التيس عم يغشم حاله!! بدو يعذبنا و يعذب حاله!!
    - يا سيدي ..وحياة الرب..وحياة الرب ..ما بعرف عن شو عم تسألني! أي تنظيم هذا يللي عم تحكي عنه؟
    صوت خطوات. شعرت أنه اقترب مني، أنفاسه لفحت وجهي، وبهدوء شديد قال:
    - تنظيم المنايك أمثالك .. تنظيم الإخوان المسلمين ..شو ما بتعرف تنظيمك ؟!.
    "لاحظت أن رائحة فمه كريهة جداً".
    لم أدر. هل علي أن أفرح لأن الالتباس بدا واضحاً جلياً ؟ ..أم ألعن حظي العاثر الذي أوقعني في هذا الالتباس ؟.. أم ألعن الصدف التي قدرت أن أصل مباشرة إلى أبو رمزت ؟.. لو أنهم فتشوني وأخذوا أغراضي كما يفعلون مع الجميع.. لتبين لأحد ما من أكون وما هي جريمتي، ولكن أن أدخل فرع المخابرات في اللحظة التي كان يأتي فيها إلى الفرع يومياً مئات المعتقلين من الإخوان المسلمين، وأن أُحشَر بينهم، وأن يعمل الضباط والعناصر على مدار الأربع وعشرين ساعة يومياً، وأن تكون الفوضى داخل الفرع عارمة لهذه الدرجة، فمن المستحيل عندها أن أستطيع إزالة وتوضيح هذا الالتباس. وفوق كل هذا اسمي الذي لا يوحي بأنني لست مسلماً.
    ولكن رغم ذلك، صرخت:
    - بس سيدي أنا مسيحي.. أنا مسيحي!!
    - شو ولا !! عم تقول مسيحي ؟! العمى بعيونك ولا ..ليش ما حكيت ؟! ليش جايبينك لكان؟..أكيد..أكيد عامل شغلة كبيرة!..مسيحي؟!
    - أنتو ما سألتوني يا سيدي ..ومو بس مسيحي .. أنا رجل ملحد ..أنا ما بآمن بالله !!
    "الى الآن لم أجد تفسيراً لفذلكتي هذه، فما الغاية من إعلان إلحادي أمام هذا المحقق ؟.. لا أعرف !".
    - وملحد كمان؟!
    سألها بصوت عليه مسحة من تفكير.
    - نعم سيدي ..نعم . والله العظيم..وشوف جواز سفري.
    سكت الرجل المحتقن لحظات بدت لي طويلة جداً. سمعت صوت أقدامه تبتعد، وبصوت واضح قال:
    - قال ملحد... قال !! إي.. بس نحن دولة إسلامية !!..أيوب..كمل شغلك!!
    وعادت خيزرانة أيوب تواصل عملها.
    " منذ اللحظات الأولى لاحتكاكي بهؤلاء، استخدمت كلمة _ ياأخي_ عند الإجابة على سؤال ما، لكن أيوب صفعني قائلاً:
    _ ولا كلب.. أنا أخوك؟.. أخوك بالخان.
    تداركت الأمر وخاطبته ب "يا أستاذ" وصفعة أخرى:
    - أستاذ؟.. أستاذ ببيت أهلك..بين فخاذ أمك.
    منذ تلك اللحظات علموني أن أقول: " ياسيدي".
    هذه الكلمة لاتستخدم هنا كما بين رجلين مهذبين، هذه الكلمة تُنطق هنا وهي تحمل كل معاني الذلّ والعبودية.


    21 نيسان
    فتحت عيني ببطء، أكاد اختنق من نتانة الروائح المحيطة بي، حولي غابة من الأقدام والأرجل، ملقى على الأرض بين هذه الأقدام المكتظة، رائحة الأقدام القذرة، رائحة الدم، رائحة الجروح المتقيحة، رائحة الأرض التي لم تنظف منذ زمن طويل ... الأنفاس الثقيلة لأناس يقفون متلاصقين "علمت بعد قليل من خلال عملية التفقد والعد، أننا كنا ستة وثمانين رجلاً، عاينت سقف الغرفة وقدرت أن مساحتها لا تزيد عن خمسة وعشرين متراً مربعا.!!".
    الحديث بين الناس يجري همساً، الأمر الذي يولد أزيزاً متواصلا يخيم فوق الجميع. أردت الوقوف لاستنشاق بعض الهواء.آلام فظيعة في كامل الجسد، تحاملت، تجلدت، وعندما حاولت أن أقف على قدمي صرخت ألماً.
    انتبه الناس من حولي، عدة أياد امتدت، أمسكت بي من تحت إبطي وأنهضتني، وقفت مستندا إلى الأيادي، قال شاب يقف إلى جانبي:
    - اصبر يا أخي.. اصبر، إنها شدة وتزول!!
    قال آخر:
    - من يكن مع الله فإن الله سيكون معه..لا تيأس يا أخي.
    مع الحركة خفت الآلام قليلاً، نظرت حولي، رجال.. شباب.. ويوجد أطفال في الثانية عشر والثالثة عشر ..كهول.. شيوخ!!
    التفتّ إلى الرجل الذي حاول أن يشد من عزيمتي قبل قليل، سألته :
    - مين هدول الناس؟ .. ليش نحن هون؟ ليش الناس واقفين؟!
    نظر الرجل إليّ بحيرة تقرب من البلاهة وكأنه يقول: كيف يمكن شرح ما هو بديهي؟!! ورد بسؤال:
    - أنت ..ما بتعرف شو صاير بالبلد ؟!
    "كنت، وأنا في فرنسا، قد سمعت أنباءً عن اضطرابات سياسية تحصل هنا، وأن هناك حزباً يدعى الإخوان المسلمين يقوم ببعض حوادث العنف هنا وهناك. ولكني لم أعر هذه الأنباء أية أهمية، وبقيت مبهمة، فلم أعرف التفاصيل، ولم أكن يوما من هواة نشرات الأخبار، أو العمل السياسي المنظم، رغم أنني كنت في المرحلة الثانوية وما تلاها قريباً من بعض الماركسيين ومتأثراً بأفكارهم، خاصة أفكار خالي الذي كان على ما يبدو يحتل مركزاً قيادياً مهماً في الحزب الشيوعي".
    أجبته:
    - لا والله .. ما بعرف! .. ليش شو صاير؟
    - ليش مانك عايش بالبلد؟!
    و أردت أن اقطع كل دابر أسئلته، فأجبته دفعة واحدة عن كل ما يمكن أن يسأله:
    - لأ .. كنت عايش بفرنسا.. واليوم أنا جيت، يعني من.. "نظرت الى ساعتي" أربع عشرة ساعة بس.
    - العمى معك ساعة ؟!! ..خبيها يا أخي خبيها، شايف كل الناس هون، هدول كلهم من خيرة المؤمنين والمدافعين عن الإسلام بها البلد، امتحان يا أخي امتحان، امتحان من الله عز وجل.
    قاطعته وقد بلغ بي الإحساس بغرابة وضعي وبالغبن والضيق حداً كبيراً، قلت محتدّاً:
    - طيب .. العمى أنا شو دخلني؟! أنا مسيحي ماني مسلم، وأنا ملحد ماني مؤمن!!
    " هذه هي المرة الثانية التي أعلن فيها أنني ملحد - وكانت فذلكة أيضا -. في المرة الأولى كلفتني وجبة من خيزرانة أيوب، بأمر من أبو رمزت الذي ذبح المسلمين لأننا نعيش في دولة إسلامية !!! أما في المرة الثانية فإنها ستكلفني سنوات طويلة من العزلة المطلقة، ومعاملة كمعاملة الحشرات، لا بل أسوأ منها".
    رأيت محدثي وكأنه قفز إلى الخلف. ولكوننا محشورين، لم يتحرك منه إلا جزؤه العلوي فقط، وبشكل عفوي قال:
    - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. - ثم بصوت أعلى - .. يا شباب في واحد نصراني كافر !.. في عندنا واحد جاسوس.
    صُوّبت نحوي مجموعة من العيون، في نفس الوقت الذي سمعت فيه صوتاً آتياً من خلفي، صوتاً آمراً:
    ـ مين هذا يللي عم يرفع صوته ؟ .. سكوت ..سكوت ! يا لله .. صار وقت التبديل.
    لم استطع استيعاب الأمر !! في الجزء الأبعد من الغرفة كانت هناك مجموعة من الناس المستلقين على الأرض، وقد اصطفوا بطريقة غريبة ولكن منتظمة. "كما لو كانوا مجموعة من لفائف التبغ قد اصطفت في علبة". وبين المستلقين وبيننا نحن الواقفين، توجد المجموعة الثالثة، مجموعة المقرفصين على الأرض.
    بعد كلام الرجل الضخم ـ علمت أنه رئيس المهجع ـ تحركت المجموعات الثلاث. خلال لحظات كان النيام جميعاً قد وقفوا واحتلوا الركن الذي كنا فيه تدريجياً. نحن قرفصنا. المجموعة الثالثة اتجهت الى مكان النوم
    ـ يا لله سيّف..سيّف، كل النايمين يسيّفو.
    "وتبين أن التسييف هو النوم على الجنب".
    الأول استلقى لصق الحائط على جنبه، ظهره إلى الحائط، الثاني استلقى أمامه واضعاً البطن على البطن، رأس كل واحد منهما عند أقدام الآخر.
    الثالث سيّف ووضع ظهره لصق الظهر الثاني، الرابع بطنه على بطن الثالث، ودائماً الرؤوس عند الأقدام.
    تتابع المستلقون إلى أن وصل الصف إلى الحائط الثاني من الغرفة ولازال هناك ستة أو سبعة أشخاص لم يبق لهم مكان. هنا صاح رئيس المهجع:
    ـ يا لله ..يا كبّيس .. أجا شغلك!
    قام الرجل الضخم الثاني بهدوء ـ يبدو مصارعاً ـ . ذهب إلى أول رجل مستلقٍ عند الحائط ، وبهدوء وضع قدميه بين الحائط وبين الرجل المستلقي، استند بظهره إلى الحائط، ثم أخذ يدفع المستلقي بباطن قدميه، دفع أكثر، أنضغط المستلقون قليلا، أصبح هناك مسافة تتسع لرجل آخر، نادى على واحد من المتبقين: يا لله .. إنزل هون.
    نزل الرجل مستلقياً على جنبه بين أقدام الكبّيس والرجل الأول، ثم بدأ الكبّيس بالضغط على الرجل الجديد، ومرة أخرى حقق مسافة تتسع إلى آخر.. يا لله .. إنزل هون، ثم الضغط من جديد ورجل جديد، في النهاية تم استيعاب جميع الذين لم يبق لهم مكان سابقا، عاد الكبيس إلى مكانه بنفس الهدوء، وهو ينفض يديه!.
    راقبت المستلقين، بعضهم استغرق في النوم فوراً!!.
    ثلاثة أيام قضيتها في تلك الغرفة. "سمعت أن بعضهم سابقاً ولاحقاً، قضى فيها شهوراً عديدة، وفي بعض الحالات كان العدد يزيد على عددنا". خلال هذه الأيام تعرفت على الغرفة جيداً.
    بعد قليل من جلوسنا القرفصاء، أحسست أنني أريد قضاء حاجة، التفت إلى جاري وسألته:
    ـ أين يقضي الإنسان حاجته ؟
    أشاح بوجهه عني ولم يجب، سألت الجار الآخر، أيضاً لم يجب. تذكرت أنني نصراني، كافر، جاسوس، وستظل تلاحقني هذه التهم.
    موقعي قريب من رئيس المهجع، سألته فدلني على المرحاض. "إذن في الغرفة مرحاض!". اضررت للانتظار أكثر من ساعة. مرحاض واحد، حنفية ماء واحدة، وستة وثمانون شخصاً.
    عدت إلى موقعي. حركة ما فوق، نظرت. أنبوب الصرف الصحي، ويبدو أنه للبناء كله، يقطع الغرفة من أولها إلى آخرها. بين الأنبوب وبين سقف الغرفة حوالي النصف متر. فوق هذا الأنبوب ينام اثنان من الفتية عمر كل منهما حوالي خمسة عشر عاماً، احتضن الواحد منهما الأنبوب بيديه وصدره وتدلت الأرجل إلى الأسفل، بينما الرأس مرتاح على صوت خرير الماء داخل الأنبوب.
    ـ بحياتي ما نمت أحلى من هـ النومة!!
    قال أحدهما في اليوم الثاني.










    22 نيسان
    استيقظت!
    بعد ثماني ساعات من القرفصة جاء دورنا في الاستلقاء. بعض المقرفصين ممن لهم خبرة نبهوا بعضهم إلى ضرورة الذهاب إلى المرحاض قبل الاستلقاء، لأنك إذا استلقيت وانتهى الكبيس من عمله، ومهما كان السبب الذي قمت من الاستلقاء من أجله فإن مكانك سيذهب.
    استلقيت مضغوطاً بظهر رجُل على ظهري، وبطن رجل آخر على بطني، "تذكرت صديقتي التي تحب الوضعية الفرنسية !!".
    خلف رأسي قدمان، وأمامه قدمان. كيف يمكن للإنسان أن ينام وهو يشم هذه الرائحة ؟!!
    ورغم ذلك نمت نوماً عميقاً .. والآن استيقظت.. صحوت تماما .. كل شيء في جسدي مضغوط ..لكن الضغط على أسفل بطني شديد ويكاد يكون مؤلما. "يبدو أن لصيقي الأمامي قد امتلأت مثانته، فتحجر عضوه، وطبيعي أن ينغرز في بطني أنا". وفي ظل هكذا ظروف من المعيب أن تفكر باحتمال آخر!!
    حاولت زحزحته فلم أفلح، فمع كل حركة ينغرز أكثر، سمعت شخيره، فكرت أن أمد يدي على صعوبة ذلك، ولكن خشيت أن يستيقظ لحظتها. "ماذا سيقول إذا استيقظ وعضوه في يدي ؟!!".
    انسللت من وضعية الاستلقاء بصعوبة، وذهبت إلى المرحاض.
    ثلاث ليال.. وثلاث مرات يفتح الباب في اليوم ويغلق، وفي كل مرة يفتح الباب.. يدخل الطعام في أوانٍ يسمونها قصعات. صباحاً لكل واحد رغيف مرقد مع قطعة حلاوة، هذان الصنفان يوزعهما رئيس المهجع، وخمس قصعات من سائل أسود "تبين انه شاي". وفي المساء كذلك. تدور القصعة من شخص لآخر .. يرفعها، يرشف منها، يناولها لمن بجانبه. أما الظهر، فتكون القصعات مليئةً بالبرغل، مع قصعة رب البندورة تحتوي بعض الخضار.
    " لن أنسى أبدا الطريقة التي تخاطف بها الناس قطع اللحم في المرة الوحيدة التي جلبوا فيها لحماً. فكرت، حتى الوجبتين الصباحية والمسائية، لولا رئيس المهجع لتحول المهجع إلى غابة".

    خلال هذه الساعات التي بدت لي بطول دهر، كنت كمن يطفو في الزمان والمكان. رغبة بدت لي كاعتقاد راسخ بأن كل هذا ماهو إلا خطأ سخيف سينتهي بعد قليل.
    حسي المهني والفني قابع في زاوية بعيدة يراقب ولايتدخل، هذا الحس الذي يبقى خارج حيز الألم والقلق، يبقى متيقظاً ومحايداً مهما كانت درجة آلامي النفسية أو الجسدية، هو يراقب ويسجل.
    أتذكر قولاً لأحد أساتذتي المرموقين: إن الحدث مهما كان صغيراً، فإن المخرج الجيد يستطيع أن يصنع منه فيلماً جيداً، الحدث هو الهيكل العظمي وعلى المخرج إكساؤه باللحم والثياب.
    هذا الحس التقط مشهد تخاطف قطع اللحم، وأحس المفارقة الصارخة بين مجموعة من الأشياء المحيطة التي تدعو للإقياء_ أو على الأقل_ العزوف عن كل شيء، وبين الفعل المادي الممارس من قبل خاطفي قطع اللحم.
    ما الذي يفقد هؤلاء الناس الحس باللياقة والذوق؟! وبالتالي بالكرامة والعزة البشرية، هل هو الصراع من أجل البقاء؟.. قد يكون.

    ثلاثة أيام بلياليها، أكلت نصف رغيف مع قطعة حلاوة.








    23 نيسان
    استيقظت!.
    كان الاستلقاء الثاني " النوم على البلاط " أفضل قليلاً، استيقظت قبل انتهاء مدة الثماني ساعات، لم أشعر برغبة في النهوض. حلمت أني قد شبعت نوماً ولكني أتابع استرخاءً وترفاً.
    "تمنيت لو أني أستطيع المطمطة قليلاً!. تمنيت فنجان قهوة وسيجارة".
    مكاني قريب من رئيس المهجع. أسمع حديثه والكبّيس، فتح السجان طلاّقة الباب وهي النافذة الصغيرة في أعلى الباب. قفز رئيس المهجع، تبادل حديثاً مطولاً مع السجان الذي فتح الطلاّقة. عاد رئس المهجع. قال للكبّيس همسا:
    - جاي دفعات كبيرة من المحافظات .. وجماعتنا هدول .. اليوم أو بكرة راح يترحلوا عـ السجن الصحراوي.
    ردّ الكبّيس متسائلاً باستغراب:
    - العمى.. شو راح يحطوا الناس كلها بالسجن !؟ ... إي .. ما ضل حدا برات السجن !!.
    - ولك سكوت .. اوعا حدا يسمعك ... ما دخلنا نحن يا عمّي!!.
    "رئيس المهجع والكبّيس مسجونان بجرم التهريب".
    عند المساء، وعندما انتقلت مجموعتنا من الوقوف إلى القرفصة، تعمدت أن أقرفص قرب رئيس المهجع. انتظرت حتى قبيل وجبة الطعام الثالثة، وبوجه حاولت أن يكون بشوشاً، قلت له:
    - يا أستاذ .. عفواً .. ممكن احكي معك شغلة ؟.
    - أستاذ ؟! .. من وين لوين ساويتني أستاذ ؟ .. نعم شو بدك ؟! .
    - يا سيد .. أكيد في غلط!.
    - وين الغلط ؟.. يا أستاذ.
    - يا أخي أنا ماني مسلم .. حتى أكون إخوان مسلمين.. أنا مسيحي وليش حطوني هون، ليش جابوني أصلاً، ما بعرف!! .
    - لك يا أخي الطاسة ضايعة .. ما في حدا لحدا .! .؟
    - طيب ممكن تقول لرئيس السجن .. لشي حدا مسؤول هالحكي ؟
    - وين أنا بدي شوف مدير السجن ؟.. خلص .. خلص.. هلق بيجي السجان وراح أنقل له هـ الحكي.
    سمعت طقطقة القفل، وقف رئيس المهجع، أمسكت يده:
    - أرجو ألا تنسى أن تقول له.
    هز رأسه، فُتح الباب، "يا لله دخّلوا الأكل". دخل الأكل. خاطب رئيس المهجع السجان:
    - يا سيدي ... في عنا واحد هون .. عم يقول ..
    قاطعه السجان مسرعاً:
    - عم يقول ما عم يقول ! أنا ما بعرف شي ... هلق ببعتلك رئيس النوبة .
    بعدما يقرب من نصف الساعة، طقطقة الباب مجددا، ظهر شخص وسيم، وبلهجة جبلية ثقيلة:
    - شو في عندك يا رئيس المهجع؟
    جذبني رئيس المهجع من كتفي، وقفت. قال:
    - احكي له... احكي له، لسيدنا أبو رامي!
    متلعثماً.. متأتئاً .. شرحت له الأمر، وبنفس اللهجة الجبلية ردّ علي :
    - طيب أنا شو بدي ساوي لك ؟ ... مسيحي ؟ .. إيه وإذا مسيحي !... بلكي عاونت الأخوان المسلمين مثلاً ... يعني بلكي بعتهم سلاح مثلا ... إي هيك بتكون أضرط منهم مثلا ...
    ثم التفت إلى السجان، أمره :
    - سكّر ... ولا سكّر الباب .
    وقبل أن يغلق السجان الباب، التفت أبو رامي إلى الناس في المهجع، وبصوت عال قال :
    - ولا .. عرصات ... ولا انتو مانكن إخوان مسلمين ... انتو إخوان شياطين ... فرجونا شطارتكم لشوف .... هاي عندكم واحد مسيحي ... انشطوا معه .... اهدوه للدين الحنيف ... بس شاطرين تقتلوا وتخربوا بـ هالبلد !!
    أغلق الباب الحديدي بيده بقوة، ومالبث أن فتحه فوراً وعلى وجهه ابتسامة عريضة، تعلقت كل الأنظار به، فتابع يقول :
    - ولا كلاب ... عرصات ... إذا حسنتوا تساووه مسلم، لا تنسوا تنظموه بالإخوان المسلمين، مشان تصير حبسته محرزة.
    وأغلق الباب بقوة.

    الاستلقاء الثالث:
    لصيقي الخلفي كان ذا مؤخرة عريضة وكبيرة، ضايقني وأراحني، إنه أفضل من ذوي العظام الناتئة التي تنغرز في جسدك بلا رحمة عند الكبس. لصيقي الأمامي شاب في العشرينات لا تبدو عليه علائم التدين.
    عاصاني النوم بعد حديث أبو رامي. كان هناك أمل كبير يعيش داخلي بأن أحداً ما سيكتشف الخطأ، وفوراً يُصار الى تصحيح هذا الخطأ، ولكن بعد هذا الحديث ... والطاسة ضايعة ... والترحيل إلى السجن الصحراوي !!... خالطني اليأس والخوف من المصير المجهول.
    ساعتان أو ثلاث... لست أدري ... وأخيرا بدأت أهوم ، التعب ، الإرهاق ، النوم ... ثم ... أصحو تدريجياً. إحساس بالضيق. أقترب من الصحو أكثر، أشعر أن قدميّ مكبلتان، كانت قدماي قد تورمتا من خيزرانة أيوب، أصحو أكثر ... شعور بالدفء والرطوبة يصعد من قدمي، قليل من الألم أيضاً... حركة ما... أنتفض... أصحو تماماً... أرفع رأسي وأنظر إلى قدمي العلوية:
    لصيقي الأمامي، الشاب، يقبض على قدمي العلوية بكلتا يديه، وقد وضع أصبع قدمي الكبير في فمه وأخذ يمصه !! لكزته ... ثم لكزته، تراخت يداه ، سحب رأسه! تابعت اللكز، استيقظ الشاب تماماً، نظر إلي بغضب واستنكار!!. وبحدة قال :
    - ليش فيقتني؟ !
    - شو ليش فيقتك ؟ مانك شايف شو عم تساوي ؟
    - يلعن سماك!! قطعت علي أحلى منام !!
    - شوكنت شايف منام ؟
    - نعم .... كنا أنا وميسون ... وباللحظة يلي مسكتها ومسكتني ... وبلشنا ... بـ " " حضرتك فيقتني!!
    - ومين هي ميسون .... دخلك ؟
    - ميسون؟ .... ميسون خطيبتي.
    - عفواً لا تواخذني ... ارجع نام .. لكن لا تخربط بين إصبع رجلي وشفايف ميسون .
    لم أستطع النوم بعدها ... أسئلة وأسئلة، أي عالم هذاالذي حشرت فيه؟! هل هذه هي البداية؟ ولكن إلى أين؟. هل بإمكان أي كاتب أو سينارست أو مخرج تخيل هكذا عوالم؟! أسئلة تطارد أسئلة !! ...
    }طوال ثلاثة عشر عاما ، لم أسمع مرة قرقعة المفتاح في الياب الحديدي إلا وأحسست أن قلبي يكاد ينخلع!! لم أستطع الاعتياد عليها{
    قرقع المفتاح في غير وقته، قفز رئيس المهجع في اللحظة التي انفتح فيها الباب، أبو رامي والى جانبه شخص طويل في الخمسينات يضع نظارات طبية بيضاء، خلفهما حوالي العشرين عنصرا، قال ذو النظارات:
    - وين رئيس المهجع ؟
    - حاضر سيدي !
    - بهدوء ونظام، طالعلي هدول كلهن لبره، اتنين اتنين، ما يبقى هون إلا أنت والمهرب الثاني ...وين المهرب التاني؟
    - حاضر سيدي.
    - خليك هون أنت كمان... يا لله .
    وخرجنا ... اثنين ... اثنين ... وكان فجر 24 نيسان.


    24 نيسان
    اليدان مقيدتان بالقيد الحديدي إلى الخلف، كاحل القدم مربوط بجنزير حديدي إلى كاحل سجين آخر، نسير بصعوبة، نتعثر، ممرات ... أدراج .... تُسجّل أسماؤنا ضمن لوائح.
    يتركنا ذو النظارات بضع دقائق واقفين و يذهب حاملاً اللوائح الاسمية، يعود، من المؤكد انه ذو أهمية، لم لا أشرح له الأمر، يقترب مني، أعاجله:
    - يا سيدي كلمة واحدة.
    - كول خرى ..... ولا.
    وصفعة مدوية.
    تنبثق آلاف النجوم البراقة أمام عيني، الفجر ربيعي، أترنح.... أسكت.
    يسحبوننا إلى خارج البناء، أرى أربع سيارات شحن ذات أقفاص معدنية، السجناء يسمون هذه السيارات بـ " سيارات اللحمة ". قد تكون سميت كذلك لأنها تشبه السيارات التي يوزعون بها الأغنام المذبوحة من المسالخ إلى الجزارين ، أو لأن السجناء يصطفون بداخلها كما تصف الذبائح داخل سيارات اللحمة الحقيقية.
    سلم معدني ذو ثلاث عوارض، نصعد بصعوبة بسبب الأرجل المقيدة وعدم إمكانية الاستعانة باليدين، يجلسوننا على أرضية السيارة، تمتلىء السيارة، يغلق الباب بقفل كبير، يجلس عنصران من الأمن أمام الباب من الخارج. انتظار .... انتظار، ثم تنطلق السيارات سوية.
    نصبح خارج المدينة، تزداد سرعة السيارات، نترك الظلام وراءنا، شيئاً فشيئاً تلوح أولى خيوط الفجر الفضية.
    } هل هي رحلة من الظلام إلى النور ؟ ... آمل ذلك. {
    سمعت أحدهم يسأل آخر:
    - قديش بدنا وقت حتى نوصل ؟
    - تيسير الله... شي أربع أو خمس ساعات.
    - يا أخي... والله ما فيني أتحمل كل هالوقت !!... كنت نايم .. فيقوني من النوم وفوراً لبرّه... وهلق أنا كتير محصور.... شو بدي ساوي ؟!.. مثانتي راح تطق !!
    - إذا مافيك تصبر... أنا بفكلك سحاب البنطلون، وساويها هون بالسيارة.
    - هيك معقول ؟!!! قدام كل هالناس؟
    - إي ... إي .. مافيها شي، والحمد لله مافي نسوان بيناتنا.
    ثم وبصوتٍ مرتفعٍ متوجها بالحديث إلى الجميع:
    - يا شباب... يا شباب اسمعوني.
    توجهت إليه الأنظار، شرح لهم الأمر، بعضهم همهم، وبعضهم سكت، البعض وافق، فأدار المتكلم ظهره إلى المحصور، وبيديه المقيدتين خلفاً، تلمس السحاب، فكّه، أخرجـ "ـه " له، وابتعد.
    - يا لله ... ريّح حالك يا أخي .
    بعدها وحتى وصولنا السجن الصحراوي تكررت هذه العملية أربع مرات، خمسة رجال آخرون تقيأوا فوق بركة البول. "القيء كله ذو لون واحد".
    أما جاري، المقيدة رجلي إلى رجله، فيبدو أنه كان يعاني من تعفن الأمعاء، لفني بغلالة من روائح بطنه !
    في الثامنة صباحاً وصلنا أمام السجن الصحراوي. " في الطريق كنت أنظر كثيرا إلى ساعتي، وأكثر من شخص نصحني أن أخبأها، ولكن أين ؟... تركتها على معصمي".

    أمام السجن.
    عشرات من عناصر الشرطة العسكرية، الباب صغير، تصدم العين لوحة حجرية فوق الباب مخططة بالأسود النافر:
    "ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب".
    فتح لنا رجال الأمن أبواب السيارات، هم أنفسهم اللذين كانوا يعاملوننا بفظاظة وقسوة، أنزلونا من السيارات برفق مشوب بالشفقة، حتى أن أحدهم قال: " الله يفرج عنكم ! ". وفيما بينهم كانوا يتحدثون همساً وبصوت خافت، يتحاشون النظر إلى عناصر الشرطة العسكرية الذين اصطفوا حولنا بما يشبه الدائرة، لاحظت أن لهم جميعاً نفس الوقفة تقريبا، الساقان منفرجتان قليلاً، الصدر مشدود إلى الوراء، اليد اليسرى تتكىء على الخصر، اليد اليمنى تحمل إما عصاً غليظة أو كبلاً مجدولاً من أشرطة الكهرباء أو شيئاً مطاطيا أسودَ يشبه الحزام. " عرفت فيما بعد أنه قشاط مروحة محرك الدبابة ". ينظرون إلينا والى عناصر الأمن نظرة فوقية تحمل استخفافاً بعناصر الأمن ووعيداً مبطنا لنا. حركاتهم تدل على نفاذ الصبر من بطء إجراءات التسليم والاستلام، ينقلون ثقل جسدهم من رجل إلى رجل، يهزون يدهم اليمنى بما تحمل هزات تبرم وغيظ، لباسهم جميعا عسكري أنيق، أعلى رتبة بينهم مساعد أول، وهو الذي كان يوقع على لوائح استلامنا .
    } قرأت في مكان ما أن رجال إحدى القبائل الإفريقية عندما التقوا بالإنسان الأوربي الأبيض لأول مرة نظروا إلى بعضهم البعض بدهشة، وتساءلوا: هذا الرجل، لماذا قام بسلخ وجهه ؟! {
    وتخيلت أن عناصر الشرطة العسكرية، هؤلاء الذين أراهم امامي، ذوو وجوه مسلوخة، أية قوة سلخت هذه الوجوه ؟ ... كيف سلخت ؟... لماذا ؟... أين ؟... لست أدري لكن ما أراه أن الوجوه البديلة لا تشبه وجوه باقي البشر، وجوه أهلنا وأصدقائنا !!... مسحة غير بشرية ... هي غير مرئية، صحيح، ولكنها قطعاً موجودة!.
    - الله يعطيكم العافية ... خلص انتو تيسروا، خلصت مهمتكم.
    هكذا قال مساعد الشرطة العسكرية للرجل ذي النظارات. كانوا قد فكوا قيودنا، السجناء غريزياً التصقوا بعضهم ببعض. ذهب رجال الأمن.
    بدأت الدائرة تضيق .... صمت مطبق!!
    - يا لله ... صفوهم تنين تنين ... دخلوهم.
    وأدخلونا من هذا الباب الصغير، وفوقنا منحوتة "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب". اثنين اثنين، في رتل طويل داخل ساحة في وسطها وعلى جنباتها بعض الأشجار والورود الريفية، وهي محاطة من جميع الجهات بغرف تشرف عليها. وقف الرتل أمام مساعد آخر، جلس خلف طاولة أخرى، ولوائح اسمية أخرى، أكثر من مائة عنصر من عناصر الشرطة العسكرية يحومون حولنا، جميع السجناء يتحاشون النظر مباشرة إلى أي عنصر. رأسنا منخفض قليلا، أكتافنا متهدلة. وقفة فيها خشوع، وقفة تصاغر وذل، كيف اتفق جميع السجناء على هذه الوضعية وكأننا تدربنا عليها سابقا؟! لست ادري.
    كأن كل واحد منا يحاول الاختباء داخل ذاته !!!
    حكني رأسي من القفا، وكما يفعل كل إنسان يحكه رأسه، مددت يدي عفوياً وحككت !! وسمعت صوتاً راعداً:
    - ولك يا جماعة ... شوفوا الكلب شوفوا !! عم يحك راسه كمان ...!!
    - شــــوووو .... ! عم يحك راسه ؟!
    وسحبتني الأيدي خارج الرتل، تقاذفتني صفعاً ولكماً، لكمة تقذفني، صفعة توقفني، النار في الرقبة والوجه .... تمنيت لو أبكي قليلاً... طلبني المساعد لتسجيلي فلم يبق غيري، سجلني وأصبحت نزيلاً رسمياً في هذا السجن.
    مرة أخرى قادونا، بين غرفتين باب حديدي صغير، أصغر من الباب الأول، " لم الأبواب تصغر كلما تقدمنا ؟! " ومن هذا الباب ولجنا إلى ساحة كبيرة، إنها الساحة الأولى، ساحة مفروشة بالإسفلت، كل الطرقات والساحات مفروشة بالإسفلت الخشن، يحيط بالساحة أبنية من طابق واحد مكتوب عليها أرقام متسلسلة : المهجع الثالث ، المهجع الرابع ... المهجع السابع.
    } الأبواب تصغر ولكن في الساحة الأولى فتحت جهنم أوسع أبوابها، وكنا وقودها !! {.
    بهدوء ودقة أوقفونا بعضنا إلى جانب بعض، يفصل بين الواحد والآخر متران أو ثلاثة، صاح المساعد:
    - هلق ... كل واحد منكن يشلح كل تيابه .... حط تيابك على يمينك .... خليك بالسروال الداخلي فقط.
    لاحظت أنني الوحيد الذي يلبس " سليب " بعد ان خلع الجميع ثيابهم ووقفوا ينتظرون، وانتابني إحساس بالغربة !..
    كان صوت المساعد في البداية هادئاً، ومع مرور الوقت أخذ يتصاعد شيئاً فشيئاً، حدةً وشدة، وكلما تصاعد صوت المساعد كنت أحس أن التوتر والعصبية يزدادان في حركات الشرطة... والخوف والهلع يزدادان في نفوس السجناء، يغضون أبصارهم وتتهدل أكتافهم أكثر فأكثر!.
    اقترب مني شرطيان يحملان الكرابيج، قال أحدهم:
    - نزّل الكيلوت ولا ...واعمل حركتين أمان!!
    أنزلت الكيلوت حتى الركبة، نظرت إلى الشرطيين مستفهماً ...
    - اعمل حركتين أمان ولا...
    - شلون يا سيدي بدي اعمل.. شلون حركتين الأمان؟
    - قرفص وقوم مرتين ولا... صحيح انك جحش!
    "حركات الأمان تُعمل خشية أن يكون السجناء قد خبأوا شيئاً ممنوعاً في شرجهم!"
    نظر أحد الشرطيين الى الآخر مبتسماً، وبصوت خفيض:
    - العمى ... شو تبعو صغير!!
    نظرت اليـ"ـه"، إلى تبعي، نعم لقد كان صغيراً جداً !! حتى هو أحس بالذعر الشديد والهلع، فا ختبأ داخل كيسه، أنا لم أستطع الاختباء!
    خلفي مهجع كبير كتب على بابه / المهجع 5 -6 /. تخرج من جانب الباب بالوعة "صرف صحي" على وجه الأرض، تسيل في هذه البالوعة مياه سوداء قذرة.
    انتهى التفتيش. جرى بدقة محترفين، حتى ثنايا الثياب، جميع النقود والأوراق، أي شيء معدني، الأحزمة وأربطة الأحذية ... جميعها صودرت، "أنا كنت حافيا". ورغم كل هذه الدقة بالتفتيش فإن ساعة يدي مرت، لم أتعمد إخفاءها، فقط لم ينتبه لها احد، وعندما صاح المساعد:
    - ولا كلاب ... كل واحد يحمل تيابه.
    حملت ثيابي ووضعتها على يدي اليسرى، وفورا فككت الساعة ودسستها في الجيب الداخلي لسترتي، وشعور آخر بالانتصار.!

    البلديــــــــات :
    كلمة خاصة بالسجون هنا، هم جنود سجناء ... الفارون من الخدمة العسكرية، الجنود الذين يرتكبون جرائم القتل، الاغتصاب، السرقة، مدمنو المخدرات... كل الجنود المجرمين، حثالة الجيش، يقضون فترة عقوبتهم في السجون العسكرية، في مثل هذا السجن، مهمتهم التنظيف وتوزيع الطعام وغيره من الأعمال... من هنا جاء اسم البلديات، هؤلاء في السجن الصحراوي لهم مهمات أخرى.
    جمعونا في أحد أطراف الساحة، تكومنا ونحن نحمل ثيابنا، صوت المساعد ارتفع كثيراً، البلديات يقفون في الطرف الآخر من الساحة. كثير من البلديات، البعض منهم يحمل عصاً غليظةً مربوط بها حبل متدل يصل بين طرفيها، حبل سميك يتدلى من العصا "الفلقة". صاح المساعد بصوت مشحون موجهاً حديثه للسجناء :
    - مين فيكم ضابط ؟.. الضباط تعو لهون.
    خرج اثنان من بين السجناء، أحدهما في منتصف العمر، الآخر شاب.
    - شو رتبتك ؟
    - عميد.
    - عميد؟!!.
    - نعم.
    - وأنت شو رتبتك؟
    - ملازم أول.
    - هـممم.
    التفت المساعد إلى السجناء، وبصوت أقوى:
    - مين فيكم طبيب .. أو مهندس أو محامي.. يطلع لبره.
    خرج من بيننا أكثر من عشرة أشخاص.
    - وقفوا هون.. ثم متوجهاً للسجناء:
    - كل واحد معه شهادة جامعة ... يطلع لبرّات الصف.
    خرج أكثر من ثلاثين شخصاً، كنت أنا بينهم.
    مشى المساعد مبتعداً، وقف بجوار البالوعة، صاح بالشرطة:
    - جيبولي سيادة العميد!!
    انقض أكثر من عشرة عناصر على العميد، وبلحظات كان أمام المساعد!!
    - كيفك سيادة العميد؟
    - الحمد لله ... الذي لا يحمد على مكروه سواه.
    - شو سيادة العميد ... مانك عطشان؟
    - لا .. شكراً.
    - بس لازم نشربك.. يعني نحن عرب، والعرب مشهورين بالكرم، يعني لازم نقدم لك ضيافة... مو من شان شي ... منشان واجبك!!
    بعد لهجة الاستهزاء والسخرية صمت الاثنان قليلاً، ثم انتفض المساعد، وقال بصوت زاعق:
    - شايف البالوعة ؟ .. انبطح واشرب منها حتى ترتوي ... يالله ولا كلب!!
    - لا ... ما راح اشرب.
    وكأن مساً كهربائياً أصاب المساعد، وباستغراب صادق صرخ:
    - شـو ..شـو ...شـو ؟؟!!! ما بتشرب!!!
    عندها التفت إلى عناصر الشرطة العسكرية ولا زال وجهه ينطق بالدهشة:
    - شربوه .... شربوه على طريقتكن و لا كلاب.... تحركوا لشوف.
    العميد عارٍ إلا من السروال الداخلي، حافٍ، وبلحظات قليلة اصطبغ جسده بالخطوط الحمراء والزرقاء، أكثر من عشرة عناصر انقضوا عليه، تناوشوه، عصي غليظة، كوابل مجدولة، أقشطة مراوح الدبابات .... كلها تنهال عليه من جميع الجهات، من أول لحظة بدأ العميد يقاوم، يضرب بيديه العنصر الذي يراه أمامه، أصاب بعضهم بضربات يديه .... كان يلكم ... يصفع ... يحاول جاهداً أن يمسك بواحد منهم، ولكنهم كانوا يضربونه وبشدة على يديه اللتين يمدهما للإمساك بهم... تزداد ضراوتهم، خيوط الدم تسيل من مختلف أنحاء جسده .... تمزق السروال وانقطع المطاط، أضحى العميد عارياً تماماً، إليتاه أكثر بياضاً من سائر أنحاء جسده، خيوط الدم أكثر وضوحاً عليهما، خصيتاه تتأرجحان مع كل ضربة أو حركة، بعد قليل تدلت يداه الى جانبيه وأخذتا تتأرجحان أيضاً، سمعت صوتاً هامساً خلفي:
    -تكسروا إيديه !! يا لطيف ... هالعميد يا رجال كتير .. يا مجنون!!
    لم ألتفت إلى مصدر الكلام. كنت مأخوذاً بما يجري أمامي، مع الضرب بدأ العناصر يحاولون أن يبطحوه أرضاً، العميد يقاوم، يملص من بين أيديهم... تساعده دماؤه التي جعلت جسده لزجاً. تكاثروا عليه، كلما نجحوا في إحنائه قليلا ... ينتفض ويتملص من قبضاتهم وبعد كل حركة تزداد ضراوة الضرب ...
    رأيت هراوة غليظة ترتفع من خلف العميد وتهوي بسرعة البرق !!.. سمعت صوت ارتطامها برأس العميد....! صوتأ لا يشبه أي صوت آخر....! حتى عناصر الشرطة العسكرية توقفوا عن الضرب، شُلوا لدى سماعهم الصوت لثوان....صاحب الهراوة تراجع خطوتين إلى الوراء .. جامدَ العينين ...!! العميد دار بجذعه ربع دورة وكأنه يريد أن يلتفت الى الخلف لرؤية ضاربه !! خطا خطوةً واحدة، وعندما هم برفع رجله الثانية .... انهار متكوماً على الإسفلت الخشن !!
    الصمت صفحة بيضاء صقيلة تمتد في فضاءات الساحة الأولى ... شقها صوت المساعد القوي:
    - يا لله ولا حمير ... اسحبوه وخلوه يشرب!!
    سحب عناصر الشرطة العميد، واحد منهم التفت الى المساعد وقال:
    - يا سيدي .. هذا غايب عن الوعي، شلون بدو يشرب؟!
    - حطوا رأسه بالبالوعة .. بيصحى .. بعدين شربوه.
    وضعوا رأس العميد بمياه البالوعة، ولكنه لم يصح.
    - يا سيدي .. يمكن أعطاك عمره!
    - الله لا يرحمه ... اسحبوه لنص الساحة وزتوه هونيك.
    من يديه جروه على ظهره، رأسه يتأرجح، اختلطت الدماء بأشياء بيضاء وسوداء لزجة على وجهه!! مسار من خطوط حمراء قاتمة تمتد على الإسفلت الخشن من البالوعة الى منتصف الساحة حيث تمددت جثة العميد.
    صاح المساعد وقد توترت وبرزت حبال رقبته:
    - جيبولي .. هالكرّ الحقير ... الملازم لهون.
    وبعد أن أصبح الملازم أمامه:
    - شو يا حقير ؟ .. بدك تشرب ولا لأ؟
    - حاضر سيدي .. حاضر .. بشرب.
    انبطح الملازم على الإسفلت أمام البالوعة، غطس فكيه في مياه البالوعة، وضع المساعد حذاءه العسكري على رأس الملازم المنبطح وضغطه إلى الأسفل قائلاً:
    - ما بيكفي هيك. لازم تشرب وتبلع!!
    ثم تابع المساعد موجهاً حديثه للشرطة:
    - وهلق .. خدوا هالكلب عا التشريفة ... بدي يكون الاستقبال تمام .!
    الملازم الذي شرب وبلع المياه القذرة بما فيها من بصاق ومخاط وبول وقاذورات أخرى، ألقي على ظهره بسرعة مذهلة، ووضع اثنان من البلديات قدميه في حبل الفلقة، لفوا الحبل على كاحليه ورفعوا القدمين إلى أعلى.
    القدمان مشرعتان في الهواء، ثلاثة عناصر من الشرطة توزعوا أمام القدمين وحولهما بطريقة مدروسة بحيث كانت كرابيجهم تهوي على القدمين بتناغم عجيب دون أن تعيق إحدى الكرابيج الأخرى، ارتفع صراخ الملازم عالياً، تلوى جسده يحاول خلاصاً، ولكن دون جدوى.
    استفز صراخُ الملازم واستغاثاتًه العالية المساعد، مشى باتجاهه مسرعاً، وكلاعب كرة قدم وجه مقدمة بوطه إلى رأس الملازم وقذف الكرة.
    صرخ الملازم صرخة حيوانية، صرخةً كالعواء... استُفز المساعد أكثر فأكثر، سحق فم الملازم بأسفل البوط، عناصر الشرطة يواصلون عملهم على قدمي الملازم، المساعد يواصل عمله سحقاً، الرأس، الصدر، البطن... رفسات على الخاصرة ... حركات هستيرية للمساعد وهو يصرخ صراخاً بالكاد يفهم:
    - ولاك عرصات ... ولاك حقيرين .... عم تشتغلوا ضد الرئيس !!... ولاك سوّاك زلمة ... سواك ملازم بالجيش ... وبتشتغل ضده ؟!!... ولاك يا عملاء... يا جواسيس !.. ولاك الرئيس خلانا نشبع خبز... وهلق جايين أنتو يا كلاب تشتغلوا ضده ؟!... يا عملاء أمريكا.... يا عملاء اسرائيل ... يا ولاد الشرموطة ... هلق عم تترجوا ؟!!... بره كنتوا عاملين حالكن رجال ... يا جبناء ... هلق عم تصرخ ولاك حقير !!...
    على إيقاع صرخات المساعد و"دبيكه" فوق الملازم، كانت ضربات الشرطة تزداد عنفاً وشراسةً، وصرخات واستغاثات الملازم تخفت شيئاً فشيئاً.
    بعد قليل تمدد الملازم أول إلى جانب العميد !!. "لا أدري حتى الآن ماذا حل به ؟ هل مات أم لا ؟ ...هل كان لدى إدارة السجن أوامر بقتل الضباط أثناء الاستقبال أو التشريفة ؟".
    والآن جاء دورنا. " إجاك الموت يا تارك الصلاة !" عبارة سمعتها فيما بعد من الإسلاميين حتى مللتها، ولكن فعلا جاء دورنا، حملة الشهادات الجامعية، ليسانس ، بكالوريوس ، دبلوم ، ماجستير .. دكتوراه ..
    الأطباء شربوا وبلعوا البالوعة، المهندسون شربوا وبلعوا البالوعة، المحامون .. أساتذة الجامعات .. وحتى المخرج السينمائي .. شربت وبلعت البالوعة .. الطعم .. لا يمكن وصفه !! والغريب انه ولا واحد من بين كل الشاربين تقيأ !!.
    وأصبح بين هؤلاء جميعاً شيئان مشتركان، الشهادة الجامعية، وشرب البالوعة !! .
    ثم أكثر من ثلاثين، كل فلقة يحملها اثنان من البلديات، أمامها ثلاثة عناصر وثلاث كرابيج.... والكثير.. الكثير.. من القسوة، الألم، الصراخ.
    الألم.. الضعف.. القهر.. القسوة.. الموت.. !!
    قدماي متورمتان من آثار خيزرانة أيوب ، بالكاد أستطيع المشي. عندما مشيت في الساحة الأولى فوق الإسفلت الخشن ، كنت كمن يمشي على المسامير ، رفع البلديات قدمي الى الأعلى بالفلقة ، ثلاثة كرابيج تلسع قدمي المتورمتين .. موجة داخلية عارمة من الألم تتكوم وتتصاعد من البطن لتنفجر في الصدر... تنحبس الأنفاس عندما تهوي الكرابيج ... الرئتان تتشنجان ... تنغلقان على الهواء المحبوس وتتوقفان عن العمل ... ومع الموجة الثانية للألم وانفجاره في الصدر ... ينفجر الهواء المحبوس في الرئتين عن صرخة مؤلمة، أحسها تخرج من قحف الرأس ... من العينين ... أصرخ ... وأصرخ والقدمان مسمرتان في الهواء ... كل محاولاتي لتحريكهما ... لإزاحتهما ... فاشلة !! تنفصلان عني ... مصدر للألم فقط ... سلك يصل بينهما وبين أسفل البطن والصدر... موجات متلاطمة من الألم، تبدأ الموجة عندهما، تمتد وتتصاعد مرورا بأسفل البطن ... البطن ... الصدر ... ثم تتكسر عند الرأس، وصرخة ألم ورعب ومهانة ناثرةً الذهولَ وعدم الفهم والتصديق، أكثر من ثلاثين صرخة متوازية... متشابكة، لأكثر من ثلاثين رجلاً، تنتشر في فضاء الساحة الأولى.
    في البداية استنجدت بالله ـ وأنا الذي كنت طوال عمري أتباهى بإلحادي ـ ، ولكن الله لم يستطع أن يفعل شيئا أمام جبروت الشرطة !!! فنقمت وتساءلت: ولكن أين الله، الساحة الأولى أكبر دليل على عدم وجود كائن اسمه الله!!
    أكثر من ثلاثين صرخة ألم ... قهر ... تخرج من أفواه أكثر من ثلاثين رجلاً مثقفاً .. متعلماً !! أكثر من ثلاثين رأساً، كل منها يحوي الكثير من الطموح والأمل والأحلام، الكل كان يصرخ ... عواء ثلاثين ذئباً ... زئير أكثر من ثلاثين أسداً ... لن يكون أعلى من صراخ هؤلاء الرجال المتحضرين ... ولن يكون أكثر وحشية ... وحيوانية!!
    يضيع صراخي وسط هذه الغابة من الصراخ وأصوات ارتطام الكرابيج بالأقدام ... وترتفع الأمواج.
    أستنجد برئيس الدولة .. يشتد الضرب .. وأفهم منهم أن علي ألا أدنس اسم فخامته بفمي القذر. استنجد بنبيهم:
    - من شان محمد!!!
    لطمة على الرأس وصوت المساعد الراعد:
    - إي .. بدي نيك أمك ... على أم محمد!!! ليش في حدا خرب بيتنا غير محمد ؟!
    رأيته يبتعد عني ببطء.. فصرخت:
    - يا سيدي دخيلك .. دخيل أختك.. بس كلمة واحدة!!
    موجات الألم تتصاعد أكثر فأكثر ... تتلاطم أشد فأشد ... المساعد يبتعد أبعد فأبعد ... وأصرخ بأعلى صوتي:
    - يا سيدي ... أنا ماني مسلم ... أنا مسيحي ... أنا مسيحي ... يا سيدي دخيلك ... أبوس أيدك ... أبوس رجلك ... أنا مسيحي!!
    وببطء شديد يقف المساعد. لقد ميّز صوتي ضمن كل هذه الأصوات، سمعه، يعود ببطء أشد، يصل قربي، يرفع يده اليمنى لعناصر الشرطة بإشارة "كفى".
    } مصيري الآن كله مرتبط بكلمة من فم هذا المساعد الذي بالكاد يعرف القراءة. {
    يزرر عينيه ويسألني:
    -أنت مسيحي ولا ؟
    - نعم سيدي نعم ... الله يخليك ويطول عمرك ..
    - مسيحي... وصاير إخوان مسلمين؟!!
    - لا ..لا سيدي لا ... أنا ماني إخوان مسلمين.
    - لكن ليش جايبينك ؟ .. هيك !! .. لوجه الله !! ... يعني تبلّي ؟ ... آه يا كلب ..آه ، إذا كانوا هدول العرصات يستحقوا الموت مرة واحدة، إنت لازم تموت مرتين!! ... يا لله شباب زيدوا العيار لهالكلب ... مسيحي وصاير إخوان مسلمين!!
    مضى، والعناصر الثلاثة يزيدون العيار على القدمين وعنصر رابع تنهال كرباجه على فخدي العاريتين.
    تقلصات الألم تزداد، لحم الفخذين رقيق ويختلف عن لحم باطن القدمين، أختنق بصرخاتي أسكت لحظات لأتنفس وأعب الهواء الذي سأصرخه، غمامة حمراء تتأرجح أمام عيني، حد الألم لا يطاق.
    بعد أن خذلني المساعد، أعود إلى الله، لم يبق من مخلص غيره، وساعات الضيق وانعدام الأمل يعود فيها الإنسان إلى الله. عدت إليه، راجياً "سرا" أن ينجيني من الأشرار، كنت في غاية التهذيب وأعمق درجات الأيمان والخشوع:
    - يا رب خلصني ... أنت المخلص، نجني من بين أيديهم.
    قلت هذا الكلام دون أن انطقه، طاف بذهني، ومنه خرج مسرعاً باتجاه السماء.
    قواي تخور، قدرتي على الصراخ تخفت، يصبح الألم حاداً كنصل الشفرة، أرى الكرابيج ترتفع عالياً، أتوقعها، إذا نزلت هذه الكرابيج على جسدي فأنا حتماً سأموت !! لم يبق أي طاقة لتحمل المزيد من الألم !!.. الموت... أعود إلى الله:
    -يا رب دعني أموت ... دعني أموت ... خلصني من هذا العذاب.
    يصبح الموت أمنية!! أتمنى الموت صادقا ... حتى الموت لا أستطيع الحصول عليه!!.
    الكرابيج ترتفع وتهوي ... الغمامة الحمراء، السماء وردية، يخف الألم... يخفت الصراخ ... موجة ضعيفة من الخدر والنمل تنزل من القدمين إلى باقي أنحاء الجسم!!.
    الخدر يزداد ... موجة من الارتياح اللذيذ تغمرني ... الكرابيج ترتفع وتهوي ... الألم اللذيذ ... أشعر بالجسد المتوتر قد ارتخى ... ثم أغيب !!!!.







    16 تشرين الثاني
    منذ الصباح يعم ضجيج مكبرات الصوت. أرجاء السجن وما حوله تبث الأناشيد الوطنية والأناشيد التي تمجد رئيس الدولة وتسبغ عليه صفات الحكمة والشجاعة وتصفه بأوصاف عديدة، فهو المفدى، القائد العظيم، المعلم، المُلهِم... تذكر أفضاله العميمة على جميع أبناء الشعب ، فلولاه لما بزغت الشمس ،وهو الذي يمنحنا الهواء لنتنفس ، والماء لنشرب ...
    نحن السجناء جميعاً نقف في الساحات في صفوف منتظمة، ولأول مرة منذ مجيئي الى هنا سمحوا لنا بالوقوف ضمن الساحة مفتوحي الأعين.
    أعطوا واحداً من السجناء ورقة، ومما هو مكتوب عليها يهتف... فنهتف وراءه: بالروح...بالدم سنفدي رئيسنا المحبوب والمعبود !.

    قبل قليل انتهى الاحتفال. أعادونا الى المهجع.
    أشعر الآن ان صحتي أصبحت جيدة، لقد مضى الآن أكثر من ستة اشهر ونصف على اللحظة التي أعدت فيها فتح عيني على رأس حليق "على الصفر"، ينحني الشخص ذو الراس الحليق فوقي وبيده مزقة قماش مبللة بالماء يحاول أن يمسح بها بعض جروح جسدي، لاحظ صحوتي فابتسم لي، قال:
    - الحمد لله انك صحيت، أنا الدكتور زاهي ... لا تحكي ولا تتحرك .. والحمد لله على سلامتك، يا أخوي انكتب لك عمر جديد، احمد الله سبحانه وتعالى.
    لم استطع لا الكلام ولا الحركة. لزمتني ثلاثة أيام أخرى بعد صحوتي الأولى لأتكلم، وأكثر من شهر حتى أستطيع الحركة. وطوال هذه الفترة لازمني الدكتور زاهي بعنايته الفائقة، وبلهجة المنطقة الشرقية المحببة كان يشرح لي بما يشبه التقرير الطبي أن وضعي كان خطراً لسببين: الأول أن أذية بالغة قد أصابت إحدى الكليتين وأنني بقيت فترة لابأس بها أتبول دماً. أما الثاني فهو أن مساحة الجلد المتهتك في جسدي قد اقتربت من حد الخطر. وإن تفاوتت النسبة حسب المنطقة. تهتك جلد الظهر بكامله تقريبا ، قسم من البطن ، الجهة الأمامية من الفخذين، القدمان من الجهتين العلوية والسفلية. أما جلد القدم اليسرى فقد انكشط من الجهة العلوية وبانت العظام.
    أخبرني زاهي إنني بقيت ستة أيام غائباً عن الوعي ومعلقاً بين الحياة والموت، كان الملح هو المادة المعقمة الوحيدة المتوفرة، بالملح عالجني الشيخ زاهي، كما كان يحب أن ينادى متنازلا عن لقب دكتور بكل طيبة خاطر وكان يشربني الماء وقليلا من المربى المذاب والمخفف بالماء.
    وكما شرح لي وضعي الصحي فإنه أخبرني عن المعلومات التي وصلتهم من المهاجع الأخرى والتي تقول إن عدد أفراد دفعتنا كان / 91 / شخصاً، قتل منهم ثلاثة في الساحة الأولى أثناء الاستقبال وهؤلاء لم يدخلوهم إلى المهاجع، وخلال فترة غيابي عن الوعي مات عشرة آخرون متأثرين بجروحهم وإصاباتهم البليغة، واثنان من الدفعة أصيبا بشلل دائم نتيجة أذى كبير بالعمود الفقري، واحد فقط أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج فقأت عينيه، وبعد أن انتهى زاهي من سرد هذه المعلومات قال:
    - والحمد لله على سلامتك .. احمد الله يا أخوي احمده.. و رغم أن الصلاة ممنوعة بس أنت تقدر تصلي سراً ركعتين لوجه الله !.

    الحلاقة
    بعد تسعة أيام من صحوتي وقف رئيس المهجع في الصباح وقال مخاطباً الناس في المهجع:
    - يا إخوان .. اليوم دورنا بالحلاقة، اصبروا وصابرو، سيعيننا الله .. احملوا المرضى ويللي ما بيحسن يمشي على البطانيات، كل بطانية يحملها أربعة فدائيين ... وقدر ما فيكم أسرعوا، السرعة أفضل.. و الله يقوينا!
    فتح الباب، وقف الجميع، حملني أربعة أشخاص، قال لي أحدهم بحماس:
    - لا تْخافْ يا أخي لا تخاف.. راح نحميك بأجسامنا.
    صفان من الشرطة على جانبي الباب، بين الشرطي والآخر حوالي المترين، كل شرطي يحمل كرباجاً، ما أن يصل السجين إلى الباب حتى يبدأ الركض، تتلقاه كرابيج الصف اليميني للشرطة من الأمام، الكرابيج اليسارية تطارده من الخلف، من يتعثر أو يقع .. قد يموت فهو يكون قد كسر التناغم وإيقاع الضرب، يقف الصف من خلفه وتجتمع عليه الكرابيج جميعاً، فإذا كان ذا بنية قوية واستطاع النهوض رغم عشرات الكرابيج المنهالة عليه.. فقد نجا. أماالضعيف فستبقيه الكرابيج لصيقاً بالأرض إلى الأبد.
    حوالي الثلاثمائة سجين من مهجعناركضوا بسرعة، تلقوا الضربات السريعة والكاوية، اصطفوا في الساحة ووجوههم إلى الحائط وأعينهم مغمضة، نحن المرضى وضعونا في منتصف الساحة، الكثير من عناصر الشرطة، الكثير من البلديات وفي أيديهم أمواس الحلاقة للذقن وماكينات حلاقة الشعر على الصفر.
    اللؤم ....؟!!
    كانت هذه هي التجربة الأولى للحلاقة، وسأجربها في القادم من الأيام كثيراً، ولكن منذ المرة الأولى ونتيجة لوضعي كمريض مرمي في وسط الساحة يستطيع أن يراقب كل ما يجري فيها رغم أن عينيه مغمضتان! طرقت ذهني تساؤلات إنسانية كثيرة:
    البلديات سجناء مثلنا، مقهورون مثلنا، صحيح إنهم مجرمون، قتلة ولصوص ولوطيون، ولكنهم يعانون من قهر السجن مثلما نعاني، ولا تعني لهم السياسة شيئا... ولكن من أين تنبع هذه القسوة اللئيمة والضرب المبرح اللذان يكيلهما البلديات للسجناء أثناء الحلاقة؟!
    وكنت دائما أتساءل بذهول: هل من المعقول أن يكون الإنسان لئيماً إلى هذه الدرجة ؟!! وهذا اللؤم المجاني ؟!!
    حلاقة الذقن عملية تشريح أو حراثة للوجه مصحوبة بالبصاق والشتائم، وكان بعضهم يتلذذ بافتعال السعال قبل البصق على وجه السجين كي يكون البصاق مصحوبا بالمخاط !!! وتلتصق بصقة البلديات بالوجه ! ويمنع السجين من مسحها.
    حلاقة الرأس .. مع كل سحبة ماكينة على الرأس، وبعد أن ينفض البلديات الشعر المحلوق، ضربة قوية بالماكينة نفسها على المكان المحلوق وهو يصر على أسنانه ويشتم:
    - يا عرص يا ابن العرص .. منين جايب كل هالقمل؟!
    - ولك يا منيك ... شو عامل راسك مزرعة قمل؟!
    ومع كل ضربة ماكينة، إما أن ينفر الدم، أو تظهر كرة صغيرة في الرأس مكان الضربة!!.
    الكثير من السجناء عرف الكثير من البلديات، هم من نفس قراهم وبلداتهم ومدنهم وأحيائهم، وتبقى نفس الأسئلة مطروحة: ولكن لماذا؟ .. لماذا هو لئيم بهذا القدر؟.. ما هي دوافعه النفسية؟.. هل القسوة و السادية المتأصلة أو العارضة يمكن أن تنتقل بالعدوى؟ أم هي روح القطيع؟!.
    " وددت لو تتاح لي فرصة محادثة احدهم ".
    بعد أن انتهى أحد البلديات من حلاقتي بضربة قوية على رأسي الحليق، قال:
    - ياكلب يا ابن الكلب .. كسرتلي ضهري!! .. عامل حالك ما بتحسن توقف!!.
    أدخلونا جميعاً إلى المهجع بين صفي الشرطة والكرابيج تنهال أكثر ما تنهال على الرؤوس الحليقة!! استلقيت في الركن المخصص للمرضى. إمارات السرور والفرح بادية على كل المساجين:
    " هاهي حلاقة أخرى .. تمر بسلام .. لا زلنا أحياء !! ".

    المهجع
    خلال استلقائي أكثر من شهر في هذا الركن أتيح لي أن أعاين وأفهم الكثير من الأشياء والأمور في هذا المهجع الكبير. يبلغ طول المهجع / 15 / خمسة عشر متراً، وعرضه حوالي ستة أمتار باب حديدي أسود، في أعلى الجدران نوافذ صغيرة ملاصقة للسقف و مسلحة بقضبان حديدية سميكة، لا يتجاوز عرض النافذة خمسين سنتمتراً وطولها حوالي المتر. أهم ما في المهجع هو الفتحة السقفية، وهي فتحة في منتصف السقف طولها أربعة أمتار وعرضها متران، مسلحة أيضا بقضبان حديدية متينة، هذه الفتحة ويسمونها " الشراقة " تتيح للحارس المسلح ببندقية والذي يقف على سطح المهجع أن يراقب ويعاين كل ما يجري داخل المهجع وعلى مدار ساعات الليل والنهار، فوق كل مهجع في السجن الصحراوي حارس مسلح من الشرطة العسكرية.
    ساعات اليوم هنا جزءان لاثالث لهما، اثنتا عشر ساعة نوم إجباري، اثنتا عشرة ساعة جلوس إجباري، كل سجين يملك ثلاث بطانيات عسكرية فقط، يطوي واحدة ويمدها على الأرض فتصبح فراشاً ويتغطى باثنتين، من يملك ألبسة زائدة عن الثياب التي يرتديها يطويها ويجعلها وسادة أو يضع حذاءه كوسادة، ومن يكن مثلي لا يملك ثياباً أو حذاءً فإنه ينام بلا وسادة.
    وعلى كل سجين أن يتقيد بالتعليمات، من السادسة مساءً إلى السادسة صباحاً يجب أن يكون نائماً لا يتحرك، من السادسة صباحاً إلى السادسة مساءً يجب أن يطوي البطانيات الثلاث ويجلس عليها لا يتحرك.
    الذهاب إلى المرحاض يتم وفق نظام خاص، بحيث أن الشرطي الحارس في أي ساعة يخطر له أن ينظر داخل المهجع يجب ألا يرى أكثر من شخص واحد يمشي داخل المهجع، ورئيس المهجع وهو سجين أيضاً يجب أن ينظم كل هذا تحت طائلة المسؤولية.
    لدى أي خلل../ إذا تحرك النائم حركة غير طبيعية مثلاً، إذا كان إثنان يتحدثان إلى بعضهما ليلاً، إذا كان هناك أكثر من شخص يمشي، إذا كان جالساً بطريقةً لاتعجب الحارس/ يصيح الحارس برئيس المهجع:
    - رئيس المهجع .... ولا كرّ !!
    - نعم سيدي.
    - علمّ ...هالكلب.
    وهكذا يكون قد تم تعليم السجين.
    نوبة كل حارس ساعتان. وعدد الذين يتم تعليمهم تابع لمزاج كل حارس، وكل حارس يبلغ من يليه في الحراسة بعدد الذين علّمهم، وفي الصباح يكون المجموع عند الرقيب الذي يحضر إلى الساحة وبصحبته عدد كبير من عناصر الشرطة العسكرية والبلديات، ويصيح:
    - ولا ... رئيس المهجع ياحقير ... عندك تلاتة وتلاتين معلِّمين .... طالعهن لبره لاشوف!.
    ويخرج الفدائيون!.. جزاء وعقوبة التعليم أصبحت عرفاً: خمسمائة جلدة.

    الطعام
    ثلاث وجبات في اليوم، رغيفان من الخبز العسكري لكل سجين، الطعام يأتي في أوان بلاستيكية، العشاء على الأغلب شوربة عدس، الغداء برغل ومرق البطاطا، البطاطا تطبخ مع رب البندورة بدون أن تغسل أو تفرم، ولذلك دائماً هناك عدة سنتمترات من التراب الراقد في أسفل جاط المرق، الفطور لبنة أو زيتون وأحياناً بيض مسلوق.
    يجلب البلديات جاطات الطعام، يضعونها أمام المهاجع ويذهبون، أكثر من ستمائة رغيف خبز، حوالي العشر جاطات بلاستيك مليئة بالبرغل ومثلها من المرقة، كلها تكوّم أمام المهجع.
    ثلاث مرات في اليوم يفتح الباب الحديدي الأسود لإدخال الطعام، وفي كل مرة يكون الفدائيون واقفين خلف الباب، ما أن يفتح حتى يصبحوا جميعاً وبلمح البصر عند الطعاك، وبسرعة البرق يحملونه، فدائي واحد لكل جاط برغل، جاط المرق يحمله اثنان، الخبز يكومونه على البطانيات وكل بطانية يحملها أربعة أشخاص، طوال الوقت الذي يستغرقه إدخال الطعام تكون كرابيج الشرطة قد فعلت فعلها، يتفنن عناصر الشرطة ويبتدعون أساليب جديدة:
    أمام جاط شوربة العدس الغالي، أمسك الرقيب بالفدائي الذي هم بحمل الجاط. قال:
    - أترك الجاط على الأرض ... ولا شرموط!
    ترك السجين الجاط ووقف.
    - وهلق ... غطس إيديك بالشوربة لشوف!
    وخرجت اليدان من الشوربة مسلوختين. وأجبره بعدها أن يحمل الجاط بيديه المسلوختين إلى داخل المهجع.
    كل بضعة أيام يقتل واحد أو أكثر أثناء إدخال الطعام إلى المهاجع.

    الفدائيون
    يوجد هنا أناس من كل الأعمار، رجال في الثمانين من عمرهم، فتيان لم يتجاوزوا الخامسة عشر، يوجد مرضى، ضعفاء، ذوو عاهات سواء كانت في الأصل أو حدثت جراء التعذيب.
    الفدائيون مجموعة من الشباب الأقوياء ذوي الأجساد المتينة، تطوعوا من تلقاء أنفسهم للقيام بالمهام الخطرة التي تحتاج إلى قوة تحمل أو سرعة، مثل إدخال الطعام إلى المهجع، أو إذا تم " تعليم " أحد المرضى أو الشيوخ من قبل الحراس، فإن أحد الفدائيين ينوب عن هذا المريض في تلقي الخمسمائة جلدة، لا يعرف أحد أي مهجع في السجن كان السباق إلى ابتداع هذه الفرقة الفدائية، ولكن في لحظة ما تبين أن لدى كل مهجع في السجن فرقة فدائية، "اكتشفت الشرطة في السنوات اللاحقة هذا الأمر، ففي أحد الأيام كان الحراس يتسلون بمراقبة أحد المهاجع وتعليم السجناء، وأصبح عدد الأشخاص الذين تم تعليمهم يفوق عدد أعضاء الفرقة الفدائية، وأصر بعض الفدائيين على الخروج مرة ثانية لتلقي خمسمائة جلدة أخرى، وفوراً اكتشف عناصر الشرطة آثار الضرب والكدمات الحديثة على أرجلهم ولكنهم رغم ذلك لم يفعلوا شيئا حيال الأمر".
    سمعت أحد الفدائيين يقول إلى زميله:
    - نحن مشروع شهادة.
    وهم صادقون في سعيهم إلى الاستشهاد، وقد أنقذت الفرق الفدائية حياة الكثير، وعملهم يتسم بالإخلاص والاندفاع الشديدين النابعين عن إيمان عميق.
    في مرة أخرى سمعت دعاء أحدهم بعد الصلاة التي أداها جالساً :
    - اللهم انك قادر على كل شيء، باسمك الجليل هبني الشهادة، وخذني إلى جنتك حيث النبيّون والمؤمنون الأخيار.
    بعضهم كان يقوم بعمله بتواضع شديد وصمت، وعلى بعضهم الآخر كنت ألاحظ نبرة زهو وتشوف في حديثه.

    الحمّام
    نحن في المهجع ستة مرضى لا نذهب إلى الحمام، أنا وزميلي في الدفعة الذي بقي غائباً عن الوعي طوال الفترة التي كنت لا أستطيع الحركة فيها، "وكان قد دخل إلى هذا المهجع من دفعتنا ثلاثة، واحد مات بعد يومين، أنا صحوت بعد ستة أيام، أما الثالث فقد بقي شهرين يتأرجح بين الموت والحياة، صحا بعدها وشفي" وأربعة مشلولون، اثنان منهم بالأصل شلل أطفال ، الثالث أثناء الاستقبال، أما الرابع فقد شل نتيجة التعذيب بـ " المظلة ".
    الحمام إجباري للجميع إلا الذين لا يستطيعون الحركة، خاصة وقد كتب على بابه إن النظافة من الإيمان، ذهب المهجع إلى الحمام مرتين خلال فترة الشهر التي بقيت فيها لا أستطيع الحركة، يخلعون كل ثيابهم يبقون فقط بالسراويل الداخلية.
    بعد شفائي نسبياً وقدرتي على الحركة ذهبت مع المهجع إلى الحمّام!.
    الكيلوت الذي كنت ارتديه عند مجيئي إما أنه تقطع أثناء الاستقبال أو أنه ضاع، صحوت بعد ستة أيام فوجدت نفسي مرتدياً سروالاً داخلياً يصل إلى الركبتين وثيابي مكومة إلى جانبي، وبهذا السروال وقفت بالصف داخل المهجع بانتظار الذهاب إلى الحمّام. الكل متوجس، الكل خائف، نقف خلف الباب الأسود تحيط بنا الأدعية والابتهالات إلى الله، خلفي اثنان يتحادثان حول أبواب السجن، كلها حديدية وكلها سوداء، أحدهم يروي للآخر عن سجينة اسمها "ترفة" كانت قد قطعت عهداً على نفسها نتيجة لكثرة الاستفزازات التي كانت تشكلها الأبواب السوداء لها بأنها بعد خروجها من السجن ستحضر نجاراً يخلع لها كل أبواب بيتها، هي لا تريد أبواباً مغلقةً أبداً.
    فتح الباب ... خرجنا ركضاً، اثنين اثنين، حولنا من الجانبين الشرطة يحملون الكرابيج التي ترتفع عالياً وتهوي على من تصادفه، الكل حفاة " كانت قدماي لما تشفى جيدا بعد "، من الساحة السادسة عبرنا ثلاث ساحات أخرى حتى وصلنا الحمام، بناء مستطيل يحوي العديد من المقاصير، وهو من مخلفات الحقبة الفرنسية، أدخلونا كل اثنين إلى مقصورة بلا باب، وزعوا الصابون العسكري ضرباً على الرأس، لكل واحدا لوح من الصابون .. صياح ... شتائم ... تركيز شديد في هذا الصياح وهذه الشتائم حول موضوع ألا نستغل فرصة وجودنا في الحمام ونلوط بعضنا بعضا !!، وأنهم يعرفون أننا كلنا لوطيون وأننا نفعل كذا وكذا ببعضنا.
    الماء النازل من "الدوش" يغلي، البخار يتصاعد، تعديل حرارة الماء غير ممكنة، بالكاد دهنّا أجسادنا بالماء، دقيقة واحدة قد تزيد أو تنقص بضع ثوان، نخرج بعدها تحت وقع الكرابيج، الضرب على الأجساد المبللة ذو وقع مختلف، يلسع لسعاً، نعود إلى المهجع ركضاً نحمل آثار الضرب فقط.
    " سوف يلغى الحمّام بعد فترة نتيجة اكتظاظ السجن وسيتم تحويله إلى مهجع يوضع فيه المعتقلون الشيوعيون ."
    تابع الدكتور زاهي العناية بي وبالمرضى الآخرين، جروحي كلها على وشك الشفاء عدا الجرح على وجه القدم اليسرى، و نتيجة لأن عظام مشط القدم قد بانت بعد انكشاط الجلد عنها فقد خشي الدكتور زاهي من مضاعفات أخرى، حضر مرة ومعه شخص آخر وعرف به على أنه طبيب أخصائي جلدية، وقد أخبرني هذا الطبيب أن بمهجعنا فقط يوجد ثلاثة وعشرون طبيباً من مختلف الاختصاصات.
    زميلي في الدفعة قاوم الموت أكثر من شهرين، أخذت في نهايتها صحته في التحسن، أيضا بفضل عناية وسهر زاهي، ثم بدأ يصحو من غيبوبته تدريجياً، وعندما أصبح بإمكانه تحريك رأسه ... نظر باتجاهي وفوجيء بي تماما !! أصيب بالدهشة الشديدة لثوان قليلة حتى أن زاهي الذي كان جانبه سأله إذا كان قد رأى ديناصوراً؟! ولكنه تململ ولم يجب.

    خلال الشهرين الأولين كانت قد نشأت بعض العلاقات بيني وبين بعض السجناء، فعلاقتي مع زاهي تعتبر جيدة، لقد جلسنا عدة مرات سوية نتحدث عن السجن والحرية، بثني العديد من همومه الطبية والعائلية حتى، كشف لي عن خشيته من تفشي وباء ما داخل السجن، وأمام انعدام الأدوية والوسائل الطبية فإن أي وباء سيكون قاضياً، سألته مرة عن تاريخ سجنه ومجيئه إلى السجن الصحراوي، قال:
    - بعد المجزرة مباشرة!!
    - وأية مجزرة تعني؟!
    - ولو يارجل !!! ... معقول ما سمعت بالمجزرة يا أخوي؟
    - لا والله .. ما سمعت .. أناما كنت بالبلد، كنت بفرنسا.
    بعدها سرد علي تفاصيل ما حدث، أو ما سمي بمجزرة السجن الصحراوي:
    - كان في هذا السجن قرابة الألف سجين إسلامي، وفي يوم حزيراني قائظ، حطت طائرات الهليوكوبتر محملة بالجنود الذين يقودهم شقيق الرئيس، مدججين بالأسلحة، نزلوا من الطائرات في ساحات السجن، دخلوا على السجناء في مهاجعهم وبالرشاشات حصدوهم حصداً! جمعوا قسماً منهم في الساحات وقضوا عليهم جميعاً. زاهي أتى إلى هذا السجن بعد المجزرة تماما ،كانت الدماء والشعر الآدمي ونتف من اللحم والأدمغة لا زالت لاصقة على جدران وأرضية المهجع الذي أدخلوه فيه.
    يتوقف زاهي قليلاعن السرد، ينظر عاليا خلال الشراقة نظرة ساهمة ... ويتابع:
    - رحمهم الله جميعا ... الجميع استشهد، كانوا أبطالاً من الرواد الأوائل، عليهم رحمة الله، تصور يا أخوي ... انه خلال المجزرة هجم كم واحد من الشباب المسلم على العساكر المسلحين، واستطاعوا انتزاع بعض الأسلحة... هم يعرفون أنهم راح يموتون على كل حال... ليش ما يقاومون ؟!.. وظلوا يقاومون بالأسلحة هاي ... حتى استشهدوا أو نفذت ذخيرتهم ... كبدوا العساكر خسائر كبيرة ... عليهم رحمة الله ... الغريب انك ما سمعت بهذي المجزرة.. يا أخوي!!.
    وخلال هذين الشهرين لم يسألني أحد عن ديني، فلم يكن يخطر على بال أحدهم أن أكون غير مسلمٍ ، خاصة وأن اسمي لا يوحي بذلك، وبعد التجربة التي مررت بها في مركز المخابرات لم أخبر أحداً بذلك خاصة انه سيكون خارج السياق.

    بعد يومين من دهشة زميلي في الدفعة عندما رآني، كان المهجع كله قد عرف أنني:
    - نصراني، ملحد، وجاسوس!!
    ظهرت النتائج فوراً. قوطعت مقاطعةً تامة من الجميع، لم يعد أحد منهم يحييني، إذا قلت لأحدهم صباح الخير أشاح بوجهه إلى الطرف الآخر عكس تعاليم نبيهم التي تقول: "ردوا التحية بأحسن منها".
    في اليوم الثالث للدهشة، تظاهر زاهي بأنه يريد الكشف على قدمي. قال لي وهو منهمك بفحصها:
    - أن تكون نصراني... هذا مو مشكلة، انت من أهل الكتاب !.. شغلة أنك تكون جاسوس للنظام .... هاي ماتخرط لا بالعقل ولا بالمنطق ... أنت كنت راح تموت بالتعذيب... وهذول الكلاب ما يقتلون جواسيسهم !!... بس قولي ... صحيح انك أعلنت قدام كل الناس بفرع المخابرات انك ملحد ؟! .
    - صحيح يا دكتور... ولكني قلتها تخلصاً من العذاب والسجن.
    - هذا مبرر غير كافي، لكنني أظن أنك رجل جيد، لذلك أقول لك ... خليك حذر...انتبه!! بهذا المهجع جماعة من المتشددين... يفكرون انه من واجبهم قتل الكفار "حيثما وجدوا"، وأنت صار معروف للجميع إنك كافر!!... وشغله ثانيه أرجو انه ما تحاول تحكي معي... فأنا لا أستطيع أن أكون شاذاً عن الجماعة!
    - شكراً يا دكتور... على كل شيء.
    - لا شكر على واجب.

    مضى أسبوع دون حوادث تذكر، وذات يوم خرجت من المرحاض وأنا أعرج، أحاط بي فورا حوالي عشرة أشخاص كلهم شباب في بداية العشرينات من عمرهم... صرّت كلمات من بين أسنان أحدهم:
    - وقف ولك ... يا نجس .. يا كافر ... هذي هي نهايتك يا كلب.
    تجمدت مكاني، ذهلت... لأجزاء من الثانية نظرت إلى العيون المحدقة بي، فائض من الحقد والكراهية ينفجر من هذه العيون، العزم.. الإصرار..!.
    تضيق الدائرة حولي ... استسلام كلي، بل شلل بالتفكير.
    طوال الفترة الماضية لم أكف عن الخوف، الخوف من المخابرات، الخوف من الشرطة العسكرية، الخوف لدى قرقعة المفتاح في باب المهجع، الخوف من الضرب والألم والموت ... أما الآن .. إنني أرى الموت يحدق بي من خلال الأعين المحيطة بي ..! هل خفت ؟ ... لا أدري، لقد كنت حجراً... قطعة خشب مجردة من الأحاسيس والمشاعر، لا تفكير.. لا رد فعل... جمود كلي... واستسلام تام...!!.
    صمت رصاصي ثقيل يخيم على الفسحة الصغيرة أمام المرحاض، وهي مكان لا يستطيع الحارس على السطح أن يراه من شراقة السقف، كان اقترابهم مني بطيئاً، خطواتهم صغيرة جداً نحو مركز الدائرة الذي هو أنا، هل تعمدوا تعذيبي عبر إطالة عمرخوفي وفزعي؟!.. هل كانوا خائفين من ردود فعلي؟!.. هل هم لم يحزموا أمر موتي بعد؟!.. لست أدري!.
    فجأة كُسر الصمت... وكُسر محيط الدائرة البشري حولي، قفز شخص كبير السن وأحاطني بيديه، التفت إلى المحيطين بي وبصوت هادىء أجش قال:
    - من يعتدي على هذا الشخص فقد اعتدى علي!.
    قالها بالفصحى. بوغت المهاجمون... توقفوا، قال أحدهم:
    - يا شيخ محمود ... يا شيخ محمود، نحن نحترمك ، لكن ... ما الك علاقة بهذا الأمر!.. أنت شيخ دين، ولازم تكون معنا في القضاء على الكفر والكفار!.
    - لا... لست معكم! قال الله تعالى: "لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق".
    - لكن... هذا الشخص كافر يا شيخ محمود!.
    - الله وحده يعلم ما في النفوس وسرائر القلوب.
    - لكنه نصراني... وجاسوس!
    - وجادلهم بالتي هي أحسن، ولا تأخذوا الناس بالشبهات.
    كل الناس بالمهجع يراقبون ما يحدث، ولكن لم يتجمع حولنا إلا عدد قليل، خمنت أن أكثرهم من أنصار الشيخ محمود، فجأة رأيت الدكتور زاهي إلى جانبي، التفت إليه الشيخ محمود وقال آمراً:
    - يا زاهي ... خود هالشخص لمكانه.
    سحبني الدكتور زاهي أو جرني من كتفي، انفتحت الدائرة حولنا دون أية ممانعة، أوصلني إلى فراشي وقال لي:
    - اجلس مكانك ولا تحكي أية كلمة!.

    مكان رئيس المهجع إلى جانب الباب حيث يكون جاهزاً دوماً عند فتح الباب لمخاطبة الشرطة، وعلى الطرف الآخر من الباب وضعوا فراشي بدلاً من الشخص الذي كان يحتله. يبدوا أنهم رفضوا أن أكون بينهم، الباب على يساري، الشخص الذي على يميني وهو الجار الوحيد لي أبعد فراشه عن فراشي أكثر من ربع متر رغم الاكتظاظ والازدحام، ولم يحتج أحد.
    أضحت مقاطعتهم لي تامة، التهديد لا زال مسلطاً، جلست على فراشي ساهماً أتحاشى النظر إلى أي اتجاه محدد.
    مع الأيام بدأت تنمو حولي قوقعة بجدارين:
    ـ جدار صاغه كرهم لي. كنت أسبح في بحر من الكراهية والحقد والاشمئزاز، وحاولت جاهداً ألا أغرق في هذا البحر.
    ـ والجدار الثاني صاغه خوفي منهم!
    وفتحت نافذة في جدار القوقعة القاسي وبدأت أتلصص على المهجع من الداخل، وهو الأمر الوحيد الذي استطعته.
    31 كانون الأول
    اليوم عيد رأس السنة، ترى أين تسهر سوزان اليوم ؟! "لم أكن منتبهاً الى مسألة التواريخ هذه، الأيام هنا كلها متشابهة، ولكني سمعت رئيس المهجع يقول ملاحظة إلى بعض السجناء بأن اليوم هو رأس السنة الميلادية وأن غداً هو يوم الخميس، ومن حسن الحظ أن هؤلاء الظالمين يسهرون ويعربدون ويفسقون في هذا اليوم حتى الصباح، بعدها ينامون، ومعنى ذلك ان الهليوكوبتر لن تأتي غداً، لا محاكمات ... لا إعدامات".
    بعدها أصغيت للأصوات خارج المهجع، يبدو أن بعض عناصر الشرطة يحتفلون برأس السنة في غرفهم، "حفل في الجحيم" خطر بذهني هذا العنوان، هل هو عنوان فيلم ؟! عنوان رواية ؟... أو مسرحية ؟ لا يهم.
    سوزان، خلال الشهور الثمانية الماضية كان حنيني إليها يكاد يكون وحشياً!.
    أهلي، أين هم الآن؟ ماذا يفعلون؟ بماذا يفسرون غيابي طوال هذه الفترة؟ ماذا فعلوا ليعرفوا أين أنا ؟... وأين ولماذا اختفيت ؟... أبي وأمي يعيشان هنا وكانا ينتظران وصولي... أنا لم أصل إلى البيت، إذاً أين أنا؟؟ يجب أن يكون هذا تساؤلهما الرئيسي!.
    أبي ضابط متقاعد وله معارفه، وكذلك خالي فهو يملك بعض النفوذ، وبعض الأقرباء الآخرين، لماذا لم يتحركوا حتى الآن لانتشالي من هذا الجحيم؟... ولكن ما أدراني!! قطعا إن جميعهم الآن يتحركون ويسعون.
    هذه الأفكار أشعرتني ببعض الأمل!.
    أحتاج إلى شخص أحادثه عن كل هذه الأمور، أسأله، أبثه همومي. أنظر حولي فتصدمني الوجوه المغلقة، أكثر من نصف عام مرّ على مقاطعتهم لي، فقط بضع كلمات من رئيس المهجع عند الضرورة، وبضع كلمات من زاهي خلسة. فمي مطبق لا يفتح إلا أثناء إدخال الطعام. أحس أن لساني قد بدأ يصدأ. هل يمكن للإنسان أن ينسى عادة الكلام إذا لم يتكلم لفترة طويلة؟. يجب أن أتكلم حتى لو مع نفسي وليقولوا أنني مجنون!!.
    لا أستطيع أن ألمس شيئاً من أشيائهم، أجسادَهم. مرةً كنت ماشياً باتجاه المغاسل فاصطدمت يدي بيد واحد منهم كان عائداً من المغاسل، رجع واغتسل ليتطهر. إذا استخدمت حنفية الماء فإن من يأتي بعدي يغسلها بالصابون سبع مرات، لأنني ببساطة "نجس". مرةً سمعت واحداً يقول للآخر بأنه لا يكفي أن يغسل الحنفية بالصابون سبع مرات، إنما يجب أن يكون لدينا بعض التراب... لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
    "إذا ولغ كلب في إناء ، فاغسلوه سبع مرات إحداها بالتراب."
    من يقوم بتوزيع الطعام يضع الطعام لي أمام فراشي ويتحاشى أن يلمس بطانيتي أو ينظر إلي، كانوا يتكتمون أمامي! ولكن رغم ذلك استطعت أن أعرف الكثير عن حياتهم الداخلية ووسائل عيشهم وأساليبهم داخل السجن.

    الصلاة
    الصلاة ممنوعة منعاً باتاً بأوامر مدير السجن. عقوبة من يقبض عليه متلبسا بجرم الصلاة هي " الموت "، رغم ذلك فإنهم لم يكونوا يفوتون ولا صلاة واحدة. صلاة الخوف، يوجد شيء من هذا في الإسلام، ولكن هنا طوروها بحيث أن الإنسان يصلي وهو جالس في مكانه أو في أي وضعية أخرى، دون ركوع أو سجود. إدارة السجن عرفت هذا أيضاً، ويتناقلون حديثاً لمدير السجن قاله أمام السجناء الشيوعيين، ودائماً حديث مدير السجن أشبه ما يكون بالمحاضرات أو الخطب، خاطب الشيوعيين قائلاً:
    - هؤلاء الكلاب ... الإخوان المسلمون، البارحة فقط أمضيت أكثر من نصف ساعة وأنا أشرح لهم وأفهمهم أن القومية أهم من الدين، ولكن هل تتصورون أنهم اليوم عادوا يصلون !!! عجيب أمر هؤلاء الناس !! لماذا ذهنهم مغلق إلى هذه الدرجة ؟!.

    الاتصال
    جميع المهاجع ملتصقة ببعضها، كل مهجع ملتصق بمهجعين آخرين من اليمين واليسار، وأحياناً من الخلف أيضاً، وهذا الأمر سهّل الاتصال بين السجناء كثيرا، ويكون ذلك بالدق على الحائط حسب طريقة مورس، دقة على الحائط ... دقتان ... دقة قوية ودقة ضعيفة... نفس رموز البرقيات التي ترسل وفق طريقة مورس.
    كل ما يجري داخل السجن، الدفعات الجديدة، من مات، عدد الذين اعدموا وأسماؤهم، الأخبار خارج السجن والتي ينقلها السجناء الذين جاؤوا حديثاً، كل هذه الأشياء كانت تنتقل عبر المهاجع وفق رموز المورس، وفي كل مهجع مجموعة مخصصة لتلقي وإرسال تلك الرموز، تقف خلفهم مجموعة الحفظة.
    بدأ الحفظ منذ بداية "المحنة " كما يسميها الإسلاميون، كان الشيوخ الكبار يجلسون ويتلون سورَ وآياتِ القرآن على مجموعة من الشباب، وهؤلاء يظلون يكررونها حتى يحفظوها، وهكذا تولدت آلية الحفظ هذه، لم يبق أحد في المهجع إلا وحفظ القرآن من أول حرف إلى آخر حرف، ومع كل دفعة جديدة كانت تبدأ دورة جديدة، ولاحقاً تطور الأمر باتجاه آخر، يتم انتقاء مجموعة من الشباب صغار السن يحفظون إضافة الى القرآن وأحاديث النبي محمد ... ما يمكن تسميته بسجل السجن، أسماء كل من دخل هذا السجن من الحركات الإسلامية. "في مهجعنا شاب لم يبلغ العشرين من عمره، يحفظ أكثر من ثلاثة آلاف اسم، اسم السجين، اسم مدينته أو بلدته، قريته، تاريخ دخوله السجن ... مصيره!!." بعضهم متخصص بالإعدامات والقتل، وهم يسمون كل من يقتل أو يعدم في السجن شهيداً، وهذا سجل الشهداء. أيضا يحفظون الاسم، عنوان الأهل، تاريخ الإعدام أو القتل.
    أعجبت بهذه الطريقة وأخذت أدرب نفسي عليها، وبعد أن امتلكت القدرة الكافية قررت كتابة هذه اليوميات، أكتب الجملة ذهنيا، أكررها... أحفظها، أكتب الثانية... أحفظها، في آخر اليوم أكون قد كتبت وحفظت أهم أحداث اليوم، واكتشفت أنها طريقة جيدة لشحذ الذهن وتمضية الوقت الطويل في السجن، وفي صباح اليوم التالي أتلو كل ما حفظته البارحة.
    عرفت لاحقا أن ما حفظ حياتي هو أنهم ليسوا مجموعة واحدة، فبالإضافة للمتشددين الذين حكموا علي بالموت، يوجد التنظيم السياسي وهو تنظيم لم يحمل السلاح ولم يشارك بالعمليات العسكرية، وهناك جماعة التحرير الإسلامي وهم جماعة مسالمة ومنهم الشيخ محمود وزاهي اللذان أنقذا حياتي، وكذلك جماعات الصوفية وهي كثيرة ومتشعبة... وغيرهم.
    هذه المجموعات بقدر ما كانت تبدو متماثلة ومتشابهة، يختلف بعضها عن بعضها الآخر إلى درجة أن هذه الخلافات كانت تصل إلى حد التكفير، إلى حد الاصطدام والاشتباك بالأيدي والضرب المبرح دون رحمة أو شفقة.
    هم قساة إلى درجة أن بعض أعضاء الجماعة المتشددة كانوا يروون كيف أنهم أنهوا تدريبهم العسكري ببيان عملي قتلوا خلاله بعض "الزبالين" في الصباح الباكر أثناء قيام هؤلاء بتنظيف الشوراع، وكان هذا مجرد تدريب أو "عمادة بالدم". هؤلاء أنفسهم يتحولون إلى كائنات في منتهى الرقة و يبكون عندما يروي قادم جديد أن أجهزة المخابرات كانت تعذب طفلاً صغيراً أمام والده أو والدته لإجبارهم على الاعتراف، أو كيف تم اغتصاب إحدى الفتيات أمام والدها لإهانته وإذلاله وإجباره على الإدلاء بما يملك من معلومات.
    شجاعتهم أسطورية في مواجهة التعذيب والموت، وخاصةً لدى فرق الفدائيين، وقد رأيت أناساً منهم كانوا يفرحون فرحاً حقيقياً وهم ذاهبون للإعدام. لاأعتقد أن مثل هذه الشجاعة يمكن أن توجد في مكان أخر أو لدى مجموعة بشرية أخرى.
    هناك الكثير من الجبن أيضاً، ولكن الجبن لا يلفت النظر بقدر الشجاعة. ففي ظل هذا الوضع يبدو الجبن والخوف طبيعيين والشجاعة استثنائية. ولكن هنا عندما يكون الجبن مبالغاً فيه يعزى إلى قلة الإيمان بالله.
    " كسلحفاةً أحست بالخطر وانسحبت داخل قوقعتها، أجلس داخل قوقعتي.... أتلصص، أراقب، أسجل، وأنتظر فرجاً".







    31 أب
    صيفان وشتاء واحد مروا وأنا هنا وسط هذه الصحراء المترامية، هنا لا توجد فصول أربعة، فقط فصلان، صيف وشتاء، ولا ندري أيهما أشد قسوة من الآخر، في الصيف يبدو الشتاء رحيماً، وأثناء الشتاء نحس العكس.
    نحن الآن في عز الصيف. الجو لاهب، لا يوجد هواء لنتنفسه، الهواء ثقيل جدا بحيث نحتاج إلى جهد كبير لشفطه إلى داخل الرئتين، وهذا يجعل عرَقنا يسيل سيلاً، سمعت بعضهم ممن يعرف المنطقة سابقاً يقول إن درجة الحرارة قد تصل الخمسين أو حتى ستين درجة مئوية في الخارج، وفي الظل داخل المهجع لا تقل عن الخمسة وأربعين درجة مئوية، تأفف أحدهم:
    - العمى ... شو نحن مسجونين بفرن !!.
    بعض كبار السن قضوا اختناقا، رئيس المهجع يدق الباب ويخبر الشرطة بموت أحدهم، يفتحون الباب، ويبدو صوت الشرطي سائلاً من شدة الحرارة:
    - وين هادا الفطسان ؟... يالله ... زتوه لبره.
    يحتال رئيس المهجع لإبقاء بعض أواني الطعام البلاستيكية داخل المهجع ومنذ الصباح الباكر وقبل استيقاظ الناس تقوم الخدمة اليومية بملء الأواني بالماء، جميع السجناء بالسراويل الداخلية التي تغطي " العورة " فقط، من السرة إلى الركبة، يدخل أربعة سجناء إلى الفسحة الصغيرة أمام المراحيض، يقوم أربعة من عناصر الخدمة اليومية "وهذه الخدمة منظمة دورياً من السجناء أنفسهم، أنا معفى من كل أنواع الخدمة !" بصب الماء على رؤوس وأجساد الأربعة، ويخرج هؤلاء سريعاً والماء يقطر منهم، يدخل أربعة غيرهم ... وهكذا.
    ستة بطانيات مبللة بالماء، كل بطانية يمسكها اثنان من الخدمة، يقفون على مسافات متساوية داخل المهجع، يهزون البطانيات جاعليها كمراوح لتحريك الهواء وترطيب الجو، هذا هو اليوم الصيفي العادي.
    أما اليوم الشتائي فهو يوم منكمش، ثياب الجميع قد تهرأت ولا يمكن أن تقي من البرد الصحراوي الحاد الذي ينخر العظام ويجمد المفاصل، ثلاثة بطانيات تعاقبت عليها الأيام واستخدمها قبلي مئات السجناء، ألبس بذلتي الباريسية الأنيقة، السترة والبنطال وكان الشرطة قد صادروا "الكرافات"، سترة البذلة لا زالت بحالة جيدة، أما البنطال فقد اهترأ عند الركبتين وفي المؤخرة، السحاب قد خرب وتقطعت الأزرار، ألبسه ليلاً نهاراً وعلى مدار الأيام، وقد نَسلت بعض الخيوط من البطانية وجدلتها وجعلتها حزاما أثبت فيه البنطال بدلاً من الأزرار والسحاب، "شاهدت غيري يفعل هذا ففعلت". هنا لا يوجد خيطان أو إبر خياطة، أصبح لدي سروالان داخليان، أحد القادمين الجدد إلى المهجع كان أهله أغنياء جدا، وقد استطاعوا زيارته أثناء وجوده في فرع المخابرات بعد أن دفعوا ما يوازي ثروة صغيرة كرشوة إلى الضابط المسؤول، وهناك من نصحهم بأن يأخذوا لابنهم الكثير من الثياب. "جلب معه أكثر من مائة غيار داخلي، كان نصيبي منها سروالاً داخلياً، أعطاني إياه رئيس المهجع:
    - خود هذا .... مشان يكون عندك بدل!
    البرد الصحراوي أقسى من أي برد آخر، عشت أياماً باردة جدا في فرنسا كانت الحرارة تصل الى تحت الصفر ، ولكن ذلك البرد يبدو برداً مهذباً، بينما البرد هنا وقح صفيق!
    أما مشكلة القمل فتكون أصعب في اليوم الشتائي، فلا حل للقمل المنتشر بكثافة في جميع المهاجع إلا أن تجلس وتخلع كل ثيابك وتبدأ بالتفتيش عنه في ثنايا الثياب، الجميع هنا يفعل ذلك وفعلت مثلهم بعد أن هرش جلدي، ولكنني لم استطع أن أخرج الصوت الذي يخرجونه من بين أسنانهم "تسه" كلما فقسوا قملة بين اظفري الإبهامين!!
    كل يوم بعد وجبة الإفطار يخلع الجميع ثيابهم ويبدؤون تفليتها بحثا عن القمل، وأنا أيضاً أمسك القملة وأهرسها بين الأظفرين، كان وجود القمل بهذه الكثافة محيراً، تساءل أحدهم بغضب:
    - العمى منين عم يجي كل هالقمل ؟!.. كل يوم ننظف ثيابنا منه، كل يوم نتوضأ خمس مرات، على الأغلب نغسل كل يوم جسمنا بالماء البارد والصابون، نغسل ثيابنا، نغسل بطانياتنا، وباليوم الثاني نشوف القمل أكثر ... وأكثر !!.. العمى... في حدا عم يرش المهاجع بالقمل؟!!

    10 أيلول
    لأول مرة يدور في المهجع نقاش خارج عما هو موجود في القرآن أو السنة النبوية ، نقاش طويل شارك فيه أكثر من عشرة أشخاص بينهم اثنان من المشلولين، " كل النقاشات، الحوارات، حتى الشجارات ... تتم بصوت منخفض خشية أن تسمع الشرطة". وكان موضوع الحوار هو الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، بدأ هذا النقاش طبيب دارس في أوربا بملاحظة سريعة أبداها حول الحرية ومُثل الديمقراطية الغربية، استمر النقاش طويلا وانتهى بقول أحد المشلولين:
    - تقول الحضارة الغربية !... انظر يا أخي حولك، أنا مشلول بالكرسي الألماني، وهذا محمد علي مشلول أيضا برصاصة استقرت بعموده الفقري مصنوعة في روسيا، هذا السجن بنته فرنسا، القيود التي كبلوا بها يديّ مكتوب عليها "صنع في أسبانيا"، الضابط الذي اعتقلني يحمل مسدساً بلجيكيا، الضباط الذين يشرفون على التحقيق والتعذيب تدربوا في أمريكا وبريطانيا وروسيا ... هذه منتجات الحضارة الغربية، وإذا أضفت إلى كل هذا الكثير من الفسق والفجور والانحلال الأخلاقي تكون الحضارة الغربية مجسدة أمامك.
    بصوت تعب وبلهجة من يود إنهاء نقاش لا طائل تحته، لكنه لا يريد التسليم بحجج الخصم، رد الطبيب:
    - إن في هذا الكثير من التجني والاجتزاء، أنا لا أقول أن نقلد الغرب أو نأخذ سلبياتهم، في الغرب أيضاً العلوم والطب وتطور الزراعة والصناعة ... وفوق كل هذا وأهم من كل شيء ... هو أن لديهم إنساناً حراً ومحترماً، إذا أردنا أن نتقدم علينا أن نتعلم منهم الكثير وخاصة احترام الإنسان واحترام حريته، وهذا ليس عيباً.

    25 كانون الأول

    جافاني النوم. الساعة السادسة مددت البطانية كالعادة وتمددت. الواحدة بعد منتصف الليل مللت الاضطجاع بعد أن آلمتني أجنابي، جلست ولففت نفسي بالبطانيات، خمس دقائق وصوت الحارس من خلال الشراقة:
    - يا رئيس المهجع .. يا حمار.
    - نعم سيدي.
    - علملي هالتيس القاعد جنبك.
    - حاضر سيدي.
    لقد علمني. تمددت فورا، غداً صباحاً سيكون فطوري خمسمائة جلدة بقشاط مروحة الدبابة على قدمي! إن قدمي التي أصيبت شفيت تماما مع ندب طويل ولكنها كانت تؤلمني دائماً في أيام البرد فألفّها أكثر من غيرها، كنت احلم بزوج من الجوارب الصوفية! احد أحلامي الصغيرة. ماذا سيكون مصير هذه القدم المسكينة عندما تتلقى خمسمائة جلدة؟ لم أستطع النوم حتى الصباح. وعندما فتح الباب وصاح الشرطي برئيس المهجع ليخرج الأشخاص الذين تم تعليمهم، قفزت واقفاً، ولكن رئيس المهجع وبسرعة قال:
    - مكانك، لا تتحرك، واحد من الشباب طلع بدلا منك.
    ذهلت، واحد من الفدائيين، واحد من المتشددين الذين حاولوا قتلي لأنني كافر يفديني الآن بنفسه ويتلقى عني خمسمائة جلدة!!
    منذ سنة ونصف تقريبا لم أنطق ولا كلمة، جلست مكاني وأنا أنظر إلى رئيس المهجع بذهول، خرجت كلمتان من فمي لا إرادياً:
    - لكن ... ليش ؟
    لم يجب رئيس المهجع بشيء، أشار بيده لي أن اسكت، إشارة فيها الكثير من الاحتقار و الاشمئزاز!!.
    عاد الأشخاص الذين جلدوا، بعد وجبة الجلد يعودون ركضا على الإسفلت الخشن وهم حفاة، أكثر من واحد منهم رمقني بطرف عينه بنظرة ازدراء وحقد!!
    إذاً لماذا؟؟
    "لزمني زمن طويل حتى استطعت التوصل إلى تخمين:
    بما أنني جاسوس فإنهم كانوا حريصين جداً ألا أحتك بعناصر الشرطة كي لا أمارس جاسوسيتي !!."
    في اليوم نفسه كان دور مهجعنا بالتنفس .

    التنفس
    في السجون الأخرى التنفس هو حيز زمني يخرج فيه السجين من مهجعه إلى ساحة هواؤها نقي، بها بعض الملاعب فيتريض، معرضة للشمس فيتشمس... يأخذ حاجته من الهواء والشمس والحركة.
    هنا ... قبل التنفس يكون السجناء في المهجع قد انتظموا في طابور متلوٍ بعضهم خلف بعض، تفتح الشرطة الباب، يخرج الطابور بخطوات بطيئة، الرؤوس منكسة إلى الأسفل، العيون مغمضة، كل سجين يمسك بثياب الذي أمامه، عناصر الشرطة والبلديات يحيطون بالساحة وينتشرون بها بكثافة، يسير الطابور سيراً بطيئاً أو سريعاً حسب مزاج وإرادة الرقيب.

    الاثنين والخميس يومان مختلفان عن بقية أيام الأسبوع هنا. في هذين اليومين تتم الإعدامات، لذلك عندما نخرج للتنفس في هذين اليومين تكون كمية التعذيب والضرب أكثر من غيرهما من الأيام، وفي التنفس يكون الضرب غالباً على الرأس:
    - ولا كلب... ليش عم ترفع راسك؟!
    ويهوي الكرباج على الرأس.
    - ولك ابن الشرموطة !!.. ليش عم تفتح عيونك من تحت لتحت ؟!!
    ويهوي الكرباج على الرأس.
    في الصيف يكون التعذيب أقل. حرارة الشمس التي تثقب رؤوسنا تجعل عناصر الشرطة في حالة تكاسل وعدم ميل للحركة، في الشتاء يشتدّ التعذيب.
    أحياناً وبينما الطابور يدور يتجمع بعض عناصر الشرطة حول الرقباء، تدور بينهم أحاديث لا نسمعها، يصبح مزاجهم فجأة أميل للتسلي بنا، يصرخ الرقيب:
    - ولا حقير... أنت أنت يا طويل... أطول واحد بالصف، تعال هون...
    يركض أحد البلديات ويجر أطول واحد بيننا، طوله أكثر من مترين، الرقيب جالس على كتلة إسمنتية أشبه بالكرسي، يضع رجلاً على رجل، يشد صدره يرجع رأسه إلى الوراء والأعلى، يقول:
    - ولا حقير .. أنت بني آدم ولا زرافة؟
    يضحك المتجمعون حوله بصخب، يتابع الرقيب:
    - وهلق ... اركض حول الساحة خمس دورات وطالع صوت متل صوت الزرافة ... يالله بسرعة.
    يركض السجين ويصدر أصواتاً، لا أحد يعرف كيف هو صوت الزرافة، أعتقد حتى ولا الرقيب نفسه، يدور السجين خمس مرات، يتوقف، يقول الرقيب:
    - ولا حقير ... هلق بدك تنهق متل الحمار!
    ينهق السجين الطويل. تضحك الشرطة.
    - ولا حقير... هلق بدك تعوي متل الكلب!
    يعوي السجين الطويل. تضحك الشرطة. يضحك الرقيب وهو يهتز، يقول:
    - ولا حقير... إي ... إي ... هاي ناجحة وكويسه ... أنت متل الكلب فعلا.
    ثم يلتفت إلى رتل السجناء الذي يسير منكس الرؤوس ومغمض العينين، يصيح:
    - ولا حقير... أنت أنت... أقصر واحد بالصف ، تعال هون.
    يركض أحد البلديات، يجر أقصر واحد بالرتل. شاب صغير لا يتجاوز الخامسة عشر، طوله أكثر قليلا من المتر والنصف، يقف أمام الرقيب الذي يضحك ويقول:
    - ولا حقير... يا زْمِكّ ... وقف قدام هالكلب الطويل.
    يقف السجين القصير أمام السجين الطويل، يصرخ الرقيب:
    - ولا حقير ... يا طويل ... هلق بدك تعوي وتعض هالكلب يللي قدامك وبدك تشيل قطعة من كتفه ، وإذا ما شلت هـ القطعة ... ألف كرباج.
    يعوي الطويل ثلاث أو أربع مرات متواصلة، يتقدم من القصير وينحني مطبقا بفكيه على كتف القصير الذي يصرخ ألماً ويتملص من العضة.
    - ولا حقير... يا طويل... وين قطعة اللحم ؟ يا شرطة ... ناولوه.
    ينهال رجال الشرطة بكرابيجهم ضرباً على الطويل، يسقط على ركبتيه، يتساوى بالطول مع القصير وهو جاثٍ ... يترنح ... يصرخ الرقيب:
    - بس ... " تتوقف الشرطة عن الضرب " ... ولا حقير ... طويل ... قوم وقف.
    يقف الطويل.
    - ولا حقير... قصير... وقف وراءه.
    يرجع القصير إلى خلف الطويل.
    - وهلق ... انتوا الاثنين اشلحوا تيابكم.
    يخلع الاثنان ثيابهما ويبقيان بالسراويل.
    - ولا حقير قصير... نزل سرواله.
    ينزل القصير سروال الطويل الى حد الركبتين.
    - ونزل سروالك كمان.
    ينزل القصير سرواله أيضا.
    - وهلق ... قرب نيكه ... اعمل فيه متل ما بتعملوا ببعضكم كل ليلة يا منايك ... يا الله قرب نيكه.
    يتلكأ القصير، تشتد إليتا الطويل وتتشنج، يشير الرقيب إلى أحد عناصر الشرطة، يقترب هذا ويهوي بالكرباج على ظهر القصير ... يلتصق القصير بالطويل من الخلف، يهتز الطويل، عضو القصير المتدلي بالكاد يصل فوق ركبتي الطويل، يضحك الرقيب وباقي عناصر الشرطة.
    الرتل يسير. الرؤوس منكسة، العيون مغمضة، رغم ذلك، الكل يرى، الكل يسمع.... وترتفع بيادر الحقد والذل.
    يطلب الرقيب تبديل المواقع، يصبح الطويل خلف القصير، عضوه المرتخي والمنكمش في منصف ظهر القصير... يستمر الضحك ...
    الرتل يسير، الرؤوس منكسة، العيون مغمضة.

    تنفس آخر، يوم آخر، رقيب آخر، شرطة آخرون، بلديات آخرون، السجناء أنفسهم، زادوا قليلا، نقصوا قليلا.

    يجلس الرقيب على الكتلة الاسمنتية ذاتها، يضع رجلاً على رجل، يصيح وهو ينظر إلى الرتل الذي يسير برؤوس منكسة وعيون مغمضة:
    - جيبوا لي هـ البغل ... السمين.
    يأتون برجل أربعيني بدين، يعرف الرقيب منه اسمه واسم مدينته، كم أمضى في السجن ... وتفاصيل أخرى، ثم يسأله:
    - أنت متزوج ولاّ أعزب؟
    - متزوج سيدي.
    - أنت بتعرف شو عم تساوي زوجتك هلق ... ولا ... أنا بقلك، أكيد عم تشرمط، أنت صار لك ثلاث سنين في السجن .... وهي كل يوم مع واحد جديد.
    السجين ساكت، منكس الرأس مغمض العينين، يتابع الرقيب:
    - ليش ساكت ؟! ... احكي ... وإلا خجلان تقول قدام الشباب انك متجوز واحدة شرموطة ؟!... شو العرصات كمان بيخجلوا؟!

    تمضي الأيام، يتبدل الرقباء، لكن الأساليب تبقى نفسها ... الزوجة الشرموطة، إذا لم يكن السجين متزوجا تصبح ... الأخت الشرموطة، أو حتى الأم الشرموطة، البنت الشرموطة إذا كان للسجين بنات.
    " كنت أتساءل : هل هي تسلية فقط أم أنها نهج ؟! ... الدافع للتركيز على هذا الموضوع هل هو عقد الجنس والكبت الشرقية لدى الرقباء يفرغونها من خلال السلطة التي يملكونها على السجناء؟! ... أم هو نهج مدروس الغاية منه تحطيم الإنسان وإذلاله من خلال المرأة باعتبارها أعلى قيم الشرف لدى المسلمين سواء كانت زوجة أو أختاً أو أماً أو أية قريبة أخرى ؟!... وشرف المرأة لدى الشرقيين بالعام هو أن لا تمارس الجنس خارج نطاق الزوجية، وأي سلوك لها في هذا الاتجاه قد يدمر العائلة بالكامل ويلحق بها العار."
    لم يكن ممكناً معرفة أسماء الشرطة أو الرقباء، ولكن السجناء أطلقوا عليهم أسماء من عندهم. وهذه الأسماء كانت تعتمد إما على علامة فارقة تميز هذا العنصر، من مثل: الأحول، أو "الأربع شقف" وكان هذا الرقيب يهتز ويتخلع في مشيته بحيث يبدو إن قطع جسده تتحرك كل منها باتجاه. أو أن تستند التسمية على لباس ما، مثل الرقيب "أبو شحاطة" وهذا كان دائما يأتي منتعلاً الشحاطة، وعلى الأغلب تستند التسمية على عبارة يرددها الرقيب دائماً. فكان هناك الرقيب "ولا حقير"، والرقيب "ابن الشرموطة"، والرقيب "يا كرّ" ... إلى آخره.
    يسأل السجين صديقه العائد من العقوبة:
    - مين اليوم في الساحة؟
    - ابن الشرموطة.
    يقصد الرقيب الذي يظل يكرر عبارة: ابن الشرموطة.

    22 شباط
    في الصباح الباكر وقبل إدخال الطعام، فتح الشرطة باب المهجع ودخلوا بطريقة وكأن مائة ثور هائج قد دخل هذا المكان، الصياح، الضرب بالكرابيج، الشتم، وبين شتيمة ولسعة كرباج يصرخون:
    - وجهك عـ الحيط .. وجهك عـ الحيط ..
    منذ دخول أول شرطي بهذه الطريقة قفز السجناء وأداروا وجههم إلى الحائط، وقفت لا أدري ما افعل.. صحوت على الكرباج يهوي على خدي ويلتف على رقبتي من الخلف والشرطي يصيح:
    - وجهك عـ الحيط !
    أدرت وجهي، تخشبت وسيخ الألم يمتد من وجهي إلى رقبتي، بعدما ما يقرب الخمس دقائق خيم الصمت، ثم صوت احد الشرطة يصيح بصوت عال:
    - انتبــــه .. مكانك تهيأ.
    خبط جميع عناصر الشرطة أقدامهم بالأرض، وقدم الصف بصوت اعلى:
    - المهجع جاهز سيدي المقدم.
    انه مدير السجن. أخد يتمشى من أول المهجع إلى آخره بين صفين من عناصر الشرطة الواقفين وقفة استعداد عسكرية.
    ركبني الفضول وبسلوك عفوي أكثر من أن يكون مقصوداً، نظرت بزاوية عيني خلسة إلى المقدم. رأيته، شاب ثلاثيني أشقر الشعر، مشيته فيها الكثير من التوتر، وكذلك كلامه، يتكلم وكأنه يحادث نفسه بعبارات لم أستطع فهمها أو الربط بينها:
    - أنا.. أنا أتهدد!! .. سأحولها إلى جهنم ... شعرة واحدة يروح ألف مجرم مقابلها ..
    ثم صاح بصوت شديد الاحتقان:
    - ولا كلاب.. مجرمين.. انتو لسا ما بتعرفوني منيح .. والله لادبحكن دبح الغنم.
    بعدها صاح بمجموعة من الشرطة واقفة بينه وبين السجناء:
    - زيحوا هيك ولا..
    صوت طلقات مسدس متتابعة، انكمشت على نفسي لدى سماعها وخبأت رأسي أمام صدري، وبسرعة فائقة خرج المقدم يسحب وراءه رتلاً من عناصر الشرطة وأغلق الباب.
    أربعة عشر قتيلاً بأربع عشرة طلقة هي كل مايحويها مخزن مسدس المقدم على ما يبدو. ركض الأطباء وبينهم زاهي إلى زاوية المهجع حيث القتلى، فحصوهم جميعاً، الكل ماتوا فوراً، ومكان دخول الرصاصة واحد لدى الجميع في الرأس من الخلف، سحبوهم إلى وسط المهجع، تجمعت بركة من الدماء الطازجة وجلس البعض حولها يبكون، الأغلبية جامدة مذهولة، الأطباء في حالة حيرة لايعرفون ما يفعلون، وقف واحد من فرقة الفدائيين، قال:
    - لاحول ولاقوة الا بالله ... انّا لله وإنّا اليه راجعون، عليهم رحمة الله، هم السابقون ونحن اللاحقون، اللهم اسكنهم فسيح جنانك، اللهم هؤلاء شهداء في سبيل إعلاء كلمتك، كلمة الحق، فارحمهم أنت الرحيم الغفور.
    سكت قليلاً .. ثم أردف موجهاً حديثه للجميع:
    - يالله يا إخوان .. خلينا نقوم بواجبنا.
    انتظروا حتى توقف نزيف الجثث، نقلوها ووضعوها قرب الباب أمامي وأمام رئيس المهجع، بين القتلى الشيخ محمود الذي أنقذ حياتي، صليت عليه سراً، حزنت على الجميع فوجوههم أصبحت مألوفة لي، وكان حزني كبيراً على الشيخ محمود.
    نظفوا الأرض من الدماء، كل البطانيات الملوثة بالدماء نظفوها، دار نقاش بين مجموعتين عند رئيس المهجع، مجموعة تقول إنه يجب ان نأخذ جميع ملابسهم، لأن الحي أفضل من الميت، وجماعة تعارض ذلك وترى أن هذا معيب. أخيرا انتصر الرأي القائل بأن الأحياء الباقين بحاجة إلى الملابس، وتكفلت مجموعة خلع الملابس وتنظيفها، خرجت الجثث ليلاً من المهجع وهي عارية لا تلبس إلا السروال الداخلي فقط.
    " بعد ثلاث سنوات سيروي احد القادمين الجدد أن السبب في هذه المجزرة هوان التنظيم المسلح قد أرسل تهديداً بالقتل للمقدم إذا لم يحسن من معاملة السجناء الإسلاميين، وجد المقدم هذا التهديد تحت ماسحة زجاج سيارته وهو ذاهب إلى الدوام صباحاً ، فقام بقتل هؤلاء وسرب الخبر ليسمع به التنظيم مصحوباً بتهديد معاكس:
    - مقابل ورقة مكتوبة قتلت أربعة عشر واحداً! إذا مست شعرة من رأسي أو رأس شخص يخصني سيكون المقابل مائة، إذا حصل أذى أو مات احد من أقربائي فإنني لن أبقي على أحد حياً!!."
    ولم يرد بعدها أي تهديد.

    مهجعنا قريب من الباب الخلفي من السجن، من هذا الباب يأتي الطعام، تصف الشاحنة الروسية خلفاً ويقوم البلديات بإنزال قدور الطعام الكبيرة، ومن هذا الباب وفي نفس السيارة تنقل الجثث يومياً بعيد منتصف الليل، من خلال سماعنا لارتطام الجثث في أرضية السيارة كنا نعرف عدد الذين ماتوا في هذا اليوم، وفي يوم زيارة المقدم أحصى الساهرون ثلاثة وعشرين خبطة جثة، وعن طريق مجموعة المورس ذهاباً وإيابا تم معرفة الجميع وحفظت هذه المعلومات في الأذهان.



    24 آذار
    نسير..ندور.
    أمشي في الرتل الدائر حول الساحة، منكس الرأس، مغمض العينين، ممسكاً مطاط بيجاما من يتقدمني، يجرني خلفه. الرجل الذي خلفي يمسك مطاط بيجامتي ويشدني إلى الخلف، نسير..ندور. أتساءل أحياناً:
    أي كائن أنا؟! هل أنا إنسان؟! حيوان؟! شيء؟!.

    كان لي صديق من بلدي يدرس في فرنسا، يصله من أهله بداية كل شهر مبلغ من المال يكفيه حتى كفاية الشهر. هذا الصديق بدلاً من أن يبرمج مصروفه ويقسمه على ثلاثين يوماً كان يدعوني إلى سهرة واحدة فخم أو مطعم مشهور.
    هذه السهرة كانت تكلفه حوالي نصف مصروفه، لذلك كان في الأيام العشرة الأخيرة من الشهر يستدين مني ومن الأصدقاء حتى يأكل.سألته مرةً:
    - لماذا تصرف كل هذه النقود على سهرة واحدة ولايبقى معك في الثلث الأخير من الشهر فلس واحد؟
    أجاب:
    - إنني في هذه السهرة التي أقيمها مرة في الشهر أشعر أنني إنسان! إن هؤلاء الذين يعملون في هكذا فنادق أو مطاعم مدربون جيداً كي يشعروك بأنك إنسان " كلامهم..طريقة خدمتهم لك..هيئتهم" كل هذه الأشياء تجعلك تحس بأنك إنسان محترم، أنا ياصديقي في جوع حقيقي كي أشعر يحترمني الآخرون، لايهم أن أجوع بضعة أيام كل شهر، لكن الشعور بأنني إنسان يكفيني لمدة شهر.
    لقد راقبت هذا الصديق في كل المرات التي دعاني فيها إلى السهرة عند استلامه النقود المرسلة من أهله، وفي كل مرة كنت أشاهد إنساناً معتزاً بنفسه، واثقاً، يمشي إلى جانبي في خيلاء.
    راقبته كذلك في المرات الثلاث التي كان مجبراً فيها على مراجعة سفارتنا في باريس، وفي كل مرة كان يستعطفني ويرجوني بحرارة أن أرافقه، رغم أنه كان يحاول تأجيل الذهاب بأعذار وحجج واهية حتى اللحظة الأخيرة.
    يصل السفارة وقد تغير، يدخل متردداً، يلقي نظرة خاطفة إلى الوراء (عله يريد التأكد من وجودي)، أقرأ في نظرته هذه معاني الخوف والقلق.. وطلب الغوث.
    يخرج مكفهراً..صامتاً.. مسرعاً..يشير لي بيده أن أمشي بسرعة، أمشي إلى جانبه صامتاً.
    في المرة الأولى والثاني اكتفى بأن يبصق بصوت مدوّ حالما ابتعدنا عن السفارة.
    في المرة الثالثة، تكلم:
    -الكلاب.. يريدون أن يجعلوا مني جاسوساً!.. جاسوساً! وعلى من؟! يريدون مني أن أتجسس على يوسف!! هددوني بالاعتقال والترحيل.. قالوا إن لديهم خمس زنازين في مبنى السفارة، كلاب..تفو..تفو!.


    نسير..ندور حول الساحة.
    إغماض العينين يجعل مئات الصور تتقافز في الذهن.
    في بدايات حياتي أولعت بالمطالعة كثيراً، صار اسمي في البيت "فأر الكتب". التهمت كل ماوقع تحت يدي من قصص وروايات، كنت وقتها عندما أغمض عينيّ أحس أن هناك آلاف الأحرف والكلمات تتقافز في الذهن.. تتصادم.. ترتطم بجدران الرأس.. تقع أرضاً ليقفز غيرها. أجلس ملتفاً برطوبة قبو منزلنا الظليل- والذي كنت قد نظفته ورتبته وجعلت منه مكاني المفضل بعيداً عن الأهل وضجيجهم- تعباً من القراءة، مغمض العينين، أمارس لعبة الأحرف والكلمات المتقافزة "يحرقني الحنين إلى جلسة صغيرة في ذلك الركن".
    في المراهقة والشباب الأول، أصبت بلوثة السينما، أخرج من صالة لأدخل أخرى، كنت أشاهد أحياناً ثلاثة أفلام في يوم واحد، أصبح اسمي "فأر السينما"، عرفت كل صالات العاصمة جيداً، كنت أحفظ عن ظهر قلب برامج الصالات للأسابيع المقبلة.
    نسير..ندور.. تحت لسع الكرابيج، منكسي الرؤوس، عيوننا مغمضة، يمسك أحدنا ذيل الآخر.. وندور.
    فأر كتب، فأر سينما، الآن.. أحس أنني بغل.
    في الكثير من الأرياف وقبل انتشار محركات ضخ المياه من الآبار، كانم انتشال المياه من هذه الآبار بواسطة قوة محركة هي البغال (في بعض البلاد يسمونها "الدولاب" ويسمونها في أخرى "الغرّاف"). يربطون البغل إلى عمودٍ، يغطون عينيه " للآن لم أعرف لماذا يغطون عينيّ البغل" ويظل يدور..يسير.. ويدور حول البئر من الصباح إلى المساء، هذا الدوران العبثي بالنسبة للبغل!.. ونظل ندور!.
    فيلم غربي يصور حياة راهبة في الخامسة والعشرين من عمرها، كان أهلها قد نذروها لحياة الرهبنة. فتاة ذات نفس نقية، قانعة بحياة الرهبنة ومستمتعة بها، طاهرة كالثلج، تعيش في دير يقع في جزيرة نائية. تدور أحداث الفيلم ويهاجم القراصنة هذه الجزيرة، هذه الراهبة البتول تقع بين أيدي قرصان مجرم فاسق، يلقيها أرضاً ويغتصبها.
    مشهد: يقف القرصان بجسده الضخم ويبتعد مهمهماً.. لراهبة ملقاة أرضاً..مكشوفة الساقين..- تقترب الكاميرا- خيوط من دم العذرية تسيل على الفخذين.. هي غائبة عن الوعي.

    نسير..وندور حول الساحة، مشدودي الأعصاب، نتوقع في كل لحظة صفعةً أو ركلةً..أو كرباجاً، رغم ذلك ننسى أحياناً، تأخذنا الأفكار في جميع الاتجاهات، نحلم بيوم لانسمع فيه كلمة "تنفس"، يومٍ لانسير ولاندور فيه، تحضر الذكريات.. تتغلب على كل الشد العصبي وتحضر، تداعبني وجوه الأهل والأصدقاء، المرأة بشكل خاص، أمي.. أختي.. سوزان، تحضر كل نساء"ي"، وأحياناً قد ترسم ذكرى ما ظلَّ ابتسامة على شفاهي.

    نسير..ندور.

    في اللغة العربية "الاستنثار": هو إخراج المخاط عن طريق فوهات الأنف الخارجية، أما "التنخّم" فهو استحلاب المخاط إلى داخل الفم.
    فيما نحن نسير..ندور، امتدت يد غليظة، أمسكتني من ساعدي وجرتني خارج الرتل، أغلقت عينيّ جيداً ونكست رأسي حتى التصق بصدري. بقي ممسكاً بساعدي، اليد الأخرى أمسكت فكي السفلي ورفعت رأسي إلى الأعلى بعنف، فحّ صوته ممزوجاً بحقد رهيب:
    - ارفع رأسك.. ولا كلب، افتح تمك..لشوف.
    فتحت فمي، طلب مني أن أفتحه أكثر، ففتحته. تنخّم بقوة، تنخم ثلاث مرات، ودون أن أستطيع رؤيته أحسست أن فمه قد امتلاً بالمخاط المستحلب.. شعرت برأسه يقترب مني و..بصق كل مايحتويه فمه إلى.. داخل فمي. برد فعل غريزي حاول فمي التخلص من محتوياته، تملكتني حاجة لاإرادية بالإقياء، لكنه كان أسرع مني وأسرع من فمي، أغلق فمي بيد وامتدت يده الأخرى بسرعة البرق إلى جهازي التناسلي، أمسك خصيتيّ وضغط عليهما بشدة.. مودة الألم الهائلة التي صعدت من خصيتيّ إلى الأعلى كادت أن تفقدني الوعي، انقطع تنفسي لثانيتين أو ثلاث، كانت كافية لأن أبتلع مخاطه وبصاقه كي أتنفس، ظل يضغط خصيتيّ حتى تأكد أنني قد ابتلعت كل شيء.
    تابعت السير.. تابعت الدوران، مغمض العينين، منكس الرأس.
    ألم الخصيتين المهروستين يخفت شيئاً فشيئاً، الإحساس بأنني قد امتلات بالقذارة يتصاعد شيئاً فشيئاً.
    تفيق الراهبة من غيبوبتها يملؤها الإحساس بقذارة جوفها.. تنتهي إلى الجنون.. كانت تزداد إحساساً بالقذارة كلما اغتسلت.
    عدنا إلى المهجع، حاولت الإقياء بشتى السبل، لم أنجح، شربت كمياتٍ هائلةً من المياه ولكن الإحساس بأن جوفي ممتلئ بالقذارة يزداد.
    "سأخرج من السجن وأشرب كمياتٍ هائلةً من الماء والعرق والنبيذ والويسكي، شتى المشروبات الباردة والساخنة، لكن لن أستطيع التخلص من الإحساس بأن مخاط ذلك الشرطي ملتصق بمعدتي.. ببلعومي.. وهو يأبى الخروج".







    30 آذار
    صح ما توقعه الدكتور زاهي .
    حوالي سنتين مضتا على وجودي هنا. معزول ومجبور على الجلوس في مكاني لا أغادره إلا إلى التنفس أو المرحاض، لا أستطيع النظر إلى أي واحد بشكل مباشر رغم أنني لا أعتقد أن الجميع راغب بقتلي "أو كان راغباً"، ولكنني لا أستطيع أن أميز بين من يرغب أو لا يرغب، والمهم في هذا أن الجميع يقاطعني ولا يرغب بوجودي بينهم هنا، " وأنا أيضا لا أرغب بوجودي هنا "، طوال هذه الفترة كنت أتوق إلى من أحادثه، أن أجرب قدرتي على الكلام من جديد، لكن قوة الكراهية كانت تلصقني بالبطانية وتلصق البطانية بالأرض.

    الآن بعد أن صحت توقعات الدكتور زاهي أصبحت اجلس في مكاني بإرادتي، لا أريد الاحتكاك بأحد، لا أريد محادثة احد.
    إنه التهاب السحايا. وتحول الأمر إلى وباء بسرعة مذهلة، بدأ الأمر منذ شهر تقريباً، أولاً شخص واحد، ثم آخر .. ثم آخر، اجتمع الأطباء السجناء، تدارسوا الأمر، وعندما وصلوا إلى قرار موحد كان العدد قد جاوز عشرة مصابين. الاتصال الداخلي بين المهاجع "المورس" اخبر واستفهم، تبين ان الحالة عامة في كل المهاجع.
    عندما وصل عدد المصابين إلى عشرين "مات منهم اثنان وفقد البصر اثنان ولا يزال الباقون يتأرجحون"، طلب الأطباء أن يجري نقاش عام في المهجع، تكلموا وشرحوا الأمر بدقة وواقعية، ثم طلبوا من رئيس المهجع أن يدق الباب ويطلب المساعد ويضعه في صورة الأمر، رفض رئيس المهجع هذا الطلب وقال إن هذا مستحيل، رد عليه احد الأطباء بأنه خلال أيام قليلة وإذا لم يتوافر الدواء فإن كل الناس في هذا المهجع، وعلى الأغلب في السجن كله سيصابون. والإصابة في ظل هذه الأوضاع الصحية وانعدام الدواء انعداماً كلياًُ، يعني حتماً إما الموت أو ما يشبه الموت، وطالما أننا سنموت في كل الأحوال فلنطلب المساعد ونضعه في صورة الأمر ولو كانت نسبة الأمل واحداً على مليون.
    - يا دكتور .. يا دكتور عندك شك إنه هدول يريدون موتنا؟ وأنت تتوقع من يللي يريد قتلك انه يعالجك؟ نحن هون من سنوات .. شفت شي طبيب عالج مريض بهالسجن؟ أنت تتصور إنه هدول عندهم ذرة واحدة من الرحمة أو الإنسانية؟ أو اإنه يخافوا الله؟ خلينا نموت تحت رحمة الله .. ولا نطلب الرحمة من هدول الوحوش، والموت حق على كل مسلم ومسلمة، والموت بهذا الظرف رحمة من الله.
    كنت اسمع كل النقاش هلعاً. "رئيس المهجع من أكثر الرجال الذين شاهدتهم في حياتي قوة شخصية، وهو ضابط في الجيش، قوي، صارم، رزين".
    لم يستسلم الأطباء، توجه احدهم إلى رئيس المهجع قائلاً:
    - نعم .. الموت حق، كلنا راح نموت بأجلنا، لكن الدين يأمرنا بألا نرمي بأنفسنا إلى التهلكة، وطلبك المساعد قد يساعد على إنقاذ الكثير من أرواح المسلمين وهذا واجب عليك وعلينا.
    وفي عبارة القصد منها الإحراج أردف الطبيب:
    - إذا كنت أنت لا تستطيع أن تطلب المساعد، اترك واحداً منا يطلبه بدلاً عنك.
    انتفض رئيس المهجع ، "واضح انه استُفز"، قال:
    - طيب يا جماعة أعطوني مهلة ساعتين حتى أفكر بشي طريقة.
    انفض الاجتماع، وأعطى الأطباء مجموعة من النصائح الطبية للجميع. سارعت أنا إلى سترة بذلتي فنزعت أحد جيوبها الداخلية، نسلت خيطاً من البطانية، صنعت كمامة وضعتها على فمي وانفي، نظر الجميع إليّ باحتقار، ولكن خلال يومين كان لدى الجميع كمامات.
    بعد حوالي ربع الساعة وقف رئيس المهجع بحركة مفاجئة، نظرت إليه، كانت عيناه محتقنتين باللون الأحمر، واضح انه أدرك حجم الإهانة التي وجهها إليه الطبيب ، وقف أمام الباب بعزم، وبجماع يده طرقه طرقات قوية.
    سأل صوت الرقيب المناوب من الساحة:
    - شو بدك ولا حقير؟
    - بدي المساعد .. الأمر ضروري جداً.
    - شو ..! شو..! شو..! المساعد دفعة وحدة ؟! ولا حقير.. شو بدك من المساعد؟ .
    اغتاظ رئيس المهجع ، وبدأ يتمتم:
    - العمى .. شو أنا عم اطلب رئيس الجمهورية ؟!.. هوي شقفة مساعد لا راح ولا أجا .. الله يلعن هـ الزمان .
    بعدها صاح بصوت عال :
    - الأمر خطير جداً .. جداً ، ولازم يجي المساعد هلق ، لمصلحتكم مولمصلحتنا .
    بعد ربع ساعة فتح الباب وطلب المساعد إخراج الجحش رئيس المهجع ، شرح له رئيس المهجع أبعاد المرض كما سمعها من الأطباء ، وختم حديثه بقوله :
    - يا سيدي .. العدوى بهادا المرض شديدة جداً ، ممكن الشرطة ينعدوا من المساجين ، ممكن – لاسمح الله – سيادتكم تنعدوا ، نحن واجبنا نخبركن ، وإذا حبيتوا تسمعوا أكثر بنادي الدكتور سمير .
    نادوا الدكتور سمير وشرح للمساعد بالتفصيل مؤيداً كلام رئيس المهجع أن العدوى ممكن أن تنتقل إلى الشرطة .
    أغلقوا الباب بعد إدخال الدكتور سمير ورئيس المهجع دون عقوبة! وبعد ربع ساعة أعادوا فتحه، وقف المساعد وجميع الشرطة خارج المهجع ودخل ضابط برتبة ملازم ثان، طبيب السجن العسكري، عرفنا وقتها أن في السجن طبيباَ!!.
    وقف عند الباب إلى جانبي، طلب من الجميع الجلوس في أماكنهم وفتح عيونهم، " لم نعتد هكذا لهجة !" بعدها طلب من جميع الأطباء الوقوف ، بانت دهشة حاول إخفاءَها عندما رأى عدد الأطباء ، سألهم عن أسباب تشخيصهم فعددوا له الأسباب، دخل إلى زاوية المرضى وألقى عليهم نظرة سريعة، ثم قفل راجعاً إلى الباب، توقف والتفت، أشار إلى اثنين من الأطباء الشباب طالباً منهم المجئ إليه، وعندما جاؤوا سألهما دون أن يستدير:
    - عرفتوني؟
    - نعم.
    - هم م م..
    خرج الطبيب وأغلق الشرطة الباب، اقترب بضعة أشخاص من الطبيبين، قال أحدهما:
    - هذا الطبيب زميل دراستنا وتخرجنا مع بعضنا، هو من الساحل من طائفة الرئيس وعشيرته، بعد التخرج ما عاد شفناه، راح على ضيعته.
    بعد أقل من أربع وعشرين ساعة عاد الطبيب مرة أخرى، معه المساعد والشرطة والبلديات، نادى الدكتور سمير قال له:
    - أنت بدك تعالج كل المرضى في السجن هادا هو الدواء اللازم، في عندنا كميات كبيرة منه، راح يكون معك رقيب وعناصر من الشرطة، لازم يشوفوا كل حبة دواء تستهلك، كل "سيرنغ" تستخدمه لازم تسلمه للشرطة، كل علبة كرتون .. أنت مستعد؟.
    - نعم مستعد.
    وبدأ الدكتور سمير جولاته على المهاجع، الشرطة ترافقه، البلديات يحملون علب الدواء، كرتونة كبيرة لكل ما هو مستهلك، يخرج صباحاً ليعود مساءً تعباً منهكاً، ورغم ذلك استمر المصابون بالازدياد، لكن حالات الموت انحسرت وتضاءلتاليوم انضم إلى المصابين بالمرض أول طبيب، الدكتور زاهي .
    1 أيار

    مات زاهي .
    ليس لأنني أدين بحياتي له مرتين، مرة لعنايته الطبية بي عندما كنت مشرفاً على الموت بعد الاستقبال، ومرة عندما أوعز للشيخ محمود بانتشالي من بين أيدي المتشددين.
    لكن لأنني أحببت هذا الرجل الذي لم يفقد ابتسامته في أحلك الظروف، لهجته لهجة المنطقة الشرقية المحببة، تراه موجوداً في كل مكان يمكن فيه أن يقدم فيه يد المساعدة، سعةَ أفق وسعةَ ثقافة نادرتين في هذا المكان، كنت أحس أنه موجود في الموقع الخطأ حيث يسود التعصب والتشدد وضيق الأفق والضحالة الثقافية.
    شعرت بحزن عميق لم أشعر به طوال حياتي، حزنٍ أنساني حذري المضاعف، أخرجني من قوقعتي فور سماع الخبر، نسيت حذري منهم وحذري من المرض.
    مشيت كالمسرنم إلى حيث يرقد زاهي، ركعت إلى جانبه ورفعت يده إلى جبيني وأجهشت بالبكاء بصوت عال، بكيت بكاءً مريراً، هل تفجر حزني على زاهي هكذا؟ أم هو تفجر بسيط للقهر المتراكم منذ عودتي إلى بلدي؟!.
    بموته أحسست أنني قد فقدت آخر سند لي هناك، أصبحت عارياً، زاهي هو الوحيد الذي أستطيع النظر إلى عينه مباشرة، وغالباً كنا نختلس النظرات خفيةً، كنت اشعر أن هناك تفاهماً خفيّاً بيني وبينه، وطالما قرأت في عينه أنه لن يتخلى عني.
    زاهي .. كان إنساناً .. إنساناً كبيراً.
    بكيت وبكيت.
    لكزني أحدهم بقدمه، رفعت رأسي ومن خلال الدموع رأيت "أحدهم"، صر على أسنانه وقال:
    - قوم ولاك .. لا تنجس الشهداء.
    قمت، رجعت إلى مكاني، دخلت قوقعتي، مسحت دموعي من الخارج، تركتها تسيل إلى الداخل.

    3 أيار .
    يجب أن لا أجن. كان هذا قراري منذ البداية، رغم ذلك كنت أحس أحيانا أنني على حافة الجنون، عندها كنت أغني.. لكن بصمت، أغني بذهني ودائماً أغان فرنسية، لم أغن أية أغنية عربية.
    لا أفتح فمي مطلقاً، لا أتلفظ بأي حرف، أجلس طوال اليوم في مكان واحد، أغادره باتجاه المغاسل والمراحيض أربع أو خمس مرات في اليوم، أتحرك فقط في اليوم الذي يكون لدينا فيه تنفس.
    اجلس .. أفكر وأفكر. "فكرت مرة: هل يمكن لإنسان ما أن يوقف التفكير؟!".
    استعرضت الماضي عشرات المرات، أدق التفاصيل، تفاصيل كان لا يمكن أن أتذكرها ولو عشت عشر حيوات خارج هذا المكان، أستعيد كل ما هو سعيد ومبهج، كل ما هو جميل في الخارج.
    أنا الآن في الثلاثين من عمري، كنت قد تركت الدراسة بعد نيلي الثانوية تحت إغراءات العمل التجاري والثراء السريع مع صديق لي، أربع سنوات من العمل التجاري الفاشل، تحمل الأهل مسؤولية تسوية الأوضاع، بعدها إلى فرنسا والدراسة هناك، ست سنوات في فرنسا، والآن هنا.
    استعرض الماضي وأحلم بالمستقبل، تحول الأمر إلى عادة، أحلام اليقظة، استمتع بها استمتاعاً كبيراً، أصبحت مدمن أحلام يقظة، أبني الحلم شيئاً فشيئاً، أضع التفاصيل الصغيرة والدقيقة، أرسمها، أصحح، أغوص ساعات طويلة، جالساً أو مستلقياً، أغيب عن هذا الواقع لأعيش واقعاً جميلاً كل ما فيه حلو وسهل وميسر، وفي كل حلم يقظة تكون المرأة حاضرة دوماً، تشتعل خلايا الجسد، كل النساء اللواتي مررت بهن أو مررن بي، أخلط الماضي بالمستقبل، أكثر اللحظات حميمية أستعيدها، أعيد تركيبها، أبتدع مشاهد جديدة أتقلب ويجفوني النوم ، أنتظر حتى آخر الليل واذهب إلى المرحاض للاستمناء، هو الحل الوحيد لكي أستطيع النوم .
    لحظتها لو سألني احدهم أن ألخص السجن بكلمة واحدة لقلت:
    - إن السجن هو المرأة!. غيابها الحارق.
    أنظر حولي متلصصاً، كيف يحل هؤلاء هذه المسألة، وبعضهم لم ير في حياته كاحل امرأة غير أمه ؟ بماذا يفكرون ؟ ماهي أحلامهم ؟ بعضهم مراهقون بكل جموح وتوثب خيالات المراهقة. كانت احتلامات النوم لديهم غزيرة ، عرفت هذا من خلال تلصصي الليلي الدائم ، يكون الواحد منهم نائماً، فجأةً يختلج أو يصدر صوتاً خافتاً، بعدها يستيقظ، أغلبهم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يقوم للاغتسال، لأن لديهم تعاليمَ مشددةً بشأن النظافة، فهو لا يستطيع أن يأكل أو يشرب أو يصلي إن لم يكن طاهراً نظيفاً تماماً، والقذف بأي طريقة كانت سواءً بالاتصال الجسدي أو بالاحتلام، يوجب غسل الجسد كاملاً.
    أنا شبه متأكد أن كل ما يقوله عناصر الشرطة أو يشيعونه بأنهم يمارسون الشذوذ الجنسي هو محض افتراء أو كذب، حتى على المستوى الواقعي هذا مستحيل.
    أعود لأحلامي أتقلب .. لا أعرف كم يطول هذا، أسمع حركة استيقاظ الناس في المهجع .. ألح على النوم فلا يأتي .. أسمع صوت طائرة الهليوكوبتر.

    طائرة الهليوكوبتر.
    عندما نسمع صوت الهليوكوبتر يرتجف أو يتوتر كل من في السجن، حتى الشرطة والبلديات يتوترون، البعض يسميها طائرة الموت، أو ملاك الموت الهابط من السماء، أحد السجناء قال إن عزرائيل يجلس في المقعد الأمامي للطائرة لاًن هؤلاء متعاقدون معه.
    السجن يبعد عن العاصمة عدة مئات من الكيلومترات، لذلك فهيئة المحكمة الميدانية تأتي بالطائرة على الأغلب مرتين في الأسبوع، الاثنين والخميس ، وهيئة المحكمة هذه قد تكون ثلاثة ضباط وقد تكون ضابطاً واحداً، يعطون إدارة السجن بعد أن يدخلوا الغرفة المخصصة لهم لائحتين اسميتين:
    اللائحة الأولى : تضم أسماء الذين سيحاكمون في هذا اليوم، تأخذ الشرطة هذه اللائحة وتدور على كل المهاجع منادية على الأسماء، ثم يبدأ التجميع من آخر مهجع في الساحة السابعة مع الصياح والشتم والكرابيج، الرؤوس المنكسة والأعين المغمضة، يسوقونهم سوقاً إلى الساحة صفر حيث يُجلسونهم على الأرض أيديهم فوق رؤوسهم ورؤوسهم بين ركبهم.
    يدخل إلى غرفة المحكمة أول اسم نادوا عليه بصفعة قوية على الرقبة عند باب الغرفة، يسأله الضابط:
    - أنت فلان ابن فلان؟
    - نعم سيدي.
    - طالعوه لبره.
    وهكذا تكون قد انتهت محاكمته، ثم يدخل الثاني والثالث .. وهكذا خلال ساعتين أو ثلاثة قد تتم محاكمة أكثر من مئة شخص، أحياناً تتعطل إجراءات المحاكمة، فالضابط يسأل السجين:
    - أنت فلان ابن فلان؟
    - نعم سيدي.
    - ولاك ابن الكلب .. أنت شاركت بتفجير المجمع الاستهلاكي؟
    - لا والله يا سيدي .. أنا مالي علاقة بأي شي.
    - ولا كلب .. عم تنكر كمان !! .. يا شرطة.
    يدخل عناصر الشرطة إلى الغرفة.
    - حطوه بالدولاب حتى يعترف.
    تبدأ حفلة التعذيب أمام غرفة المحكمة، يبدأ الضرب والصراخ الأمر الذي يشوش على هيئة المحكمة، يتوقف العمل، تشرب هيئة المحكمة القهوة العربية، بعد قليل يهدأ كل شيء ويدخل الشرطة والسجين معهم يترنح:
    - شو .. لساتوا ميبس راسه؟!
    - لا سيدي .. اعترف بكل شي.
    - إعدام .. طالعوه لبرّه.
    أغلب السجناء لا تستغرق محاكمة أي منهم لدى المحكمة الميدانية أكثر من دقيقة واحدة، أغلب السجناء لا يرون القاضي "الضابط"، أغلب السجناء لا يعرفون الأحكام التي صدرت بحقهم وقررت مصيرهم.
    هذه المحكمة ذات نوعين من الصلاحيات، فهي تملك الحق في أن تصدر أحكاماً بالإعدام وتنفذها بالقدر الذي تشاء، وتسجن من تشاء المدة التي تشاء. لكنها لاتملك الحق في إخلاء سبيل أي بريء "معروف هنا أن المهجعين الأول والثاني يسميان حتى لدى الشرطة بـ مهجع البراءة، المحكمة ذاتها وخلال عدة سنوات كانت قد أصدرت أحكاما بالبراءة على سجناء هم في الحقيقة أطفال أعمارهم بين / 11 – 15 / عاماً قبض عليهم خطأ ولكنهم بقوا في السجن ولم يطلق سراح أي منهم، وقد قضى سجناء مهجع البراءة في السجن مدداً تتراوح بين / 10 – 15 / سنة، هؤلاء الأطفال خرجوا من السجن لاحقاً رجالاً".
    اللائحة الثانية:
    اللائحة الاسمية الثانية هي لائحة الذين سينفذ فيهم حكم الإعدام شنقاً في اليوم نفسه، أيضا يدور الشرطة بهذه اللائحة على جميع المهاجع طالبين من الأشخاص المدرجة أسماؤهم في اللائحة الاستعداد.

    اليوم هناك أربعة أشخاص من مهجعنا سيتم تنفيذ حكم الاعدام بهم، بعد أن ابلغوهم، قام هؤلاء الأشخاص الأربعة بالذهاب الى المغاسل، تطهروا، توضؤوا، صلّى كل واحد منهم صلاة عادية، أي صلاة علنية مكشوفة للجميع فيها سجود وركوع، صلاةً لا خوف فيها، "وهل بعد الموت خوف؟!" بعدها طافوا المهجع ودعوا الجميع مصافحةً وتقبيلاً:
    - سامحونا يا جماعة... نرجوا أن تغفروا لنا أخطاءنا، ادعوا لنا عند الله ان يأخذنا بواسع رحمته وأن يحسن ختامنا.
    الأشخاص الأربعة أعرفهم جيداً، هم كلهم شباب في مثل سني أو أكبر، "النسبة الغالبة من الذين أعدموا هم من الشباب، وقلة منهم تكون قد تجاوزت الأربعين".
    الهدوء، ابتسامة خفيفة، أراقبهم جيداً، أتلصص، هل هدوؤهم حقيقي أم مصطنع ؟ أرقب اليدين ، زوايا الشفتين، العيون، لا ألمح شيئا يدل على الخوف أو الهلع.
    يودعون ويصافحون الجميع عداي، يقفون الى جانب رئيس المهجع ، يخلعون كل الثياب التي لا زالت بحالة جيدة وتصلح لاستخدامها من قبل الأحياء من بعدهم ، يلبسون بدلاً منها ثيابا مهترئة لا تصلح لشيء، يسلمون الثياب الجيدة الى رئيس المهجع لتوزع بمعرفته، يقفون خلف الباب الذي لا يلبث أن يفتح ... ويخرجون.
    الإعدام يتم قبالة مهجعنا، وقد رأينا المشانق عدة مرات أثناء خروجنا أو دخولنا من التنفس، وهناك يتم تجميع الذين سيتم تنفيذ حكم الإعدام بهم.
    بين الفينة والأخرى نسمع صوت التكبير ينطلق من حناجر عدة أشخاص معاً، يبدو أنها الدفعة التي يأتي دورها بالتنفيذ:
    - الله أكبر ... الله أكب.
    خلال الفترة الماضية كلها كان شعر جسدي يقف منتصباً كلما سمعت هذا الصوت ينطلق قبالة مهجعنا .
    في الليل يطابق الساهرون بين العدد الذي ورد عبر الاتصال "المورس" وبين عدد ارتطامات الجثث على ارضية السيارة.
    - صحيح ... خمسة وأربعون شهيداً.
    في اليومين التاليين ينهمك الحفظة بحفظ اسمائهم وعناوينهم.

    15 تموز
    الآن أصبح هناك من أحادثه.
    في لحظة كان فيها الحارس على السطح قريباً من الشراقة ، وقف أحد السجناء وسط المهجع ، وضع يده على خده كمن يمسك بسماعة هاتف، صاح:
    - الو ... الو ... أعطوني القائد.
    "القائد هو لقب شقيق رئيس الدولة، ويقود واحدة من أقوى وحدات الجيش، ويعتبر خليفة للرئيس" .
    سكت الجميع ، عيونهم موزعة بين الحارس والسجين الذي استمر يطلب القائد، وأحيانا يطلبه باسمه الأول ، ثوان قليلة وهجم عليه أربعة أشخاص سحبوه من وسط المهجع وقد كموا فمه الى حيث المغاسل وهو المكان الذي لا يستطيع أن يراه الحارس فيه ، عاد واحدٌ منهم وقال لرئيس المهجع مبتسماً :
    - يبدو ان الأخ فقس !
    - لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم ثبت عقولنا، العقل زينة الإنسان !.
    جنونه كان لطيفا، لا أذى، لا هياج، فقط يريد أن يكلم القائد.
    - ماذا تريد من القائد؟
    - هناك موعد بيني وبينه ، لم يأت ... لقد أخلف الموعد !.
    تخاله طبيعياً، أكثر جمله وأحاديثه مترابطة، ولكنه خرق النظام العام للمهجع في أكثر الأمور أهمية وحساسيةً:
    لم يعد يصلي ، لم يعد يغتسل ، وبعد عدة أيام من جنونه فاجأ الجميع وفاجأني ، جلس قبالتي على فراشي ، حياني قائلا :
    - السلام عليكم ... انت شو اسمك؟
    ارتجَّ كياني كله، لم استطع أن أرد تحيته. فقط كنت انظر اليه، إلى عينيه الباسمتين مباشرة، منذ أكثر من سنتين لم أنظر في عيني انسان بهذا القرب، أحسست بالدفء.
    سكت جميع من في المهجع، شيء غير مألوف يحدث امامهم !، جميع العيون منصبة على فراشي وعلى الكائنين الجالسين عليه، دهشة من نوع خاص تكسو جميع الوجوه، يبدو أن الجميع كان قد نسيني، ففي غمرة الأحداث وضمن شلال الموت المتدفق سكنت مشاعر العداء المتأججة نحوي ، أو بالأحرى غطاها الرماد، بقيت مثل الجمر تحت الرماد.
    لقد تعودوا على وجودي الى جانب الباب ولم يعد هذا الوجود يطرح اسئلة عليهم، لون الباب أسود بشع، في البداية يستفز لون الباب الجميع، ولكن مع توالي الأيام يألفونه ثم ينسونه، وكذلك وجودي الى جانبه.
    والآن يوسف "مجنون القائد كما اصبح اسمه"، يعيد تذكيرهم بكل شيء، دهشوا، تفحصوا وجهي، كنت مهملاً والآن بفضل مجنون القائد أعود الى دائرة الأضواء!.

    العجزة في المهجع كثر، المشلولون والمجانيين، ثلاثة عميان، أخرس واحد.
    أميز حالة بين المجانين إضافة الى يوسف هي حالة دكتور الجيولوجيا ـ لا أعرف هل هو جنون أم شيء آخر ؟ ـ رجل في الخمسين من عمره، ذهب الى امريكا لدراسة الجيولوجيا، نجح في دراسته وحاز على الدكتوراه بدرجة امتياز، عاد الى البلد وبعد عودته ببضع سنوات تسلم ادارة واحدة من أهم المؤسسات العلمية، كان ميالا الى التدين، يؤدي فرائض الدين بأوقاتها، يصوم ويصلي، ذهب الى مكة للحج ، وإبان احتدام الصراع بين الإسلاميين والسلطة كانت هذه الصفات تهمة بحد ذاتها، عند فجر أحد الأيام سحبه رجال المخابرات من وسط عائلته، وماذا جرى بعد ذلك لا يعرف أحد.
    يجلس دكتور الجيولوجيا على الأرض متربعاً ووجهه الى الحائط ثم يغطي نفسه كاملاً بالبطانية، ليلاً ونهاراً ، صيفاً وشتاءً، حاول كثيرون أن يسألوه، يحادثوه، سنواتٍ ... لم يلفظ حرفاً ... لم يفتح عيناً.
    يرفع أحدهم بطانيته من الأمام قليلاً ويضع له الطعام في حجره، يأكل وهو مغطى بالبطانية، يذهب الى المرحاض وهو مغطى بالبطانية، كل بضعة أيام يقوده اثنان من تحت إبطيه ـ وهو مطيع جداً ـ الى المغاسل، يخلعون ثيابه، يغسلون جسده، يعيدونه وهو مغطى، مكان دكتور الجيولوجيا قبالتي تماماً.
    ************
    نحن الآن جائعون ... وجائعون بشدة، منذ ثلاثة أشهر هبطت كميات الطعام التي تقدمها لنا إدارة السجن هبوطاً حاداً.
    كان لكل سجين يومياً رغيفان من الخبز العسكري ، الآن رغيف واحد لكل أربعة سجناء ، حصتي اليومية ربع رغيف لثلاث وجبات ، اليوم فطوري كان ثلاث حبات زيتون هي كامل حصتي ، ملعقة صغيرة من المربى على العشاء ، إذا كان الأفطاربيضاً فلكل ثلاثة سجناء بيضة مسلوقة ، "نصح الأطباء الجميع بعدم رمي قشر البيض، يسحقونه ويأكلونه للتعويض عن الكلس".
    بعد ثلاثة أشهر من الجوع، الهزال واصفرار الوجوه باد على الجميع، قلّت حركة الجميع، من كان يقوم بالرياضة سراً أقلع عنها.
    الشرطة تراقب ... وتواصل عملها كالمعتاد.
    جلس يوسف قبالتي على الفراش، في يده اليمنى قطعة خبز صغيرة فوقها قليل من مربى المشمش، ناولني إياها:
    - خود ... هاي الك.
    - شكراً يا يوسف... هادا عشاك ولازم تاكله.
    - لا أنا شبعان ... وإنت زلمه بدك تتجوز بكره، لازم تاكل عسل، قال الدكتور إن العسل مفيد.
    ثم تابع الحديث دون أن يتيح لي فرصة الكلام:
    - هلق انت شو بتتمنى؟
    - اتمنى أن أطلع من هون.
    - شوف ... هون كويس ... انت تعرف انه عندي فرس اصيلة لونها احمر، وعندي تياب كلها بيضا، ابيض بأبيض ... استنى شي كم يوم بتشوف أخوك يوسف لابس أبيض بأبيض ... وراكب عالفرس الحمرا، وواقف بنصّ موسكو .. بالساحة الحمراء...
    سكت قليلا ثم أردف بصوت أحد قليلا :
    - والله ... والله بدنا ندك اسوار موسكو !..بدنا نمسح الكفر والكفار! .


    15 أيلول

    أنا جائع، أكثر من خمسة شهور مرت على بداية الجوع، غريزة البقاء، بدأت تحدث بعض المشاجرات بين السجناء بسبب توزيع الطعام، عهدوا بهذا الأمر الى أكثر الأشخاص احتراماً و مهابةً، تطرح هنا تساؤلات كثيرة حول سبب نقص الطعام:
    - هم يريدوننا أن نموت جوعاً!.
    - قد يكون لدى السلطة النية بإخلاء سبيلنا، لكنها لا تريدنا أن نكون أقوياء في الخارج، يجب ان نكون مرضى كي لا نستطيع القيام بشيء خارجاً.
    الكثير من التخمينات ، الكثير من التحليلات، ولكن الشرطة كانت تراقب.
    فتح اليوم عناصر الشرطة الباب وطلبوا إدخال الطعام، ركض الفدائيون وقاموا بإدخال كميات الطعام الهزيلة، ولأول مرة لم يكن هناك ضرب وكرابيج، برز بعدها المساعد ووقف على باب المهجع، بيده بطيخة حمراء تزن حوالي ثلاثة كيلو غرام، صاح برئيس المهجع:
    - تعال لهون.
    ذهب رئيس المهجع اليه مسرعاً.
    - خود هالبطيخة، حصة المهجع!.
    سكت قليلا وبعد ان تناول رئيس المهجع البطيخة، قال المساعد:
    - بدي شوف ... كيف بدك توزع هالبطيخة على المساجين!.
    تردد رئيس المهجع قليلا، في البداية ظهرت على وجهه علائم الحيرة ثم امارات التحدي والاستفزاز، "أصبحت أعرفه جيدا بحكم قربي منه"، أطرق برأسه قليلاً ثم التفت الى داخل المهجع وصاح بصوت عال:
    - يا مرضانين ... هاي البطيخة الكم.
    وناولها الى أحد السجناء.
    نظر اليه المساعد لثانيتين بتمعن شديد، رجع خطوتين الى الوراء وصفق الباب بوجه رئيس المهجع بقوة.
    جلس جميع السجناء، شعور الفخر يغمر الجميع، حتى أنا، لقد هزم رئيسُ المهجع المساعد، يكفي انه أغاظه.
    فيما الجميع منهمكون بالحدث حانت مني التفاتة الى اليسار وإذا بي ارىالساحة تلوح امامي، ساحة الإعدام ... الساحة السادسة، هناك الى جانب، كشف الباب، فجأة وجدت ثقباً غير منتظم أكبر قليلاً من حجم جوزة ، هذا الثقب حدث الآن! نظرت حولي فوجدت كتلة اسمنتية على طرف فراشي، حملتها وسددت الثقب بها فركبت تماما وسدّته، الثقب على مستوى رأسي وأنا جالس.
    عندما صفق المساعد الباب ومن قوة الضربة سقطت هذه الكتلة الاسمنتية والتي يبدو أنها بالأساس متشققة وأحدثت هذا الثقب.
    الآن استطيع أن أرى كل ما يدور في الساحة متى أشاء ذلك، استطيع ان أتلصص على الخارج كما أتلصص من ثقب قوقعتي على الداخل.
    يوسف "مجنون القائد" انقطع عن زيارتي، أو لم يعودوا يسمحوا له بزيارتي، انتبهوا لي مجدداً بعد زياراته، مجموعة من الأشخاص أخذت على عاتقها أمر الحيلولة بينه وبين زيارتي، يراقبونه وهم جالسون حتى إذا رأوه متجها نحوي ناداه أحدهم ‏أو وقف في طريقه يمازحه:
    - شو يوسف ... ما بدك تخبر القائد؟
    - أي .. بدي خبرو ... بس تلفوني مقطوع.
    - تعال لهون ... أنا عندي تلفون.
    يأخذه الى مكانه، يحادثه الى أن ينسى يوسف أنه كان قادماً لعندي.
    } الجوع يقرص معدتي.{

  • #2
    رد: مصطفى خليفة - القــوقعـة - يوميات متلصص


    20 أيلول

    ثلاثة أيام بعد اكتشاف الثقب، ثلاثة أيام لم استطع أن أنظر من خلاله، قلبي ينبض بشدة كلما فكرت في الأمر.
    طوال اليوم وأنا أفكر كيف أتغلب على خوفي من الشرطة، والأهم خوفي من السجناء، ماذا سيفعل السجناء إذا رأوني وأنا انظر عبر الثقب؟!.
    هبط علي الوحي عندما نظرت أمامي، الى دكتور الجيولوجيا، لماذا لا أفعل مثله ؟!! أدير وجهي قبالة الحائط وأغطي نفسي بالبطانية، بحيث تغطي البطانية الثقب أيضاً، وهكذا أنظر بحرية دون أن يلاحظ أحد، وهذا يخلصني في الوقت نفسه من النظرات العدائية التي ازدادت مؤخراً.
    ولكن يجب أن أجرب التغطية لمدة يومين أو ثلاثة قبل أن أغامر وأفتح الثقب وأنظر من خلاله.
    القمل يهرش جسدي، لم استطع الاعتياد عليه والتعايش معه بعد.
    }الجوع يشتد ويتراكم. {

    30 أيلول

    نجحت في أن أجعلهم يعتادون على رؤيتي مغطى بالبطانية، منذ يومين مرّ أحد السجناء من خلفي وأنا مغطى، سمعته يقول لرئيس المهجع:
    - شو يا أبو محمد ؟.. كنا بواحد صرنا باثنين .. شو القصة ؟ ... كمان الاستاذ أجّر الطابق الفوقاني ؟! .
    - خليها على الله... اللهم نسألك حسن الختام.
    لم أستطع ان أنظر من خلال الثقب ولا مرة، لأن الشرطة كانت في حالة هياج شديد، فقد كانت تمر فترات نشعر فيها أن قبضة رجال الشرطة قد تراخت قليلا، وفجأة تعود هذه القبضة لتصبح من حديد ونار، عندها يخمن البعض هنا أن هناك احداثاً هامة تدور في الخارج، وأن السلطة قد منيت بخسائر جسيمة وأن وضعها حرج وقد تكون آيلة للسقوط، ونتيجة لعجزها عن مواجهة ما يدور في الخارج فانها تحاول ن تعوض هنا وتنتقم من المساجين المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة .

    6 تشرين الأول

    اليوم كان مليئاً.
    منذ الصباح تعج الساحة بالأصوات والضرب والصياح والصراخ. فتح باب مهجعنا وخرج الفدائيون لإدخال الطعام تحت ضرب الكرابيج والعصي، أحد الفدائيين تلقى ضربة عصا سقط على إثرها ارضاً وكانت هذه آخر سقطة له، بقي في الخارج وحيداً بين أيدي عناصر الشرطة، وبعد قليل صاح الرقيب:
    - ولا كلاب ... تعوا دخلوه.
    عاد الى المهجع محمولاً بدلا من أن يكون حاملاً.
    تلقفه الأطباء في المهجع، بعد أكثر من ساعة لفظ أنفاسه وأسلم الروح بعد ان أوصى صديقه بصوت متهدج:
    - سلم على ابوي ... إذا الله فرج عنك ... احكيلوا عني ... وقل له يرفع رأسه بابنه ...
    واحد من الأطباء أتى الى عند رئيس المهجع والحزن باد عليه:
    - البقية بحياتك يا أبو محمد ...يوم جديد وشهيد جديد... الله يرحمه ما خلوا محل بجسمه الا وضاربينه ...عدة إصابات ... حتى الخصيتين مهروسات هرس.
    - عليه رحمة الله، خلي الشباب يجهزوه مشان ندق الباب ونطالعه.
    انغمس المهجع بتجهيز الشهيد، الحديث عن الشهيد، مآثره، وصيته الأخيرة، ثم صلوا عليه سرا وأحضروه قرب الباب، وضعوه في الفسحة الفاصلة بيني وبين أبو محمد رئيس المهجع، علق واحد:
    - العمى شو هالحالة ؟! عم نموت واحد ورا واحد متل الخرفان !!.
    لم يرد عيه أحد.
    وقف أبومحمد ودق الباب بجماع يده، وجاء الصوت من الخارج:
    - شو بدك يا ابن الشرموطة ؟... ليش عم تدق الباب ؟.
    - يا سيدي ... في عنا واحد شهيد !!! ... عفوا عفوا ...
    واحد ميت.
    نسي أبو محمد حذره من كثرة ترداد كلمة شهيد في المهجع، انتبه واستدرك ولكن هذا الاستدراك جاء متأخراً.
    فتحت الطاقة الصغيرة في الباب الحديدي وظهر رأس الرقيب، وبمنتهى الهدوء توجه بالسؤال الى أبو محمد الذي كان واقفاً:
    - مين يللي قال شهيد ... يا رئيس المهجع ؟.
    - أنا سيدي.
    أغلق الرقيب الطاقة وصاح بالشرطة أن يفتحوا الباب.
    في الثواني القليلة التي استغرقها فتح الباب، التفت أبو محمد الى الناس وقال:
    - يا شباب سامحوني ... إدعوا لي ... ويللي يضل طيب منكم خليه يروح لعند ولادي ويحكيلهم كيف مات أبوهم!
    فُتح الباب. جمهرة من الشرطة أمامه تنظرالى الداخل، جمهرة من المساجين وفي المقدمة أبو محمد ينظرون إلى الخارج، صاح الرقيب:
    - ولا ابن الشرموطة ... اطلع لبره.
    قذف أبو محمد نفسه بينهم، صاح الرقيب بالشرطة أن يغلقوا الباب، كل السجناء واقفون إلا العجزة ودكتور الجيولوجيا، جلست أنا ايضا وغطيت نفسي بالبطانية، وبسرعة وبهدوء نزعت الكتلة الاسمنتية قليلاً... قليلاً.
    لم أكن أعي أو أدرك ما أفعل، فالشرطة أمام مهجعنا تماماً والثقب كبير يمكن لأي شرطي أن يلاحظه، ولكني فتحت الثقب ونظرت.
    أبو محمد كان ضابطاً سابقاً، وكان رجلاً حقيقياً. منذ فترة وعندما حدثت بعض المشاحنات في المهجع بسبب توزيع الطعام القليل أصلاً، أحس انه قد مُسَّ من قبل شخص ما، بقي على أثرها سبعة أيام لم يتناول خلالها ولا ذرة طعام، سبعة أيام بدون طعام بعد أشهر من الجوع.
    اتى لعنده مجموعة من كبار المشايخ والناس الأكثر احتراماً في المهجع يطيبون خاطره ويعتذرون نيابة عن كل الناس، ورجاءً خالصاً ان ينسى كل شيء، وانهم لن يذهبوا من عنده قبل ان يأكل، وكان مما قاله ابو محمد رداً عليهم:
    - ابو محمد لا يمكن ان يسمح لـ" لقمة أكل " ان تذله ... واذا كان هناك من تصرف او سيتصرف بدناءة، فهذا الشخص لن يكون ابو محمد، الموت ولا الذل.
    بعد ان فتحت الثقب كان اول من رأيت هو ابو محمد، بيده عصا غليظة من المؤكد أنه انتزعها من أحد عناصر الشرطة بعد أن فاجأهم بطريقة خروجه، يضرب بها ذات اليمين وذات الشمال، تحيط به دائرة من عناصر الشرطة والبلديات، ثم رأيت واحداً من الشرطة ممدداً على الأرض.
    تضيق الدائرة حوله وتنهال عليه بعض الضربات من الجانبين ومن الخلف، يتألم يلتفت ويهجم، تتسع الدائرة، معركة حقيقية ولكنها غير متكافئة عددياً، من طرف رجل يعرف انه سيموت في كل الأحوال، وقرر ألا يموت موتاً سهلاً ورخيصاً، ومن الطرف الاخر مجموعة كبيرة من الأشخاص اعتادوا ان يكون قتلهم للآخرين سهلاً.
    والكثرة غلبت الشجاعة. سقط أبو محمد ارضاً بعد زمن قدرته بحوالي ربع الساعة، حضر اثناءها المساعد والطبيب ومدير السجن، على الأرض اربعة اشخاص ممددين، ثلاثة من الشرطة بينهم الرقيب " ابن الشرموطة "، لقد رأيت كيف تقصد ابو محمد أن يهاجمه هو رغم أنه كان بعيداً عنه، وكيف نزلت عصا ابو محمد على رأسه.
    فحص الطبيب الجميع، أسعفوا أحد العناصر بسرعة، الرقيب والعنصر الآخر ماتا، ابو محمد مات، قدم الطبيب هذا الشرح لمدير السجن الذي التفت الى المساعد طالباً منه أن يجمع كل من في السجن من عناصر الشرطة والبلديات وأن يقف جميع الحراس المسلحين الموجودين على الاسطحة فوق مهاجع الساحة السادسة.
    عرفت ان المشهد لما ينته بعد، أغلقت الثقب جيداً وأزحت البطانية.
    ( من الاشياء التي لا يمكن أن أنساها ابداً، شجاعة العميد في الساحة الاولى وشجاعة ابو محمد في الساحة السادسة، وفكرت كما يفكر الجميع هنا، تساءلت : كيف يحدث، او لماذا يحدث، ان يوجد هكذا ضباط في السجن، يُقتلون فيه والكل يعرف اننا في حالة حرب؟
    ولكن فوراً قمعت هذا التفكير، محوته من ذهني ) .
    اعتبر المقدم مدير السجن أن ما حدث كان تمرداً وسابقة خطيرة يجب أن تجابه بكل قوة، بمنتهى القسوة والعنف كي تكون درساً للجميع.
    حوالي الثلاثمائة سجين، يحيط بهم على محيط الساحة أكثر من هذا العدد بكثير من عناصر الشرطة والبلديات، عشرات الحراس المسلحين على الأسطحة.
    - لا تتركوا أحداً في المهجع.
    جمعونا وسط الساحة، في آخر الصف قريباً من المهجع وضعوا العجزة، القى مدير السجن محاضرة نصفها شتائم، والنصف الآخر تهديد ووعيد، وقد نفذ تهديده، قال للمساعد:
    - مابدي حدا يفوت على المهجع وهو ماشي، السليم منهم لازم يفوت زحف على بطنه.
    "بعض السجناء سيسمي هذا اليوم لاحقاً بـ / يوم التنكيل / وبعضهم الآخر سيسميه / يوم أبو محمد/". .
    استمر التنكيل من قبيل الظهر إلى ما بعد حلول الظلام، وكان أكثر ما يؤلم مشهد المشلولين وهم يُضربون، يحاولون الحركة، يحاولون تفادي الضرب .. ويظلون مكانهم.
    دخلنا زحفاً وجرجرةً، من لم يستطع ان يجرجر نفسه أوغيره، تكفل البلديات بـ " قذفه" داخل المهجع، اخذنا نضمد جراحنا، نغسلها، نبحث عن مزقة قماش نلف بها جرحاً ما.
    الجوع يعضنا، رغم ذلك نمنا.






    7 تشرين اول

    في الصباح الجميع ينظر الى الجميع، كل من لديه القدرة يحاول أن يطمئن على جاره، الحصيلة ثلاثة قتلى ماتوا ليلاً، جراحي خفيفة ولا تشكل أي خطر.
    أتى المساعد ومعه الشرطة، كل من يستطيع الوقوف وقف، "اكتشفت أن ابو حسين وهو الشخص الذي يوزع الطعام ويرضي الجميع كان قد نقل فراشه ليلاً الى مكان ابو محمد".
    تقدم المساعد خطوتين، شمل المهجع بنظرته، ابتسامة على زاوية الفم، نظر إلى ابو حسين، نظر إليّ، أشار إليّ قائلاً:
    - إنت بتصير رئيس مهجع.
    سكتّ ولم اجب، سكت المساعد وتراجع يريد الانصراف، تحرك ابو حسين مصطنعاً الخوف، رفع يده عالياً وقال:
    - يا سيدي اسمحلي بكلمة.
    - قول ولا.. كرّ.
    - يا سيدي هادا يللي عينتوا رئيس مهجع .. يا سيدي، مجنون!.
    التفت المساعد إليّ، سألني:
    - انت مجنون .. ولا؟
    لم إجب. لم أعرف بماذا أجيب. قال المساعد:
    - طيب .. أصبح انت بدك تصير رئيس مهجع.
    - متل ما بدك سيدي .. بس في عندنا ثلاثة ميتين.
    - ميتين؟.. ولا شهداء؟
    - ميتين سيدي.. ميتين.
    - قول نفقوا.. ولا جحش.
    - نفقوا سيدي.. نفقوا.
    - يالله .. طالعوهم لبره.
    وأغلق الباب. أصبح ابو حسين رئيس مهجع، اقترب مني بهدوء وقال:
    - انا بعرف إنك مانك جاسوس .. وساويتك مجنون لأنه للضرورة أحكام.
    " هاهو واحد اخر منهم يشعرني بالأمان الى جانبه ".

    24 شباط
    البرد يجمدنا، الجوع يضنينا.
    أكثر من عشرة اشهر مرت ونحن جائعون، ربع رغيف أقسمه ثلاثة أقسام، وأقاوم، أقاوم الرغبة بالتهامه كله دفعة واحدة، عشرة شهور لم يصل فيها أحد السجناء الى الشعور بالشبع، الهزال بدا شديداً على الجميع، الوجوه مصفرة وآثار سوء التغذية جلية واضحة.
    في البداية تعامل الجميع مع المسألة بأنفة وعزة نفس، شيئاً فشيئاً ومع استمرار الوضع بدأت التصرفات الغريزية تطل برأسها، فالسجن أساساً هو عالم الاشياء الصغيرة، عالم الصغائر، اثنان من اساتذة الجامعة، شخصان محترمان جداً، كبيران في السن .. يتشاجران، يتشاتمان، ينتهي الأمر بالمقاطعة، والمسألة برمتها تكون قد بدأت على الشكل التالي:
    - يا اخي كم مرة قلت لك لا تلبس شحاطتي؟!
    - ايه ... شو فيها إذا لبسناها؟ .. رح ينقص من قيمتها يعني؟!
    - بينقص ما بينقص ... لا تلبسها وبس... صار ميت مرة حكينا ... وإلا انت ما بتفهم حكي؟!
    - انا ما بفهم!!... شو شايفني حمار متل حضرتك؟!
    - أنا حمار ؟! ... ايه إنت وأبوك وكل عيلتك حمير يا أكبر حمار!!.
    وقد يتطور الأمر بين الأستاذين إلى الضرب إذا لم يتدخل أحد بينهما.
    لا يمر يوم دون مشاجرة أو أكثر موضوعها الوحيد الطعام .
    - ليش اعطيتني قطعة خبز أصغر من غيري؟
    - ليش تعطي لفلان ملعقة لبنة كاملة وانا يا دوب نص ملعقة؟
    - ما بيكفي إنه حصتي ثلاثة حبات زيتون وفوقها تكون صغيرة، حبات غيري سمينة.

    قبل شهر اجتمع الاطباء مع رئيس المهجع ابو حسين، شرح احدهم لابو حسين ان استمرار الوضع الحالي ينذر بكارثة مرضية، وأن لديهم اسباباً قوية من خلال ملاحظاتهم وفحوصهم للاعتقاد أن قسماً من السجناء قد أصيب بالسل، وطلبوا منه إبلاغ ادارة السجن بالأمر، وبعد نقاش تقرر اعتماد خطة المرحوم ابو محمد.
    أبلغوا جميع المهاجع بالأمر عن طريق "المورس" وتبين أن الإصابات لدى الجميع، وبعد المطالبة حضر المساعد ، شرح له ابو حسين الوضع وأردف:
    - يا سيدي الأطباء متأكدين إنه مرض السل.. ومتل ما سيادتكم تعرفوا هادا مرض معدي كتير ... ونحن وانتو بمحل واحد، ومتل ما ممكن السجين يمرض، ممكن لا سمح الله الشرطي كمان ينعدى.
    - ابتدأ العلاج ، تفاعل السلين ، الأرشيدين ...
    ************


    أنا منذ أشهر مستمر بالمراقبة والتلصص عى ساحة السجن عبر الثقب، حفظت وجوه عناصر الشرطة كلهم، شاهدت الإعدامات ... ثمان مشانق ... كل اثنين وخميس، أسمع كلام الشرطة بوضوح احياناً، كان الناس هنا يتساءلون: لماذا لم نعد نسمع صيحات الله أكبر لدى تنفيذ حكم الأعدام ؟. الآن عرفت السر، بعد أن يخرج المحكومون بالإعدام من المهجع يغلق الشرطة الباب ويقومون بلصق أفواه المحكومين بلاصق عريض، كأن صرخة الله أكبر من المحكومين قبل اعدامهم تشكل تحدياً واستفزازاً للمحكمة الميدانية وادارة السجن، فمنعوها باللاصق.
    المشانق غير ثابتة، لا تشبه المشانق العادية التي يصعد اليها المحكوم بالإعدام. هذه المشانق هي التي تنزل إلى المحكوم، البلديات الأشداء يميلون المشنقة إلى أن يصل الحبل إلى رقبة المحكوم بالإعدام، يثبتون الحبل حول الرقبة جيداً ثم يسحبون المشنقة من الخلف، يرتفع المحكوم عليه وتتدلى رجلاه في الهواء، بعد ان يلفظ الروح ينزلونه الى الارض ... وتأتي الدفعة الثانية ثم الثالثة ... أغلب الذين شاهدت اعدامهم كانوا هادئين، شاهدت أيضاً حالات كثيرة ظهر فيها حب الحياة والضعف الانساني، البعض كانت ترتخي لديه مصرتا البول والبراز، والشرطة في هذه الحالة ينزعجون كثيراً، فالرائحة لاتطاق، يشتمون ويضربون الشخص الذي عملها !. بعضهم الآخر كانوا يبكون، يحاولون الكلام والتضرع فيمنعهم اللاصق العريض، أحد المساجين من صغار السن استطاع أن يفلت من بين ايديهم ويركض في الساحة السادسة، وهي ساحة كبيرة جداً ذات فرعين، الهرب مستحيل واضطر الشرطة والبلديات للركض وراءه لدقائق الى أن أمسكوه، اوقفوه تحت المشنقة فجلس على الارض، رفعه اثنان من البلديات وأدخلوا رقبته في الحبل، بعد قليل لعبط برجليه في الهواء.

    20 آذار
    علاج مرضى السل مستمر، وجولات الدكتور سمير الذي قام بالعلاج أيضاً مستمرة، مرّ شهران كاملان لكن الاصابات في تزايد مستمر، وصل الرقم الى ألف وثلاثمائة إصابة في السجن حسب ما قال الدكتور سمير، الوفيات قليلة جداً.

    كان الجميع هنا يعزي معالجة التهاب السحايا ومرض السل الى فضل طبيب السجن، الجميع يشيد بانسانيته وذلك حتى عشرين يوماً خلت، حيث وردت رسالة "مورس" مؤلفة من بضع كلمات:
    " طبيب السجن قتل اثنين من زملاء دفعته. "
    الرسالة واردة من المهجع السابع، بعد ثلاثة أيام وردت رسالة اخرى:
    " طبيب السجن قتل ثلاثة من زملاء دفعته. "
    الرسالة واردة من المهجع الرابع والعشرين.
    أبو حسين، وهو شخص ديناميكي جداً بالاضافة الى انه ذكي، احس بالخطر، فدعا الطبيبن زملاء دفعة طبيب السجن لعنده، تحدث واياهما مطولا، سألهما عن أشياء كثيرة، كانت لديه خشية كبيرة من أن يقوم طبيب السجن بقتل كافة زملاء دفعته ومنهم هذان الطبيبان، استخدم أبو حسين كل لباقته ودهائه كيلا يدخل الخوف الى قلبيهما، وفي الوقت نفسه كان لا يريد أن يكذب عليهما. الحديث كان طويلا جداً، وأهم ما فيه قول أبو حسين لهما:
    - أنا لا أريد أن أهون المسألة وأكذب عليكما، يبدو أن زميلكما قد بدأ هناك ومن المحتمل أن ينتهي هنا، - وأرجوا من الله أن يكون ظني خاطئاً - ولكن قد يكون دوركما قادماً - لا سمح الله - ، والآن هل استطيع أنا أو غيري أن نفعل شيئاً؟.
    سكت الطبيبان قليلاً ثم تناوبا على الحديث بعد ذلك:
    - ليس بيدك أو بيدنا يا أبو حسين إلا أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، وستأتي ساعة نقف فيها جميعا بين يدي الله، و يا ويله من تلك الساعة.
    - ولكن قولا لي لماذا يفعل هذا؟ هل هو ينتقم؟ وممن؟.
    - والله يا أبو حسين لا نعرف الكثير عنه، ما نعرفه ويعرفه جميع زملائنا أنه أتى الى الجامعة وكان فقيرا جداً، كان ريفيا بسيطا وخجولا، قد يكون زملاؤه أبناء المدينة قد تعاملوا معه بفوقية، وبعضُ منهم عامله باحتقار، عرف الجميع أنه من عشيرة الرئيس وهو لم يكن يخفي هذا، كان يدرس الطب على نفقة الدولة، قيل إنه كان يعمل مخبرا لدى الجهات الأمنية، كل أبناء المدينة تجنبوه، والقصة التي لها بعض المعنى في هذا المضوع هو حبه لزميلة من زميلاتنا من بنات المدينة، بقي حتى السنة الثالثة في الجامعة يحبها بصمت، لا يجرؤ على الاقتراب منها أو مصارحتها، في السنة الثالثة انتهز فرصة انفراده بها بأحد المخابر، أمسك يدها وصارحها بحبه، قال إنه يعبدها ... وإنه.... وإنه.
    الفتاة وهي من عائلة مدينية محافظة عرفت بالغنى والقوة، كانت ردة فعلها عنيفة جداً، وقد تكون هي السبب في كل ما يحدث ، صدته باحتقار واشمئزاز، اشتكت الى عمادة الكلية، ثم أخبرت أهلها بما حدث.
    عوقب من قبل الجامعة، ولكن ردة فعل الأهل كانت أعنف، ثلاثة من أخوة الطالبة ظلوا يتجولون في أرجاء الكلية بصحبة أختهم مدة ثلاثة أيام، وكان واضحا للجميع أنهم يخفون أسلحة تحت ثيابهم، كانوا يبحثون عنه وبنيّتهم قتله، هكذا قالت الطالبة فيما بعد، لكنه لم يكن موجوداً، لقد اختفى ولم يعد يحضر الى الكلية.
    بعد أسبوع حضرالى الكلية وكأن شيئا لم يكن. إخوة الطالبة انسحبوا. عقوبة الإدارة ألغيت.
    - راح جاب قرايبه المخابرات، ودخّل وساطات، باس الأيادي حتى عفا عنه أهلي.
    هكذا راحت الطالبة تشرح الأمر للآخرين.
    تابع دراسته منزوياً لايختلط مع أحد إلا طالباً أو طالبين من منطقته، الكل كان يعامله بعدها باحتقار، وبعض زملائنا الطلاب كانوا أحياناً يسلقونه بتعليقاتهم اللاذعة.
    - لكن ... اقسم بالله يا اخي ابو حسين , نحن هذه المجموعة لم نكن ننتبه لهذه الامور لا من قريب ولا من بعيد , كنا في صف واحد أكثر من خمسة وعشرين شاباً مؤمناً بالله نحضر بعد الدوام دروسا دينية في المسجد، ولهذا السبب نحن هنا الان، كم من الاخوة قبض عليه وكم منهم نجا، لست أدري ... كان الله في عون الجميع.
    - هم م ... قلت لنفسي إنه قد يكون في الامر امرأة. إن هذا الشخص يشعر بالعار، ولكن هل اذا قتل شهود عاره، يمحي هذا العار ؟... غبي ...
    ولكني إعتقد أن هذا السبب على قوته لايكفي! أعتقد ان هناك سبباً اخرَ لا يعرفه احد!
    اليوم في 20 آذار، قبل عيد الربيع بيوم واحد، كان موعد هذين الطبيبين مع زميلهما.
    أخرج عناصر الشرطة الطبيبين وأغلقوا الباب، أسرعت الى بطانيتي والثقب، رايت الطبيبين يسوقهما عناصر الشرطة إلى أمام طبيب السجن الذي يقف على مبعدة أربعة او خمسة أمتار من المهجع. يقف الطبيب عاقداً يديه على صدره وهو يبتسم. رحب بهما: أهلاً وسهلاً، ثم التفت الى عناصر الشرطة وأمرهما:
    - روحوا خلوكم جانب البلديات.
    في وسط الساحة سبع من البلديات العمالقة. وقف عناصر الشرطة بالقرب منهم، اسمع الحديث بصعوبة، قال طبيب السجن:
    - ايه ... هلق عم تقولوا لحالكم : سبحان مغير الاحوال ... طيب وانا كمان بقول هيك ... بدي اطلب منكم طلب، مين منكم بدو يجوزني اختوه ؟ .
    لم يجب الطبيبان بشيء، رأساهما منكسان قليلاً، تابع طبيب السجن:
    - ليش ساكتين؟! ... شو يا عدنان ... أنا عم أخطب اختك على سنة الله ورسوله، الزواج عيب شي؟.
    - بس انا ما عندي اخت، والحمد لله.
    هنا قال طبيب السجن لعدنان شيئاًً لم اسمعه. سادت فترة صمت ثم التفت الى الطبيب الآخر، وقال :
    - طيب ... وأنت يا زميل سليم كمان ما عندك أخت؟.
    - نعم ... عندي أخت.
    - طيب خطبني اياها على سنة الله ورسوله.
    - الزواج قسمة ونصيب، ونحن هلق بوضع ما بيسمح بنقاش هيك أمور، وأولاً وأخيراً أنا ماني ولي أمرها.
    - هذا أسلوب تهرب ...
    اقترب منه وبصوت أقوى:
    - وإلا شايف انه نحن مو قد المقام، انتو ناس أغنياء وأكابر، نحن فلاحين، مو هيك؟
    اقترب منه ولوح بيده أمام وجهه وبصوت حاد صاح وهو يصر على أسنانه:
    - ولك شوف ... افتح عيونك وطلع لهون، شايف هذا البوط، بوطي أحسن منك ومن أختك وأهلك و كل عشيرتك وطايفتك ... ولا كلب.
    ثم التفت الى حيث البلديات وصاح:
    - بلديات... تعوا لهون ولاك... خذوهم عـ نص الساحة.
    سحب البلديات الطبيبين. ومشى وراءهم وهو يصيح:
    - هدول ناس أكابر ... يعني فوق ... فوق، وهلق نحن بدنا نطالعهم كمان لفوق أكثر وأكثر ... يالله لشوف.
    في منتصف الساحة كنت أرى ولا أسمع، استلقى عدنان على ظهره وأمسك به سبعة من البلديات، من الرجلين، اليدين، الخاصرتين، ومن تحت الرأس. إنها عقوبة المظلة. والمظلة عقوبة تعني واحداً من ثلاثة أشياء: إما كسور مختلفة في سائر أنحاء الجسم وعلى الأغلب في الحوض، وإما شلل دائم عندما يكون الكسر في العمود الفقري، أو الموت وهو الاحتمال الثالث خاصة عندما يسبق الرأس الجسم في النزول، وغالبا هذا يحدث عندما يكون عنصر البلديات الممسك بالرأس أقل قوة من الآخرين.
    رفع البلديات عدنان، وجهه الى السماء، ظهره مواز للأرض الاسفلتية، أرجحوه قليلاً ثم بصوت عال:
    - يالله .. واحد ... اثنين ...ثلاثة.
    وقذفوه الى الأعلى، ثم خبطة قوية على الأرض، لم يتحرك عدنان بعد أن صرخ صرخة ألم رهيبة.
    انتظر طبيب السجن قليلا، أشعل لفافة تبغ وظهره لعدنان والآخرين، كان ينظر باتجاه باب مهجعنا، عبّ نفسا من اللفافة وزفره، التفت وأشار للبلديات الذين تقدموا ورفعوا عدنان مرة أخرى و ... واحد ... اثنين ... ثلاثة، هذه المرة لم تصدر أية صرخة.
    أشار لسليم اشارة وهو يتكلم كلاماً لم أسمعه، اقترب سليم وانحنى فوق عدنان، وقف وقال كلاماً لطبيب السجن الذي انتفض وصفعه على وجهه صفعة سمعت صوتها وأنا جالس داخل المهجع ... وبدأ يصرخ ويشير بيديه.
    تكرر نفس الأمر مع سليم.
    تركوهما وسط الساحة في حالة استلقاء أبدي. غادر طبيبُ السجن، يحيط بهموكبه، الساحةَ.
    مجموع ما قتله طبيب السجن من زملاء دفعته أربعة عشر طبيباً.
    إذا كان بعض هؤلاء الأطباء أو أحدهم يعرف الأسباب التي دفعت زميلهم إلى قتلهم فإنه أخذ السر معه الى القبر، لأن القاتل لن يتكلم. وظل الأمر داخل السجن في إطار التكهنات ... فلا أحد يعرف السر الحقيقي.

    6 ايار

    الدكتور سمير ومن خلال جولاته الطويلة داخل السجن استطاع أن يحقق بعض الأمور التي لم يحققها غيره، عرف تقسيمات السجن وتوزع ساحاته ومهاجعه، أصبح لديه كم هائل من المعلومات عن نزلاء كل مهجع، ينقل الأخبار بين المهاجع، فقد يكون هناك مجموعة من الإخوة من عائلة واحدة اعتقلوا سوية ولم يعد أحدهم يعرف عن الآخر شيئاً، يقوم هو بالسؤال عنهم وتطمين بعضهم ان الاخرين موجودون في المهجع كذا وكذا.
    أهم أمر حققه انه نال امتياز التكلم مع الشرطة وهو مفتوح العينين، فنتيجة للاحتكاك الدائم تعود الشرطة ان يبدأهم هو بالحديث وهذا غير ممكن للآخرين.

    الاثنين الماضي جاءت الهليوكوبتر، دخلت هيئة المحكمة الميدانية الى الغرفة المخصصة لها، سلمت اللائحتين إلى إدارة السجن، لائحة الذين سيحاكمون ولائحة الإعدام.
    جلست أمام الثقب مغطى بالبطانية أتلصص على الشرطة وعملية الاعدام التي أصبحت روتينية بالنسبة لي، كالعادة حضر السجناء الذين سيتم تنفيذ حكم الإعدام بهم، تمت كل الاجراءات المعتادة، جهزت المشانق، البلديات جاهزون، وضعوا اول مجموعة ثمانية اشخاص تحت المشانق، لم يبق إلا انزال المشنقة والحبل، عندها صاح احد الذين لم يلصق فمهم بعد وكان الشرطي واقفاً امامه واللاصق بيده:
    - ياسيدي ... دخيلك، نحن لسه ما تحاكمنا.
    انهال عليه الشرطة بالضرب والشتائم، فلا يجوز له ان يبدأهم الكلام، ولكن صيحته وصلت الى المساعد الواقف عند آخر مشنقة، قال:
    - اتركوه ... اتركوه.
    ثم اقترب من السجين وسأله:
    - شو عم تقول .. ولا؟
    - ياسيدي نحن مانا محكمومين، لسه ما رحنا عـ المحكمة.
    - شو ها الحكي !!.
    التفت المساعد إلى الرقيب المسؤول. طلب منه اللائحة. تبين ان هناك خطأ ادارياً بسيطاً، لقد اخطأ الرقباء فأخذوا السجناء الذين من المفترض أن يعدموا الى المحكمة، وجلبوا الاشخاص الذين من المفترض أن يذهبوا الى المحكمة ليتم إعدامهم.
    كل السجناء الذين جلبوا امام المشانق يعرفون انهم هنا بطريق الخطأ، ولكن لم يتجرأ إلا شخص واحد على تنبيه الشرطة على هذا الخطأ.
    وبّخ المساعد الرقيب وتم اصلاح الخطأ.
    بعد شهر تقريباً من مقتل الطبيبن عادل وسليم، عاد الدكتور سمير من جولته العلاجية، دخل المهجع، السلام عليكم، وقف قليلاً ثم جلس عند ابو حسين، بعد الاحاديث المعتادة قال ابو حسين:
    - شو دكتور ؟... انا شايف انه عندك حكي.
    - ايه والله ياابو حسين ... بدي نصيحتك.
    شرح الدكتور لابو حسين ان لا نتائج ملموسة لكل العمل الذي يقوم به، ومع كل يوم جديد يتفاقم وضع مرضى السل اكثر فأكثر، "أنا كمن يحرث الماء"، وأن الدواء وحده لايكفي، فالغذاء الذي يتناوله المريض شيء اساسي، و:
    - متل مانك شايف ياابو حسين ... الناس جوعانه، واذا ما تحسن الاكل بالسجن، مستحيل حدا يطيب من هالمرض، بالعكس المرض بدو يشتد اكتر، وعدد المرضى بدو يزيد. وانه يفكر جدياً بأن يطلب اعفاءه من هذا العمل.
    امتد النقاش طويلاً، شارك فيه اخرون، اخيراً ختم ابو حسين النقاش مذكراً الدكتور سمير بواجبه امام الله وواجبه الانساني طالباً منه أن يجعل من يأسه منطلقاً لتحسين الشروط، عندها سأله الدكتور:
    - وكيف بدي اعمل ؟
    - اطلب طبيب السجن، اشرح له الأمر، وطالبه بتحسين الطعام.
    - طبيب السجن ؟! هذا ... الجلاد!.
    - نعم .. هذا الجلاد، انت اعمل اللي عليك واترك الباقي على الله.
    في صباح اليوم التالي ، كالمعتاد فتح الشرطة والبلديات الباب وهم محملون بالادوية ، لم يخرج الدكتور وقال للرقيب :
    - قبل الجولة ... لازم شوف طبيب السجن ... ضروري .
    بعد قليل حضر طبيب السجن ، شرح له الدكتور سمير الأمر بلغة الاطباء ، وأنهى حديثه إلى نتيجة ان لا جدوى من العلاج كله اذا بقيت الشروط الغذائية كما هي عليه الان ، رد طبيب السجن :
    - اترك لي موضوع الطعام شي يومين.. ثلاثة ، وروح انت تابع العلاج مثل العادة .
    الزائد أخو الناقص !.
    بعد أسبوع من هذه المحادثة فتح الشرطة الباب لادخال الفطور، واذا بتلٍ من الخبز والبيض المسلوق، أدخل الفدائيون الطعام، وزعوه، نصيب الشخص الواحد سبعة ارغفة مع خمس بيضات مسلوقات ... من سيأكل كل هذا ؟.
    نبه الاطباء الى ضرورة الاعتدال بالأكل، لانه بعد كل هذا الجوع لايجوز للبطن ان يمتلئ كثيراً.
    استمر الجوع عاماً كاملاً تقريباً، اسماه السجناء " سنة الجوع "، وهي سنة غيرت الناس كثيراً، وانأ أيضا تغيرت، وهذا التغيير أحسه جلياً من الداخل، بعد مضي الأسابيع الأولى من سنة الجوع، أصبح الأمر عادياً، أن تكون جائعاً أمر طبيعي لم يعد يستلزم الكثير من التفكير، ولكن مع تناقص وزن الجسد كلن يتنامى داخلي إحساس عميق بالصفاء والنقاء.
    اذكر أنني في بواكير المراهقة أخذ إحساسي بالجسد الإنساني عموماً وجسدي خصوصاً يكبر شيئاً فشيئاً، ومن همسات رفاق المدرسة والشارع تعلمت كيف أصل إلى انفجار اللذة الذي يعصف بالجسد كاملاً.
    دخلت الحمام في منزلنا وقمت بتطبيق ما تعلمته من رفاقي ، كدت أصاب بالإغماء لذةً وخوفاً ودهشة، ولكن بعد مضي دقائق قليلة تلبسني إحساس بالإثم، إحساس بالتلوث، فقدت طهارتي ونقائي الى الأبد.
    منذ ذلك الحين لازمني هذا الإحساس كظلي، إلى أن مررت بسنة الجوع والتي خلالها كنت اشعر أن هذا التلوث.. هذا الدنس قد بدأيزول تدريجياً، وانني اعود الى بساطة وبراءة الطفولة.
    " اكثر ما امضني واحرقني هو عدم قدرتي على مشاركة أي انسان بما احسه واشعره، كان شعوري بعودة النقاء فرحاً رافق عذابات الجوع ".
    حتى أحلامي تغيرت، أحلام اليقظة والتي كانت قبل سنة الجوع منصبة كلها تقريباً على المرأة، تغيرت وانصبت بمعظمها خلال هذه السنة على الطعام، الطبخات التي كنت احبها، ابتكرت بعض الطبخات، احلم بوجبة مليئة باللحوم والدسم ... وإذا كنت استطيع معالجة الحاجات التي تخلفها احلام اليقظة الجنسية، فانني لم استطع معالجة الحاجات التي خلفتها أحلام اليقظة الطعامية!.
    اصبح الدكتور سمير بطلاً على مستوى السجن كله، ولكنه بتواضع اصيل قال لابو حسين:
    - الفضل كله الك يا أبو حسين.
    اليوم اجروا لي فحصاً، فتأكد خلوي من مرض السل.

    14 تموز

    خلال الفترة الماضية تمت السيطرة على مرض السل بنجاح لابأس به ، الوفيات بسببه توقفت ، يقدر الدكتور سمير ان هناك حوالي الفي شخص يعالجون من هذا المرض ، أصبح هناك طبيب اخر يساعده في جولاته .
    الطعام أصبح مشكلة كبيرة ، في الأيام الأولى من وفرة الطعام أخذ السجناء يحاولون تخزين مايمكن تخزينه خوفاً من العودة الى ايام الجوع ، ولكن تدفق الطعام استمر بمعدل يزيد عن حاجة او قدرة الانسان على الاكل بضعفين او ثلاثة اضعاف ، لم يبق فراغ في المهجع الذي هو مكتظ اصلاً الا وخزن فيه السجناء الخبز اليابس ، حتى اصبحت الحركة صعبة داخل المهجع ، ثم استحالت .
    " في هذا السجن لايوجد قمامة ، ممنوع منعاً باتاً اخراج أي قمامة من أي مهجع " .
    اشتكى السجناء لابو حسين :
    - يا ابو حسين ... لاقي لنا حل ، شوف المساعد بلكي ياخدوا من عندنا بس الخبز اليابس.
    ابو حسين طلب من الدكتور سمير ان يتحدث بالموضوع مع المساعد فقال سمير له في نفس اليوم :
    - ياسيدي ... صار في عندنا خبز يابس كتير ... بلكي سيادتك تسمح للسجناء يطالعوه برات المهجع ، لانه زائد عن حاجتنا ... وممكن غيرنا يستفيد منه ... اذا في حولكم اغنام ... هذا ممكن يصير علف جيد للاغنام .
    جاء رد المساعد حاسماً :
    - شو دكتور !!... شايفك صرت عم تتمدمد اكتر من اللازم !.. شو شايفنا رعيان غنم !؟ بعدين نظام السجن واضح وصريح : ممنوع يطلع من المهاجع ولا ذرة زبالة . هذا اولاً ، اما ثانياً : انتو يللي طلبتوا نزيد الاكل ... زدناه ، وهلق كل شي موجود في المهجع لازم تاكلوه .
    احتدم النقاش في المهجع. المكان ضاق، الخبز اليابس جلب معه قطعاناً جرارة من النمل والصراصير والجرذان.
    كان السؤال كيف نسطيع التخلص من كل هذا الخبز ؟... وجاء الحل من عند ابو حسين:
    - ياشباب ... خلونا نختصر، انا برأي ما في غير حل واحد، ننقع هذا الخبز بالماء وعلى دفعات، بعدين نمرسه حتى يصير سائل بعدين نصرفه عن طريق المراحيض.
    وقامت قيامة المهجع :
    - هذا حرام ... هذا كفر ... نعمة الله نلقيها بالمرحاض !!.
    - هذا ما بيجوز من الله ... ياما احلى سنة الجوع !!.
    - ايه والله صحيح ... ايه يكون طول سنة الجوع عشر سنين احسن من انه الواحد يكب الخبز بجورة المرحاض !!.
    - يالطيف ... يالطيف وين وصلنا !!.
    خلال السنوات الماضية وحتى قبل سنة الجوع كنت ألاحظ الاحترام الكبير الذي يعاملون الخبز فيه، كان واحدهم حريصاً جداً على ألا يوقع اية قطعة خبز على الارض، وإذا صدف وأن رأى قطعة خبز مرمية على الارض فإنه يرفعها باحترام ، ينفضها ثم يقبلها ثم يضعها على جبينه، اما ان يأكلها او يضعها في مكان عال ٍ ، فللخبز عندهم مكانة القداسة ، والآن يتجرأ ابو حسين ويقترح ان يرموا الخبز في المرحاض ، وهاج الناس هياجاً شديداً.
    " للحقيقة فان الحل الذي اقترحه ابو حسين كان قد ورد الى ذهني وانا استمع الى نقاشاتهم، وبعد ان رأيت الهياج الذي عم المهجع، قلت الحمد لله اني ممنوع من الكلام، فلو انني كنت الذي قدم هذا الاقتراح لقتلوني حتماً ".
    قابل ابو حسين هياجهم بهدوء شديد ، جلس مكانه ، لم يجادل ، لم يتكلم وتركهم يوماً اخر.
    كل يوم يعني حوالي ألف رغيف خبز زيادة ، صار الجميع يمشي بين تلال من الخبز ، الوصول الى المغاسل او المرحاض أضحى صعباً جداً ، وأعيد فتح النقاش في اليوم التالي فلم يشارك فيه ابو حسين ، في الوقت الذي كان الجميع ينتظرون رأيه ومساهمته ، ضاق الناس ذرعاً بسكوته فتوجه اليه احدهم بالكلام ، قال :
    - ايه ابو حسين ... شايفك ساكت ، ما الك رأي بالموضوع وانت رئيس المهجع ؟.
    - طبعاً الي رأي ! لكن قبل كل شي لازم احكي شوي مع المشايخ ، ياريت الشيخ فلان ... والشيخ فلان ... يتفضلوا لعندي شوي.
    عدد اسماء خمسة مشايخ كانوا في الحقيقة يمثلون الاتجاهات والتحزبات الموجودة في المهجع ، وكنت قد اصبحت أعرفها جيداً من خلال تلصصي الدائم ، كل واحد منهم هو الاكثر علماً واحتراماً في جماعته .
    تكلم ابو حسين مطولاً ، بدأ حديثه بسرد مجموعة من ايات القرآن واحاديث النبي محمد ، ثم وصف الواقع والمخاطر ... أنهى حديثه قائلاً :
    - نعم ... كلنا نعرف أن هذا نعمة من عند الله يجب احترامها ، لكن يجب ان لا ننسى ان الانسان اهم ، الانسان مخلوق على صورة الله ولذلك هو اعلى قيمة من أي شيء آخر على وجه البسيطة ، ولقد كرمنا بني آدم ... ثم الم يعلمنا ديننا ان " الضرورات تبيح المحظورات ؟ " .
    كان منطقه مفحماً ، ان هذا الرجل ثعلب ، ذو شخصية قيادية هائلة ، سكت قليلاً وعاد يتكلم :
    - واخيراً يا أفاضل ... شو بنحسن نساوي ؟... مثل ما بقول المثل: كعكة بخمسة !! هذي النعمة ، اما نطالعها لبرات المهجع ، وهذا مستحيل ، أو بناكلها كلها ، وهذا كمان مستحيل ، أو إنه نصرفها عن طريق المرحاض ، ولا تنسوا إنه المرحاض هو المنفذ الوحيد النا هون على هـ الارض .
    سأله احد المشايخ :
    - ايه طيب ... شو المطلوب منا نحن يا ابو حسين ؟.
    - فتوى... انتو مشايخ هذا المهجع ، هلق تجتمعوا وبطالعوا فتوى ، موبس لهذا المهجع ، فتوى لكل المهاجع .
    وصدرت فتوى بأغلبية اربعة ضد واحد ، عممت الفتوى على السجن بكامله ، نظم مهجعنا طريقة التخلص من الأكل الزائد ، كل يوم عشرون شخصاً دورياً مهمتهم الوحيدة : نقع الخبز ، مرسه ، تصريفه في المرحاض ، هو وكل المواد الأخرى ، الرز والبرغل والبطاطا والبيض .
    حدثت أزمة من نوع أخر ولكنها اخف، أصبح على الشخص أن ينتظر مدة طويلة حتى يأتي دوره في الدخول إلى المرحاض لقضاء الحاجة !.

    29 أيلول
    عاد يوسف " مجنون القائد " لزيارتي ، لقد تحسن وضعي في المهجع قليلاً منذ شهر تقريباً ، خفت ممانعتهم له عن زيارتي .
    استيقظت في الصباح الباكر قبل موعد الاستيقاظ العادي بساعة او ساعتين على أنين رجل يتألم بشدة. انه جاري في الفراش، كان يضع يده على بطنه وهو يتلوى ألماً، يحاول جاهداً أن يكتم أنّات ألمه، نظرت حولي... أنا الوحيد الذي أستيقظ على أنينه ، نظر الي مباشرة ، هي المرة الأولى التي تلتقي فيها أعيننا ، نظرته تحتوي على نداء استغاثة لرجل يتألم بشدة ، رغبتي بمساعدته شديدة ، ولكن كيف ؟!... تلفتُّ حولي حائراً، ورغم انه كان قد ترك مسافة أكثر من خمسة وعشرين سنتمتراً بين فراشي وفراشه إلا انه كان قريباً جداً، هممت أن أسأله عما به وماذا يريد، لكن لم أعرف كيف افعل ذلك !، وبنفس الوقت أشاح بوجهه الي الطرف الأخر ، دقائق كانت طويلة ... استيقظ العديد من السجناء ، اقتربوا منه ، طلب منهم أن يأتوه بطبيب ، حضر أحد الأطباء استفسر منه وسأله وهو يفحصه عما به:
    - مغص ... مغص شديد يادكتور ... مصاريني عم تتقطع، ألم ما بينطاق ... راح موت يا دكتور!!.
    خلال ساعة اجتمع ثلاثة من الاطباء عند ابو حسين رئيس المهجع :
    - التهاب حاد بالزائدة الدودية، لا نعرف الزمن الذي يمكن أن تنفجر فيه، إذا لم يتم إسعافه سريعاً واجراء عملية جراحية لاستئصال الزائدة فهي حتماً ستنفجر وسيموت المريض.
    نظر ابو حسين الى الأطباء، التفت الى المريض ... تساءل وكأنه يحادث نفسه :
    - ايه ... والحل ؟ ... لازم نلاقي حل ... أظن ما في غير حل واحد ... منشان شيل خطيته من رقبتي! ... ندق الباب ونطلب طبيب السجن، هذا كل شيء اقدر اساويه ... بس ياهل ترى رح يردوا علينا ؟... ولك خلينا ندق الباب ويللي بدو يصير يصير !!... هي موتة وحدة !... وأكتر من القرد ما مسخ الله !... شو رأيكم بهالحكي؟.
    - متل ما بدك يا ابو حسين.
    دق ابو حسين الباب، الشرطة والبلديات في الساحة يوزعون طعام الافطار، جاء صوت الرقيب " ابو شحاطة ":
    - مين هـ الكلب يللي عم يدق الباب ؟.
    أخبره أبو حسين برقم المهجع، وان الدكتور سمير يريد طبيب السجن لأمر هام.
    فوجئ الدكتور سمير بذلك لكنه وقف إلى جانب ابو حسين بانتظار طبيب السجن، قال أبو حسين لسمير:
    - والله يا دكتور ... كيف طلع اسمك معي مابعرف !!... يجوز إلهام من الله، وانت صاروا يعرفوك ويجوز يسمعوا منك.
    كان مرض السل في اواخره ولا زال الدكتور سمير يتابع علاج عشرات الحالات التي أسماها مستعصية، ولذلك فهو على احتكاك دائم مع الشرطة.
    استغرق مجئ الطبيب اكثر من ساعة لأن الوقت لازال مبكراً، جاري يعتصر من الألم ويحاول كبح أنّاته، فتح الباب وظهر أمامه الطبيب والمساعد وبعض الشرطة، سأل الطبيب الدكتور سمير عن سبب استدعائه، شرح له سمير الأمر، لكن طبيب السجن لم يتكلم ابداً، أدار ظهره ومشى، المساعد رمق سمير بنظرة طويلة وقال:
    - مشان زائدة دودية عملتوا كل هـ الضجة ؟!... صحيح هـ الكلب معه زائدة بس انت معك ناقصة، وأنا من زمان حاسس إنك ما تنعطى وجه ... طلاع لبره.
    خرج الدكتور سمير الى خارج المهجع ، وخاطب المساعد أبو حسين:
    - مين دق الباب ... ولا خرى؟
    - انا يا سيدي دقيت الباب.
    - طلاع لبره كمان يا كلب ... يا ابن الكلاب.
    خرج ابو حسين ايضاً واغلق الباب، نصف ساعة كنا نسمع صراخهما، ومع مجئ الهليوكوبتر توقف الضرب وادخلوهما المهجع.
    - مشان الله يادكتور لا تواخذني !... انا سببتلك هـ العقوبة، انا يللي ورطتك.
    ضحك الدكتور سمير وهو يحجل في مشيته، ربت على كتف ابو حسين:
    - بسيطة ابو حسين بسيطة ... هنن كم كرباج !... راح سجلن دين عليك واستوفيهن انشاء الله بره ... يعني قدام ام حسين، المهم هلق شو بدنا نساوي بالمريض؟.
    طرح هذا السؤال على مستوى المهجع كله، كثرت الاقتراحات، كثرت التعليقات والتساؤلات:
    - العمى ... بدي افهم !... ليش عالجونا من السل، وما بعالجونا من الزائدة الدودية؟.
    - يا اخي ... لازم نفهمها منيح ... الزائدة شخص واحد، يعني فراطة، اذا مات ما بتفرق معهم، أما السل جماعي ، يعني جملة، اذا ماتوا كل الناس هون هذا مو من مصلحة هـ الحكومة بنت الكلب لانه نحن مثل الرهائن عندها، تضغط على الناس يللي بره بهالرهائن.
    - لم يدم النقاش والحوار اكثر من عشردقائق، تقدم خلالها طبيب كهل اشيب الشعر وسيم القسمات، عيناه صغيرتان براقتان، جلس على فراش ابو حسين، قال:
    - تعرف يا ابو حسين اني طبيب جرّاح، انا بحسن هلق ساوي عملية جراحية للمريض بستأصل الزائدة فيها، لكن يلزمني بعض الاشياء، وكمان لازم المريض يقول قدام الناس كلها إن العملية على مسؤوليته هو.
    دون أن يجيب ابو حسين أمسك يد الطبيب وسحبه إلى عند المريض، انتقلا من يساري الى يميني، جلسا الى جانبه، قال أبو حسين للطبيب:
    - احكي له، شو بدك منه.
    - شوف يا اخي، راح كون صريح معك، انت معك التهاب حاد بالزائدة الدودية، وخلال فترة بسيطة اذا ما ساوينا عملية جراحية راح تنفجر وتموت، في عندنا فرصة نساويلك عملية جراحية، لكن بهذي الظروف خلينا نقول إنه نسبة النجاح أقل من خمسين بالمية، وهلق انت بدك تختار قدام الناس كلها بين الموت المؤكد، وبين الموت المحتمل.
    واختار المريض الموت المحتمل، نفى امام الناس كل مسؤولية عن الطبيب.
    ابلغ الطبيب ابو حسين بمستلزمات العملية:
    - يوجد قماش نظيف، يوجد كحول، يوجد ملح، يوجد بعض حبوب المضاد الحيوي التي استطاع الدكتور سمير أن يغافل الشرطة عنها، يوجد ابر خياطة، يوجد خيطان، يوجد نار، لكن ما نحتاجه هو بعض الاشياء المعدنية لنحولها الى مشارط !!.
    مع ظهور كل هذه الاشياء تبين أنني كنت غافلاً وأن تلصصي لم ير إلا ما يظهر على السطح.
    التلييس الداخلي للمهجع كان ذا اسمنت خشن والجميع يدرمون اظافرهم بهذا الاسمنت – لا مقصات أظافر في السجن – الاسمنت يستخدم كمبرد، وعلى هذا الاسمنت تم صنع وابتكار العديد من الأشياء، فمن قطع عظم صغيرة تم صنع إبر الخياطة، يمسك احدهم العظم ويبدأ بحكه على الجدار ... يوم ... يومين.. ايام، إلى أن يأخذ شكل الابرة، وبواسطة مسمار يكون قد تم برده ايضاً على الحائط، يقوم الشخص وبصبر عجائبي بفتح ثقب الابرة ، " المسمار هنا يعتبر ثروة ، وتبين ان هناك عشرات المسامير في المهجع " ، الخيطان امرها سهل ، ينسلون قطعة قماش ، بصبر وهدوء يغزلون الخيطان الرفيعة من جديد وحسب الطلب .
    وقتها انتبهت إلى ان معظم الثياب التي يلبسونها قد اهترأت ، " كيف لم يخطر على بالي أن اتساءل عن الوسيلة التي يرقعون بها ثيابهم ؟!" ، علماً أن بنطالي كان قد اهترأ عند الركبتين والورك وأضحى بأمس الحاجة الى ترقيع .
    الكحول : بعض الاطباء – او بالاتفاق بينهم جميعاً – قاموا بتخمير المربى في بعض المرطبانات البلاستكية " كيف حصلوا عليها ؟؟!" وتحول السائل الى كحول ، قد تكون نسبته قليلة لكنه كحول .
    عمم ابو حسين الامر على المهجع :
    - كل من لديه قطعة معدنية مهما كان نوعها او شكلها ليأت بها .
    وظهرت المعادن ، مسامير ، قطعة نقدية من فئة الليرة عليها صورة رئيس الدولة ، اربع علب سردين فارغة ! اسلاك معدنية، خاتم ذهبي " خاتم زواج " .
    مددت يدي الى جيب سترتي الداخلي ، تحسست الساعة ، أمسكت بها، يجب ان اعطيها لهم ... ولكن لمن؟... هل سيقبلونها ؟ ... أم انهم سيقذفون بها على وجهي باعتبارها نجسة من شخص نجس ؟ ! ساعتي مفيدة جداً لهذا الامر ، فـ " الكستك " المعدني مؤلف من قطع معدنية رقيقة يسهل تحويلها الى أدوات حادة ، وكذلك غطاؤها الخلفي ، وحتى زجاجها اذا لزم الامر، وطال ترددي دقائق طويلة ، عدة اشخاص كانوا قد انتشروا وبيد كل منهم قطعة معدنية ما يبردها حسب توجيهات الطبيب ، تم فرش بطانية امام المغاسل حيث لا يستطيع الحارس على السطح ان يرى شيئاً ، واستلقى المريض وهو يتأوه على هذه البطانية ، الطبيب الجراح يتناقش مع مجموعة من الاطباء وسط المهجع .
    حزمت امري ، سأغافلهم واضع الساعة في مكان يستطيعون فيه ان يجدوها بسهولة ، ولكن الن يسألوا عن صاحب هذه الساعة ؟ ، هل أستطيع أن اجيبهم بأنها لي ؟ ... لا أعتقد .
    لو ان يوسف " مجنون القائد " يزورني في هذه اللحظة لأعطيتها له .
    ليكن ما يكون ، وقفت ومشيت باتجاه الطبيب الجراح ، دون اية كلمة مددت يدي بالساعة اليه .
    بوغت الجميع ، سكتوا ، نظر الجراح في عيني مباشرة ، عيناه عسليتان دافئتان دهشتان قليلاً ، وببطء مد يده وتناول الساعة مني ، قال :
    - شكراً .
    ثم التفت الى الاطباء وهو يقلب الساعة ، قال :
    - هلق صار فينا نبدأ ، هـ الساعة راح تساعدنا كثير .
    عدت الى مكاني وجلست، قليلٌ من النشوة، قليلٌ من الرضى ، استرجع وقع كلمة " شكراً " بعد كل هذه السنوات " احدهم " يشكرني ، يخاطبني مباشرة وهو ينظر في عيني مباشرة ، لا يشيح بنظره قرفاً واشمئزازاً وحقداً .
    وزع الطبيب قطع الساعة و " الكستك " على بعض السجناء الذين انهمكوا في عملية البرد والشحذ ، فجأة قرقع المفتاح في الباب ، أذيعت اسماء تسعة اشخاص من مهجعنا ، ثلاثة اعدام وستة محاكمة ، توقفت التحضيرات لإجراء العملية اكثر من ساعة ، توضأ خلالها المحكمون بالاعدام ، صلوا ، ودعوا الناس ، خلعوا الثياب الجيدة وارتدوا ثياباً بالية ، فتح الباب ... خرجوا .
    - اللهم احسن ختامنا ، عليهم رحمة الله ، خلونا نتابع الشغل يا شباب لأنه المريض ما عاد ممكن يتحمل اكثر من هيك .
    توجه الطبيب الجراح بهذه الكلمات الى بعض الاطباء والى الشباب الذين كانوا يقومون بالاستعدادات ، انتهى تجهيز المشارط ، توجه الطبيب ومعه بعض الشباب الى حيث يستلقي المريض متألماً امام المغاسل .
    تملكني الفضول ، اريد ان ارى اجراء العملية الجراحية ، وقلت ان من حقي ان ارى ، تمشيت متمهلاً الى الداخل ، دخلت الى المرحاض ، حوالي عشرة اشخاص منهمكون بالتحضير ، خرجت من المرحاض وانزويت جانباً ، لم ينتبه إليّ احد ، اخذت أراقب .
    كيس بلاستيكي مملوء بالدهن ، يبدو أنهم كانوا يجمعون الدهن المتجمد على سطح الطعام ، ينقونه من الشوائب ويضعونه في الكيس ، ملأوا احدى علب السردين بالدهن وغرزوا فيه قطعة قماش بعد ان فتلوها جيداً ، اخرج احدهم علبة كبريت واشعل الفتيل ، " من اين الكبريت ؟!" ، اشتعلت النار مدخنة ، وضعوا فوق النار علبة سردين اخرى مملوءة بالماء وبه " المشارط " ، كانوا ينفخون على الدخان المتصاعد من الدهن ويحاولون توزيعه قدر الامكان كي لا يصعد الى السطح ويشمه الحارس ، بعد قليل غلت المياه فتعقمت ادوات الجراحة .
    في هذه الاثناء كان الطبيب قد غسل بطن المريض بالماء والصابون ، ثم احضر ملحاً رطباً فرك به نفس المكان ، غسل يديه جيداً واصر على اراتداء الكمامة قبل اجراء العملية ، تغيرت نبرة صوته وبدأ باصدار الاوامر :
    - ما في عنا مخدر ... لذلك بدك تتحمل الالم ولا تتحرك ابداً .
    - تعالوا انتو الاربعة ، امسكوه بقوة ، كل واحد من طرف .
    اخرج الطبيب المشارط من علبة السردين وبدأ بتجريبها واحداً بعد الاخر ، اختار المشرط المصنوع من غطاء ساعتي ، جربه على اظفر ابهامه ، قال :
    - يالله يا اخي ، توكلنا على الله ، يا شباب ثبتوه منيح ولا تخلوه يتحرك ابداً .
    وضع المشرط على بطن المريض " بسم الله الرحمن الرحيم "، وحز جرحاً بطول عشرة سنتيمترات تقريباً.
    - آخ يا امي .
    صاح المريض ولكنه لم يتحرك .
    انتهت العملية ، كان الطبيب يعمل بسرعة فائقة ، وبعد خياطة الجرح مسحه ونظفه ، فتح عدة حبات من المضاد الحيوي وافرغ المسحوق فوق الجرح ، ثم قطعة قماش نظيفة وربطه جيداً .
    - انشاء الله معافى يا اخي ، يا شباب احملوه على فرشته .
    عدت الى فراشي فوجدت بنطال بيجاما وقطعتي قماش فوقهما ابرة عظمية وخيطان ، امسكت بهذه الاشياء نظرت حولي ولكن لم يكن هناك احد يلحظني ، من وضع هذه الاغراض ؟ البنطال عرفته كان لاحد الذين أعدموا اليوم ، لكن من وضعه على فراشي ؟ .
    بعد قليل أدركت الامر ، لقد اعطوني هذه الاشياء ، هل هي مكافأة ؟ هل يعني هذا انني لم اعد جاسوساً كافراً ؟! التفت الى ابو حسين ، رفعت الاشياء بيدي أمام وجهه وقبل ان أنطق بحرف قال بحدة شعرت انها مفتعلة :
    - الك ... هدول الك ... ماداموا على فرشتك يعني الك .
    من يومها احسست ان وضعي قد تحسن قليلاً ، رقعت بنطالي من الخلف ومن الأمام ، أصبحت البس بنطال البيجاما عندما اغسل بنطالي ، اصبح يوسف "مجنون القائد" يزورني مجدداً دون ممانعات .
    الآن وبعد مرور شهر على اجراء العملية فان الرجل تعافى وأصبح يمشي بشكل طبيعي .
    " لكنه سيعدم بعد حوالي السنة شنقاً ".

    1 كانون الثاني
    البارحة كان عيد رأس السنة ، اغلب الناس خارج هذا المكان يحتفلون بهذه المناسبة حتى الصباح ، أما هنا فأعتقد أني الوحيد الذي يعني له هذا اليوم شيئاً. منذ بداية المساء نام الجميع ، البرد جارح ، لبست بنطال البيجاما وفوقه بنطالي والسترة ، تغطيت بالبطانيات لكن لا جدوى ، قداماي مثلجتان ، انفي ... اذني ... لففت نفسي جيداً وغطيت رأسي، هذا البرد الصحراوي اللعين ... برد كنصل الشفرة .
    حاولت الهرب منه الى أحلامي ، رتبت سهرة لرأس سنة ما ، تعبت قليلاً في اختيار المكان والأشخاص ، انا نجم السهرة بلا منازع ، المائدة مليئة بالأطعمة والأشربة ، الموسيقا ، الرقص ... جو المرح والنكات، الثلج يتساقط في الخارج، أقف خلف زجاج النافذة، أرقب اشجار الصنوبروقد تكللت باللون الأبيض، الدفء داخل المنزل يحيطني ... أحس بالترف، وبنفس الوقت بالتعب، سريروثير و أغطية ناعمة الملمس !!.
    مستحيل ... غير ممكن في ظل هذا البرد ان تحلم بالدفء!. أزحت الغطاء قليلاً، حككت يدي ببعضهما، نفخت عليهما، فركت قدمي بقوة علّ الدماء تسري فيهما ! .
    عند منتصف الليل سمعت اصواتاً في الساحة أمام مهجعنا ، تغطيت بالبطانية ونظرت من الثقب ، الساحة مضاءة كالعادة ، كل ساحات واسطح ومهاجع وسور السجن تبقى مضاءة ليلاً نهاراً ، هناك في الساحة جمهرة كبيرة من الشرطة يصدرون ضجة كبيرة ، ضحك .. صياح .. شتائم .. امعنت النظر جيداً ، المساعد في وسط الساحة تحيط به مجموعة من الرقباء .
    احسست بحركة داخل المهجع ، نظرت من تحت البطانية كان الجميع قد استيقظ ، البعض يبسمل ويحوقل ، البعض يردد عبارات مثل : يالطيف .. ياستار .. اللهم مرر هذه الليلة على خير !!.
    عدت للنظر الى الساحة، كان المساعد وشلته قد اقتربوا قليلاً من مهجعنا الذي يعتبر من أكبر المهاجع في هذه الساحة ، طلب من الشرطة فتح الباب وإخراج السجناء الى الساحة. وخرجنا .
    خرجنا حفاة عراة ، حتى السروال الداخلي أمرونا ان نخلعه ، صفونا أرتالاً وأمروا أن يبتعد الواحد عن الاخر خطوتين .. وأن لا نستغل عرينا لنلوط بعضنا !.
    " وردت رسالة قبل بضعة ايام عن طريق المورس من الساحة الثانية تقول إن الرقيب ( يا منيك ) قد اجبر سجيناً ان يلوط أخاه !!".
    [ لماذا تركز الشرطة على هذه المسألة كثيراً ؟!] .
    الشرطة والرقباء والمساعد جميعاً يرتدون المعاطف العسكرية وقد لفوا رؤوسهم باللفحات الصوفية ، المساعد يتمشى جيئةً وذهاباً أمام الصف ، الشرطة يضبطون الاصطفاف : وقف باستعداد ولا ... نزل راسك ..
    الريح شمالية خفيفة ولكنها قارسة ، اعتقد ان درجة الحرارة تحت الصفر ببضع درجات .
    بللونا بالمياه من الرأس وحتى اخمص القدمين ، امرونا الا نتحرك ، عناصر الشرطة يمشون حولنا وخلال صفوفنا وبايدهم الكرابيج والعصي .
    بدأ المساعد خطبة طويلة ، وقفته والكثير من عباراته وجمله وحركاته هي تقليد وتكرار لحركات واقوال مدير السجن ، ثلاثة ارباع الخطبة شتائم مقذعة ، وقد بدأها بتحميل السجناء مسؤولية بقائه بالسجن بينما العالم كله يحتفل ، ولولا اننا موجودون هنا حالياً لكان هو ايضاً يحتفل ، الضباط ذهبوا ليحتفلوا وتركوا كل المسؤولية على عاتقه. " رجل ذو اهمية تاريخية !" .
    انهى خطبته وغادر الساحة وقد شد صدره الى الخلف ، دون أن يعطي اية تعليمات بشأننا .
    صوت اصطكاك الاسنان مسموع بشكل واضح الجميع يرتجف برداً ، انا بالكاد أتماسك لأبقى واقفاً .
    أظن أن هناك سؤالاً طاف بأذهان الجميع .
    - ما نهاية كل هذا ؟... ماذا سيفعلون بنا ؟... هل هي مقدمة لمجزرة جديدة ؟... هل سنعود ثانية الى مهجعـ"نا" ؟!.
    لا كلمة ، لا صراخ ، لا شتيمة ، صمت مطبق لا يخدشه الا صوت خطوات الشرطة وهي تتمشى حولنا ، حتى ايديهم التي يحملون بها الكرابيج والعصي دسوها في جيوبهم وبرزت العصي وتدلت الكرابيج من هذه الجيوب .
    الجسد ... الخدر يزداد وينتشر ، الالم يتعمم ويتعمق ، الاسنان تصطك ، من اللسان وحتى المستقيم ارتجاف واحد ، الانف ، الاذنان ، الكفان ، القدمان ، كل هذا ليس من الجسد. تتساقط الدموع برداً وبكاءً فتتجمد على الخدين وزوايا الفم المرتجف ، والسؤال : متى سأسقط ارضاً ؟.
    يسقط أحدهم قبلي ، يوقف جميع عناصر الشرطة عن الحركة لدى سقوطه ، تخرج الايدي من الجيوب ، وينطلق بضعة عناصر ، يجرون السجين الذي سقط الى امام الصف حيث يتجمع الرقباء ، يقول احد الرقباء:
    - يالله ... دفّوه .
    تنهال الكرابيج على جميع أنحاء جسده المتخشب ، يحاول الوقوف ولكن وقع الكرابيج يمنعه ، يسقط آخر ... يجر الى حيث التدفئة ، وآخر ... وآخر.
    أجالد نفسي خوفاً من السقوط ، يحدث انفصال تام بين العقل والجسد ، عقلي صافٍ تماماً وواعٍ كل ما يجري حولي ، أما جسدي فينفصل عني شيئاً فشيئاً خدراً وتجمداً ، تختلط الدموع مع المخاط السائل من الأنف واجد صعوبة بالتنفس ، لا أجرؤ على رفع يدي إلى أنفي ... حتى لو استجابت يدي !.
    وسقطت ... سقطت دون ان افقد الوعي وجروني الى امام الصف .
    لقد جربت وعاينت الكثير من صنوف الالم الجسدي ... لكن أن تساط في البرد وأنت مبلل ... أمر لا يمكن وصفه .
    مع بزوغ ضوء الفجر وسقوط آخر شخص وتدفئته من قبل الشرطة انتهت الحفلة. دخلنا المهجع ركضاً على ايقاع الكرابيج ، ركضنا بخفة ورشاقة وكنت أظن أنني لن استطيع النهوض عن الارض ، لكن ما أن سمعت الأمر بالدخول ورأيت الكرابيج تهوي حتى قفزت ، " لطالما تساءلت بيني وبين نفسي عن منبع هذه القوة !... المقاومة ؟".
    هذه المرة رأيت فرحاً حقيقياً على وجوه الناس بخلاصهم من مجهول كانوا يخشون وقوعه في دواخلهم كثيراً ، وخلف هذا الفرح تراكمت طبقة جديدة من حقد اسود تزداد سماكتها بازدياد الالم والذل .

    تعليق


    • #3
      رد: مصطفى خليفة - القــوقعـة - يوميات متلصص


      5 حزيران
      قيل قديماً إن الله خلق للانسان فماًً واحداً وأذنين اثنين حتى يسمع أكثر مما يتكلم ، أما أنا فقد كنت طوال هذه السنوات بلا فم وبعشرات الآذان .
      كلام ... كلام ... كلام ... بيادر وأهرامات مكدسة من الكلام ، انقل إذناً الى زاوية المهجع البعيدة لأسمع بم يتحدثون ، الاذن الاخرى انقلها الى حائط المورس ، ماذا يرد رسائل من المهاجع ، لا أحرك عيني ، فقط اذني ، الأذن الثالثة تنتقل الى حيث حلقة حفظ القرآن ، " لقد حفظت الكثير جداً من القرآن !"، والأذن الرابعة ... الخامسة .
      فمي مقفل ، أحن الى الكلام ، أشتاق الى ان أسمع صوتي أنا ، حتى عندما يجلس يوسف عندي لا أتكلم ، لأنه ببساطة لا يتيح لي المجال حتى اسأله شيئاً ، ما ان يجلس حتى يبدأ الكلام ، احياناً تكون الجمل مترابطة ، احياناً مجرد تخاريف ، لكن لا فواصل ولا توقفات ، وعلى الاغلب ينهض مغادراً وهو يتابع الحديث .
      كلام ... كلام ... كلام ... الجميع يتكلم والجميع يسمع ، ولأن الكلام دائماً يكون همساً اأو بصوت خافت فإن مجموع هذه الهمسات يتحول الى شيئٍ لا هو بالأزيز ولا هو بالطنين ، لا بالفحيح ولا بالهسيس ... هو شيء من كل هذا ، يدخل الاذنين ومنه الى الرأس الذي يتحول آخر اليوم الى ما يشبه الطاسة الفارغة ، شيء ما كالطبل ، أنقر على رأسي بأصابعي فأسمع الرنين ، حتى بعد ان ينام الجميع وتسكت الاصوات كلها تبقى هذه الضجة المكتومة تحوم داخل الاذن وتقرع جدران الرأس.
      احلم احد احلامي الصغيرة ، وقد صغرت كل احلامي :
      - أحلم ... أن اعيش ولو ليوم واحد فقط في زنزانة انفرادية ، في صمت مطبق ، لا ضجيج ، لا نظرات عداء ، لا نظرات احتقار ، وأنام خلاله نوماً عميقاً .
      - احلم ... أن أستحم ولو لمرة واحدة فقط في حمام السوق ، محاطاً بالبخار والمياه الساخنة المتدفقة ، والمكيس والمدلك .
      - أحلم ... أن اقف على الرصيف امام محل للفلافل ، آكل سندويشة واشرب العيران .
      - احلم ... أن اسير في شارع هادىء ظليل ، سيرَ شخصٍ عاطل متبطلٍ ، لا يقصد مكاناً محدداً ، وغير محدد بزمن معين
      - احلم ... بأمي وهي توقظني صباحاً ، وأنا ارفض دلالاً أن استيقظ مغطياً رأسي باللحاف .
      - احلم ... بشخص ... أي شخص ، يقول لي صباح الخير .
      كلام ... كلام... كلام... ، منذ عشرة ايام كل الكلام يدور حول موضوع واحد هو الزيارة !.
      منذ عشرة ايام قرب اثنان من السجناء في المهجع رأسيهما من الجدارالذي ترد منه الرسائل عادة ، يسمعان النقرات ويبلغانها لأربعة اشخاص خلفهما :
      - فاء – ياء " في " ، ا- ل – م – ه – ج – ع " المهجع " ، وهكذا الى ان اكتملت الرسالة – البرقية - :
      " في المهجع الواحد والعشرين أحد الاخوة أتته زيارة ، وقد حضر كل اهله !" .
      في البداية كان الذهول سيد الموقف ، بعد ان أذيعت الرسالة على الجميع ساد الصمت ، البعض ينظر الى البعض ، اعقبتها نظرات ساهمة ، تذكر الجميع ماكانوا قد نسوه لمعظم الوقت ، او أُجبروا على نسيانه ، قاموس حياتهم اصبح يحتوي على عشرات المفردات فقط ، تبدأ بالمرحاض والحنفية والطهارة والنجاسة ، وتنتهي عند الكرباج والاسماء المحلية للشرطة ، اما الصلاة والقرآن، على ما فيهما من غنىً لغوي ، فيصبح تردادهما آلياً لا يستدعي اشغال الفكر .
      تذكر الجميع أن هناك حياةً اخرى خارج هذا المكان ، وخارج هذا القاموس اللغوي الضئيل ، وانها هي الاصل ، وما هم فيه طارىء عابر .
      يذهب الخيال الى حيث الأهل والاحبة ، تحضر المرأة بقوة مهيمنة ، المرأة الزوجة ، المرأة الام ... الاخت ... الابنة ، ويسود وجوم رمادي حامض ، تثور التساؤلات الممضة والحارقة عن المصائر ؟!.
      الزمن في السجن زمنان ، يستتبعهما احساسان متناقضان ، الزمن الراهن ... ثقيل بطيء ، والزمن الماضي ، ما مضى من ايام وشهور وسنين السجن ... زمن خفيف سريع ، تنتبه فجأة وتسأل نفسك :
      - ماذا ؟ ! ... اصبح لي في السجن خمس سنوات ، سبع ، عشر ؟! الحقيقة لم اشعر بهذا الزمن ، ياالهي كيف مضت هذه السنون بسرعة البرق !!.
      تفكر ، وتعرف ان هذا الاحساس ناتج عن انه في زحمة التفاصيل اليومية قلما يتاح لك الوقت لتعد الايام والسنوات ، وهذا كالجلد بالكرباج ، اذا بدأت عد الضربات حتماً سوف تضعف ، وكذلك اذا بدأت عد الايام وتسجيلها خطاً وراء خط على الحائط ، حتماً سوف تضعف ، او ... تجن !.
      كسر ابو حسين الصمت بعد دقائق قليلة ، نادى احد جماعة المورس وطلب منه الاتصال مع المهجع الواحد والعشرين والاستفسار عن الزيارة ، كيف اتت ، هل فتحت الزيارات للجميع ، ام هي بالواسطة ، ام الرشوة ... كيف تعامل الشرطة مع الامر ، هل احضر الاهل اغراضاً ... الخ؟ .
      وجاء الجواب ، لا يعرفون شيئاً عن آلية الزيارة ، هناك الكثير من الاغراض ، البسة واطعمة ونقود ، السجين ذهب الى الزيارة وعاد دون ان يضربه احد .
      بعد ثلاثة ايام ألقى مدير السجن خطاباً ، تحدث فيه عن انسانيته ورحمته وان قلبه ينفطر ألماً عندما يرى ابناء وطنه في هذه الحالة !! وقال :
      - كل من تأتيه زيارة منكم عليه ان يطلب من أهله إخبار كل من يعرفون من اهالي السجناء الاخرين لكي يسعوا الى زيارته وبنفس الطريقة .
      لكن ماهي الطريقة ؟... لم يعرف احد ، ولم يجرؤ على السؤال احد ، وكانت المرة الاولى التي يخاطبنا فيها وعيوننا مفتوحة ورؤوسنا ليست منكسة الى الاسفل .
      اليوم اتت زيارة لشخص من مهجعنا ، ابو عبدالله ، نادوه باسمه الثلاثي ، وهنا قلما يعرف الاسم الثلاثي لشخص ما ، فالكل ينادون بعضهم بـ " ابو " ، ابو حسين ، ابو عبدالله ، ابو علي ، ابو احمد ...
      طلب الشرطة من ابو عبدالله ان يلبس ثياباً جيدة ، وتبارى الجميع لإلباس ابو عبدالله افضل ثياب في المهجع ، ذهب ابو عبدالله وعاد بعد اكثر من نصف ساعة ، عاد لاهثاً مخضوضاً يتصبب عرقاً ، وقف بمنتصف المهجع يتلفت وينظر الى الجميع ، ولكن يبدو كمن لا يرى احداً ، باب المهجع لايزال مفتوحاً والبلديات يدخلون الاغراض بجاطات بلاستيك ، بعد ان اغلق الشرطة الباب قال شخص لاخر :
      - ماشاء الله ... ما شاء الله ، خمسة وثمانون جاطاً !!.
      ابو عبدالله يتلقى التهاني من الجميع وهو لازال واقفاً كالمأخوذ :
      - مبروك ابو عبدالله ... مبروك الزيارة .
      - الله يبارك فيكم ... عقبال عندكم .
      - مبروك ابو عبدالله ... كيف الاهل ؟.
      - الحمدلله بخير ... يسلمون على الجميع .
      قطع ابو عبدالله سلسلة " المبروك " والتفت فجأة الى ابو حسين ، قال :
      - كيلو ذهب ... كيلو ذهب ياابو حسين !! ... الله وكيلك كيلو ذهب .
      فوجئ ابو حسين ، نظر الى ابو عبدالله بتمعن ، وزن الامور قليلاً ، ثم سأل :
      - خير ابو عبدالله ... خير ، شو قصة هـ الكيلو ذهب ؟.
      - الزيارة يا ابو حسين الزيارة ... كل زيارة بكيلو ذهب .
      فارتفعت عدة اصوات متسائلة الى جانب صوت ابو حسين :
      - شو !!... كيلو ذهب كل زيارة ؟
      - نعم كيلو ذهب ، سألت اهلي قالوا لي ، لازم امك تروح لعند ام مدير السجن تأخذ معها كيلو ذهب ، وام مدير السجن تعطي ورقة زيارة !!.
      اراد ابو حسين ان يهون على ابو عبدالله :
      - ولو ابو عبدالله ... كيلو ذهب فداك ... المهم انو شفت اهلك وشافوك وتطمنوا عليك ، ايه هـ الشغلة بتساوي اموال الدنيا كلها ، الله يلعن الذهب وابو الذهب... المال وسخ ايدين بروح وبيجي ، المهم انت وصحتك واهلك ، الذهب مو مهم المهم البني ادم اللي بجيب الذهب .
      - ايه والله صحيح ... ايه والله صحيح ياابو حسين !.
      يومها انا دخت ... سكرت ... حتى ان عيني قد غامتا ... تشوشتا ...!.
      البلديات كانوا ينقلون الجاطات حتى باب المهجع ، يخرج الفدائيون ويأخذون الجاطات منهم ... دون أي ضرب !... يفرغونها داخل المهجع ويسلمونها للبلديات ... الكثير من الالبسة ، خاصة الملابس الداخلية الصيفية والشتوية ، كأن هناك من أسرّ بأذان الاهل عن حاجاتنا ، والكثير ... الكثير من الخضار والفواكه التي يمكن ان تؤكل نيئة .
      ما اسكرني ... كان الخيار ... الخيار بلونه الاخضر ، انسابت روائحه وعطوره الى انفي ، ثلاثة جاطات من الخيار أفرغوها وسط المهجع غير بعيد عني مشكلة تلاً صغيراً اخضرَ ، الى جانبه تل صغير احمر من البندورة ، رائحة الخيار ملأت المهجع ، الجميع كان فرحاً ، ابو عبدالله كان مذهولاً من اثر الزيارة ، ودون ان افكر او اعي بما اقوم به مشيت وجلست الى جانب تل الخيار الاخضر ، انحنيت وشممت بعمق ، انها رائحة الطبيعة ... انها رائحة الحياة ، اخضراره هو اخضرار الحياة ذاتها ، امسكت واحدة وادنيتها من انفي وتنشقتها بعمق ، اغمضت عيوني واعتقد ان ملامحي كلها كانت تبتسم .
      كان كل هذا اشبه بزلزال ، ارتج كيانه كله ، فتحت عيني واذ بغابة من العيون تحدق بي ... لم اعبأ ، القيت الخيارة على كومة الخيار ، مشيت الى فراشي ، تمددت ، غطيت رأسي ... وبكيت بصمت .
      بقيت عدة ساعات تحت البطانية ، لا اريد ان ارى احداً ، لا اريد ان ارى شيئاً ، البكاء اراحني قليلاً ... ولم البث طويلاً حتى نمت ، استيقظت عصراً رفعت البطانية وجلست ، كان امام فراشي مجموعة متنوعة من الاغراض ... " نصف خيارة ، نصف حبة بندورة ، رغيف خبز مدني ، قطعة بقلاوة فاخرة ، بعض انصاف حبات الفاكهة ، ولكن الاهم كان الالبسة ... بيجاما رياضية ، غيار داخلي شتوي من الصوف ، غيار داخلي صيفي ، جوارب صوفية ... ثم شحاطة !".
      طوال كل هذه السنوات ومنذ ان اخذوا حذائي بمركز المخابرات لم انتعل بقدمي شيئاً ، وقد تشكلت على كلمل قدمي من الاسفل طبقة سميكة من اللحم الميت المتقرن المتشقق ... والان ها هي شحاطة !.
      نظرت حولي ، واضح ان حصتي مساوية لحصة أي سجين اخر منهم ، لااكثر ولا اقل .
      ( هم جميعاً يكرهونني ، هم جميعاً يحتقرونني ، بعضهم يريد قتلي ... كل هذا صحيح ، ولكن في الامور الحياتية ... كانوا عادلين معي ) .
      اخذت الاغراض ، رتبتها كوسادة ... اكلت ، ولكن لم اشأ ان اكل نصف الخيارة .







      6 حزيران
      البارحة كان يوماً حافلاً ، لم استطع النوم الا في ساعة متأخرة واستيقظت كالعادة صباحاً ، فاجأني وجود قطعتين من الخيار " نصفين " الى جانب النصف الخاص بي ، ثلاثة انصاف ... واستنجت ان هناك شخصين قد تنازلا عن حصتهما من الخيار لي !!... ظنا انني احب الخيار !... لم يعرفا ان الخيار برائحته ... لونه ... قد استحضر الحياة بكل ثقلها الى نفس كانت قد نسيت الحياة !.
      اثنان منـ "هم" يتعاطفان معي ! ... ولكن لا يجرؤان على اظهار هذا التعاطف !.
      داخلي قليل من الراحة والاطمئنان ، نظرت حولي ، هل أستطيع تمييزهما ؟ .
      كل الوجوه مغلقة ، كل العيون كابية .

      8 اذار
      كالعادة أخرجونا اليوم الى الساحة ، أوقفونا أمام مهجعنا ، وهكذا بقية المهاجع ، إذاعة السجن تصدح منذ الصباح بالأغاني التي تمجد رئيس الدولة وتتغنى بحكمته وشجاعته وبطولاته ، اعطوا ورقة مكتوبة الى احد السجناء بها بعض الشعارات والهتافات يصرخ بها ونردد نحن وراءه : سنفدي الرئيس بالروح والدم ، يسقط الاخوان المسلمون عملاء الامبريالية ...
      لم يكن السجناء يرون أي غضاضة بالهتاف ضد انفسهم ، او على الاقل لم تبدر منهم اية اشارة او ممانعة تدل على ذلك ، كانوا يهتفون باصوات عالية جداً لا يستشف منها أي شيء من هذا .
      هذه الاحتفالات تجري كل عام مرتين او ثلاث مرات ، واحتفالات هذا العام تختلف عن غيرها في ان السجناء اليوم كانوا لا ينفكون يحكون ويهرشون اجسادهم : انه الجرب. بين تصفيق وتصفيق ، بين هتاف واخر ، يمد السجين يده ليحك جسده .
      بدأ الجرب منذ خمسة اشهر تقريباً ، وكنت قد نجوت من التهاب السحايا ومن السل الا انني كنت من اوائل المصابين بالجرب ، الذي سرعان ما عم وانتشر ليشمل السجن كله ، والغريب في الامر ان الاختلاط بين المهاجع ممنوع منعاً باتاً ، فكيف يمكن ان ينتشر وباءٌ ما يبدأ في احد المهاجع ليعم السجن كله !!.
      والاغرب من هذا ان مستوى النظافة هنا يعتبر جيداً ، فالمساجين عموماً يهتمون بالنظافة كثيراً ، خاصة نظافة الجسد والثياب لانها شرط ديني للطهارة والصلاة ، فكيف يمكن لاشياء مثل القمل والجرب ان تنتشر بهذه الكثافة ؟!.
      بدأالجرب فجأة عند بضعة اشخاص وانا منهم ، ظهر اول ما ظهر بين الاصابع ثم امتد الى ثنيات الجسم الاخرى ، كان عذاباً مضنياً كالنار عندما تسري في الجسد ، كل يوم يمر يزداد عدد المصابين ، وواضح منذ البداية ان اية عملية وقاية لا جدوى منها ، مهما كانت الاحتياطات المتخذة من قبل الشخص السليم فهي عبث لا طائل تحته .
      منذ اليوم الاول حدد الدكتور غسان الامر ، هذا الدكتور وهو زميل البورد الامريكي للامراض الجلدية ، له مؤلفات كثيرة ويعتبر عالماً في اخصاصه على المستوى العالمي ، شخص محترم هنا كثيراً ، لا يتدخل في أي مسألة لا تعنيه ، يترفع كثيراً عن الصغائر، وهو المرجع الاخير في الطب لكل الاطباء الذين في المهجع .
      فحص الحالات الاولى للمرض ، قام بهدوء من مكانه واتجه لعند ابو حسين ، وقف بين فراشي وفراش ابو حسين ، القى التحية :
      - السلام عليكم يا ابو حسين .
      قفز ابو حسين احتراماً وهو يرد التحية :
      - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، اهلاً وسهلاً ... اهلين دكتور ... تفضل ... تفضل ... استريح .
      جلس الدكتور غسان ، وبمنتهى الهدوء بلغ الامر لابو حسين ، ختم حديثه قائلاً :
      - هذا الجرب سريع العدوى ، خلال ايام راح نكون كلنا جربانين اذا ما عالجناه ، والعلاج بسيط ، اخي ابو حسين ... خذ اجراءاتك ... بس انا خليني بعيد عن هـ الساقط طبيب السجن !، ماني طايق احكي معه ولا كلمة ... مفهوم ؟.
      اومأ ابو حسين برأسه موافقاً ، عندها قام الدكتور فوراً الى فراشه الذي لا يغادره ابداً ، فهو لم يشاهد جالساً عند احد ، وهذه هي المرة الاولى التي يقوم فيها بالجلوس على فراش سجين اخر وكان ذلك للضرورة .
      فيما هو يغادرالتفت نحوي ، سار خطوتين ثم توقف ، اتجه نحوي ، جلس على فراشي وهو يقول :
      - السلام عليكم ... يا اخي .
      لا ادري كيف اجبته مبهوتاً وبصوت انا نفسي لم اسمعه :
      - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
      - ممكن ... يا اخي من بعد فضلك... تمد ايديك حتى افحصهم .
      بحركة الية مددت كفيّ الى الامام ، امسك بهما، باعد بين الاصابع ثم التفت الى ابو حسين وقال كانه يتابع حديثاً انقطع :
      - شايف ابو حسين.. وهاي الاخ جارك كمان مصاب !، وانا ماشي شفته عم يحك وعرفت انه مصاب .
      - لا حول ولا قوة الا بالله ... اللهم اعنّا على تحمل كل هذه المحن ، اللهم لا تعطنا حملاً خفيفاً ولكن اعطنا ظهراً قوياً ، يارب انت السميع المجيب .
      بعد ان انهى ابو حسين الدعاء قال الدكتور : آمين ، ثم التفت اليّ :
      - يا اخي حاول الا تحك ... مهما حكك جسمك حاول لا تحك ، وحتى يفرجها الله ويتأمن الدواء حاول انك تغسل ايديك دائماً بالماء والصابون ، وارجو لك من الله الشفاء ، ولا تخاف هذا المرض مزعج بس مانو خطير .
      وذهب .
      ( ياالله ... ما هذه العذوبة ؟... ما هذه الرقة ؟... ما هذه الانسانية ؟... هل هو لا يعرف من انا ؟... اذا كان كذلك ، فهذا يثبت انه انسان كبير !... اما اذا كان يعرف من انا ... فهذا يثبت انه انسان كبير ... كبير ... ولايخشى احداً ) .
      مرت الايام ، ثم الاسابيع ، وابو حسين يحاول مع ادارة السجن وطبيب السجن ان يؤمنوا لنا العلاج ولكن دون جدوى ، وآخر مرة قدم فيها الطبيب قام بزجر ابو حسين وتهديده :
      - العمى بعيونك ... صرعتنا ، ايه هو جرب ! ... شوية حكة وينتهي الامر ، ايه ولاك ... قاعدين لا شغلة ولا عملة ... اكل ومرعى وقلة صنعة ، خليهم يتسلوا بالحك ... احسن ما يملوا !.
      وذهب .
      كانت قد مرت أربعة اشهر على بداية المرض ، وظل ابو حسين يحاول .
      " اما انا فقد شفيت بعد حوالي الشهر من بداية مرضي ، كيف ؟ ... لا اعرف ، كنت الحالة الوحيدة التي شفيت ، فقط اتبعت ما قاله الدكتور غسان ، كنت كل نصف ساعة اقوم الى المغاسل اغسل كل الاجزاء المصابة بالماء والصابون جيداً ، ثم اصبحت اعمد الى كشط الصابون الرطب اللين واضعه على اماكن الاصابة وأتركه الى اليوم الثاني ، لم أحك جسمي أبداً ، حتى عندما أنام أحضر سروالي النظيف وأضع كل يد في طرف من السروال ، وأظل الفه متعاكساً إلى ان يصبح السروال كالقيد ، وبذلك أتأكد انني لا أحك حتى وأنا نائم. وكما ظهر المرض عليّ فجأة اختفى فجأة. واغتنمتها فرصة بعد ان تأكدت من الشفاء لمحادثة الدكتور غسان ، ذهبت اليه وابلغته انني شفيت ، اكتفى بهز رأسه !.
      تطور مرض الجرب كثيراً ، سمعت حديثاً للدكتور غسان مع مجموعة من الاطباء بحضور ابو حسين وكان حديثه موجهاً للاطباء ، فاحتوى على العديد من التعابير الطبية واللاتينية التي لم افهمها ، وبعد ان عدد انواع الجرب خلص الى نتيجة انه لا يوجد عبر تاريخ الطب ان سجلت حالات كالحالات التي يرونها هنا ، وذكر ان اقسى انواع الجرب هو ان يكون لدى المريض حوالي / 300/ بثرة ، بينما هنا سجل حالات احتوت على اكثر من /3000/ بثرة تغطي كامل الجسم ، وان هذا هو احد الاسباب التي ادت الى حدوث وفيات بالجرب ، ونبه الى حالة خطرة وهي انتشار المرض داخل الاليتين وعلى فوهة الشرج ، وانه نتيجة للحك القاسي في تللك المنطقة والذي ادى الى حدوث جروح عديدة بعدد البثرات الموجودة حول فتحة الشرج ، ونتيجة لتقارب هذه البثرات فان الجروح قد الصقتها ببعضها بعد تخثر الدم مما ادى الى انسداد الشرج ... ومن ثم الى الوفاة لاستحالة طرح الفضلات من الجسم ، وتمنى لو ان هناك امكانية لحضور احد معاهد البحث الطبي المتطورة لمراقبة ومعاينة هذه الحالات الشاذة .
      طلب الدكتور غسان من ابو حسين تشكيل فرقة تمريض مهمتها ربط المرضى الذين ينتشر الجرب لديهم في الشرج من ايديهم لمنعهم من حك انفسهم ، ثم طلب منه معاودة جهوده مع ادارة السجن .
      منذ خمسة ايام وفي الصباح كان أبو حسين مستغرقاً بالتفكير ، فجأة انتفض وذهب الى الدكتور غسان ، تحدث معه قليلاً والدكتور يهز برأسه ، بعدها جال أبو حسين في المهجع كله وهو يردد :
      - شباب ... كل شخص اتته زيارة مدعو للاجتماع عندي ، كل اربعة ... خمسة يجوا سوا .
      كان هناك حوالي ثلاثين شخص من مهجعنا قد اتتهم زيارات ، ولمعرفة الاهل ان هذه الزيارة قد تكوت استثنائية ويتيمة فانهم كانوا يحاولون تزويد سجينهم بما قد يحتاجه ولزمن مستقبلي طويل ، خاصة لجهة الالبسة والنقود ، وتبين لي أن اهالي المساجين الاسلاميين عموماً هم من الفئة الميسورة في المجتمع ، ولهذا فان أقل مبلغ أعطي لسجين كان مئتي الف ليرة ، والبعض أكثر من ذلك بكثير، ولذلك اصبح في مهجعنا ملايين الليرات ولا مجال لشراء أي شيء ، وقد استمرت الزيارات حوالي الستة اشهر ،" كان بعض الحفظة يحصون ويحفظون عدد الزيارات لكي يعرفوا كم كيلو ذهب اصبح لدى مدير السجن ، وفي الإحصاء الاخير بعد توقف الزيارات كان العدد قد وصل الى ستمائة وخمسة وستين كيلو ذهباً ".
      وقد توقفت الزيارات نتيجة لانتقال مدير السجن وحلول نائبه محله في الإدارة ، ولم يكن توقف الزيارات هو النتيجة الوحيدة لانتقال مدير السجن بل كان هناك نتيجة أخرى ، اذ وردت برقية مورس من المهاجع الأولى تقول :
      " لقد جمع مدير السجن الجديد جميع عناصر ورقباء الشرطة العاملين داخل السجن وابلغهم انه اعتباراً من هذا اليوم لا يحق للعنصر العادي – الجندي أن يقوم بقتل أي سجين اذا لم يكن أحد الرقباء موجودا في الساحة ، التعذيب ، الضرب ، السحل ...كل هذا ليس مشكلة، لكن الموت لا يجوز إلا بحضور أحد الرقباء "
      اعتبر الجميع عندها ان المدير الجديد أفضل وأكثر انسانية من المدير القديم .
      أتت أول مجموعة من خمسة أشخاص لعند أبو حسين ، بعد التحية والسلام والمجاملات وكأنهم يزورونه في بيته دعاهم للجلوس وبادرهم فورا بفتح الموضوع دون مقدمات فيما الجميع يهرشون ويحكون :
      - بدنا منكم يا شباب .. تبرعات في سبيل الله .
      سكت الخمسة قليلا ، ثم قال أحدهم :
      - يا أبو حسين ... أرواحنا وأموالنا في سبيل الله ، بس أشرح ، قول أولا شو بدك تعمل بالأموال ، المبلغ المطلوب ... مولازم نعرف ؟!.
      - طبعا لازم تعرفوا ... لكن ما بدها ذكاء كثير ، الله خلق الأموال وأعطانا إياها منشان نصرفها ونشتري بها .
      - طيب شو بدك تشتري ؟.
      - بدي اشتري طبيب ... دكتور .
      - دكتور...؟!!
      وضحك الجميع .
      - نعم دكتور ... بدي اشتري طبيب السجن ..! ما في غير هذا الطريق ... وبسلامة فهمكم بهذه الدولة ومن فوق لتحت كل واحد له سعر ، وما بظن ان هذا الدكتور غير شكل ، كلهم عم يلهطوا ، ونحن خلينا نملي جيب هـ الدكتور منشان يجيب لنا دواء للجرب ، ونخلّص أمــة محمد من هذه البلوة .
      وافقه الجميع وتتالت الاجتماعات وأصبح بحوزة أبو حسين مبلغٌ محترم، عندها طلب من الرقيب عندما فتح الباب مجيء الطبيب لأمر هام !.
      كان الطبيب حانقا عندما فتح الباب ، وصاح بوجه أبو حسين :
      - اذا كنت طالبني منشان الجرب ... بدي كسّر عظامك يا كلب ، صار ألف مرة قلت لك ما عندنا دواء جرب ، هات لشوف ... شو بدك ؟.
      - يا سيدي ... منشان الله ... بس طول بالك واسمعني شوي ... يا سيدي متل ما بتعرف نحن بالفترة الماضية اجتنا زيارات وصار في عندنا مصاري كتير ... ومثل ما أنت شايف ... نحن هون المصاري ما تلزمنا لأنه ممنوع نشتري أي شيء .
      كان هذا هو الطعم الذي ألقاه أبو حسين للطبيب ، وبدأ الطبيب بالتقاط الطعم فالتفت الى الشرطة الذين كانوا يحيطون به وأمرهم بالابتعاد ، قال :
      - ايه طيب ... وأنا شو علاقتي بكل هـ العلاك ... اذا كان عندكم مصاري أو ما عندكم ... شو ممكن أعملك ؟!.
      - يا سيدي ... اخدمنا هالخدمه لوجه الله ... انت رجل كلك انسانية ، وساعدتنا كثير لوجه الله ... هذه المرة كمان ساعدنا ... اشتري لنا الدواء على حسابنا ... حتى لو كان من السوق السودا ... ومعليش اذا كان الدواء غالي ، نحن مستعدين نشتريه بضعفين أو حتى ثلاثة ... خدمة لوجه الله يا سيدي .
      وتحولت لهجة الطبيب فورا من الحنق والغضب الى اللين الثعلبي :
      - لكن ... انت تعرف أن هذا الدوا غالي كتير ؟
      - معليش يا سيدي ... مهما كان غالي الثمن ، بس يكون كافي لكل هـ الناس ، لأن الكل جربانين .
      - طيب ... تعال لهون شوي .
      أخرج الطبيب أبو حسين الى خارج المهجع ، تكلما بصوت خافت ، وتمت الصفقة .
      بعد يومين أتى الدواء بالصناديق الكرتونية ، ومنذ ثلاثة أيام وجميع الناس سواء كانوا مصابين أم لا وأنا منهم بدأوا العلاج بـ البنزوات " بناء على تعليمات الدكتور غسان المشددة ، وتحت رقابته الصارمة " .
      تم تهيئة خمس مقاصير بالبطانيات يدخل الواحد خلفها ويبدأ بفرك كل جسمه بـ البنزوات .
      خلال هذه الفترة القصيرة بدأت تظهر النتائج الايجابية .
      تم ابلاغ المهاجع الأخرى ، والجميع أتم الصفقة مع الطبيب الذي أصبح مليونيرا، وعلق أحد الأشخاص :
      - اذا سألوا طبيب السجن شي مرة ، كيف صرت مليونير ، لازم يقول : الجرب حولني من شخص جربان الى مليونير .
      - بس يا أخي لاحظ ان الفساد في بعض الأحيان يكون مفيد وكويس .

      23 تموز
      رغم مرور كل هذه السنوات بقيت قابعا في قوقعتي أتلصص على الداخل والخارج ، داخل المهجع وخارجه ، ولكن مع مرور الأيام قل أهتمامي بكثير من الأشياء نتيجة لمعرفتي التامة بها .
      حفظت القرآن جيدا ولطالما رددت بشكل عفوي آياتٍ وسوراً طويلة منه ، حفظت الصلوات كلها حتى الطارئة منها كصلاة الخوف ، صلاة الجنازة ، وصلاة التراويح ... استمعت الى خلافات الجماعات المختلفة حول الأحكام الشرعية ، آلية تفكيرهم ، ردود أفعالهم ، طموحاتهم ... آمالهم ... لكل هذا لم أعد أركز ذهني كثيرا عندما أنظر من خلال فتحة القوقعة .
      كذلك عندما أطل بنظري من خلال الثقب الى خارج المهجع ، مرأى تنفس المهاجع الأخرى ... العقوبات ... التعذيب ... كله أضحى عاديا ... يوميا .
      لكن كنت أداوم يوميا على النظر خلال الثقب انتظارا وتوقعا لما هو غير مألوف ... لشيء جديد ، وكان على الأغلب يوجد شيء جديد ، فالتعذيب وان كان ذا نمط معمم والكل قد تدرب عليه في مدرسة واحدة ، الا انه يبقى هناك شيء له علاقة بالذات ، ذات كل فرد ، فكل رقيب ... كل شرطي يضفي من ذاته شيئا خاصا على العمل المتشابه ، فيخلق شيئا جديدا نستطيع ان نضيفه الى خانة الإبداع ، " مسحة ابداعية بالتعذيب !! " .
      منذ أكثر من سنة وخلال تنفس أحد المهاجع ، كان أحد الرقباء واقفا في ظل الحائط ، مرت فأرة من أمامه فهرسها ببوطه العسكري ، معست الفأرة وماتت ، أخرج الرقيب من جيبه منديلا ورقيا وأمسكها بواسطة المنديل من ذيلها ، اقترب من صفوف المساجين التي تدور حول الساحة ، أمسك بأحد السجناء لا على التعيين وأجبره على ابتلاع الفأرة ، ابتلع السجين الفأرة .
      منذ ذلك اليوم صرف الرقباء وعناصر الشرطة جزءا مهما من وقتهم لاصطياد الفئران والصراصير والسحالي وإجبار السجناء على ابتلاعها ، كلهم قاموا بهذا العمل ولكن ابتكاره " ابداعه " عائد لأول رقيب قام بهذا العمل .

      حتى الإعدمات ، رغم أنني أدمنت مراقبتها الا أنها لم تعد تحمل نفس الشحنة من التوجس والرهبة .
      يقاد المحكوم عليهم بالاعدام الى أمام المشانق ، يقيدون بعد أن يتم تثبيت اللاصق العريض على أفواههم ، كل دفعة ثمانية أشخاص ، ترتفع المشانق ، تنحني الرقاب ، ارتخاء الجسد ، انزال الدفعة الأولى ، صعود الدفعة الثانية ...
      كنت أراقب الجميع ، شرطة وبلديات ومعدومين ، تطورت مراقبتي من مراقبة الأفعال الى الوجوه ، الانفعالات ، ردود الفعل ... ما يرتسم على الوجه من خوف ، هلع ، حقد ، تشف ، سرور ، استمتاع ، لذة ...

      "الوحش" ...
      الجميع ابتداء من رفاقه البلديات الى جميع عناصر الشرطة حتى المساعد كانوا ينادونه الوحش ، شاب في الخامسة والعشرين تقريبا ، قد لا يتجاوز طوله المائة والستين سنتمترا ولكن عرض أكتافه قد يتجاوز المائة والعشرين سنتمترا ، سماكته قد تبلغ الستين أو سبعين سنتمترا ، من الأمام والخلف يبدو كمربع ، من الجانب يبدو كصندوق ، مفتول العضلات ، شاهدته في احدى المرات يرفع سجينا بيد واحدة الى ما فوق رأسه ، قوي جدا ، لا يغيب أبدا عن أية اعدامات ، ويلعب دورا فعالا فيها ، جميع عناصر الشرطة يعتمدون عليه .
      في أحدى حفلات الأعدام وبعد أن أنزلو الدفعة الأولى وضعوا الحبال في رقاب الدفعة الثانية ورفعوها الى الأعلى ، سبعة معدومين من ثمانية ارتخت أجسادهم ، وبقي الثامن يصارع ، كان يأبى أن يموت ، جسده متدل ويلعبط ، انتظر الجميع دقائق ولكن روحه كانت عنيدة ، أبت أن تخرج ، يحرك رجليه يحاول أن يرتفع بجسده الى الأعلى ، وطال الإنتظار ، احساس بالإختناق وضيق التنفس ينتاب الجميع ، المساعد تلمس رقبته بيده اليمنى وفركها ، الجسد المعلق في الهواء يصارع ، أخذت ألهث تحت البطانية ... وصاح المساعد :
      - يا وحش خلصنا من هـ الشغلة !.. خليه يرتاح .
      تقدم الوحش ، وقف تحته وأمسك برجليه وأخذ يشده الى الأسفل ، كان السجين المعلق – كالعادة – يلبس ثيابا رثة .. أسمالاً ، ولذلك عندما شده الى الاسفل انشدت الثياب واصبح السجين عارياً بجزئه السفلي ، تابع الوحش الشد ، يشد ... ويشد ... ونجح اخيراً ، مات السجين ، لكن فور موته يبدو ان مصرته الشرجية قد ارتخت نهائياً فأفرغ كل ما في امعائه فوق الوحش الذي لا زال يشد ، وكانت كمية الفضلات كبيرة وسائلة ... غطت الوحش ، رأسه ، وجهه ، صدره ، ... رجع الوحش الى الخلف واخذ ينظر الى الجميع ، قهقه المساعد وكان اول من استوعب الامر ، قال وهو يضحك :
      - كان اسمك الوحش ... بس هلق صار اسمك الوحش ابو خريه !.
      ضحك الجميع كثيراً ، حتى انا ضحكت بصوت مسموع .
      من يومها اصبح للوحش اسمان ، رفاقه الذين يخشونه ويخافون بطشه ينادونه الوحش ومن لا يخشاه والجنود والرقباء ينادونه بـ " ابو خريه " .
      الجنود والرقباء اغلبهم من المجندين الذين يؤدون الخدمة العسكرية ومدتها سنتان ونصف ، الاغلبية الساحقة منهم هم من ابناء الجبال والساحل ، لهجتهم ثقيلة وتصرفاتهم غليظة وجلفة ، ويستحيل ان يوجد بينهم واحد من ابناء المدن الكبيرة والرئيسية ، وكونهم مجندين فانهم يتغيرون بشكل دوري ، في السنة الواحدة يتم تخريج دورتين من مدارس الشرطة العسكرية ، لهذا فكل ستة اشهر تأتي دورة جديدة ويتم تسريح دورة قديمة .
      منذ اربعة اشهر اتت اخر دورة ، كانوا ثلاثة عشر عنصراً ، ثلاثة رقباء وعشرة جنود ، عندما دخلوا ساحتنا هبط قلبي بين قدميّ ، ففي المقدمة كان يسير اخي الاصغر سامر بلباس الشرطة العسكرية ، عنما اقتربوا اكثر تبينت انه شخص يشبه اخي كثيراً ، اسميته في سري " سامر" بينما السجناء الاخرون سموه " الاعوج " لانه كان يميل برأسه دوماً الى جهة اليمين .
      في البداية لا تطلب الادارة من العناصر الجدد القيام بأي عمل على صعيد التعذيب او الاعدامات ، يتركونهم حوالي الشهر فقط يحضرون ويشاهدون ما يجري وهم وقوف ، ودائماً يكون الجدد متهيبين من الامساك بالكرباج او العصي ، وحتى بعد مضي الشهر وعندما يبدؤون بمشاركتهم تكون ضرباتهم حفيفة ومرتبكة .
      في الاعدامات يوقفونهم على مبعدة من المشانق، ما ان تبدأ عملية الشنق حتى يكونوا قد اقتربوا من بعضهم اكثر ، اصفرت وجوههم ، البعض يرتجف ويغض النظر والبعض الاخر يصاب بتقلصات في المعدة مما يجعله يتقيأ .
      المساعد والعناصر القدماء يرون كل ذلك فيتعاملون معه وكأنهم لم يروا شيئاً ، مع حفلة الاعدام الثانية والثالثة ... يسترخون ، يتجرؤون ، يصبحون طبيعيين كباقي زملائهم .
      الرقيب سامر " الاعوج " وكنت اراقبه دائماَ ، عندما حضر اول حفلة اعدام تقيأ بشدة حتى خلت انه سيخرج امعاءه ، جلس على الارض وقد غطى عينيه بيديه الى نهاية الاعدامات ، ساعده اثنان من زملائه على النهوض وقاداه من تحت ابطيه الى خارج الساحة .
      اخر حفلة اعدام حضرها كان نشيطاً جداَ ، بيده عصا طولها اكثر من متر ، يمازح زملائه وعلى وجهه ابتسامة دائمة ، عند الانتهاء من اخر وجبة اعدام وقف امام احد المشنوقين واخذ يؤرجحه ، وضع العصا على الارض آخذاً وضعية الملاكم جاعلاً من الجثة المعلقة كيس رمل ، اخذ يوجه لها اللكمات ، صاح على الوحش :
      - وحش ولا وحش ... تعال هون .
      ركض الوحش لعنده .
      - نعم سيدي .
      - شوف هـ الكلب ... صار له ربع ساعة معلق من رقبته ولسا ما مات ، شده من رجليه ... خليه يرتاح .
      ضحك العناصر والبلديات الذين سمعوا هذا الحديث متذكرين ما حصل للوحش ، اما الوحش فقد وجم قليلاً وهو ينظر الى سامر .

      24 شباط
      هذا الشتاء كان بارداً جداً ، نزلت امطار غزيرة قلما تنزل في الصحراء ، وخفف حدة البرد توفر بعض الالبسة وخاصة الجوارب الصوفية .
      مضى هذا الشتاء كما مضت الشتاءات الاخرى قبله ، عشرة شتاءات وانا جالس في نفس المكان ، ضمن نفس الجدران ، الى جانبي الباب الاسود ذاته ، تغيرت كثير من الوجوه حولي ،الفرقة الفدائية التي كانت تقوم بادخال الطعام والتطوع للذهاب لتلقي العقوبات بدلاً عن المرضى وكبار السن ، والتي كانت موجودة لحظة قدومي الى المهجع ، لم يبق منها احد ، اما شنقاً او قتلاً او مرضاً ، ذهبوا ... غابوا جميعاً ، ابو حسين رئيس المهجع الحالي اصبح حاجباه ابيضين ولم يكن بهما اية شعرة بيضاء، رغم انني ارى الجميع يومياً ولكني باسترجاع صورهم قبل عشر سنوات ، استطيع ان المح اثار الزمن واثار المعاناة على وجوههم ، ترى كيف اصبح وجهي ؟!.
      لو كسرة من مرآة .
      لا نعرف شيئاً مطلقاً عما يجري في عالم ما هو خارج هذا المهجع ، حتى القادمين الجدد لم يكونوا يأتون من الحياة مباشرة ، اغلبهم يكون قد امضى سنتين او ثلاثة او اربعة في مراكز المخابرات، وهؤلاء على الاغلب من قيادات التنظيمات ، يبقونهم في فروع المخابرات لضرورات التحقيق ، رغم ذلك فان المساجين يظلون اياماً عديدة يسألونهم عن الجديد من الاخبار ، فالاخبار قبل سنتين او اربعة تعتبر جديدة وطازجة قياساً باخبار ما قبل عشر سنوات .

      من هؤلاء القادمين الجدد " ابو القعقاع " واحد من أمراء الجماعة المتشددة ، وكان كما فهمت بطلاً من ابطال العمليات العسكرية التي قام بها التنظيم ضد السلطات الحكومية ، وانه كان المخطط والمنفذ لمجموعة من الاعمال الجريئة التي القت الرعب في صفوف رجال الامن والمخابرات .
      لكن بعد ذلك سرى همس خافت داخل المهجع بين اشخاص من التنظيمات الاخرى تقول : انه كان جباناً جداً في التحقيق وان تعاونه مع المخابرات واعترافاته امامهم ادت الى القاء القبض على كامل اللواء الذي كان يقوده وعدده اربعمائة مقاتل ، وقد اعدموا جميعاً ، وان هؤلاء المقاتلين كانوا ناقمين جداً عليه ، وعدّوه خائناً واقسموا يميناً جماعياً " ان أي واحد منهم سيخرج من السجن فان اول عمل يجب ان يقوم به هو تصفية ابو القعقاع " .
      ولكن لم يخرج أي واحد منهم .
      بمجئ ابو القعقاع فقد المهجع هدوءه وسلامه الداخلي .
      كان اول ما فعله ابو القعقاع هو تعرفه على اعضاء التنظيم ، وهؤلاء كانوا قد اصبحوا اقلية في المهجع نتيجة النزيف المستمر بين صفوفهم ، وهم بالكاد يعدون اربعين شخصاً ، لم يكن يعرف في البداية أياً منهم ، فلم يسبق ان كان تحت امرته واحد من الموجودين هنا ، بعد ان تعرف عليهم زارهم واحداً واحداً ، خلال يومين كان ينتقل من فراش الى فراش ، بعد ذلك اخذ يعقد اجتماعات ، في اول اجتماع لاول مجموعة لاحظ انهم متحفظون تجاهه ، ودون ان يساله احد ، بدأ برواية طريقة اعتقاله والتحقيق معه واكثر حديثه كان بالعربية الفصحى :
      " ... وهيك استمر تبادل اطلاق النار بيننا وبينهم اربع ساعات ، كنا نحن في الطابق الرابع وكانوا قد احتلوا جميع الاسطحة والشوارع المحيطة ببنايتنا ، بدأت ذخيرتنا تنفذ ، وكان معي ثلاثة اخوة عليهم رحمة الله، الفاتحة على روحهم يا اخواني – وقرأ جميع الحاضرين الفاتحة ومسحوا وجوههم - ، كل واحد من الشباب استلم شباك من شبابيك البيت ، انا استلمت الباب ، منعت اياً من المجرمين الصعود و النزول على الدرج ، لكن بعد اربع ساعات استخدموا ضدنا الـ - ار، بي ، جي - ، ادخلوا القذيفة من احد الشبابيك ، انا انقذفت على الدرج ولم اصب ، اما الشباب الثلاثة - صمت قصير - اللهم اجعل مثواهم الجنة - آمين - عندها قررت الانسحاب من الحركة رغم الحصار ، حملت معي خمسة مخازن ونزلت على الدرج ، كل عسكري كان قدامي بعثته الى جهنم ، صرت بالشارع ، ركضت وانا ارش الطلقات يميناً وشمالاً حتى اصبت ، واحد كلب كان بزاوية الشارع وجه لي صلية رصاص ، اصبت بثلاث طلقات ، واحدة في الفخذ باللحم ما صابت العظم ، واحدة مسحت راسي مسحاً فوق الاذن - هاي محلها - واراهم خطاً طولانياً فوق الاذن خالياً من الشعر، الثالثة اصابت صدري فوق الرئة اليمنى وخرجت من ظهري - خلع قميصه وبان مكان دخول الطلقة ، حفرة صغيرة ، ومكان خروجها ، حفرة كبيرة - ، وقعت على الارض وطارت البارودة من يدي ، مديت يدي لكي اسحب قنبلة يدوية ... ما لحقت ، كانوا صاروا فوقي والسبطانات موجهة الى رأسي .
      مباشرة اخذوني الى فرع المخابرات ، لم يضمدوا جروحي ، ابتدؤوا التحقيق فوراً ، رفضت الاجابة على أي سؤال اذا لم يتم اسعافي الى المشفى ، قال لي ضابط التحقيق وهو يبتسم :
      - تكرم شواربك وذقنك ... هلق راح نسعفك !.
      احضروا حبلاً رفيعاً ومتيناً ضموه في مسلّة كبيرة وادخلوا المسلّة في مكان دخول الطلقة واخرجوها من مكان خروجها والحبل وراءها، سحبوا الحبل وعقدوه عقدة متينة ثم رفعوني وعلقوني بواسطة الحبل ، أخذ الحبل يحز اللحم وأحسست انني سأشنق ، غبت عن الوعي عدة مرات وهم يرشقوني بالماء لأصحو ، كانوا يريدون معلومات سريعة ، رغم ذلك رفضت أن أعطيهم حتى اسمي ، كانت الآلام فوق طاقة البشر ، ويبدو أن عظم الكتف قد أوقف الحبل، أصبح ثقل جسمي كله عليه ، بدأ ينزاح من مكانه ، ولحد الآن فإن وضع كتفي ويدي غير طبيعي .
      لم يدم الأمر طويلا لأنهم في هذه الفترة كانوا قد فتشوا الشقة ووجدوا جميع وثائقنا وسجلاتنا ، لطالما كنت أحذر المسؤول المالي ـ رحمه الله وسامحه ـ ألا يحتفظ بأية وثيقة ، لكنهم وجدوا سجلا كان قد دون فيه أسماء جميع الإخوة ومصاريفهم ، أجور الشقق التي يسكنونها وعقود الايجار الخاصة بكل شقة ... من خلال هذا السجل وفي الليل كانوا قد اعتقلوا الجميع . "
      كان يتكلم بطريقة سردية عادية ، لا تحمل أية نبرة للدفاع وكأنه غير متهم البتة ، وسرعان ما تجاوز موضوع الاعتقال وتوابعه وابتدأ حديثا دينيا متينا عن الإيمان وقوته والجهاد وضرورته ، معاني الاستشهاد ، الدار الآخرة ، الجنة ومحتوياتها ، ولم ينقض هذا اليوم الا وكان قد أصبح زعيما لا يناقش ، والتفت الجماعة المتشددة حوله بقوة .
      خلال العشرة أيام التالية بدأ بالمجموعات الأخرى ، خاصة المجموعة التي ينتمي اليها الشيخ محمود والدكتور زاهي ، وهي مجموعة نقيض للمتشددين ، لا تؤمن بالعنف والكفاح المسلح ، تميل الى الوسائل السلمية .
      هاجمها بشدة مسفها آراءها ودعا كبارهم الى سجال ونقاش علني " لأن من واجبه هدايتهم الى الطريق القويم " وكان رد فعلهم عنيفا ومترفعا ، رفضوا أي حوار معه " نحن لسنا بحاجة الى شخص مثلك ، باع نفسه للمخابرات حتى يهدينا ." كذلك كان رد الجماعات الصوفية الذين اتهمهم بأنهم عبارة عن دراويش وجهلة " وأصحاب بدع في الاسلام . " وأنهم قد أهملوا ركن الجهاد في الاسلام .
      عشرة أيام تقريبا قسمت المهجع الى معسكرين ، أبو القعقاع وجماعته من طرف وباقي المهجع من طرف آخر ، واستطاع أبو القعقاع ببراعة أن يكسب عداء الجميع ، خاصة أنه استمر في احراجهم وتحديهم بعد رفضهم الدخول في سجال معه حول جوهر الدين الاسلامي وتعاليمه .
      نعتهم بالجبن وطالب أن تكون الصلاة علنية حتى أمام ادارة السجن ، فقوبلت دعوته هذه بالاستهزاء من الجميع ، حتى أن بعض أفراد مجموعته نصحوه بالتخلي عنها ، دعا بعد ذلك الى أن تكون الفرقة الفدائية مؤلفة من جميع التنظيمات وأن لا تكون طوعية ، لأن الجهاد فرض عين على كل مسلم ، وقبل الجميع هذا الأمر، لكن جماعته والذين هم في الحقيقة كانوا دائما قوام الفرقة الفدائية رفضوه لأنه سيفقدهم مكانة وتميزا طالما تمتعوا بها طوال السنوات السابقة " نحن نقوم بهذا العمل لوجه الله ، وأجرنا عنده ، ولا يمكن اجبار أحد على هذا " .
      فشل أبو القعقاع في كل شيء ونجح في كسب عداء الجميع ، كان قد مضى على وجوده في المهجع خمسة عشر يوما عندما اعتقد أنه قبض على المسألة التي سيحرج بها الجميع ، لا أدري من من مجموعته أخبره بموضوعي ، عندها جابه الجميع :
      " ... كيف تقولون عن أنفسكم أنكم مسلمون وتسمحون لجاسوس كافر أن يعيش بينكم ؟ مع أن الله سبحانه وتعالى قال : واقتلوهم حيثما ثقفتموهم ؟ ! " .
      وطالب الجميع بمحاكمتي وانزال حد الله بي ، وحد الكفر والشرك بالله هو القتل .
      أصبحت حياتي معلقة على رد فعل المجموعات الاخرى ، وقد كانت كلها حيادية ، فالأمر لا يعنيها وهي بغنى عن تفجير مشكلة غير معروفة النتائج مع أبو القعقاع وجماعته .
      لكن مجموعة المرحوم الشيخ محمود كان لها رأي آخر ، ووقف أبو حسين كالجبل لا يتزحزح وأعلن وهو في منتصف المهجع ـ وكان الموضوع قد خرج من اطار الهمس الى النقاش العلني وبأصوات مرتفعة ـ قال أبو حسين موجها كلامه الى أبو القعقاع :
      - أولا من أنت حتى تحاسب وتحاكم البشر ؟! ان هذا الرجل " وأشار بيده الي ّ " مضى على وجوده بيننا سنوات طويلة ولم نر منه شيء سيئا ، وهو رجل مسكين حتى انه لا يتكلم ، ولا أحد يعرف ما بقلبه ، فبأي حق تحاسبه وتحاكمه وتريد قتله ؟، اعلم يا أبو القعقاع أن له ربا يحاسبه ويحاسبك ويحاسبنا جميعا ، وليس أنت .
      ثانيا أعلم يا أبو القعقاع أن الشيخ محمود رحمه الله قد منع ايذاء هذا الرجل ، وأنه أجاره وحماه ، ونحن لا يمكن أن نسمح لأحد أن يؤذي شخصا كان الشيخ محمود قد أجاره .
      ثالثا ليعلم الجميع وأنت أولهم أن أية محاولة للمساس بهذا الشخص ستقابل من جهتنا بأعنف الردود .
      بينما كان أبو حسين يتكلم نهض أبو القعقاع ووقف قبالته ، ودارت معركة كلامية بين الاثنين .
      رد أبو القعقاع ردا قويا ، استند فيه الى مجموعة من الآيات القرآنية وأحاديث الرسول وحوادث من التاريخ الاسلامي ، كان من في المهجع يهزون رؤوسهم دلالة الموافقة ، وخلت انه سينجح في اقناع الجميع ، لكن أبو حسين التقط الحديث وبدأ يرد عليه وقد ارتفع صوته .
      جاء ايضا بمجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث والسيرة النبوية تدحض وتناقض جميع ما استشهد به أبو القعقاع ، ايضا كان جميع من في المهجع حتى بعض من مجموعة أبو القعقاع يهزون رؤوسهم دلالة الموافقة والاقتناع ، كان رد أبو حسين مفحما ، ولم يشأ أبو القعقاع ان ينهزم فأنبرى يرد ... وأبو حسين يرد ، وكان كلاهما مقنعا للجميع .
      ارتفعت الأصوات كثيرا ، وفي غمرة النقاش برز الشرطي فوق الشراقة ، صاح :
      - شو هالصوت يا رئيس المهجع يا جحش ؟
      علّم الشرطي الشخصين الواقفين ، أبو حسين وأبو القعقاع ، ومن السطح اخبر الرقيب الموجود في الساحة ، فأخرجوهما وخمسمائة جلدة لكل منهما .
      منذ لحظة خروجهما الى حين عودتهما ران الصمت على المهجع ، لكن ما ان اغلق الشرطة الباب حتى عادا الى المعركة الكلامية ، وبدأها ابو حسين قائلاً :
      - خاف ربك يا رجل ... انت السبب بالعقوبة ، انت مبسوط هلق ؟ .
      واستأنفا المعركة الكلامية ، وبعد اكثر من ساعة قال ابو حسين :
      - هذا حكينا وما في عندنا غيره ... وكل واحد يقعد على فرشته ومو ناقصنا زعماء هون .
      - ما في حدا بدو يعمل زعيم ... وامر الله بدنا نطيعه ونطبقه ، سواء رضيتم ام لا .
      توتر جو المهجع كثيراً ، فكرت انه يجب ان اتدخل ، ان اخرج من القوقعة ، ولكن كيف ؟... اقف واحكي لهم حكايتي ؟ ... افند كل التهم التي وجهت لي ؟ ... ان اكون مسيحياً هذه ليست تهمة ، لان تعاليم الاسلام الحقيقية تأمرهم بحسن معاملة المسيحين ، ان اكون جاسوساً !... اظن ان هذه التهمة قد سقطت بالتقادم ، فلو كنت جاسوساً لما انتظرت اكثر من عشر سنوات حتى امارس جاسوسيتي ، ولكن تهمة الكفر والالحاد كيف سأدافع عنها ؟... صحيح ان كل من سمعني اقول انني ملحد قد مات ، ولكن اذا سألوني في سياق دفاعي هل استطيع ان اقول لهم انني مؤمن ؟!.. لا اعتقد ذلك ، ولم اتوصل الى قرار .
      بقي الجو مشحوناً بالتوتر ، وبدا ان مجموعة ابو القعقاع بصدد عمل ما ، فاحترست ، لكن مجموعة ابو حسين اتخذت مجموعة من الاجراءات ، طوال النهار كان ثلاثة منهم يجلسون على فراش ابو حسين على يساري ، ثلاثة اخرون يجلسون على فراش جاري اليميني ، في الليل يقوم واحد منهم بنقل فراشه فينام امامي عند قدمي في الممر ، وهكذا اكون محاطاً بهم ، عندما اقوم لاذهب الى المغاسل كنت الاحظ ان اثنين من المجموعة يقومان وبشكل عفوي يرافقاني وكأنهما ذاهبان الى المغاسل عرضاً .
      اذن هم يحرسوني .
      بقي الوضع هكذا ثلاثة ايام ، في اليوم الرابع افتعل بضعة اشخاص من المتشددين امام المغاسل ذريعة على واحد من الذين يقومون بحراستي واشتبكوا معه بالايدي ، خلال ثوان قليلة كانت دماؤه تسيل من انفه ، وكان اكثر من مئتي شخص قد وقفوا واشتبكوا مع بعضهم البعض ، ولم يعد من الممكن معرفة من يضرب من ، او من الذي يحاول فض المعركة التي استمرت دقائق قليلة سالت خلالها دماء كثيرة ، ولم يكن بالامكان اخفاء هكذا ضجة .
      كنت واقفاً الى جانب الباب ، لم يشترك ابو حسين ولا ابو القعقاع ... الشباب الصغار فقط ، وعندما فتح عناصر الشرطة الباب ، توقفت المعركة الياً .
      حاول ابو حسين الادعاء ان بعض الشباب كانوا يلعبون !! صرخ الرقيب بوجهه شاتماً إياه ... " نحن جايبنكم مشان تلعبوا .. مــــا " وامر بخروج الجميع الى الساحة ، فخرجوا ... وكلما راى الرقيب شخصاً عليه اثار دماء يلتفت الى ابو حسين ويقول :
      - رياضة ... يا عرص مو .. قلت لي رياضة !.
      عوقب المهجع بأكمله عقاباً شديداً ، وقد ضربني احد العناصر بالكبل الرباعي على ندبة قدمي مما آلميني كثيراً ، ادخلونا واغلقوا الباب مع التهديد والشتائم .
      كنت قد نسيت عادة الكلام ، لكن لحظتها اعتقدت انني اذا لم اتكلم فسوف اختنق ، شحنت نفسي بأقوال ابي وخالي لي منذ الصغر عن ضرورة ان اكون رجلاً يتحمل المسؤولية .
      مشيت الى منتصف المهجع ووقفت ، من الآلام بالكاد كنت اقف ، عندما رأوني ادير نظري لاشمل جميع من في المهجع ، سكتوا ، اثنان من حراسي نهضا فوراً ووقفا الى جانبي ، اشرت لهما ان يعودا الى مكانهما ، تلكآ ، لكنهما عادا .
      لم اكن خطيباً في يوم من الايام ، ولم اقف ابداً لاتكلم امام مئات العيون المحدقة بي ، كذلك لم ادع الشجاعة يوماً ، بل على العكس فان هذه التجربة في الاعتقال والسجن اظهرت لي على الاقل انني اقرب الى الجبن ، لكنه الالم والقهر والعذاب ، الصوم الاجباري عن الكلام ، توجهت بنظري ويدي الى ابو القعقاع وصرخت بصوت قوي " انا نفسي استنكرته " قلت :
      - يا ابو القعقاع ... تريد ان تقتلني ؟... تفضل هذا انا، عارياً امامك " لم ادر لماذا كنت اخاطبهم بالفصحى " ... تفضل ، ولكن قبل ان تقتلني اجب على اسئلتي ، هل تريد ان تقتلني بصفتك وكيلاً عن الله في الارض ؟... هل تستطيع ان تثبت انك وكيله ؟... واذا اثيت ذلك ... هل تستطيع ان تثبت لي وللأخرين انه اصدر لك امراً بقتلي ؟... لا اعتقد ذلك ، واجزم انك لست وكيل الله .
      يا ابو القعقاع انت تريد قتلي لارضاء شهوة القتل لديك ، وارجو ان اكون مخطئاً في ذلك ، ارجو ان لا تكون شخصاً حاقداً موتوراً ، ارجو ان لا تكون كالعقرب ان لم تجد من تلسعه فهي تلسع نفسها ... ولكن اقول ، واشهد جميع الناس هنا ، اذا كان قتلي يحل المشكلة فتفضل ، ارسل واحداً من جماعتك لقتلي وانا اسامحكم بدمي .
      سكت قليلا ، ثم التفت الى مجموع الناس ، وبصوت أقل حدة قلت :
      - يا جماعة .... أكثر من عشر سنوات حكمتم عليّ بالسكوت ، لقد سمعتكم كثيرا ، والآن اسمعوني لدقائق فقط ...
      قلت لهم من أنا ، وكيف أتيت الى هنا ، دافعت عن نفسي ضد التهم الثلاث ، وعندما وصلت الى تهمة الالحاد ، عدت لمخاطبة أبو القعقاع :
      - يا أبو القعقاع ... انما مسألة الإيمان أو عدم الإيمان مسألة شخصية بحت ، وعليك أنت وجميع الناس أمثالك أن يفهموا ذلك ، الإيمان هو علاقة خاصة بين كل شخص وخالقه ، وأنت تعرف أنه ليس صعبا عليّ أو على غيري أن يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، ولكن لو قلت أنا ذلك لقلت أنت وأمثالك أنه كان ملحدا وأسلم خوفا ، لا ... أنا لست خائفا منك ، ولن أكون منافقا أو كاذبا ، واذا قلت لك فقط انني مسيحي ومتمسك بديني ، فلن تسطيع أن تفعل شيئا حيال ذلك ، لأن دينك يأمرك أن تحسن معاملة المسيحيين، لكن حتى هذا لن أقوله ... لئلا تقول انه خائف ... أبو القعقاع : اسمعني جيدا ... أنا لست خائفا منك ... أنت لست ربي لأقدم لك كشف حساب ... واذا كنت مقتنعا بقتلي فهيا ... قم ولا تخف .
      سكت عندها ، بقيت واقفا أبادل أبوالقعقاع النظرات ، جاهدت ألا ترفّ عيوني ، ومن خلفي أمسكت بي يد أبو حسين وقادتني الى فراشي .
      - خلص بقا ... اسكت ... لا تتحداه أكثر من هيك ... أظن أن المشكلة انحلت ، الله يعطيك العافية ، بس هلق اسكت .
      وفعلا كما قال أبو حسين انحلت المشكلة ، وبعد يومين انحلت نهائيا ، فقد كان أحد الخميسات وخرج فيه أبو القعقاع الى الإعدام .
      أقام له المهجع صلاة الجنازة ، ترحموا عليه ، أما أبو حسين فقد علق موجها الحديث لي :
      - الله يرحمه ... ولا يجوز على الميت إلا الرحمة ، واذكروا حسنات موتاكم ، لكن يا أخي كلها عشرين يوم قضاها هون ... كأنه اعصار دخل هـ المهجع ... الله يرحمه !! قلب المهجع فوقاني تحتاني ! . الله يرحمه ... يا الله بتعيش كثير ... بتشوف كثير .
      تحسنت علاقتي مع أبو حسين وأخذنا نتبادل الأحاديث " قلت في سري ... لو أن أبو القعقاع آتى من زمان طويل ! " كان أبو حسين يسألني عن فرنسا ، والحياة في فرنسا ، وعلى الأخص عن نساء فرنسا ، وكنت أتكلم ... وأتكلم ... أغوص بالتفاصيل ، عندي جوع كبير للكلام ، ألتفت اليه وأمازحه قليلا :
      - شو يا أبو حسين ؟ ... شايفك عم تسأل عن النسوان كثير ، مانك خايف تسمعك أم حسين ؟ ! .
      - لك يا أخي ... أم حسين على عيني وراسي ، بس هلق بتكون كبرت وصارت ختيارة ، واذا الله فرّج عنا ... ان شاء الله راح اتجوز واحدة فرنساوية ... بالله عليك قل لي ... بفرنسا في مسلمات ؟.
      - اي طبعا في مسلمات .
      - الحمد لله ... الحمد لله " يضحك " هلق أمنت مستقبلي .
      بالإضافة الى أبو حسين هناك أربعة أطباء فقط كسروا الحاجز المضروب حولي ، و الأطباء الأربعة من خريجي الدول الأوربية ، أحدهم خريج فرنسا ، بدأ يجلس عندي ، ومن ثاني جلسة اقترح عليّ أن يكون حديثنا باللغة الفرنسية .
      اكتشفت انه قد عاش حياته طولا وعرضا ، وانه لم يكن يتبع التعاليم الدينية إلا في شهر رمضان ، ففيه كان يصوم ويصلي فقط وما عدا ذلك فلا علاقة له لا بالسياسة ولا بالتنظيمات ولا بغيرها .
      قلت له بالفرنسية مستفسرا :
      - طيب ... اذا كان الأمر كذلك ، فلماذا اعتقلوك ؟
      - اذا كنت أنت تستطيع الإجابة على هذا السؤال ... فأنا استطيع !.
      أبو حسين يضيق ذرعا بالأحاديث الفرنسية :
      - يالله شباب ... خلصونا ... يكفي تعوجوا لسانكم ... احكوا عربي حتى نفهم عليكم .
      كانت الأحاديث بالفرنسية تسكرني ... تدوخني ، فعلت في داخلي أكثر مما فعلت رؤية الخيار لأول مرة .
      نتبادل الذكريات عن أمكنة زرناها ونعرفها كلانا ، أصبحت علاقتنا الثنائية علاقة حميمية لحظية .
      في احدى المرات وأنا أتلذذ وأنتشي بالتأكيد على مخارج الحروف الفرنسية ، نظر اليّ وباغتني بالسؤال :
      - يا أخي ... مادام أنت هيك ... يعني عاقل !... ليش كنت تغطي حالك بالبطانية مثل هذا المجنون دكتور الجيولوجيا ؟.
      سكت قليلا ... ثم أخبرته بسري الكبير ، سر الثقب !!.
      أخبرته به بالفرنسية ، لكنه أجاب باللغة العربية بعد أن اتسعت عيناه وتدلت شفته السفلى :
      - العماااااا ش ...ونحن كنا نقول عنك أهبل !! .
      سأل ان كان يستطيع أن ينظر من خلاله ، أعلمته أن هذا مستحيل الآن لأنه سيلفت انتباه الجميع ، ثم عرض بعد قليل أن نخبر أبو حسين فوافقته .
      كانت ردة فعل أبو حسين شبيهة بردة فعل الدكتور نسيم ، ارتسمت على وجهه امارات الدهشة ، واستخدم نفس الكلمة :
      - العماااااش ... والله تاريك مو قليل !... يا ما تحت السواهي دواهي !... ولك طلع صحيح انك جاسوس ... بس جاسوس عـ الشرطة مو للشرطة!.
      بعد يومين أبلغنا أبو حسين أنه قرر اعلام جميع الناس في المهجع بالأمر ، حتى يمكن استخدامه بحرية ، ولأن كل الناس هنا مأمونون ، وهكذا تم .
      باستثناء أبو حسين والأطباء " وعلى رأسهم الدكتور نسيم " فإن الجميع بقي متحفظا تجاهي .
      علمت انهم ناقشوا الأمر فيما بينهم ، وخرجوا بنتيجة :ان كلامي بخصوص دفع تهمة الالحاد ملتبس وغير مقنع ، وانني لو كنت مؤمنا بحق سواء بالدين المسيحي أو الاسلام لما ترددت في اعلان ذلك " فالدين يجب أن يكون جهرا " .
      لكن بالمقابل لم يبق هناك أي تهديد لحياتي ، وهكذا فقد حصلت على أول حق من حقوقي الأساسية كإنسان " حق الحياة " ، حصلت عليه من السندان " الجماعة الأسلامية " ولكن لم أحصل عليه من المطرقة " الشرطة "فلا زال أي رقيب في الساحة يستطيع وبضربة عصا أن يرسلني الى الحياة الأخرى .


      تعليق


      • #4
        رد: مصطفى خليفة - القــوقعـة - يوميات متلصص




        6 تشرين الأول
        الأشهر القليلة الماضية مضت بسرعة ، الدكتور نسيم وهو كالنسيم فعلا ملأ علي ّ ساعات يوم السجن الطويلة ، كنا لا نكاد نفترق ، وبعد فترة من تعارفنا اتفق مع جاري وتبادلا الأمكنة ، نستيقظ صباحا ودون ان نتحرك من تحت البطانية نستأنف حديثا لم يكتمل البارحة ، نأكل سوية ، نتحادث ، قمنا بتصنيع أحجار شطرنج من العجين ، استغرق صنعها أكثر من عشرين يوما ، وكان شطرنجا جميلا ، فنسيم بجوهره فنان وشاعر ، مرهف الاحساس ، يتلمس الجمال في مواطنه ، كانت امنية حياته ان يدرس الفن التشكيلي، لكن ضغط الأهل اجبره على دراسة الطب ، ورغم ذلك فانه ترك الطب لمدة عام كامل عندما كان في السنة الرابعة واشترك مع فنان آخر في محترف بباريس ، وعاد أبوه ليجبره على العودة لدراسة الطب ، رغم ذلك لم ينقطع عن الرسم ابدا .
        كنا نكشط الأجزاء المحروقة من الخبز ونجمعها ومنها اللون الأسود ، نضع قليلا من مرقة رب البندورة ، نتركها عدة أيام لتتكثف وتجف ومنها اللون الاحمر ، من لب الخبز العسكري نصنع العجين ، ومن هذا العجين الممزوج بهذه الألوان كوّن نسيم أحجار شطرنج كل من رآها شهق ، ثم أخذ يصيغ أشكالاً فنية مبتكرة آية في الجمال والذوق .
        نتحدث بالفرنسية ، نتحدث بالعربية ، نلعب الشطرنج ، نراقب الساحة من خلال الثقب ، وبعد أن ننهي كل ذلك ، واذا بقي القليل من الوقت فان نسيم يتناول قطعة من العجين ويبدأ بتشكيلها ، وفي كل الأشكال التي صاغها تلمس المرأة والحنين اليها " عاش نسيم قصة حب كبيرة لا زالت تحفر في وجدانه ، وعند حديثه عنها اعتبرها معنى حياته ، وايضا احدى أكبر خيباته في الحياة ، وأولى هذه الخيبات دراسة الطب تحت ضغط الأهل والمجتمع ".
        مرة ودون مقدمات سألته فجأة :
        - الآن .. هل تواظب على الصلاة ؟
        ببساطة شديدة قال :
        - منذ انا أصبحت بين هؤلاء .. لم أعد أصلي .
        - ولكن ما الذي قذف بك الى هنا بينهم ؟
        - انه أخي .. أخي الذي لم أكن اطيقه أو يطيقني ، شخص متزمت وضيق الأفق ، وحتى قبل أن أذهب للدراسة في فرنسا كان صياحنا اليومي يصل الى الشارع ، وغالبأ ما يكون السبب محاولته التدخل في لباس أمي واخواتي البنات ، يريد ان يفرض عليهن لباسا اسلاميا أسود ، وكن يعارضن ذلك وأقف الى جانبهن .
        في غالب الأحيان كنت وإياه نتضارب بالايدي ، كان فاشلا على المستوى الدراسي .
        ذهبت الى فرنسا ، بقيت هناك ثماني سنوات ، كان خلالها قد انتسب الى هؤلاء "وأشار بيده الى الجماعة المتشددة" ، أصبح مطلوباً بشدة من قبل الأمن الذي اعتقل والدي ووالدتي، وللخلاص من هذا المأزق ولإبعاد أنظار الأمن داخل المدينة ، قال والدي للأمن إنه قد هرب الى فرنسا عند أخيه ، ودون أن أدري أصبحت مطلوباً ، أنهيت دراستي وعدت الى بلدي ، استقبلني رجال الأمن في المطار يريدون مني أخي الذي لم أره منذ ثماني سنوات.
        وها أنا أمامك في هذا السجن.
        كنت ونسيم نتناوب المراقبة من خلال الثقب دون بطانية ، لم يتجاوز عدد الذين نظروا من الثقب عن الخمسة ، يبدو ان الجميع لازال يعتبر فراشي نجساً ، فللمراقبة من الثقب يجب على الواحد أن يجلس على فراشي .
        كنا، نسيم وأنا، اللذان يراقبان دائما، نبلغ ما نشاهده لأبو حسين وهو بدوره يبلغه للجميع .
        عادت العلاقة بين المتشددين وباقي المهجع لتصبح ودية ، خاصة ان المتشددين بالعام شباب صغار السن أقرب الى الطيبة والسذاجة ، شرط ألا يظهر بينهم ابو القعقاع أو صعصعة أو ابو قتادة !.
        بَقُوا هُم الأكثر عطاء وتضحية .
        في واحدٍ من أيام الاثنين تركت الثقب كاملأ لنسيم كي يراقب الإعدامات ، التصق بالثقب ولم يعد يتكلم أو يتحرك ، كان نسيم يكرر كلمة "العمش" كثيرا في احاديثه .
        بعد ساعتتن من التصاقه بالثقب ، قفز الى الوراء واقفاً .. نظر اليّ وقال :
        - العمش .. العمش ..
        نظر الى أبو حسين : العم..اا..ش
        نظر الى المجموع : العمش .. العمش ..
        ثم وبصوت خافت بعد أن اقترب مني :
        - العمش .. ولك شو هاد ؟! ولك ... شلون كنت عم تتحمل هيك مناظر ؟!.. العمش ولك شوف ... شوف !... شو هذا يللي عم يصير ؟!
        نظرت عبر الثقب ، كانت ثماني جثث متدلية عن الحبال ، والعديد من الجثث على الأرض ، هذه الجثث الثمان يبو انها آخر وجبة ، الوحش "عنصر البلديات" يقف أمام الجثة الثانية من اليسار وهي جثة رجل بدين ، يمسك الوحش بيده عصا غليظة ينهال بها ضربا على الجثة ، الشرطة يراقبونه ضاحكين ، ومع كل ضربة عصا على الجثة يصرخ بصوت عال :
        - عاش الرئيس المفدى .. بالروح بالدم نفديك يا رئيس ... " وضربة بالعصا على الجثة " ... ولك يا كلب بتشتغل ضدد الرئيس .. وضربة بالعصا ... لك يا منيك ... رئيسنا أحسن رئيس ... ضربة بالعصا ... حيدو يا منايك حيدو .. ضربة بالعصا... الرئيس قبل الله نعبده ... ضربة بالعصا ... ويختل الايقاع .. ضربات عديدة بالعصا " اتساءل: هل انتهت ذخيرة الوحش الكلامية التي كان قد حفظها لكثرة تردادها في الراديو والتلفزيون وفي الشوارع اثناء المسيرات التي تنظمها الدولة ؟! يبدو ان الامر كذلك لأن الوحش بدأ يلجأ الى ذخيرته الكلامية الشخصية ! الذخيرة الكلامية التي لمها من الشوارع " .
        يتوقف قليلا عن الضرب ، ثم ضربة قوية على الرأس اسمع من خلالها رنين العظام ... ولك يا كلب ... انتو فيكن عالرئيس ؟... ضربة عصا ... ولك الرئيس أقوى واحد بالدنيا ... ضربة ... ولك الرئيس بدو ينيك امهاتكم ... ضربة ... ولك الرئيس عندو أطول اير بالدنيا كلها ... ضربة ... ولك بدو ينيكم وينيك اختكم واحد واحد ... ضربة بالعصا ... يتوقف الوحش قليلا وهو يلهث ، بعدها وبحركات هستيرية يضع احد طرفيّ العصا بين اليتي الجثة ويدفع بها الى الأمام ، تتحرك الجثة كلها الى الامام ، يستمر الوحش بالضغط ، الطرف الثاني للعصا بين يديه الاثنتين يركزه في موضع قضيبه ويبدأ بدفع العصا بين اليتي الجثة رهزا ، ومع كل هزة الى الامام ... يصيح :
        - بالروح بالدم .. نفديك يارئيس .
        تبقى العصا بين الاليتين ، الجثة دائمة التأرجح ، الشرطة يضحكون ... يتقدم الرقيب " الأعوج " وهو يقهقه ، يمسك الجثة من الأمام ويثبتها جيدا للوحش ، الوحش يتابع ضغط العصى بين الاليتين ويهتف :
        - بالروح ... بالدم .. نفديك يارئيس .
        الأعوج يضغط من الأمام ، الوحش يضغط بالعصا من الخلف ، وفي لحظة يفلت رأس الجثة من الحبل "يبو المشهد من بعيد وكأن الجثة حركت رأسها بحركة بارعة لتتخلص من الحبل" ، تسقط الجثة على وجهها أرضا ، تفلت العصا من يد الوحش وتظل مغروزة منتصبة بين اليتي الجثة ، يقفز الوحش عالياً ويصيح بشعار طالما سمعه يردد كثيرا في الراديوا و التلفزيون :
        - يسقط الاستعمار ... تسقط الامبريالية .
        يرد عليه الرقيب الأعوج :
        - تسقط ... تسقط .. تسقط .
        - يعيش الرئيس المفدى .
        - يعيش ... يعيش ... يعيش .
        وتبقى العصا مغروزة بين اليتي الجثة تتأرجح .
        - الى الأبد ... الى الأبد ... يعيش الرئيس .
        - يعيش ... يعيش ... يعيش .
        ومع كل كلمة "يعيش" تتأرجح العصا ذات اليمين وذات اليسار .

        20كانون أول :
        خلال الشهور الماضية توطدت علاقتي كثيراً مع نسيم، وهو كان فرحاً بي أيضاً، لم يكن نسيم مثل هؤلاء، عقله منفتح ومتحرر و لا يهتم بالأمور السياسية ولم يسبق له أن فكر حتى بالإنتساب إلى أي من التنظيمات الدينية، كان وهو في الحياة خارج السجن يؤدي الفرائض الدينية بالمناسبات.
        مرة قال لي شيئاً كنت أفكر فيه أيضاً. قال :
        - كيف مرت كل هـ السنين وأنا وأنت في محل واحد ولم نتعرف على بعض ؟! بعدين نتعرف على بعض و نصير كأننا توأم !!.. فعلاً أنت توأم روحي.
        كنت أحس الإحساس نفسه.
        ************
        لازالت ورشات البناء في السجن الصحراوي تقوم بإشادة مهاجع جديدة، رغم أن القادمين الجدد إلى هذا السجن قد تناقصوا بشكل كبير في السنوات الثلاثة الأخيرة .
        (( من هو أول سجين في التاريخ ؟ من الذي اخترع السجن ؟ .. كيف كان شكل السجين الأول ؟.. هل هناك سجين واحد في كل العالم .. في كل الأزمان .. في كل السجون .. قضى في السجن عاماً واحداً أو أكثر .. ثم عندما يخرج .. يكون هو .. هو ؟ !
        أي عبقري هذا الذي أوجد فكرة السجن !!.. هل هو الإله ؟.. يجب أن يكون كذلك .. لأن فيها من الإعجاز ما هو فوق قدرات العقل البشري !!..
        لكن لماذا ترك الله الشيطان طليقاً بعد العصيان ولم يسجنه إذا كان الله يعرف ما هو السجن ؟!.. أنا واثق أن الشيطان كان سيسجد مرغماً بعد قضاء عدة شهور لا بل عدة أسابيع، ليس أمام آدم فقط إنما أمام حواء!.... هل يمكن أن يكون الله قد أخطأ عندما طلب من إبليس أن يسجد أمام آدم ؟! لماذا لم يطلب منه أن يسجد أمام حواء !؟..
        هل كان إبليس سيرفض السجود أمام حواء ؟
        ولكن ماذا لو سجد إبليس أمام آدم نفسه ؟
        هل كان سيصبح إبليس نائباً لله ؟! ....أو شريكاً له ؟!
        " لو لم أكن سجيناً كيف كان لمثل هذه الأفكار المضحكة أن تنبت ؟! " )) .
        تنشأ في السجن مهاجع جديدة . "متى كانت كل المهاجع في هذا السجن فارغة ؟" يدخلها الناس سويةً أو على دفعات متتابعة. بضعة أيام ويكتمل نصاب المهجع. بضع عشرات ، مائة .. مئتان ... ثلاث أو يزيد ! الجميع ينظر إلى الجميع. الوجوه متشابهة. لا يعرف أحدٌ أحداً. يبدأ التعارف بعد دقائق .. ويستمر سنوات .
        مع التعارف يبدأ الفرز. يبدأ الإلتفاف و التلاقي. في البداية تنشأ التجمعات على الأرضية السياسية التنظيمية و التي كانت سبباً في دخولهم السجن، أبناء الحزب الواحد .. التنظيم الواحد، يلتقون .. سواءً كانوا يعرفون بعضهم سابقاً أم لا .. يتعارفون، يشكلون مجموعة واحدة، وحياة اجتماعية مشتركة، لهم اجتماعاتهم وأسرارهم، أغلبها إن لم يكن كلها .. وهم، كل ما في الأمر أنهم يتساندون !. يتكئ بعضهم على بعض، الروح الجماعية تشكل لهم وهماً بالقوة .. وبالتالي الحماية، أن تكون محمياً بالجماعة يعطي الشعور بالأمان.
        تبدأ الحالة شديدة متوترة، تصل إلى حد التعصب وعداوة الآخرين، مع الأيام .. تبدأ بالتراخي، خاصة إذا كان المهجع كله ذا لون تنظيمي واحد .
        في الدروس التي يتلقاها ضباط الأمن .. وبعد الدرس الأول الذي يقول :
        " أول درس في المخابرات .. هو أن لا تثق برجل المخابرات ".
        تأتي دروس عديدة، قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة. و في النص الذي يحتوي على كيفية التعامل مع التنظيمات المعادية .. هناك درس يبقى صائباً على الدوام :
        " إذا أردت لأفراد تنظيم ما أن يأكلوا بعضهم بعضاً .. اسجنهم سويةً ".
        الإحباط، التباعد، النفور، الكراهية، النيل من هيبة القيادات .. وتبدأ الوشائج التنظيمية بالتراخي والتفكك، ومعها يبدأ التطلع إلى المحيط خارج إطار التنظيم الواحد.
        تمر الأيام ، الأسابيع، الشهور، السنوات !.
        تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة : " الجغرافية ". أبناء المنطقة الواحدة، القرية، البلدة، المدينة، أو حتى .. المنطقة الأوسع، المنطقة الشمالية، المنطقة الشرقية، المنطقة الساحلية .
        يستعيدون فيما بينهم الذكريات. يتذكرون الأماكن الأليفة بحنين بالغ، الطرقات .. السهول .. الوديان .. الجبال .. الشوارع والحدائق والساحات. يتذكرون بعض الأحداث العامة و المشهورة، ويوماً بعد يوم تكبر التقاطعات، وتكبر معرفتهم بعضهم ببعض.
        مع ازدياد المعرفة، وبأسئلة بريئة في الظاهر يُنبش ما كان محسوباً أنه من المنسيات. فلكل شخص أو عائلة أو عشيرة إيجابياتها .. ولها كذلك ما تخجل منه وتحاول نسيانه .. أو جعل الآخرين ينسونه .
        لكنه السجن و له قوانينه الخاصة... البسيطة... الصريحة... الوقحة !
        ويسأل أحدهم ابن مدينته الذي تعرف عليه سؤالأ قد يكون مازحاً .... قد يكون بريئاً .... قد يكون ! :
        - أنت من بيت البيك الذين يسكنون في المحل الفلاني ؟ .
        - نعم .. أنا من بيت البيك هؤلاء .
        - آ ..... آ عفواً .. لا تواخذني .. بس أنا سمعت حكاية، صحيح أن رتبة البكوية و الأملاك و الأراضي .. صارت عندكم لأنه ستك "جدتك" الكبيرة كانت صديقة للوالي العثماني ؟؟
        - لأ ... أبداً مو صحيح.
        ينتهي الحديث و ينكمش شيء ما داخل نفس سليل آل البيك .. ونفور !
        يسأل آخرٌ آخراً :
        - أنت من قرية الحيدرية بس أنت من بيت مين ؟
        - أنا من بيت البيطار .
        - آ ... البيطار. قل لي .. سمعنا من كام سنة ... أن امرأة من بيت البيطار قتلت زوجها بالاشتراك مع عشيقها .. بتقربك شي هــ المرأة ؟
        - المرأة خالتي .. بس القصة مو صحيحة، يعني تهمة وبس !
        ينتهي الحديث و ينكمش شيء ما داخل نفس سليل آل البيطار ..... ونفور !
        وتتعدد الأسئلة :
        - أنت ابن فلان الذي سرق صندوق البلدية ؟
        - أنت أبن فلانة التي .......
        وتنتهي الأحاديث، وتنكمش أشياء كثيرة داخل النفوس ... ونفور !
        تمر الأيام، الأسابيع، الشهور، السنوات !.
        تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة. الميول، الهوايات، المهن، المهتمين بالأدب، الفنانين، المعلمين، الأطباء .....
        تمر الأيام، الأسابيع، الشهور، السنوات !.
        تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة : الذوق، اللباقة الأجتماعية !.
        ينفر منه ويبتعد عن زميله في التنظيم أو المهنة أو المنطقة .. لأنه يخرج أصوات من فمه عندما يأكل .. وهذا قلة ذوق .
        ينفر منه ويبتعد عنه لأنه عندما يطوي بطانياته فإنه يطويها بعنف مثيراً الغبار على جاره ..وهذا قلة ذوق .
        ينفر منه ويبتعد عنه .. لأنهما عندما يتحادثان لا يترك مسافة كافية بين الرأسين !.. يقترب منه كثيراً ويتكلم .. يجبره أن يشم رائحة فمه الكريهة !.. وهذا قلة ذوق .
        مئات المشاكل التي يثيرها التعايش القسري بين أناس لم يختاروا بعضهم بعضاً، فهم من مشارب ومنابت مختلفة .. تربيات مختلفة .. سويات حضارية مختلفة .
        تكون السنوات قد مرت. سنة تجثم على صدر التي قبلها .
        تنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة، ويبتعد الناس أكثر فأكثر عن كل ما له طابع جماعي، رماد السنوات المنطفئة يغطي شيئاً فشيئاً طزاجة الذكريات عن الخارج. يبتعد هذا الخارج، وينغمس الشخص في تفاصيل الحياة اليومية للسجن، تكبر المساحة التي تحتلها هذه التفاصيل في نفس السجين، على حساب الخارج الذي يبدو قصياً بعيد المنال ! .. وأكثر ما يبتعد هو السياسة، انعكاساتها كناظم لقطيع من البشر. تعود الذات الفردية لتنمو على حساب الذات الجماعية أو روح القطيع. وقد يصل الأمر إلى حد القطيعة أو العداء .. مع التاريخ الذي ساهم هو بصنعه !.. خطوة أخرى ويصل إلى جلدٍ ساديٍّ للذات !!... يقول بمرارة تقطر مع الكلمات :
        - لقد كان السجن ضرورياً لنا لنكتشف الكذبة الكبيرة التي كنا نعيشها. أي غباء .. أي وهم .. أوصلانا إلى هنا ؟!..
        وتنشأ علاقات جديدة على أرضية جديدة. والصداقات الثنائية هي المرحلة ما قبل الأخيرة، و تبدأ كحالات معزولة منذ البداية و ولا تتحول إلى ظاهرة إلا في المراحل المتقدمة، وحتى في هذه المراحل قد لا تكون عامة مطلقة ولكنها تقترب من الأغلبية.
        المتشابهان ..... المتناقضان ... التشابه و التناقض، على ما فيهما من تباعد في كل شيء، إلا أنهما يشكلان الأرضية المناسبة أو التربة المناسبة لنشوء العلاقات الصداقية الثنائية ! .
        بعد مسيرة السنوات الطوال، ومن خلال التجربة و الخطأ، من خلال الاحتكاك المستمر والدائم على مدار أربع وعشرين ساعة كل يوم، ثلاثمائة وخمس وستون يوماً كل عام .. يكتشف الاثنان أنهما متشابهان في بعض الأشياء .. في الكثير من الأشياء .. في كل الأشياء !.
        ينجذبان إلى بعضهما البعض. وتبدأ علاقة صداقة بين اثنين .
        بعد مسيرة السنوات الطوال، ومن خلال التجربة و الخطأ، من خلال الاحتكاك المستمر والدائم وعلى مدار أربع وعشرين ساعة كل يوم و ثلاثمائة وخمس وستين يوماً كل عام و يكتشف اثنان أنهما متناقضان .. في بعض الأشياء .. في الكثير من الأشياء .. في كل الأشياء .
        وكما المغنطيس ينجذب سالبه إلى موجبه .. ينجذبان إلى بعضهما البعض .. وتبدأ علاقة صداقة بين اثنين، وهذه الصداقة تبدأ متوازنة متكافئة، لكل منهما نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، ومع توالي الأيام يبدأ الخلل بين كفتي الميزان، بنفس قدر ارتفاع الأولى تنخفض الثانية، طرف يبدأ باكتساب القوة و اظهارها، والطرف الآخر يعتمد أكثر فأكثر وفي كل الأمور على صديقه القوي، ليصبح هو الطرف الأكثر ليونة ورقة!.. تستمر العلاقة بين الاثنين وفق هذه المعادلة طويلاً، القوي والضعيف، القوي الذي يرعى الضعيف ويبسط حمايته عليه وهو في غاية الاستمتاع بهذا الدور، والضعيف الذي يلوذ تحت جناحه ورعايته وهو في غاية الاستمتاع بهذا الدور !.
        أقبع في قوقعتي طوال هذه السنوات أحاول أن أرقب وأفسر وأسجل كل ما يحدث أمامي ضمن هذا التجمع الإنساني، رصدت الكثير من الأمور وفسرتها وسجلتها .
        هذه الثنائيات منذ بداية تشكلها أثارت اهتمامي، راقبتها.. تحولاتها وتطوراتها، وفسرتها في سياق الحاجات الإنسانية للإجتماع و التواصل .. إلى أن نشأت الحالة الثنائية بيني وبين نسيم بفضل المرحوم أبو القعقاع .
        في بداية العلاقة كنت مأخوذاً بأمر واحد فقط .. أن يكون لدي من أحادثه !.
        كان طبيعياً أن أندفع وبقوة نحو هذا الشخص الذي ارتضى بعد أكثر من عشر سنوات من القطيعة التامة أن يحادثني ويجلس على فراشي .. ثم يدعوني للجلوس على فراشه !.. عاودني الشعور بأني إنسان ذو كيان يحترمه البعض، يحترم شخصه ويحترم عقله ورأيه، وكان هذا يمكن أن يتحقق مع أي شخص هنا يرفض مقاطعتي ويملك عقلاً منفتحاً ولو بحدوده الدنيا.
        لكن نسيم أكثر من ذلك بكثير. نسيم أكبر من كل أحلامي وامنياتي بشخص ينتشلني مما أنا فيه، بساطته ورقته جعلاني أراه أمامي ساطعاً نقياً كسطوع صفحة بيضاء تحت أنوار قوية، دخل إلى روحي خلال أيام قليلة، هصرها .. سحنها .. عجنها بروحه وجسده .. اتحد بها !!... و
        ذعرت .. ذعرت .. ذعرت !!.
        من أنا ؟ ! .. هل أنا .. أنا ؟! .. و
        إلى أين ؟؟ .
        في بلدي وفي فرنسا عرفت الكثير من النساء، بعضهن عابرات .. قد لا أتذكر ملامحهن الآن، والبعض الأقل حفرن في الوجدان أثلاماً لا تمحى .... !
        كنت في هذه العلاقات طبيعياً جداً، كأي إنسان عادي، ولم يحدث أبداً خلال كل الماضي أن كانت لي أي ممارسات غير طبيعية أو شاذة، ولم ألحظ على نفسي أية ميول لممارسات جنسية غير الممارسات العادية بين الرجل و المرأة، كما لم ألحظ أبداً أية ميول مثلية نحو الجنس المشابه، لا بل على العكس كنت أنفر منها نفسياً حتى في فترة المراهقة التي يحدث فيها أن يداعب المراهقون بعضهم مداعبات شتى ذات طابع جنسي، لم أتعرض أنا – وقد يكون بحكم بعض ظروفي الموضوعية – إلى أية تجارب من هذا النوع .
        ولكن الآن .. الآن ماذا يجري لي ؟!
        وماذا يمكن أن تكون نهاية هذا الأمر ؟
        ما أشعر به اتجاه نسيم من عواطف ملتهبة لم أشعر به أبداً حيال أية امرأة عرفتها في حياتي !.
        نجلس سويةً، نتحادث .. نلعب .. نأكل، طوال ساعات الاستيقاظ، ينام إلى جانبي ونتابع أحاديثنا بصوت خافت ونحن مستلقيان. نحن، الاثنين، مع بعضنا البعض طوال اليوم .. ورغم ذلك أظل مشتاقاً إليه وبشدة!.
        يغادرني أوقات قليلة، كأن يذهب إلى المرحاض أو يذهب للاغتسال .. فتبقى عيوني معلقة على باب المغاسل الحجري إلى أن يعود، ومن هناك يبادلني الابتسام .. فأرتاح .
        لا أدري شيئاً عن مشاعره، عواطفه، تفكيره في هذا الموضوع، لكن اندفاعه نحوي في هذه العلاقة الحميمية وترداده الدائم لعبارة أني " توأم روحه " كلها أمور تنبئ بأنه إما أنه يعيش نفس حالتي .. أو أنه بمنتهى البراءة .
        كفتا الميزان في علاقتنا في الأساس متفاوتة، هو رقيق جداً، وحتى على صعيد الشكل تقاسيمه ناعمة بها شيء من الأنوثة. وأنا متجهم .. ذو شعر كث وتقاسيم حادة قاسية. ومع تطور العلاقة بيننا ازددت قوة ورجولة بينما شابت حركاته بعض النعومة و الليونة .. وأحياناً الدلع .
        أعيش الآن صراعاً نفسياً رهيباً بين عقلي ومحاكماته القاسية، وبين عواطفي وميولي الطارئة التي أحسها أحياناً أنها لا تستجيب لأوامر العقل ونواهيه و روادعه .
        هل أناقش الأمر معه بصراحة ؟.. ولكن لم ؟.. ما هي الفائدة ؟ ألن يكون هذا سبباً في تحطيم علاقة الصداقة الرائعة هذه ؟!
        الملامسات بيننا. يحدث أحياناً ونحن في حمى الحديث أو اللعب أن أمسك يده فأشعر براحة ومتعة غريبتين!! أبقى ممسكاً بها أكثر مما يستوجبه الموقف !! .
        ألتفت إلى المهجع مجدداً. أرقب وأفسر هذه العلاقات الثنائية المنتشرة، ولكن بعيون جديدة .. عيون فاحصة تحاول أن تثقب الجدار الخارجي السميك لكل واحدة من هذه العلاقات .. ثم تسبر ما تحت القشرة هذه !.. لم أتوصل إلى أية معلومة أو نتيجة مفيدة في هذا الشأن. كل العلاقات ظاهرها بريء .
        وخفتُ .. خفت كثيراً .
        هل يمكن أن تكون مفاعيل السجن وتأثيراته قد غيرا بنيتي النفسية بحيث يجعلاني اسير في هذا الاتجاه ؟ لكن عقلي يرفض ذلك رفضاً باتاً .
        وخوفي الشديد .. هل يمكن أن يكون دلالة صحة إذا كانت مشاعري وعواطفي دلالة مرض ؟!
        ولكن .. هل هذا كله وهم ؟ ألا يمكن أني اعطي الموضوع حجماً أكبر من حجمه الحقيقي ؟ لماذا لا أدع الأمور تسير سيراً طبيعياً ؟ .. وليكن ما يكون .
        هذا الدمار الكامل و الشامل للإنسان، هذا الموت اليومي المعمم .. ألا يدفع إلى الجنون .. أو إلى أكثر التصرفات والسلوكيات جنوناً وغرابة ؟!
        تتجمع في حلقي بصقة كبيرة .. إلى أين أقذفها ؟ .. بوجه من ؟.

        24 شباط
        مؤخراً انتبهت إلى أمر آخر، بدلاً من أن تساهم علاقتي مع نسيم في إخراجي من قوقعتي، قمت أنا بإدخاله إلى القوقعة.
        بقي المهجع على موقفه مني، وهو المقاطعة. صحيح أنها لم تعد مقاطعة عدائية خطرة، لكنها أصبحت مقاطعة سلبية باردة، وشيئاً فشيئاً ومع اقتصار علاقتي على نسيم فقط انسحب موقف المقاطعة عليه أيضاً، بعض المتزمتين اتهمني بأنني أفسدت نسيم في دينه، وغير بعيد أن نسيم قد أصبح ملحداً أيضاً، ودللوا على ذلك بانقطاع نسيم عنهم وقضائه كل الوقت عندي يتحدث معي بلغة الكفار .. ونتلهى بالشطرنج بدلاً من ذكر الله، وعندما نبهت نسيم إلى هذا الأمر قال :
        - مع ألف جهنم، من قبل ما يرفضوني هم، أنا من الداخل كنت رافضهم .
        واستفاض بالحديث وتبين لي أنه لا يحبهم، وفي بعض الأحيان عبر عن اشمئزازه منهم، ووصف بعض تصرفاتهم بالتخلف و الجهل وأحياناً بالوضاعة .
        كنت أعتقد أن إنساناً مثل نسيم، "شفافاً وصافياً، فناناً صادقاً، طيباً إلى أبعد الحدود " لا يمكن أن يعرف الكره، ولكن من أحاديثه عنهم كنت ألمس أحياناً بعض شذرات كراهية مترسبة في أعماقه. صارحته بملاحظتي .. لم ينف أو يدافع، قال :
        - لا أعرف .. الإنسان لا ينتبه على حاله .. ممكن يكون أساس هذه الكراهية أخوي .. يعني " زميلهم " !
        نسيم دائم الإندهاش يرى أمراً أو حدثاً يتكرر أمامه مئات المرات لكنه في كل مرة يبدي نفس القدر من الدهشة و الاستغراب، وإذا كان أمراً يرفضه يبدي نفس القدر من الاحتجاج و الاستنكار .
        أهم ما يميزه هو ذكاؤه ورقته، هذه الرقة اللامتناهية، والرهافة الارستقراطية .
        الآن مضى على نسيم ثلاثة أيام لا يأكل رغم كل محاولاتي لإجباره على الأكل .
        ************
        في مهجعنا عائلتان، العائلة الأولى تتألف من أربعة أخوة، أما العائلة الثانية فهي تتألف من أب وثلاثة أبناء .
        عند بداية الأحداث بين الحركة الدينية و السلطة، وبدء حملات الاعتقال الواسعة، استطاع الأبناء الثلاثة وهم جميعاً منظمون، استطاعوا الفرار و التواري عن الأنظار، وعند مداهمة المنزل وجد رجال الأمن والد الفارين وحيداً، اقتادوه معهم إلى فرع المخابرات، وهناك ظل الآب أكثر من شهرين رهن التحقيق، يريدون منه أن يدلهم على مكان تواجد أولاده، وهو حقيقة لم يكن يعرف ! وبعد شهرين أرسلوه إلى العاصمة وهناك أيضاً حققوا معه لكن دون جدوى، أخيراً سئم الضابط منه وقال له إنهم سيبقونه في السجن رهينة إلى أن يسلم أولاده أنفسهم للأمن .
        بقي الأب إلى جانب الكثيرين من أمثاله و الذين كان السجناء يطلقون عليهم على سبيل المزاح اسم " تنظيم الرهائن " أو " حزب الرهائن " .
        بقي الأب عدة شهور في العاصمة. بعدها تم ترحيله مع الآخرين إلى السجن الصحراوي، عندما ضاقت سجون وفروع المخابرات في العاصمة .
        بعد ثلاثة أعوام من بدء اعتقال الأب، أصبح جميع أبنائه في السجن الصحراوي، تم اعتقالهم واحداً إثر الأخر، وفي النهاية ومن خلال رسائل المورس عرفوا مواقع بعضهم، ورغم اعتقال الإخوة الثلاثة لم يتم اطلاق سراح الأب .
        بعد ثلاثة أعوام أخرى جاء دور قضيتهم لتنظر فيها المحكمة الميدانية. كان هناك أكثر من خمسين شخصاً سيحاكمون في ذلك اليوم .
        صفاً رباعياً جالسون على الأرض، وكل واحد منهم عليه أن يشبك يديه فوق رأسه ورأسه بين ركبتيه و الأعين مغمضة.
        المحكمة تناديهم بالأسماء، من يذاع اسمه يقفز ويصيح حاضر، وفي أقل من ثانية يجب أن يكون أمام هيئة المحكمة .. وفي أقل من دقيقة أو دقيقتين تتم محاكمته !! .. وفي أقل من ثانية أخرى عليه أن يعود إلى مكانه وجلسته !.
        في هذا الجو، ورغم كل شيء رأى الأب و الأخوة بعضهم ووصلت سلاماتهم لبعضهم عن طريق التسلسل، ثم نودي عليهم فرداً فرداً .
        بعد أن انتهت محاكمتهم يبدوا أن أحد الضباط قد لاحظ وانتبه أن الكنية واحدة للأربعة، فطلبت هيئة المحكمة من الشرطة ادخال الأب و أبنائه .
        كانت هيئة المحكمة المؤلفة من ثلاثة ضباط في حالة استرخاء ومعهم مدير السجن قد توزعوا في أرجاء الغرفة حول المدفأة المتوهجة، جو الغرفة حار نسبياً، يشربون القهوة ويدخنون ويتبادلون النكات، وفي اللحظة التي دخل فيها الأربعة إلى الغرفة كان مدير السجن يروي لهم نكته , فوقف الأربعة عند باب الغرفة المغلق وقفة تصاغر , لم يعرهم أي من الحاضرين اهتماماً , ضحكوا بشدة .. تبادلوا التعليقات .. بعد بضع دقائق التفت أحد الضباط وأمعن النظر بالأشخاص الأربعة , كان جو المرح لازال سائداً , توجه بالحديث للأب ..
        - شو يا حجي .. أنتوا كنيتكم واحدة .. أنتوا بتقربوا بعضكم شي ؟
        - نعم يا سيدي نعم .. هدول أولادي وأنا أبوهم .
        استلم دفة الحديث ضابط أخر ..
        - قول لي يا حجي .. في عندك أولاد غير هدول ؟
        - لا و الله يا سيدي .. هدول هنن كل أولادي .
        - يعني العائلة كلها مجرمين وعملاء .
        - لا و الله يا سيدي .. نحن ناس على قد حالنا .. وحسبنا الله ونعم الوكيل .
        تدخل مدير السجن , فسأل الأب ..
        - قديش عمرك أنت .. ولا ؟
        - و الله بالضبط ما بعرف يا سيدي .. بس يمكن صار فوق السبعين .
        - فوق السبعين !.. وباقي عندك حيل وعندك قوة تضرب وتقتل ؟
        - يا سيدي ..... الله وكيلك لا قتلنا ولا ضربنا ... بس النار مرت من جنبنا قامت حرقتنا نحن كمان .
        - و الله مانك سهل يا ختيار النحس ... قديش صار لك بالحبس .. و لا ؟
        - و الله يا سيدي .... صار يمكن .... ست سبع سنين .
        - طيب .. بهـ السنين ... ما عم تشتاق لمرتك ؟
        - يا سيدي ... الانسان بعمري .. وبعد كل هالشي .. ما يطلب غير حسن الختام .
        - طيب هاي فهمناها .. بس غير شي .. غير شي .. ما بتحس انو ناقصك شي شغلة ؟
        - أي و الله يا سيدي .. أنا صرت زلمة كبير ... وحركتي صعبة كتير ... لو تحطوا لي أولادي معي يخدموني .. بتكونوا فضلتوا على راسي .
        وقتها أمر مدير السجن أن ينقل أولاده إلى مهجعه .
        عاد عضو المحكمة بعد ذلك لتوجيه الحديث .. خاطب الأب :
        - شوف يا حجي ... شو تتوقع يكون حكمكم ؟
        - يا سيدي .. رحمة الله واسعة , و انتوا دائماً بتحكموا بالعدل !!
        - طيب اسمعني .. انتوا اربعة أشخاص عائلة واحدة .... ونحن حكمنا على ثلاثة منكم بالإعدام ... وهلق .. أنت بدك تختار مين لازم ينعدم ومين الواحد ياللي لازم يعيش .
        - الله يطول عمرك يا سيدي .. و يطول عمر أولادك .. إذا كان الموضوع هيك فـــ لازم اسعد يعيش , ونحن الثلاثة يدبرها الله !.
        - ومين أسعد ؟
        - هذا هوي أسعد .. مخدومك ويبوس ايدك يا سيدي .
        - ليش اخترت أسعد يا حجي ؟
        - يا سيدي أنا زلمة كبير أكلت عمري , وسعد وسعيد متجوزين من زمان وخلفوا أولاد , و من خلف ما مات , أما أسعد بعدو صغير ومانو متجوز و بعدو بزهرة شبابو .. و الزهرة حرام تنقطف .. مو هيك يا سيدي ؟
        - أي حجي أي ... هيك ... يا شرطي ... يا شرطي ... تعال رجع هالجماعة وحطهم بمهجع واحد .
        عاد جميع أفراد العائلة إلى مهجعنا , هذه القصة .. هذا الحوار سمعته خلال سنتين عشرات المرات , ولكن منذ خمسة أيام – وكان أحد أيام الخميس – وردت لائحة الإعدامات وبدأ الشرطي بقراءتها , كان اسماء الذين سيعدمون من مهجعنا هم ( سعد وسعيد وأسعد ) , عندها ثار الأب .
        أسعد كان نائماً عند قراءة الاسماء , قام سعد وسعيد عن فراشيهما , توجها إلى فراش أسعد , أيقظاه , كانا يناديانه باسمه , عندما يناديه سعد يسكت سعيد ثم يناديه سعيد فيسكت سعد :
        - أسعد .. يا خاي .. أسعد .. فيق .. قوم .. يا خاي قوم .. أسعد .. قوم .. أمر الله وما منوا مهرب .. يا أسعد .. يا خاي .
        استيقظ أسعد , ونظر إلى أخويه على جانبي فراشه , اعتدل جالساً وهو ينظر إليهما نظرة ملؤها الاستفهام , وسألهما :
        - شو ؟ .. شو في يا خاي ؟ .. شو صار ؟
        - ما في شي ..... بس قوم .... فيق .... لازم نقوم نتغسل ونتوضا ونصلي , بعدين لازم نودع ناس .
        تجمدت قسمات أسعد للحظات , ثم نظر إلى أخويه وسأل :
        - أنا كمان معكم ؟
        - نعم .. انت كمان معنا !
        - لا حول ولا قوة إلا بالله .. حسبنا الله ونعم الوكيل ... توكلنا على الله .
        قام الثلاثة باتجاه المغاسل التي كانت قد افرغت وتركت لهم فقط .
        قفز الأب السبعيني إلى الممر بين طرفي المهجع وهو يلوح بيديه تلويحات عدم فهم وعدم تصديق !! مشى إلى منتصف المهجع , وقف تحت الشراقة التي يطل منها الحارس عادة و نظر إلى الأعلى .. إلى السماء , وبصوت راعش ولكن قوي :
        - يا رب .. يا رب العالمين , أنا قضيت عمري كلو صايم مصلي وعم أعبدك , يا رب أنا ما بدي أكفر .. حاشا لله واستغفر الله العظيم .. بس بدي اسأل سؤال واحد : ليش هيك ؟ .."وبصوت عالي أقرب إلى الصراخ وهو يلتفت إلى الناس" .. ولك ليش هيك ؟؟ يا رب العالمين .. ليش هيك ؟؟ أنت القوي .. انت الجبار ! .. ليش عم تترك هــ الظالمين يفظعوا فينا .. ليش ؟ .. شو بدك تقول ؟ بدك تقول إن الله يمهل ولا يهمل ؟ .. طيب هــ الكلام مين بدو يرجِّع من أولادي ؟ .. يا الله ... أنت ترضى أنو أسعد ابن الخمس وعشرين سنة ينعدم على أيدي هــ الظلاّم ؟! قلي .. جاوبني .. ليس ساكت .. أنت .. انت .. استغفر الله العظيم استغفر الله العظيم ... يا رب ... لو كان عندك ثلاثة أولاد وراح يروحوا عـ الإعدام بلحظة واحدة .. شو كنت تعمل ؟ .. هاه ؟ .. طيب جاوبني على ها السؤال الصغير بس .. انت .. رب العالمين .. معنا نحن و إلا مع هـ الظالمين ؟! لحد الآن كل شي يقول ... أنك معهم .. مع الظالمين !! ... استغفر الله ... استغفر الله .. يا رب .. بعزتك وجلالك .. بس اسعد , بس رجِّع لي أسعد , لا تخليه يموت .. أنا ما عم قلك الثلاثة , بدي أسعد بس .. وانت قادر على كل شي !.
        السكون و الوجوم يخيمان على المهجع , أبو سعد سكت أيضاً , جلس على الأرض ووضع رأسه بين يديه , بعد قليل رجع الإخوة الثلاثة , صلوا أخر صلاة لهم وبدؤوا بتوديع الناس , أبو سعد لم يتحرك من مكانه ولازال رأسه بين يديه , انتهى الإخوة من وداع الناس , جاؤوا ووقفوا أمام الأب الذي لازال مطرقاً , جلسوا حوله .. سأله سعد :
        - أبي ... يا أبي .... ما بدك تودعنا ؟ ..... أبي الله يخليك لا تحرق قلبنا بآخر عمرنا ... ابوس أيدك يا بو ....
        رفع الأب رأسه , شملهم بنظرة ذاهلة حارقة , رفع يديه باتجاههم , التقط أولاده اليدين وأخذوا بتقبيلهما ... وأجهش الأربعة ببكاءٍ فجائعي , عم البكاء المهجع كله ... أخذ الرجال جميعاً ينشجون ويشهقون ... ارتفع صوت نشيج الرجال الجماعي عالياً , وقف أبو حسين في منتصف المهجع , وبكلام تقطعه شهقات البكاء المتتالية أخذ يرجو الجميع أن يخفضوا اصواتهم :
        - من شان الله يا اخوان ... هلق .... نكون بشي بنصير بشي ... وطّوا الصوت يا شباب .. من شان الله يا شباب .
        سحب الأب يديه من أيدي ابنائه وحاول أن يلف الثلاثة بيديه , القى الأبناء أنفسهم في حضن الأب , تجمعت الرؤوس الثلاثة على صدره , وضع الأب يديه على رؤوسهم وقد أغمض الجميع عيونهم ولازالت دموعهم تسيل ولكن بصمت .
        مرة اخرى بدا المهجع يهدأ , مسحنا دموعنا جميعاً ونحن شاخصون بأبصارنا اتجاه الأب وأولاده , رفع الاب رأسه قليلاً , مسح بيديه على الرؤوس الحليقة ... حول عينيه إلى الناس المحدقين به وبصوت هادئ ولكنه قوي بدأ الكلام كمن يخاطب نفسه , قال :
        - هذا أمر الله : أمر الله ما منه مهرب .. إنا لله وإنا اليه راجعون .. معليش .. لا تخافوا .. يا ابني لا تخافوا .. خليكم سباع .. قلبي وقلب أمكم معاكم .. الله يرضى عليكم دنيا آخرة.. رضا الله ورضاي معكم .. هذا الموت كاس .. نعم كاس .. كل الناس بدها تشرب منه ...
        سكت قليلا التفت إلى الناس واستأنف حديثه :
        - ولك بس ليش ؟.. ليش اولادي أنا .. ليش ؟ ..يا جماعة .. يا ناس هدول أولادي .. ما عندي غيرهم .. آخ .. آخ .. الله وكيلكم ما عندي غيرهم .. آخ يا أسعد .. آخ .. ولك يا جماعة يا ناس .. لك حدا منكم شاف هيك شوفة .. أولادي كلهم قدامي راح يتعلقوا عـ المشانق !!.. ولك شي حدا يخبرني .. احكوا يا ناس .. ليش .. ليش أنا وأولادي .. شو عملت من الذنوب تحت قبة الله حتى يجازيني هيك جزاء ؟!.. آه يا ابني آه .. يا ريتني متت من زمان ولا شفت هيك شوفه !.. ياريت متت ولا عشت هيك يوم !! .. آخ .. يا ربي آخ .. ليش .. ليش .. ليش .. ؟؟.
        تقدم ثلاثة من كبار السن إلى حيث جلست العائلة في منتصف المهجع ، أمسكوا بالأب من تحت ابطيه وأنهضوه ، تناوبوا على الحديث معه يقوون عزيمته , يذكرونه بضرورة الإيمان بحكمة الله أمام أشد المصائب هولا ، سحبوه بهدوء إلى فراشه .
        في اللحظة التي جلس بها على الفراش قرقع مفتاح الباب .. انتفض الأب واقفا ، أمسكه الرجال وثبتوه مكانه يرجونه الهدوء ، لدى فنح الباب وقف جميع الناس في المهجع ، سار الأخوة الثلاث باتجاه الخروج وعناصر الشرطة يصرخون طالبين منهم الإسراع .. لكن عند وصولهم إلى الباب توقفوا والتفتوا ، توقفت نظراتهم لثانيتين أو ثلاث على والدهم، ثم خرجوا وأغلق الباب وراءهم !.
        أفلت الأب نفسه من قبضة الرجال وركض برشاقة شاب عشريني يداه ممدودتان إلى الأمام اتجاه الباب .. وهو يلهث :
        - أولادي .. يا جماعة أولادي .. ولك يا أسعد .. رجاع .. رجاع !!.. ولك أكيد في غلط .. ولك يا أبني رجاع .. خليني أنا روح محلك !!.
        اعترضه أبو حسين محتضنا اياه ، لف يديه عليه بقوة ، وتعاون مع الرجال الآخرين لإعادته إلى مكانه برفق .. اجلسوه وجلسوا حوله يواسونه وهو شاخص بأنظاره إلى الباب .
        منذ أن خرج الأخوة الثلاثة ونسيم ملتصق بالثقب يراقب ، ينشج ، يمسح دموعه التي لم تتوقف !.
        نهض الأب من جديد ، حاول البعض منعه لكن أبو حسين أشار لهم بيده أن يتركوه وأوعز إلى اثنين من الشباب أن يقفوا قرب الباب تحسبا .. وعندما ابتعد الأب عن المجموعة قال أبو حسين :
        - اتركوه .. اتركوه يا جماعة ، قلبه محروق .. الله يعينه ويصبره .. اتركوه يعمل شو مابده ، بس لا تخلوه يقرب على الباب ، مصيبته كبيرة وبدها جبال حتى تتحملها !.. لا حول ولا قوة إلا بالله .
        أخذ الأب يسير سيرا سريعا وسط المهجع ، من أوله إلى آخره ، يتمتم كلاما غير مفهوم ، يؤشر بيديه في جميع الاتجاهات ، وعندما يصل بمشيته أمام فراشي كان يتلكأ قليلا .. ينظر إلى نسيم الملتصق بالثقب ، ثم يعاود المشي .
        أبو حسين جلس إلى جانب نسيم يسأله عما يجري عند المشانق ، نسيم لا يجيب ، نظر أبو حسين إليّ وكنت جالسا خلف نسيم كأنه يطلب مني أن أتدخل ، وضعت يدي على كتف نسيم وطلبت منه أن يتراجع قليلا ليتيح لأبو حسين أن ينظر من الثقب ، لكن نسيم لم يتزحزح وأزاح يدي عن كتفه بعصبية !.. كانت يده ترتجف، في هذه اللحظة وقف الأب أمام فراشي، نظر إليّ ثم جثا على ركبتيه أمامي، قال متضرعا :
        - خلوني شوفهم .. من شان الله .. من شان محمد .. يا ناس خلوني شوف أولادي .. خلوني ودعهم .
        أمسكه أبو حسين من يده ، انهضه ، ماشاه وسط المهجع طالبا منه أن يوكل أمره إلى الله :
        - أبكي .. أبكي يا حجي ابكي .. وكل الله .
        - يا أبو حسين .. يا ابو حسين .. شو بدي أبكي ؟.. دموع ؟.. وإلا دم ؟.
        - الله يصبرك .. ويصبرنا ، إن لله وإن إليه لراجعون.. الله أعطى .. الله اخذ .
        بقي أبو حسين يسير مع الأب أكثر من ساعة ، الجميع يسمعون الحديث ، شيئا فشيئا بدأ الأب يتماسك أكثر، إلى اللحظة التي أدار فيها نسيم رأسه ونظر إلى الداخل وقد استند بظهره إلى الحائط، بدا متهالكا ونظرته زائغة لا تعبر عن شيء ، عنها عرف الجميع أن الأمر قد انتهى .
        أسرعت بأغلاق الثقب أمام نظرات الأب الذي توقف عن المشي وهو ينظر إلى نسيم نظرة هلع ، ثم وضع يده وصاح بصوت حارق :
        - يا ولداه ..!!
        انهار أرضا بين يدي ابو حسين ، تعاون بعض الشباب لنقله إلى الفراش .
        بعد قليل دار أبو حسين على الجميع في المهجع عارضاً عليهم أداء صلاة الجنازة جماعيا وعلنيا !!.
        كانت هذه الفكرة في وقت آخر ستبدو ضربا من الجنون ،وكانت ستلقى معارضة شديدة من الكثير ، لكن في هذه اللحظة أيدها ووافق عليها الجميع دون استثناء .
        لأول مرة منذ وجودي هنا الذي مضى عليه أكثر من أحد عشر عاما ، انتظم أكثر من ثلاثمائة شخص في المهجع وصلوا علانية صلاة واحدة !!.
        وقفت معهم في الصف الأخير إلى جانب نسيم وأبو حسين الذي نظر إليّ متعجبا مستغربا !.. و" صليت " .
        عاد الجميع إلى أماكنهم ، يتمتمون بالأدعية ، الشعور بالحزن طاغ ، لكن بعد هذه الصلاة الجماعية والعلنية خالط الحزن قليل من الرضا عن الذات .. شعور غير مرئي بالأنصار ..! .
        جلس نسيم على فراشه بعد الصلاة ، ومنذ تلك اللحظة وحتى الآن ، لم يتكلم أبدا .. ولم يأكل البتة !.

        1 آب
        اليوم قلعت ضرسين من أضراس العقل , تخلصت من أسوأ الأشياء التي يمكن أن يتعرض لها السجين هنا " آلام الأسنان " .
        إن أبي بعقليته العسكرية الصارمة اكسبنا بعض العادات , في البداية تكون قسراً , ولكن مع الأيام تصبح عادة لا نستطيع التخلي عنها , من هذه العادات تنظيف الأسنان بالفرشاة ثلاث مرات يومياً, وقد أدمنت هذه العادة إلى درجة أنه كان يستحيل علي النوم مهما كنت تعباً إذا لم أنظف أسناني بالفرشاة قبل النوم , و الآن مضى سنوات طويلة لم أر فيها أية فرشاة , ولأنه حال الجميع هنا فمن الطبيعي أن تتخرب الأسنان وتبدأ المعاناة , فآلام الأسنان هي الأسوء بين كل ما تعرضنا له , أسوء من التعذيب و الموت و الإعدام فهذه كلها آنية .. لحظية , أم ألم الأسنان فيبقى ملازماً الإنسان في الليل و النهار يمنعه من النوم ولا يتركه يهدأ لحظة واحدة .
        رغم أن أطباء الأسنان من السجناء قد تدخلوا , ومع نمو الحاجة طوروا آلياتهم ووسائلهم , لكنهم لم يكونوا يملكون إلا علاجاً واحداً وهو القلع !.
        معروف كم هو مؤلم قلع الأسنان عند الطبيب رغم التخدير ورغم الأدوات التي يملكها الطبيب يبقى القلع مؤلماً ومكروهاً , أما هنا فلا تخدير .. ولا وسائل قلع مطلقاً !.
        كل ما قام به أطباء الأسنان هو أنهم جدلوا خيطاً متيناً من الخيوط التركيبية الرفيعة ( النايلون ) و الشيء الثاني الذي يقومون به هو تحديد السن او الضرس المخرب الواجب قلعه .
        في المهجع مجموعة تسمى ( تحبباً ) مجموعة البراعم , وهي مؤلفة من ثمانية أشخاص أو ثمانية عمالقة .. أجساد ضخمة , طوال القامة , عضلات مفتولة , وهم يشكلون مجموعة طعام واحدة وبالطبع ينالون حصة مضاعفة من الطعام .
        بعد أن يحدد الطبيب الضرس الواجب قلعه يأتي دور مجموعة البراعم , يربط أحدهم الضرس الخرب بالخيط المتين بينما برعم آخر يثبت رأس المريض بكلتا يديه , فيجذب الأول الخيط بقوة , ونادراً ما احتاج الأمر إلى أكثر من شدة واحدة ليخرج الضرس معلقاً بطرف الخيط , أنا لم أخلع أضراسي بهذه الطريقة .
        تحسن موضوع الطبابة في السجن الصحراوي منذ عدة شهور , فلقد دار المساعد على مهاجع السجن وأخبر الجميع أن من يريد أن يقلع سناً أو ضرساً فبإمكانه فعل ذلك عند طبيب الأسنان التابع للسجن , كذلك المرضى بالأمراض العادية يستطيعون أن يراجعوا طبيب السجن لشراء الأدوية التي يحتاجون .
        هذا التحسن بدأ من سنتين أو ثلاث , وكان تدريجياً بطيئاً , وكان هذا طبيعياً فلقد قل عدد القادمين الجدد إلى السجن , فبعد أن كانت الدفعات تعد بالمئات اسبوعياً أخذت تعد بالعشرات , ثم قلت أكثر .. فأكثر , تباعد مرات مجيء الهيلوكوبتر وبالتالي المحاكمات و الإعدامات , خف التوتر و الشحن في نفوس عناصر الشرطة , قلت الحالات التي يكون فيها الضرب للضرب و القتل للقتل , أصبح للقتل او الضرب سبب على الغالب كالصلاة مثلاً , أو أن يرى السجين فاتحاً عينيه اثناء التنفس .
        أما نسيم فقد ساء وضعه كثيراً , بقي صائماً عن الطعام و الكلام مدة خمسة أيام كاملة بعد إعدام الإخوة الثلاثة , حينها تعاونا أنا وأبو حسين على إقناعه بأن يتناول قليلا من الطعام , رغم ذلك دخل في حالة من الاكتئاب الحاد , عزوف عن الكلام , لم يعد يلعب الشطرنج , وتوقف عن الأعمال الفنية التي كان يشكلها من العجين .
        بعد حوالي عشرة ايام كان جالساً إلى جانبي وهو ملتزم الصمت , التفت إلي ببطء وقال بالفرنسية :
        - أين يدفنون جثث الذين يعدمون أو يقتلون ؟
        - لا أعرف .. ولا أعتقد أن أحداً من السجناء يعرف !.
        - حسب رأيك ... هل تكون جثث سعيد وسعد و أسعد قد تحللت ؟.
        - يا أخي .. يا نسيم .. دعك من هذه الأفكار السوداء .
        - من المؤكد أن الشرطة تحفر حفرة كبيرة ثم تفرغ فيها كل هذه الجثث وتهيل عليها التراب .
        - نسيم ارجوك .. أرجوك يكفي كلاماً بهذا الموضوع .
        - لاشك أن الديدان تنهش الآن لحم الأخوة الثلاثة .. ديدان في العينين .. ديدان في البطن .. ديدان في الفم .. الديدان تخرج من فتحتي الأنف .. ديدان .. ديدان .
        - نسيم .. يكفي .. قلت لك يكفي .
        بعدها صمت وغرق في أفكاره , باءت كل محاولاتي لإخراجه من صمته بالفشل , يظل صامتاً أياماً عديدة , وعندما يتكلم يبدأ بطرح الأسئلة الكبيرة :
        - ما هي الحياة ؟ .
        - ما هي الغاية من هذه الحياة ؟ .. هل من المعقول أن تكون الحياة بلا هدف ؟.. هل من المعقول أن هذه الحياة من صنع الله ؟ .
        - ماذا يستفيد الله من خلق شخص مثل أسعد ؟.. أتى به إلى هذه الحياة , تعذب كثيراً ثم أعدم .. مات وهو لايزال في أول حياته !! ... حتى أنه لم يأخذ الوقت الكافي ليثبت إن كان رجلاً صالحاً أم طالحاً ؟!.
        الغريب أن كل تساؤلاته وأحاديثه حول هذا الموضوع كانت باللغة الفرنسية !, كان احساسي اقرب إلى الفجيعة , هو يغوص في كآبته ومتاهاته وأنا أغوص أكثر فأكثر في الحزن و الألم عليه .
        بقي على هذا المنوال حوالي الشهرين , وذات صباح , فتح عناصر الشرطة باب المهجع , قبل أن يتموا فتحه كالعادة قفز نسيم كنابض مضغوط تم افلاته , بأقل من ثانية اصبح خارج المهجع بعد أن رفس الباب بقدمه مكملاً فتحه !.
        فوجىء عناصر الشرطة و البلديات لأول وهلة , ولم يتخلصوا من وقع المفاجأة الأولى حتى فاجأهم ثانية بالهجوم عليهم ..
        الباب مفتوح ونحن نراقب ما يحدث بالساحة , كان نسيم يتحرك ويصرخ صراخاً وحشياً كجمل هائج , عاصر الشرطة و البلديات أقل من عشرة .. وذهلت .. ما هذه القوة الهرقلية التي أظهرها نسيم ؟.. أين تعلم هذه الحركات القتالية ؟!.. يهاجم أحدهم , يقفز أمامه عالياً ثم يهوي بسيف كفه على رقبته أو على أنفه فيلقيه أرضاً !!.. عنصران من الشرطة وواحد من البلديات ألقاهم أرضاً خلال أقل من دقيقة !! البعض من عناصر الشرطة و البلديات ابتعدوا مسرعين .. فروا .. البعض الآخر هجم على نسيم للإمساك به , علا الصياح و الصراخ في الساحة , أطل الحراس الموجودون على الأسطحة , سرعان ما أشرعوا البنادق ولقموها أخذين وضعية الرامي , وجهوا بنادقهم اتجاه نسيم .. وهبط قلبي بين قدمي .. هل سيطلقون النار عليه ؟.. لكنه ملتحم مع الشرطة .
        أحد الرقباء هجم عليه من الخلف وأمسكه من رقبته محاولاً إيقاعه على الأرض لتثبيته , تشجع باقي العناصر فهجموا عليه , لكن نسيم أخذ يدور حول نفسه بسرعة والرقيب معلق برقبته من الخلف , دار عدة دورات تزداد سرعتها مع كل دورة .. ارتفعت قدما الرقيب عن الأرض وأخذ يدور مع دوران جسم نسيم , توقف نسيم فجأة وجذب الرقيب فألقاه أرضاً !! .
        فتح باب الساحة الحديدية الأسود وأخذ عناصر الشرطة يتدفقون , العشرات منهم أحاطوا بنسيم لدرجة أننا لم نعد نستطيع أن نراه , مع هدوء حركتهم تأكدنا أنهم قد تمكنوا منه .
        صاح احد الرقباء :
        - امسكوه .. لا تضربوه .. مدير السجن جاي لهون .
        حضر مدير السجن يحيط به المساعد وعدد من الرقباء و الشرطة , أربعيني طويل القامة , بمشية هادئة تقدم حيث نسيم ملقى على الأرض .
        باب مهجعنا لازال مفتوحاً , نراقب ما يحدث دون أن نلتفت برؤوسنا , طلب مدير السجن إحضار نسيم أمامه , انفض جمع الشرطة من حول نسيم واوقفه على قدميه عنصران , وفجاة انتفض وأفلت نفسه من قبضتيهما وهو يصرخ بكلام غير مفهوم متقدماً اتجاه مدير السجن , خطوة أو خطوتين وهجمت عليه مجموعة من الشرطة أحاطوا به جيداً وثبتوه .
        تحادث مدير السجن مع المساعد و الرقباء بكلام لم نسمعه , أحد الرقباء أشار إلى مدير السجن اتجاه مهجعنا فتقدم المدير من الباب معه المساعد وبعض الرقباء , طلب أبو حسين و تكلم معه , طلب طبيباً من المهجع وسأله , تشاور قليلاً مع طبيب السجن , عاد وطلب طبيب المهجع سائلاً إياه عن الدواء الذي يريده , ثم ذهب بعد أن أمر بإعادة نسيم إلى المهجع دون إزعاج .
        كان تصرف مدير السجن أقرب إلى التفهم و الود، أقرب إلى تصرف الراعي , هذا الأمر المستغرب .. أطلق تكهنات وتحليلات وتأويلات لم تنته .
        بعد إغلاق الباب بقي نسيم لمدة ساعتين تقريباً يمشي مشياً سريعاً وسط المهجع جيئةً وذهاباً وعلى دفعات , كل دفعة ما يقارب الخمسة دقائق , يقف بعدها ويبدأ الدبكة وهو يغني :
        على دلعونا على دلعونا بيّ بيّ الغربة الوطن حنونا
        يعاود المشي السريع بعدها .. لم يكن ينظر إلى أي شخص ولا إلى أي مكان ! في المشي أو الدبكة , ينظر إلى نقطة محددة أمامه لا يحول بصره عنها !.
        بعد هاتين الساعتين فتحت النافذة الصغيرة في الباب ( الطلاقة ) , نودي على رئيس المهجع , بحذر شديد أعطى الرقيب ثلاث علب دواء لأبو حسين قائلاً :
        - هدول .. دواء المجنون !.
        كان نسيم لحظتها قبالة الباب تماماً , سمع العبارة التي قالها الرقيب , انتفض وانطلق كالسهم اتجاه الباب , شاهده الرقيب في انطلاقته فتراجع إلى الوراء عفوياً رغم الباب المغلق .. وصل نسيم إلى الباب .. أخرج يده من الطلاقة يحاول الامساك بالرقيب وهو يصرخ :
        - المجنون ؟!.. انت المجنون ولك كلب !... أبوك المجنون .... امك المجنونة ... ولك يا حيوان .... كلكم مجانين .
        من الخارج سمعت صوت الرقيب يصرخ بالجندي :
        - سكّر .. سكّر .. العمى .. ناقصنا مجانين ؟!.
        لأول مرة منذ ما يقارب الاثني عشر عاماً أرى الشرطة خائفين , فروا من أمام نسيم في الساحة , رأيتهم مذعورين !, لأول مرة أراهم يتلقون الشتائم ولا يطلقونها !.. يتلقونها ولا يردون !.. وتساءلت :
        ( هل تحتاج هذه القوة الطاغية التي تمثلها الشرطة إلى الجنون ..... إلى مواجهة مجنونة .... حتى تقف عند حدها ؟ ! ) .
        رفض نسيم تناول الدواء من الطبيب , وتشاور هذا مع أبو حسين بعد أن شرح له أن أي مريض بهذه الحالة يرفض تناول الدواء ويجب إجباره على ابتلاع الحبوب , وطلب منه الاستعانة بمجموعة البراعم لإعطائه الدواء بالقوة , فالمريض في هكذا حالات يمتلك قوة هائلة غير طبيعية ويحتاج إلى أربعة أو خمسة أشخاص حتى يستطيعوا إمساكه وإجباره على ابتلاع الحبوب !.
        قبل الظهر تناول الدواء , نام على إثرها نوماً عميقاً , استيقظ بعد منتصف الليل وكنت اراقبه , ابتسم لي ابتسامة واهنة دون أن يتحرك من مكانه , قال لي :
        - كيفك ... كيف أحوالك ؟ .
        - أنا ممتاز .. انت كيف أحوالك ؟ .
        - ماشي الحال .. بس نعسان .. بدي نام .
        نام بعدها إلى الصباح وعندما استيقظ تصرف تصرفاً طبيعياً كما لو أنه لم يمر بأية مشكلة أو ماشابه , كان هذا رأي الجميع ... أما أنا فقد لاحظت الكثير من التغيرات الطفيفة و التي هي بنفس الوقت لها دلالاتها العميقة , هذه الملاحظات تكونت بمرور الأيام و الأسابيع التي تلت , أصبح هناك ابتسامة دائمة معلقة على شفتيه , هي ابتسامة مزيفة أو أنها ممزوجة بحزن دفين في أعماق النفس , فقد نسيم القدرة على الدهشة التي كانت من أهم سمات شخصيته , لم يعد يسخط على ما يعجبه واستمر بإضرابه عن العمل في العجين .
        أوكل لي الطبيب بصفتي صديقه وجاره أمر إعطائه الدواء بانتظام , مشدداً على أنه يجب أن لا أنسى أبداً مواعيده , لأن أي انقطاع عن تناوله سيؤدي حتماً إلى عودة حالة الهياج الشديد والعدوانية !.
        بقيت علاقتنا الثنائية بنفس الحميمية , استأنفنا حياتنا اليومية المشتركة كالسابق , ومرت الأيام لكنه لم يتطرق بحديثه ولا مرة إلى ما حدث , حتى موضوع إعدام الإخوة الثلاثة لم يعد إلى ذكره أبداً .
        مشاعري الداخلية اتجاهه هي هي لم تتغير , لكن احساسي يقول :
        " ان هناك شيئاً ما داخل نسيم ... قد مات " .
        وكنت حزيناً جداً لموت هذا الشيء .

        تعليق


        • #5
          رد: مصطفى خليفة - القــوقعـة - يوميات متلصص



          25 أيلول
          الغبار يملأ الأجواء .
          بعد ستة أشهر أو سبعة سأتم عامي الثاني عشر في السجن ، لقد عدت إلى عد الأيام والشهور وهذا في عرف السجناء دلالة سوء ، لكن ألا يحق لي أن أتسأل إلى متى ؟.
          البعض هنا سبقوني بسنوات .. ولا زالوا ! اذا كان الأطفال الذين حكمتهم المحكمة الميدانية بالبراءة .. لا زالوا يقيمون في مهجع يسميه عناصر الشرطة مهجع البراءة ، فهل يأمل شخص مثلي .. منسيّ ، مهمل ، لا يعرف حتى لماذا هو هنا .. أن يخرج من هذا الجحيم ؟ .. هل الطريق إلى هذا السجن ذو اتجاه واحد فقط ؟ هل العبارة التي يكررها السجناء وأكاد أسمعها يوميا بأن " الداخل مفقود والخارج مولود " صحيحة ؟ لم أر أي شخص دخل هذا السجن يخرج منه ! .
          فمتى .. متى يحين موعد الخلاص ؟.. لست أدري ، ومعها .. إما العجز الكامل والاستسلام للأقدار أو .. الانتحار والخلاص من هذا العذاب اليومي الذي يبدو بلا نهاية .
          وتجيش نفسي بالغضب .
          ************
          العجاج ، أو كما يسميه البعض " الطوز " .. يثورهنا في هذه الصحراء مرتين أو ثلاث مرات كل عام ، وفي سنوات القحط قد يزيد عن ذلك مرتين أو ثلاثة ، تثور العواصف الرملية فتملأ الأجواء بالغبار ويستمر ذلك يوماً أو يومين أو ثلاثة ، سواء استمر هبوب الريح أم توقف فإن الغبار يبقى معلقا في الهواء، نتنفس الغبار ، الأنف .. الفم .. العينان .. تمتليء كلها بالغبار ، ننام والغبار ما زال معلقا فوقنا وحولنا وداخلنا ، نستيقظ فنجد ان كل فتحات الانسان الموجودة في الرأس قد امتلأت يالتراب المسحوق الناعم، مياهنا غبار .. طعامنا غبار .
          منذ صباح أول البارحة ابتدأ هبوب الرياح واشتدت عند الظهيرة ، اصبحت الرياح زوابع ، هذه الزوابع قذفت من الشراقة التي في السقف بالاضافة إلى الغبار ، مزق من أكياس بلاستيكية والكثير من القش والعيدان الجافة الخفيفة الوزن .. أشواك .. شتى النباتات الصحراوية اليابسة .
          كل من لديه قطعة ثياب زائدة حاول لف رأسه بها ، الكثير من الأشخاص لم يعد يظهر من وجوهم سوى العينان .
          فجأة قذفت الريح على القضبان الحديدية للشراقة صفحة كاملة من جريدة .. علقت هذه الصفحة بين القضبان !.
          أنظار جميع من في المهجع تعلقت بهذه الجريدة العالقة بين القضبان في السقف ، تهزها الريح ويسمع الجميع صوت خشخشتها .
          سمعت البعض يدعون ويبتهلون إلى الله ان يسقط الجريدة داخل المهجع وألا يجعلها تطير بعيدا !.
          في الأجواء الطبيعية كنا نرى الحارس كل بضعة دقائق ، إما ان يطل ناظرا من الشراقة ، أو يمر من جانبها فنراه أو نرى ظله ، حتى عندما يكون بعيدا عن الشراقة فإننا نسمع وقع خطواته وهو يمشي على سطح المهجع جيئة وذهابا ،الآن لا أثر للحارس ، يبدو أنه يلوذ بأحد زوايا السطح متقيا الرياح والغبار .
          كما تمنى الجميع تمنيت أنا أيضا أن تسقط الجريدة داخل المهجع ، منذ أن أصبحت في بلدي لم أر حرفا واحدا مطبوعا !، الجميع مثلي .. شوق حقيقي لرؤية الأحرف المتلاصقة ، الكلمات المطبوعة!.
          هذه جريدة ، وفي الجريدة أخبار ، ونحن منذ أكثر سنتين، تاريخ قدوم آخر نزيل إلى المهجع ، لم نسمع شيئا عما يدور خارج هذه الجدران الأربعة .
          سمعت نسيم يقول :
          - يارب .. يارب .. ولك يالله انزلي .
          كان يخاطب الجريدة ، نظرت اليه ، أنظاره معلقة بالجريدة عاليا .
          الكثير من الناس وقف منتصبا ، الكثير أزاحوا عن وجوههم الأقمشة التي تلثموا بها ، من لم يقف اعتدل في جلسته ، بعض من وقف مشى بشكل عفوي إلى تحت الشراقة ، الرأس مرفوع والأعين معلقة .. الأنظار تتابع تراقص الجريدة بين القضبان !.
          واحد من الواقفين تحت الشراقة ، وهو من الفرقة الفدائية ، نظر إلى الناس وقال بصوت مسموع للجميع :
          - يا شباب .. هرم ؟.
          على أثر سؤاله هذا قفز العديد وهم يقولون :
          - هرم .. هرم .. هرم ! .
          لم تستغرق عملية بناء الهرم البشري وانزال الجريدة أكثر من عشر ثوان تقريبا ، لكنها ثوان مرعبة .. خانقة وحابسة للأنفاس !.
          كان من الممكن أن تكلف العديد حياتهم ، لكنها مرت بسلام .
          وأصبح لدينا جريدة !.
          خاطب أبو حسين الفدائي الذي أنزل الجريدة وبلهجة سريعة :
          - بسرعة .. بسرعة .. عـ المراحيض ، اطويها ، خلي واحد يقرأها ويحكينا شو فيها أخبار .
          وركض الفدائي إلى المرحاض حاملا الجريدة .
          الفرحة عمت الجميع , فرحت حقيقية , الكثير تصافحوا وتعانقوا مهنئين بعضهم بعض.. إنه انتصار آخر !.
          التفتَ نسيم إلي بعد أن عانقني .. قال :
          - أنت تعرف أن أول كلمة نزلت من القرآن الكريم هي كلمة " اقرأ " ؟ .
          - أعرف .... و أنت تعرف أن الإنجيل يبدأ بـــ " في البدء كانت الكلمة " ؟.
          - أعرف .. بس يا مخرج السينما شو يقول لك هذا الحدث ؟
          - تريد أحكي كلام كبير .. مثل الأفلام و الروايات ؟ الحدث بيقول : إن الإنسان مستعد أن يضحي بحياته في سبيل المعرفة .
          - صح .. شاطر .
          وضحكنا كما لم نفعل منذ شهور .
          محتويات الجريدة جاءت مخيبة للآمال قليلاً , الوجه الأول من الصفحة هو صفة الإعلانات الرسمية , و الوجه الثاني هو الصفحة الرياضية و بها أخبار الدوري العام لكرة القدم !. وهذه الصفحة أثارت زوبعة من النقاشات لم تنته حتى الآن , فبما أن المهجع يضم اناساً من جميع المحافظات , ولذلك على ضوء الأخبار الرياضية الواردة في الجريدة سرعان ما تكتلت جماهير كل نادٍ من النوادي و أخذت تفاخر بمنجزات وتاريخ انتصارات النادي الذي تشجعه .
          حتى الإعلانات الرسمية أخذ الناس يقرؤونها بعناية شديدة .. النهم إلى القراءة !, عين أبو حسين شخصاً لينظم قراءة الجريدة بالدور من قبل الجميع , أصبح للجريدة مسؤول " اسماه البعض مازحين بــ وزير الإعلام " , وهو الذي ينظم دور قراءتها , ينقلها من شخص لآخر وهو الذي يحدد الزمن لكل شخص .
          الريح هدأت تماماً اليوم , لكن الغبار لازال معلقاً بالجو , حتى داخل المهجع الغبار يملأ كل الفراغات .
          ************
          في الصباح أعاد الشرطة للمهجع شخصاً كان قد عوقب منذ شهر , ضبطوه في ساحة التنفس وعيونه مفتوحة , بعد أن جلدوه ونكلوا به أمامنا فيما نحن ندور حول الساحة , أمر المساعد بوضعه بالزنزانة الإنفرادية في الساحة الخامسة .
          بعد أن دخل وما أن اطمأن إلى أن الشرطة أغلقوا الباب وذهبوا تنفس الصعداء , أخذ يضحك , جلس على الأرض .. وروى للجميع رحلة الشهر التي قضاها في الساحة الخامسة , بدأ حديثه بالقول :
          - و الله يا شباب اشتقت لكم ... وقت دخلت المهجع حسيت إني راجع على بيتي .. يا اللــه .. قديش المهجع حلو !.. يا شباب جنة .. جنة .. نحن عايشين هون بالجنة ...
          طفق يروي .. ويحكي يروي .. ويحكي !.
          المرحاض داخل الزنزانة الإنفرادية و حتى يأمن أذى الجرذان أضطر أن يسد فتحة المرحاض بالخبز بعد أن عجنه وجعل منه سدادة , أقسم أن هناك جرذاناً بحجم الخروف الصغير !
          ثلاث مرات في اليوم حفلة تعذيب أشبه ما تكون بالاستقبال في أول قدوم السجين إلى السجن .
          يوضع الطعام في صحن قذر على بعد عشرة أمتار من باب الزنزانة , يفتحون الباب ... يجب أن يخرج السجين سائراً على أربعٍ كما تسير الكلاب .. وأن يظل ينبح في الذهاب , وفي الإياب بعد أن يحمل الصحن .. خلال كل هذا تكون الكرابيج قد أكلت قطعاً من لحم ظهره !!.
          النوم على الاسمنت .. لا بطانيات ولا أغطية ولا أي شيء .
          كان يروي ويضحك .. وجهه مشرق من الضحك ! .. (( ما الذي يضحكه ؟!)) .
          ************

          الغبار لا زال معلقاً .
          رموش الناس أصبحت بيضاء , الشرطة متوترون لكن الرقابة ضعفت , ضعفت من الأعلى " الشراقة " , وضعفت من الأسفل من الأرض .
          سمعت حديثاً منذ ساعتين أثار اهتمامي ولازلت أفكر فيه .
          لدينا في المهجع أربعة من البدو , هم أميون لا يعرفون القراءة أو الكتابة , مهنتهم الرئيسية رعي الأغنام و الجمال , عاشوا طوال حياتهم في هذه الصحراء المترامية يتنقلون في أرجائها من مكان لآخر طلباً للمرعى و الماء , قبض عليهم واعتقلوا وجيء بهم إلى السجن الصحراوي بتهمة مساعدة بعض المطلوبين على الفرار إلى دولة مجاورة , وعندما يسألون هنا عن ذلك يعبسون قليلاً ويجيب كبيرهم المدعو " شنيور " :
          - و الله يا أخوي .. تهمة باطلة .. نحن بدو بديرة الله .. جام " أتوا " جماعة علينا .. و على عادة العرب .. رحبنا بهم , ضيفناهم من الميسور , بعدين يا خوي سألونا عــ الدرب .. دليناهم , هاي فيها شيء يا خوي ؟! وبعدين يقولون لنا .. انتو عملاء .. و انتو جواسيس ! عجيبة و الله يا خوي ! عجيبة .

          اليوم بعد أن سرد شنيور هذه القصة للمرة الألف تشعب الحديث كثيراً وكان كله منصباً على البدو وحياة البدو , سأله أحد أبناء المدينة من الذين لم يعرفوا في حياتهم كلها سوى ثلاثة أمكنة " البيت , الدكان , الجامع " عما إذا كان صحيحاً ما يقال عن الكرم البدوي , وعن أسبابه ومسبباته , وختم سؤاله قائلاً بتعجب :
          - وكيف يا أخ شنيور .. إذا اجاك ضيف وما كان عندك غير غنمة وحدة , صحيح أنك تذبحها وتطبخها لتقدمها له ؟.. وليش هذا الشيء ؟ ايه .. عمره وانشاء الله ما بياكل ! .. انشاء الله يأكل سم .
          - له .. له .. له .. يا خوي ما يصير تحجي هيج " تتكلم هكذا " .
          مضى شنيور في مداخلة طويلة يشرح ويعلل ويفسر , كنت أنصت إليه قسراً لأنه جالس بالقرب من فراشي , لكنه بعد قليل شد اهتمامي بفكرة !.
          قال شينور ما معناه :
          - أن للكرم البدوي أسباباً عديدة , عدد عدة أسباب , لكنه قال إن أهم الاسباب هي أن البدوي يحب ضيفه .. يعشقه !.. وهذا بسبب أن البدوي يبقى أياماً وأسابيعاً وشهوراً يعيش في هذه البراري بين الكثبان الرملية و الأتربة و الغبار في وحدة مطلقة , زوجته وأولاده يعتبرهم أقل شأناً من أن يجري حديثاً معهم. لذلك وفي حالات كثيرة نرى البدوي يحادث أغنامه أو جماله !.. يكون في المرعى لا يسمعه أحد , ولأنه يحب أغنامه فإنه يجرى حديثاً معها , ولا بأس أن تتخلل هذه الحديث بعض الشتائم الموجهة إلى الأغنام المشاغبة , و البدوي عندما يصل إلى درجة أن يجري حديثاً مع الغنم .. يكون هذا دليلاً إلى أن حاجته إلى الأنس , إلى المؤانسة .. إلى الاجتماع مع أي انسان , قد بلغت مداها الأقصى , في هذا الوقت إذا حضر الضيف فسيجد حتماً شخصاً متلهفاً يغدق عليه الكثير الكثير من آيات الترحيب و المحبة , يقدم له أفضل ما عنده من كل شيء .. وهذا من حيث لا يدري مكافأة له على مجيئه , وإغراءً له للبقاء أطول مدة ممكنة .
          " يبدوا أن العزلة تعلم الحكمة , هذا البدوي فيلسوف حكيم !.. شكراً لك يا شينور , لقد أزلت من نفسي قلقاً مبهماً كان يقض مضجعي .. قد كانت عزلتي في المهجع أسوأ من عزلة أي بدوي في الصحراء , وفجأة اصبح نسيم ضيفي , مع نسيم جاء الأنس و المؤانسة , فطبيعي جداً حسب شرح شينور أن تكون عواطفي جياشة تجاهه " .
          التفت إلى نسيم بابتسامة ود وحب , أجابني بابتسامة – مع الاستمرار بتناول الدواء يصبح وضعه أقرب إلى الطبيعي – قلت له :
          - أنا رايح اغسل وجهي من آثار الغبار .
          اكتفى بهز رأسه .

          17 أيار .
          لا أدري كم كان الوقت , أعتقد أنه بعد منتصف الليل , نسيم نائم إلى جانبي , الدواء الذي يتناوله يجعله ينام بعمق , لم أكن قد نمت بعد .
          سمعت حركة في الساحة , جلست , نويت أن أنظر من الثقب لأرى ما يفعلون , قبل أن أمد يدي لفتح الثقب سمعت أحد الشرطة يصرخ بصوت عالٍ .. لم أفهم ماذا يقول , عاد لتكرار صراخه , إنه يقول اسماً ثلاثياً , أنصت أكثر .. يصرخ :
          - يا مهاجع الساحة السادسة .. مين عنده هذا الاسم ؟.
          وقال الاسم الثلاثي مرة ثالثة .
          إنه اسمي !!.
          لأجزاء من الثانية كنت أتساءل من هو صاحب هذا الاسم ؟.. وقعه ليس غريباً علي .. كأنني سمعت هذا الاسم يوماً ما !! .. إنه اسمي .
          ما الذي يجري ؟ ما هذا ؟ .. لماذا ينادون اسمي ؟ أصابني شيء أقرب إلى البلاهة , اتلفت حولي مستغرباً متسائلاً ! .
          صاح أبو حسين وكان مستيقظاً :
          - يا شباب .. في حدا عندنا بهـ الاسم ؟.
          رفعت سبابتي عالياً كما يفعل التلاميذ الصغار , رفعتها في وجه أبو حسين دون أن أنطق حرفاً .
          وعاد الشرطي يصرخ بالاسم مرة أخرى .
          انتقلت بلاهتي إلى أبو حسين , فغر فمه , عيناه متسعتان دهشة :
          - هذا الاسم اسمك ؟.
          هززت رأسي مومئاً بالإيجاب .
          وبسرعة رمى أبو حسين جسده الثقيل اتجاه الباب , بدأ يدقه بسرعة وقوة وهو يصرخ :
          - هون يا سيدي .. هون .. هذا الاسم في المهجع الجديد رقم /8/ .
          هدأ كل شيء. فجأة , لم يعد يصرخ أحد .
          بعد دقيقة أو أكثر فتح الباب , وقف الرقيب ومعه شرطيان , توجه إلى أبو حسين سائلاً :
          - هذا الإسم عندك .. يا رئيس المهجع ؟
          - نعم سيدي .. هذا هو .
          و أشار باصبعه اتجاهي , اقترب الرقيب مني , نظر بعيني غاضباً , سأل :
          - هذا اسمك ؟
          - نعم سيدي .
          رفع يده عالياً وبكل قوته هوى بباطن يده على خدي الأيمن , دار جسدي كله ربع دوره , بسرعة البرق ألحقها بلطمة على خدي الأيسر بقفا يده اعادتني إلى الوضع الطبيعي , عادت النجوم لتتراقص أمام عيناي , قال غاضباً :
          - يا جحش .... يا ابن الكلب .... صار لنا ساعتين ندور عليك ونصرخ .. ليش ما عم تجاوب يا شرموط .. ؟
          سكت .
          مد يده , وبقوة سحبني من صدري ليقذف بي خارج المهجع , وأغلق الباب .

          أُغلق باب المهجع في وجهي إلى الأبد .

          ضرباً .. ركضاً , الرقيب وعنصرا الشرطة من الخلف , يسوقوني أمامهم , من الساحة السادسة , إلى الساحة صفر !. ومنها إلى الباب الحديدي الصغير , أصبحت أمام السجن , حانت مني التفاتة صغيرة , لازالت المنحوتة الحجرية في مكانها :
          " ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب "
          منذ أكثر من اثنتي عشرة عاماً قرأت هذه المنحوته، ودخلت. الآن اقرأ هذه المنحوته وأخرج , إلى أين ؟ .. لست أدري !!.
          ثلاثة رجال في اللباس المدني تقدموا مني , أحدهم طويل جداً , يزيدني بما يقارب النصف متر , تقدم مني وفتح ورقة كانت مطوية في يده وسأل :
          - أنت فلان ؟
          - نعم .
          - ابن فلان وفلانة ؟
          - نعم .
          - أنت كذا ... كذا .. نعم – أنت ..؟ .. نعم .
          التفت إلى رفيقيه , قال :
          - هات الكلبشة .
          ناوله أحدهم الكلبشة , الكلبشة الاسبانية .
          مددت يدي إلى الأمام , البسهما الكلبشة , طقطقة ناعمة , أصبحت يداي مقيدتين إلى الأمام , ثم وقع بعض الأوراق وسحبني إلى مسافة خمسين متراً .
          سيارة تكسي " بيجو فرنسية "، السائق يجلس خلف المقود , جلس الطويل إلى جانبه , جلست بين الاثنين الآخرين في المقعد الخلفي , انطلقت السيارة في عتمة الليل , أنوارها تشق الظلام شقاً .
          لم يتكلموا بشيء , لم يضربوني أو يزعجوني ابداً , تعاملوا وكأني غير موجود معهم , بعد قليل من انطلاقة السيارة سأل الطويل عن الساعة فأجابوه أنها الثانية و النصف بعد منتصف الليل , قال إنه سينام حوالي الساعة .
          بعد ساعة نام الجميع عداي و السائق الذي ينظر إلي بمرآة السيارة على فترات متباعدة , أغمضت عيوني لأوهمه أنني نائم , وتساءلت :
          - يا هل ترى .. إلى أين ؟ قلبت الأمر من جميع الوجوه , خرجت بنتيجة انه مهما كان المكان الذي سيأخذوني إليه فإنه حتماً سيكون أفضل .
          ارتحت قليلاً، فكرت بنسيم .. ماذا سيقول , و ماذا سيفعل عندما يستيقظ صباحاً فلا يجدني إلى جانبه ؟!.. اشتقت إليه .
          استرخيت قليلاً وكان يمكن أن أغفوا ولكن فجأة ترنحت السيارة , السائق أخذ يصيح :
          - يا لطيف .. يا ستار .. يا لطيف .
          استيقظ الجميع وصرخوا , لقد انفجر الإطار الخلفي للسيارة , استطاع السائق بمهارة فائقة أن يسيطر عليها بعد أن خرجت عن الطريق وتوغلت في رمال الصحراء .
          وصلنا العاصمة قبيل الظهر , استغرق اصلاح الإطار عدة ساعات , فقد كنا في الصحراء وأقرب نقطة إلينا تبعد عشرات الكيلومترات .

          هذه مدينتي .. لم أعرف شيئاً في الشوارع التي كنا نسير فيها !.. مدينتي التي ولدت فيها وترعرعت وكنت أحسب نفسي ضليعاً في معرفتها , لم أعرف في أي شارع نحن ولا إلى أين نتجه !.. لقد تغيرت إلى درجة يصعب على من غاب عنها هذه المدة أن يعرفها , إلى أن وصلنا إلى الساحة المركزية للمدينة , ها أنا أعود إلى مدينتي التي أعرفها , هذه النوافير .. هي .. هي .. عندما كنت طفلاً كان يطيب لي أن أقف تحت رذاذها المتطاير .. فأشعر بالإنتعاش , ومن هذه الساحة عرفت أن السيارة تتجه نحو مركز المخابرات الذي حللت فيه لدى عودتي .
          ترى هل مازال أبو رمزت و أيوب هناك ؟ .. خيزرانة أيوب التي تبدو لي الآن كلعب الأطفال أمام ما شاهدت وذقت .. هناك !.
          السيارة تتوقف عند اشارات المرور , انظر إلى الناس , اتفحص وجوههم , ما هذه اللامبالاة .. ترى كم واحداً منهم يعرف ماذا جرى ويجري في السجن الصحراوي ؟ .. ترى كم واحداً منهم يهتم ؟ أهذا هو الشعب الذي يتكلم عنه السياسيون كثيراً ؟ .. يتغنون به .. يمجدونه .. يؤلهونه ! ... ولكن هل من المعقول أن هذا الشعب العظيم لا يعرف ماذا يجري في بلده ؟! إذا لم يكن يعرف فتلك مصيبة , و إذا كان يعرف ولم يفعل شيئاً لتغيير ذلك فالمصيبة أعظم , استنتجت أن هذا الشعب إما أن يكون مخدراً .. أو أبلهَ ! ... شعب من البلهاء , هل يعرف أحد من هذه الجموع .. هذا البقال .. هذه الفتاة التي تسير سعيدة مبتسمة وهي تتأبط حبيبها .. من هو نسيم ؟ ... نسيم الذي يقبع الآن في السجن الصحراوي ينتظر من يناوله دواءه , نسيم الذي جن لأنه لم يستطيع أن يتصالح مع هذا الواقع .
          انتبهت لنفسي , مالي أفكر غاضباً هكذا ! هل أصبحت سياسياً ؟ ... ابتسمت رغماً عني , هل أتوقع أن يخرج هذا الشعب في مظاهرات عارمة للمطالبة بإطلاق سراحي من السجن ؟ .. من أنا ؟ ! .
          يا إلهي ما أكثر الناس , أحدق في الوجوه , بيتنا قريب من المكان الذي تتجه إليه السيارة , قد يحالفني الحظ فأحظي بمشاهدة أمي أو أبي أو أحد أخوتي , لا بل يكفي أي وجه أعرفه .
          انحرفت السيارة عن الطريق الذي كنت أتوقعه و الذي يؤدي إلى ذلك المبنى الكئيب القريب من بيتنا , سارت بإتجاه الجنوب الغربي مخترقة المدينة من الشمال إلى الجنوب , مررنا بمعالم كثيرة أعرفها , أحن إليها , ها هي الجامعة و الطلاب و الطالبات داخلين خارجين , لا أذكر من حياتي إلا أنني كنت طالباً والآن أمشي سريعاً في العقد الخامس من عمري ! .
          مبنىً ضخم , حراسات مشددة , الدخول صعب ومعقد حتى على سيارات الأمن , انتظرنا أكثر من عشر دقائق , اتصالات واستفسارات , سمحوا للسيارة بتجاوز الحاجز , دخلنا وأصبحنا أمام البناء , أنزلوني أمام باب زجاجي عريض , البلاط يلمع , كل شيء يوحي بالنظافة و النظام , ذهب الطويل حاملاً معه الأوراق , دخل أول غرفة إلى اليسار , لم يطلب مني أحد أن أغمض عيني أو أنكس رأسي , لكن رأسي نصف منكس بحكم العادة , عاد الطويل وقال للاثنين اللذين معي بعد ان ناولهما الأوراق :
          - نزلوه عــ السجن .
          مباشرة قبالة المكان الذي كنا نقف فيه , نزلنا الأدراج .. أدراج .. ثم نلف ثم أدراج .. باب عبارة عن قضبان حديدية , قفل ضخم , يدقون الباب , يحضر سجان سمين يحمل بيده كدسة من المفاتيح , يعطوه الأوراق , يفتح الباب يدفعوني إلى الداخل , يغلق الباب , ينصرف الاثنان .. ثم :
          - انتظر هون .. لا تتحرك .
          يذهب حاملاً الأوراق إلى غرفة في صدر رواق طويل , يظهر على باب الغرفة التي دخل إليها , يناديني , أذهب إليه , يدخلني الغرفة فأرى رجلاً أشيب وراء طاولة ينظر إلي , يطلب مني أن أخرج من جيوبي جميع أغراضي .
          - ما عندي شيء .
          - ابداً .. أبداً ؟ ما عندك مصاري ؟ .. ما عندك أغراض ؟ .
          - ما عندي شيء .
          - طيب .. ما عندك هوية ؟ .. جواز سفر ؟ .
          - لا لا ما عندي شيء , جواز سفري وهويتي أخذوها مني في السجن الصحراوي .
          - ما رجعوها إلك ؟ .
          - لا ما رجعوها سيدي .
          - طيب .. جسمك نظيف ؟ .
          - نظيف سيدي .. نظيف , البارحة تحممت .
          - يعني .. ما عندك قمل ؟
          - قمل ؟ .. في عندي قمل كثير .. سيدي .
          - وبتقول انك نظيف !!.
          - التفت إلى السجان , طلب منه أن يأخذني إلى الحمام وبعد أن أنتهي من الحمام أن يضعني في المنفردة رقم /17/ , ثم قال لي :
          - الحمام ساخن , فوت عــ الحمام .. أول مرة اغسل كل ثيابك بشكل جيد , بعد غسيل الثياب تحمم أنت .. بــ تظل تتحمم وتغسل الثياب حتى تحس أنه ما ظل عندك ولا قملة , أحسن ما تملي السجن هون قمل .
          - حاضر سيدي .
          أخذني السجان , أدخلني الحمام المليء بالبخار , قبل أن يغلق الباب علي قال :
          - أعمل مثل ما قال لك المساعد , بس تخلص دق الباب .. مفهوم ؟ .
          - نعم سيدي .
          الحمام كان ممتعاً , انتهيت، دققت الباب، لملمت ثيابي التي غسلتها جيداً , لم أستطع أن أعصرها بقوة لأنها مهترئة , فتح السجان الباب ورآني أحاول أن ألبس الثياب المغسولة , أمرني أن أمشي قبل أن ألبس .. قلت له لا يجوز , صرخ :
          - اطلع ولا .. شو مانك رجّال ؟ .. بعدين على شو خايف ؟ !.. على هــ الطيز متل طيز القرد !!.
          سترت عورتي من الأمام بثيابي المبللة , مشيت خلف السجان , وصلنا باباً عليه رقم /17/ ففتحه , دفعني , وأغلق الباب ورائي .
          ها أنا لوحدي .. في زنزانة مطلية باللون الأخضر الفاتح , البطانيات على الأرض , الزنزانة واسعة قد تبلغ أكثر من ثلاثة أمتار مربعة , في سقفها فتحتان اكتشفت أنهما للتهوية , واحدة لسحب الهواء الفاسد و الآخرى لضخ الهواء الخارجي .
          نشرت ثيابي المبللة على الأرض , جلست على البطانيات .. تغطيت بواحدة , الجو هنا حار , بعد قليل تمددت وغفوت .
          استيقظت على الصوت المرعب , صوت قرقعة المفتاح الحديدي في الباب الحديدي , صرير الحديد بالحديد , جلست وأحكمت لف البطانية حول وسطي , انفتح الباب وظهر رجلان , أحدهما كهل و الأخر شاب ومعهما سجل , سألني عن اسمي وعمري , مكان ولادتي , كل المعلومات الخاصة المتعلقة بي سجلها , أغلق السجل وسألني عن سبب نومي عارياً , أجبته بأن الثياب الوحيدة التي أملكها مغسولة .. وهي لم تجف بعد , التفت إلى الشاب وقال :
          - روح عــ المهجع , قول لهم أنه في واحد سجين ما عنده ثياب .
          - حاضر .
          أغلق الباب , بعد ربع ساعة عاد الشاب حاملاً صرة من الثياب , بيجاما رياضية , غيار داخلي .. سليب وليس سروالاً شرعياً يصل حد الركبة , جميعها جديدة .. ظهرتُ بمظهر جديد .

          20 آيار .
          ثلاثة أيام منذ أن غادرت السجن الصحراوي ومجيئي إلى هنا لم أر خلالها أحداً غير السجانين , ثلاث مرات في اليوم يفتحون الباب لإدخال الطعام , وبعد ساعة تقريباً من ادخال الطعام يفتحونه ثانية لإخراج الصحون و للخروج للمرحاض و المغاسل – يسمون المرحاض هنا " الخط " لم أستطع أن أعرف سبب هذه التسمية!.
          الطعام هنا أفضل من هناك , يصل إلى السجين القليل من قطع اللحم , و الطعام أكثر نظافة .. وتنوعاً .
          أنتظر بقلق يزداد كلما مر يوم دون أن أعرف سبب نقلي إلى هنا , المعاملة هنا جيدة نسبياً .. باستثناء بعض الصفعات على الوجه و الرقبة أثناء الخروج إلى المرحاض أو العودة منه , لم أتعرض إلى أي تعذيب جسدي مباشر , لكن أصوات التعذيب التي تصل جلية واضحة إلى جميع المنفردات تغدو مع الوقت أكثر استفزازاً ومدعاة للتوتر و الخوف , كل يوم من الثامنة و النصف صباحاً تبدأ صرخات الألم و التوسل , وتنتهي عند الثانية والنصف , لتعاود الاسطوانة عزفها من السادسة مساءً وحتى ساعة متأخرة من الليل .
          أحاول تجاهلها .. نسيانها أو التغاضي عنها .. لا أفلح .

          21 أيار .

          اليوم مساءً فتحوا باب زنزانتي وطلب العنصر خروجي , خرجت , أمسكني من يدي وقادني إلى باب الأدراج ذي القضبان المعدنية , فتح الباب , سلمني إلى عنصر آخر كان واقفاً أمام الباب , قادني هذا الآخر صعوداً , وصلنا إلى البلاط الملمع , سحبني خلال الممر اليميني إلى آخر غرفة , أدخلني فيها , خرج وأغلق الباب دون أن ينطق حرفاً , ليس في الغرفة إلا طاولة وكرسي واحد فقط .
          دخل رجل في الأربعين وبيده كدسة أوراق بيضاء وقلم حبر ناشف , سألني إن كنت أنا .. أنا , أجبت نعم أنا , وضع الأوراق و القلم على الطاولة , أمرني أن أجلس , جلست على الكرسي خلف الطاولة. "هذه هي المرة الأولى التي أجلس فيها على كرسي منذ / 12/ سنة". قال :
          - هذه أوراق .. هذا قلم , نريد منك تكتب تاريخ حياتك من ولادتك وحتى الآن , مفهوم ؟.
          - نعم مفهوم .
          خرج , وبدأت أكتب .. استذكر وأكتب , أفكر ماذا يريدون بالضبط ؟.. لا أعرف وأكتب , ساعة .. ساعتان وأكتب , فتح الباب خلالها مرتين وعندما يرون انهماكي في الكتابة يخرجون دون أن يقولوا شيئاً ..، أكتب , القلم .. الورقة .. افتقدتهما سنوات طويلة , كانا أمراً عادياً , بديهياً وفي متناول اليد دائماً , وعندما تفقدهما .. تفكر طويلاً : كم أنفقت البشرية من زمن وجهد حتى استطاعت اختراع وإيجاد الورق ؟ كم لزمها .. حتى اخترعت القلم الذي نكتب به بسهولة ؟ كم هما عزيزان .. اثيران إلى قلبي , واكتب .. أغوص في التفاصيل الصغيرة , استذكر المدارس التي درست في صفوفها , أهلي .. أصدقائي , أصبحت هذه الكتابة متعة لي , لا أريد مفارقة الورقة و القلم .
          يدخل الرجل الذي قادني .. يحدق بي , يقول :
          - لو كنت عم تكتب تاريخ العالم كنت خلصت هلق .. العمى ليش لهلق ؟ !
          - أعطيني كم دقيقة .. أكون خالص .
          بعد دقائق اسلمه الأوراق و القلم .. يقول لي :
          - خليك هون .
          ويذهب , عاد بعد أقل من ساعة بقليل مع شخص ذي هيبة , الأوراق التي كتبتها بيد الشخص ذي الهيبة , حدق هذا فيّ قليلاً وقال :
          - كل شيء كتبته .. اسمه: أكل خرى. هاي أوراق جديدة وهذا قلم. أكتب لنا .. المفيد و المختصر .
          رموا بالقلم و الأوراق على الطاولة وذهبوا .
          بدأت أكتب من جديد ولكن بنفس المتعة , أعدت ما كنت قد كتبته سابقاً , ليس لدي جديد , لقد كنت صادقاً في كل ما كتبت , طلبوا تاريخ حياتي وقد كتبته لهم في بضع صفحات , و كل ما كتبت كان صحيحاً فليس لدي شيء أخفيه أو أخاف من قوله، ولكن لماذا يطلبون مني كتابة ما كنت قد كتبته سابقاً ؟ .. لست أدري .
          ومن جديد أخذوا ما كتبت , عاد الرجل الأول بعد أقل من ساعة , قال :
          - يا الله .. أمشي .
          بنفس الطريقة عدنا , ودخلت إلى زنزانتي .

          22 أيار .
          اليوم مساءً فتح باب زنزانتي , طلب العنصر خروجي , خرجت .. ممرات .. ادراج .. أبواب حديدية , ممر إلى اليمين ملمع البلاط .. أول غرفة إلى اليسار .
          رجل يضع نظارات طبية , يجلس وراء مكتب أسود , أمام المكتب كرسي بلاستيكي , رفع رأسه , خلع النظارات الطبية , أشار لي أن اجلس فجلست على الكرسي , وبعد قليل وضع النظارات , أمسك القلم , يسال , أجيب , يسجل دون أن ينظر اليّ :
          - اسمك , اسم أبوك , اسم أمك , أخوتك الذكور , أخواتك البنات , أعمامك , أخوالك , اصدقاؤك هنا , أصدقاؤك في فرنسا , اسماؤهم الثلاثية جميعاً , انتماءاتهم الحزبية وعند هذا السؤال قلت :
          - لا أعرف .
          لم يجادل , لم يكذبني , كتب على الورقة التي أمامه .. لا يعرف .
          ثم سألني الكثير من الاسئلة , كلها سياسية .. عن الأحزاب التي انتميت إليها , وأخيراً قال لي :
          - هل لديك أقوال أخرى ؟
          - لا .
          - خليك هون .
          لملم أوراقه وذهب , بعد حوالي الساعة أتى عنصر أعادني إلى زنزانتي , جلست .
          طوال الوقت أسمع صراخ امرأة .. إنهم يعذبونها !.

          23 أيار .

          في آخر الليل ، أعادوني إلى الزنزانة محطما .
          في أول الليل فتحوا باب زنزانتي وأمروني أن أخرج ، خرجت كالعادة ، لم يكن هناك أدراج ، أخذوني إلى آخر غرفة في صف الزنازين ، وضع السجان الطماشة على عينيّ ودفعني إلى داخل الغرفة !.
          سألت نفسي : هل انتهى شهر العسل ؟.
          أوقفتني أيدي السجان ، جاءني صوت من أمامي :
          - نحن عاملناك معاملة راقية .. لأنه أهلك جماعة طيبين ، بس أنت ما فيك ذوق ، كل هـ العلاك والحكي الفارغ .. ما ينفع ، كلمتين ورد غطاهن : يا إما تقول لي إلى أي تنظيم تنتمي .. يا إما خليك تشوف نجوم الضهر .. ها شو قلت .. ؟.
          - يا سيدي .. أنا ما انتميت لأي تنظيم .. بس أنا رحت عـ السجن الصحراوي بتهمة الأخوان المسلمين .
          - شو اخوان .. شو خرى !.. شلون مسيحي وأخوان مسلمين ؟.. هذا كان خطأ ، وهلق لازم نصحح الخطأ ، لأي تنظيم أنت منتسب ؟ .
          - أنا ما انتسبت لأي تنظيم .
          - يبدو انك جحش .. ما تفهم ! .. أي .. أي واحد يحكي مثل الحكي ياللي أنت حاكيه لازم يكون عنده تنظيم !.
          ثم سمعته يخاطب آخرين في الغرفة :
          - خذوه على بساط الريح وبس يقرر يعترف .. هاتوه لهون !.
          سحبوني بعنف ، رغم كل شيء فقد ارتحت قليلا لأنني عرفت أن أهلي قد أصبحوا ورائي ، القوني على لوح خشبي ، ربطوني من جميع أنحاء جسمي ، رفعوا الجزء السفلي من اللوح الخشبي عاليا .. ثبتوه .
          بدأ الضرب .. وبدأ الصراخ .
          كنت أتألم بشدة ، لكنني لم أكن خائفا ولا هلعا ، أنا الآن " صاحب خبرة وتجربة " ، لقد رأيت وسمعت الكثير من الحالات أمامي .. ومنها تعلمت وحفظت .
          كما لرجال الأمن دروسهم وقواعدهم ، فإن للسجناء أيضا قواعدهم ووصاياهم ، وهنا كان أهم وصيتين :
          الأولى : مهما تألمت من التعذيب فلا تعترف بشيء لكي تتخلص من الألم ، لأن الأعتراف مهما كان صغيراً سيجعلهم يعرفون أنك قد ضعفت ، لذلك فان كمية التعذيب ستزيد لانتزاع المزيد من الاعترافات بدلاً من أن تنتهي .
          الثانية : اذا طلبوا منك أن تتعاون معهم وتصبح مخبراً لديهم مقابل أن يطلقوا سراحك ، فلا تقبل مطلقا ، لأنك إن قبلت تكون قد تورطت ورطة تدوم مدى الحياة ، وهم دائما يكذبون !.
          كنت أتألم .. لكن لم أعد الضربات ، فكرت بأمور شتى ، أهلي .. نسيم .. كل هذا وأنا أصرخ بصوت عال !.
          بعد فترة أحسست أن قدميّ قد تخدرتا ، احساسي بالألم خف كثيرا .. وغدا الأمر ميكانيكيا ، يضربون ، أتألم قليلا ، أصرخ عاليا .
          انتهت لعبة عد الأصابع لصالحي !.. إما انهم تعبوا ، أو ملوا ، أو اقتنعوا أنني لا أنتمي لأي تنظيم .
          تركوني بناء على أوامر "الصوت الذي كان في الغرفة" :
          - اتركوه .. اتركوه ، خذوه عـ الزنزانة ، العمى ما أيبس رأسه .. مثل رأس الجحش !.
          أمشي بصعوبة ، محطماً بدنيا .. لكن بمعنويات جد مرتفعة ، أعادوني إلى زنزانتي .
          لم ألبث أن نمت .

          24 أيار
          اليوم صباحاً فتحوا باب زنزانتي , أخرجوني , طمشوني فوراً , ومن خلال السير عرفت أنني اصعد الأدراج و السلالم , قادوني لا أدري بأي اتجاه , دق العنصر أحد الأبواب .. أدخل , دخل , خبطة قدم .. احترامي سيدي .
          قال صوت أجش ثخين :
          - ارفع الطماشة عن عيونه .. وروح أنت .
          رفع العنصر الطماشة , ثلاثة رجال في منتصف العمر .. أحدهم يجلس خلف مكتبٍ فخم وأنيق, الآخران يجلسان إلى جانبي المكتب , جميعهم صامتون , ستة عيون تحدق فيّ مباشرة , يفحصوني من قمة رأسي إلى أخمص قدمي , ستة عيون قاسية .. ثاقبة .. أحسست أنني أتعرى من الداخل , ستة عيون يسيل منها مزيج من الدهاء و الذكاء .. مزيج من القسوة و السطوة .. مزيج من الترفع و العنجهية ..عيون رأت عشرات الآلاف من أمثالي ..عيون قد شبعت من كل شيء !.. عيون ضجرة ملولة .
          فوراً قدرت أن هؤلاء الرجال الثلاثة هم أهم من قابلتهم من المسؤولين و المحققين حتى الآن , وأن مصيري كله سيتقرر في هذه الجلسة , قررت أن أكون جريئاً .. أن ادافع عن نفسي بقوة , أن أستفيد من كل ما سمعته وما مر بي , سأواجههم , لذلك وقبل أن يتفوهوا بأي كلمة بادرتهم بالسؤال مستجمعاً كل شجاعتي :
          - إذا ممكن تسمحوا لي بسؤال .. أنا ليش هون ؟ .. ما هي جريمتي حتى أبقى في السجن أكثر من /12/ سنة ؟ .. شو عملت ؟.. ممكن واحد منكم يجاوبوني على هذا السؤال ؟ .
          قال الرجل الجالس خلف المكتب , هو نفس الصوت الأجش :
          - أولاً أخرس , ثانياً أنت هون اتجاوب على الأسئلة مو تطرح أسئلة , ثالثاً رغم هيك .. راح نقول لك ليش أنت هون وما هي جريمتك .. يا مجرم .
          سكت قليلاً ثم أردف :
          - اسحب هـ الكرسي .. أجلس .
          سحبت الكرسي وجلست .
          - أنت مخرج سينمائي .. ولا ؟
          - نعم سيدي .
          - أنت عم تقول أنك ما انتسبت لاي تنظيم سياسي معارض للدولة .. أنا راح صدقك , لكن إذا ظهر عكس هذا الكلام .. أنا بإيدي راح أعدمك .. مفهوم ؟
          - نعم سيدي .
          - طيب .. أنا راح أقرأ لك مجموعة أسماء و أي اسم تعرفه قول .. مفهوم ؟
          - نعم سيدي
          قرأ ثلاثة أسماء لا أعرفهم , قرأ الاسم الرابع , الاسم الثلاثي لصديقي أنطوان , عندها رفعت يدي مسرعاً , وكأني أريد أن اثبت مصداقيتي .. صرخت :
          - هذا يا سيدي .. أنطوان .. هو صديقي بفرنسا .
          - هاه .. وصلنا لشيء مفيد .. أنت تعرف أن هذا أنطوان من أخطر الناس ؟ .. هو شيوعي معارض للنظام , يعني مو مثل خالك , رغم أن خالك شيوعي .. خالك رجل كثير وطني ومخلص , ونحن نحترمه كثير , بس أنطوان .. أنطوان عميل !.. أنطوان ضد الوطن !.. وأكيد هو حرضك حتى تحكي ضد الوطن .. مو هيك ؟ .
          - لأ .. لأ سيدي , أنطوان ما كان يحكي معي بالسياسة .
          - لكن .. أنت من وين جايب هذا الحكي المكتوب بالتقرير ؟ .
          - أي حكي .. وأي تقرير ؟.
          - مشان ما وجع راسك .. وتوجع راسنا راح أقرأ لك التقرير , وبعدين تجاوبني , اتفقنا ؟
          - طيب .
          فتح اضبارة أمامه , تفحص عدة أوراق , سحب ورقة منها , نظر إليها ملياً وطفق يقرأ .
          " بتاريخ كذا .. وكذا .. دعيت إلى سهرة مع صديقتي الفرنسية , السهرة كانت في بيت المدعو أنطوان , وكان حاضراً في السهرة , فلان وفلان وفلان .. كلّ منهم بصحبة صديقته ..
          توقف عن القراءة قليلاً قائلاً :
          - شو بدنا بكل هـ العلاك .. وين الفقرة الخاصة فيك .. وين ها .. هذه الفقرة ..
          ......... عند نهاية النقاش بقي هناك شخص لم يشارك في الحديث لم أعرف رأيه , وهو المدعو فلان الفلاني , وهو طالب من العاصمة يدرس الإخراج السينمائي هنا في فرنسا , وقد أمضى فترة النقاش ينظر إلينا مبتسماً , وأحياناً يحادث صديقته .
          توجهت إليه بالسؤال عن رأيه عما دار من حديث، ولكي أدعه يطمئن تابعت تهجمي على السلطة السياسية.
          ضحك وقال كلاماً جارحاً بحق الرفيق الأمين العام رئيس الجمهورية المفدى , وأنا ألآن سأورد كلامه كما ورد على لسانه مضطراً رغم أنني محرجٌ جداً , وأربأ بقلمي أن يخط هكذا عبارات !.. وسيادتكم تعلمون أنني على استعداد لأن أقطع لساني ولا أدعه يتلفظ بهكذا عبارات مقذعة بحق الإنسان الذي نجله ونحترمه .. لا بل نعبده .. السيد الرئيس حماه الله ونصره , ولتكن أرواحنا فداءً له .
          ولكن تسجيلي لهذه العبارات إنما الهدف منه أن تكون الجهات الأمنية الساهرة على أمن الوطن على علمٍ بكل شيء , وأن تكون في صورة الموضوع , قال المدعو فلان رداً على تساؤلي .. و بالحرف الواحد :
          - أنا بالحقيقة لا استسيغ ولا أحب النقاشات السياسية , وكرجل يهوى ويعمل في مجال الفن السينمائي فإنني أهتم بالصوت و الصورة , لا تهمني السياسيات الاقتصادية أو السياسية , لا أستطيع أن أحكم على النظام أو على السلطة من خلالها , أنا أحكم من خلال الصوت و الصورة .
          إذا كانت الرسالة تعرف من عنوانها , فإن عنوان هذا النظام هو الرئيس .. فماذا يقول الصوت ؟.. إن صوت هذا الرئيس مثل صوت التيس .. و التيس كما تعرفون هو من أنتن الحيوانات وأعندها , وأنا لا أحب النتانة و لا العناد .
          أما الصورة فتقول , إن رأسه مثل رأس البغل , وأنا أكره البغال كثيراً .. لسبب بسيط هو أنها ليست أصيلة , لو كان حماراً لأحببته , لأنه في هذه الحالة ينتمي إلى سلالة الحمير الأصيلة و العريقة .
          لهذين السببين يا أخي , فإنني لا أحب هذا الرئيس ولا أحب هذا النظام .
          وقد ضحك جميع الحاضرين في الجلسة .. هذا هو رأي .. " .
          عند هذه العبارة توقف الصوت الأجش عن القراءة , نظر إليّ بعمق وحقد وهو يطوي الأوراق الموجودة أمامه , ثم قال بلهجة استهزاء :
          - نحن قلنا لك عن سبب وجودك هون .. عن جريمتك , وانت لازم هلق تقول لنا لأي تنظيم أنت منتسب .. هذا الكلام الوارد بالتقرير كلامك وإلا لأ ؟ .. احكي .
          فيما كان يقرأ التقرير كان عقلي يعمل بسرعة مذهلة , كل حواسي كانت مستنفرة , كنت اسمع بنصف عقلي و النصف الآخر كان يفكر , حاولت تذكر السهرة فلم أفلح !.. التقطت التاريخ المذكور في التقرير , أكثر من ثلاث سنوات قبل عودتي إلى بلدي , يضاف إليها أكثر من إثنتي عشر عاماً قضيتها في السجن !.. كيف لي أن أتذكر سهرة من مئات السهرات التي كنا نقيمها ؟.. حتى أشخاص السهرة لم أتذكر منهم سوى صديقي أنطوان !.. وهذا كنت معه يومياً تقريباً , لم أتذكر .. لم أتذكر .
          أما كلامي الوارد في التقرير فهو يندرج في عداد النكات , وكانت هناك آلاف النكات , قسم كبير منها يتناول رجال السياسة و الرئيس شخصياً , ولا تخلو سهرة من سهراتنا كطلاب من عشرات النكات , فلماذا هذه النكتة بالذات – على فرض أني قلتها – يكون ثمنها باهظاً إلى هذه الدرجة ؟!
          أجبت على السؤال الذي وجهه لي ..
          - هذا التقرير الذي قرأته و عمره أكثر من خمسة عشر عاماً , لا أذكر أني حكيت هيك كلام , وعلى فرض أني حكيته .. هذه نكتة لا أكثر و لا أقل , وأنت تعرف أنه في مئات النكات من هذه الشاكلة .
          - حتى لو كانت نكتة .. هذه النكتة عقوبتها من سنة إلى ثلاث سنوات .
          - بس أنا صار لي /12/ سنة في السجن !.
          - ال/12/ سنة انساهم , هدول نتيجة خطأ نحن غير مسؤولين عنه , حسابك يبدأ من هذه اللحظة , وهلق احكي لنا عن تنظيمك .. ولأي تنظيم تنتمي .
          - أنا منتسب إلى تنظيم .. الإخوان المسلمين !.
          انفجروا بالضحك .. ومد الصوت الأجش يده ليكبس زر الجرس , ظهر العنصر على الباب فوراً , خاطبه ولا زالت أثار الضحك بادية عليه :
          - رجعه عــ الزنزانة .. وقول لمدير السجن .. لا تزعجوه .
          - حاضر سيدي .
          يبدوا أنهم كانوا قد درسوا القضية واتخذوا قراراً، وكل الدلائل تشير إلى أن هذا القرار لصالحي .
          ولكن مادور خالي في كل هذا ؟ .. لست أدري .

          تعليق


          • #6
            رد: مصطفى خليفة - القــوقعـة - يوميات متلصص


            10 حزيران .
            أكثر من نصف شهر لم يحدث خلالها شيء , أصوات التعذيب أنهكت أعصابي , أن تتعذب أنت أهون من أن تسمع أصوات الصراخ الإنساني ليلاً نهاراً , أحاول أن أتلهى بقراءة الأسماء الموجودة على حيطان الزنزانة , جميعها مكتوبة بواسطة شيء معدني .. مسمار مثلاً , محفورة بالطلاء الأخضر الفاتح , الكثير من الأشعار , أسماء ذكور و إناث , بعضهم يكتب اسم مدينته أو حزبه السياسي , أحدهم كان يخط خطوطاً متوازية إلى جانب اسمه .. يبدو أن كل خط يمثل يوماً , عددتها: ثلاثة وثلاثين خطاً .



            21 حزيران .
            أخرجني السجان وهو يطلب مني أن أحمل كل أشيائي , صعدنا إلى فوق دون طماشة ودون قيود , أدخلني بالمراسيم المعتادة إلى غرفة " الصوت الأجش " الذي بادر بأن طلب مني الجلوس .
            تكلم معي أكثر من عشر دقائق , أفهمني أنهم كانوا ينوون إطلاق سراحي , و أنهم يحترمون خالي الذي يتدخل لصالحي كثيراً لأنه إنسان جيد , إلا أن هناك جهات أمنية أخرى اعترضت على ذلك وطالبت بتسليمي إليها و أنهم مضطرون آسفين لتسليمي إليهم .
            بعد ذلك بقي حوالي عشر دقائق اخرى يحاول أن يفهمني أمراً ولكن مداورة , وتبين لي أنه لا يريد أن يخوض فيه صراحة لذلك لجأ إلى التلميح و اللف و الدوران , كل ما استطعت فهمه هو ..
            أنني يجب ألا أدلي بمعلومات لدى الجهة الأمنية الأخرى زيادة عما أدليته به هنا مهما استعملوا معي من وسائل , وأنني يجب ألا أنكر الجميل الذي أسدوه لي هنا بعدم ضغطهم عليّ لانتزاع المعلومات – وهذا كرمى لخالي – وذلك لأنني إذا أدليت بمعلومات جديدة سوف تظهر الجهة الأمنية الأخرى بمظهر الطرف الأقدر و الأكثر نجاحاً , وأنني عندها سوف أصم " الصوت الأجش " وجماعته بوصمة الفشل .
            خاصة أنني إذا تقيدت بهذه التعليمات فإن ذلك سيكون لصالحي , وسيصب في النهاية لصالح قرار إطلاق سراحي .
            ختم حديثه قائلاً :
            - أتمنى لك التوفيق , إذا أطلقوا سراحك سلّم على خالك , قل له العميد " " يسلم عليك , وخليك رجّال .. لا تخاف .. مع السلامة .
            بعدها سلموني إلى الجهة الأمنية الأخرى و...عناصر أمن , سيارة , قيود ... ننطلق على الأوتوستراد باتجاه الشرق .


            24 حزيران .
            عند الجهة الأمنية الأخرى .
            ثلاثة أيام تساوي ثلاث سنوات في السجن الصحراوي .
            كان الضابط بإنتظاري على باب غرفته , الغضب يقطر منه , لم يلتفت إلى تحية العناصر له , فقط سألني إن كنت أنا أنا , أجبت نعم .. ومع الــ نعم فاجأني بلكمة على أنفي القتني على صدر العنصر الذي يقف خلفي , سندني هذا العنصر , عدت لأقف معتدلاً , أمسكني الضابط من صدري وشدني إلى داخل الغرفة وهو يصفعني باليد الأخرى , في وسط الغرفة أمسكني من رقبتي .. من تفاحة آدم وأخذ يضغط عليها , أحسست بالإختناق , قال لي وهو يصّر على اسنانه :
            - أركع ولا كلب .. أركع ولا عرص .
            ركعت على ركبتي أفلت رقبتي وذهب إلى خلف المكتب , أمسك ورقة واقترب مني , أخذ يقرأ فقرات منها .. مع كل فقرة يضربني باسفل حذائه على وجهي ..
            -الصوت و الصورة .. " رفسة على الخد " .. الرسالة تظهر من عنوانها " رفسة فوق الخد قليلاً " .. صوت التيس " ببوز حذائيه ضربة على جنبي ألقتني أرضاً " .. ويتابع القراءة و الضرب !.
            ألقاني أرضاً , سحق فمي بحذائه ثم وضعه على رقبتي وضغطه , عجنني برجليه .. وفهمت منه أن ما قلته بحق " السيد الرئيس " يكفي بحد ذاته لشنقي من خصيتيّ !.
            صرخ وهو يكاد يختنق بصراخه على أحد العناصر , وأعطاه التعليمات .
            ثلاثة ايام لن أنساها ما حييت , الجلد , الضرب , في الدولاب , علي بساط الريح , التعذيب بالكهرباء .. يثبت الملاقط على الأجزاء الحساسة من جسدي ويشغل الجهاز .. يبدأ جسدي رقصته الكهربائية , أحس أنني سألفظ أنفاسي , أعجز عن التنفس , تكاد الرئتان أن تنفجرا .. الطماشة على عيني .. لا أعرف متى يشغل الجهاز ومتى يوقفه , وأرقص .. أرقص تشنجاً وألماً .
            في اليوم الثالث جاء دور الشبح .. عندما سمعت الأمرَ بشبْحي لم أفهم ماذا يعني ذلك , لكن عندما ربطوا يديّ عالياً وجسدي كله مرفوع عن الأرض أكثر من نصف متر تذكرت صلب المسيح , دون أن أعي صرخت :
            - يا يسوع .. يا محمد .. يا الله .
            بعدما يقارب النصف ساعة أحسست أنني قد استنفذت كل طاقتي على التحمل .. أحسست بضعف هائل .
            سأعترف بما يريدون مني أن أعترف به , وليكن الإعدام ! الإعدام سوف يكون أرحم ! .. ولكن من أين أخترع لهم تنظيماً معادياً غير الإخوان المسلمين .. وبعد ذلك أنتسب إليه ؟ .
            تذكرت المهجع , مئات الروايات عن الذين ضعفوا واعترفوا بأعمال لم يقترفوها ! .. اعترفوا بجرائم لم يسمعوا بها إلا من فم المحقق الذي يتهمهم بارتكابها !.. ماذا كانت نتيجة اعترافاتهم ؟ .. البعض تم إعدامه , الآخرون يتعفنون في السجن .. الكثير منهم مات أو في طريقه إلى الموت !.. قويت عزيمتي , أنا لم أعد كما كنت قبل اثني عشر عاماً , لقد صلبتني التجربة , أخذت اقنع نفسي أنني رجل .. ورجل شجاع .. رجل شجاع قادر على التحمل !.. وتحملت .

            2 حزيران
            هل اكتفوا بالأيام الثلاثة من التعذيب ؟.. البارحة و اليوم لم يفتحوا باب زنزانتي إلا من أجل الطعام و المرحاض , الطعام ثلاث مرات في اليوم , المرحاض ثلاث مرات في اليوم بعيد الطعام مباشرة .
            لملمت نفسي قليلاً , أترقب متوجساً , هل سيعاودون الكرة ؟.. ومتى ؟ قررت أن استرخي و اضمد جراحي ! يداي خدرتان من أثر الشبح ! .. استعملهما بصعوبة , أحاول أن أجري لهما بعض التمارين الرياضية , أجد صعوبة في تنظيف نفسي بعد انتهائي من قضاء حاجتي .
            أريد أمي ... آه يــــا أمي .

            22 آب :
            رجل ذو هيئة ارستوقراطية لا تتناسب أبداً مع اللهجة الجبلية الثقيلة و البدائية التي كلمني بها وأفهمني أن أيامي لديهم قد انتهت و أن هناك جهة أمنية ثالثة طلبت تسليمي إليها , وأنني أستطيع تجنب الذهاب إلى هذه الجهة الأمنية الثالثة وأنني أستطيع الخروج من السجن إذا كنت متفهماً ومرناً وعلى استعداد لأن أخدم وطني خدمة حقيقية , وانه الآن سيرسلني إلى المساعد أحمد لكي نتفاهم على التفاصيل .
            رن الجرس وحضر المساعد أحمد الذي قادني إلى غرفته .
            المساعد أحمد , نظرته لزجة .. ابتسامته لزجة .. كلماته لزجة .. !
            وضع يديه على يدي أثناء الحديث , كانت تنضح عرقاً ولزوجةً , هو كائن لزج .. كان يمكن أن يكون بزاقة!.
            عرض علي وبطريقة لزجة , كريهة جداً وتدعو للإقياء , أن يطلقوا سراحي ويعيدوني إلى باريس , هناك أنخرط في صفوف المعارضة مسلحاً بتاريخي "سجني الطويل" وأن أخدم وطني من خلال التقارير التي ارفعها للجهات الأمنية المسؤولة كاشفاً لهم عن أعداء الوطن .. من أبناء الوطن .
            رفضت , متعللاً .. مداوراً .. لبقاً , رفضت , ثم حاول .. فرفضت , كرر المحاولة بالترغيب و الترهيب .. فرفضت – مستذكراً الدروس - .
            يحاول أن يكسب رضى رؤسائه بنجاحه في مهمته , يحاول أن يبني مجداً ذاتياً .. حاول وحاول .
            لزوجته .. نعومته , تدعو للغثيان !! وبقيت أرفض , أوصلته لليأس , فكشر عن أنيابه , غابت النعومة لتظهر الهمجية و الشراسة .
            لم أبه .. ليكن ما يكون , ولن يكون أكثر مما كان !.
            وقف غاضباً , صفعني بلؤم , وبلهجة تقطر فشلاً وإحباطاً , قال :
            - إنت واحد جحش ما بتعرف مصلحتك , راح تتعفن بالسجن , راح نسلمك للجماعة .. وهدول إن شاء الله راح ينيكوا أمك .. يا كلب يا حقير .
            وسلموني للجهة الأمنية الثالثة .
            عناصر أمن , سيارة , قيود , تنطلق السيارة شمالاً , نصل إلى الشارع الذي ينار بأضواءٍ برتقالية محمرة , وزنزانة جديدة مقاييسها تختلف عن سابقاتها !.

            23 آب .
            متر عرضاً , متر طولاً .. هذه هي الزنزانة الجديدة , على ارتفاع متر تقريباً عن الأرض يوجد بلاطة مصممة ككرسي تصل بين حائطين طولها متر وعرضها نصف متر , الجلوس و النوم عليها , في الزنزانة بطانية مهترئة واحدة فقط , حظي جيد فالوقت صيف , نافذة مشبكة بالقضبان و الشبك الحديديين تأخذ نصف الجدار الخارجي وتطل على حديقة مركز المخابرات , أتنفس هواء طبيعياً .

            1 ايلول .
            أنا هنا منذ عشرة أيام تقريباً , الثلاثة أيام الأولى لم يسألوني شيئاً , الطعام وجبة واحدة فقط توزع ظهراً بعد الإنتهاء من التحقيق الذي يجري قريباً من زنزانتي , بعد الظهر وحتى حلول الظلام هي الفترة الوحيدة التي لا أسمع فيها الصراخ و البكاء .. و الشتائم , وما عدا ذلك فالتحقيقات مستمرة وعلى مدار الأربع و العشرين ساعة , هذا الفرع مشهور بين السجناء بقسوته .
            في اليوم الرابع فتح السجان باب زنزانتي صباحاً , يقف إلى جانبه شخص أخر , سألني عن اسمي فأجبته .. قال :
            - شوف .. المعلم طلبك , وانت أكيد سمعت بالمعلم , راح أعطيك نصيحة لوجه الله : شو ما سألك احكي بصدق وصراحة , لا تكون عنيد وتعمل نفسك بطل .. بهذا المحل ما في أبطال !.. كل الناس بتعرف المعلم , ومنشان تكون بالصورة .. مرة من المرات كان المعلم عم يحقق مع واحد أخرس .. أجبر الأخرس أنو يحكي !.. الأخرس حكى .. فيا أخي , الله يرضى عليك .. منشان مصلحتك لا تخبي شيء .. احكي كل شيء .. اسلم لك !.
            وأخذوني إلى عند المعلم .
            في غرفة الإنتظار ذات الأثاث الفخم أمام غرفة " المعلم " أوقفوني أكثر من ربع ساعة , حركاتهم .. تراكضهم .. الحديث بصوت خافت .. كلها أمور تدخل الخوف و الفزع إلى قلب الشخص الذي ينتظر .
            أوقفني " المعلم " أمام مكتبه دون أن يكترث بي أيضاً أكثر من ربع ساعة , كان يتصرف وكأنه لا يراني , مشغول بقراءة بعض الأوراق و الملفات والرد على الهواتف .
            بعد ذلك تفرغ لي كلياً .. ولمدة أربعة أيام !! .
            منذ الصباح إلى ما بعد الظهر كتبت تاريخ حياتي ثلاث مرات , وكل مرة بعد انتهائي من الكتابة يأخذه مني ويعطيه إلى أحد الضاط الصغار الذي يعود بعد أقل من نصف ساعة و هو يهز رأسه سلباً , فيطلب مني إعادة الكتابة مرة اخرى .
            غرفة المكتب عبارة عن قاعة فسيحة مؤثثة بشكل باذخ , لم اشاهد في حياتي أثاثاً بمثل هذه الفخامة و الأناقة , أجلسني إلى طاولة للاجتماعات في ركن الغرفة حولها أربعة وعشرون كرسياً .
            خلال وجودي في غرفته وبينما أكتب تاريخ حياتي , أجرى التحقيق مع ثلاثة أشخاص , كان يعذبهم أمامي , احاول أن اركز انتباهي على ما أكتب .. وسط ضربات السياط والصراخ الانساني , وينتهي الأمر في كل مرة باعتراف المعتقل , يأمر " المعلم " بايقاف التعذيب ويطلب من أحد العناصر ضبط أقواله واعترافاته .
            كل ما في الغرفة متسق ومتناسق , عداي و المعتقلين الآخرين بالثياب الرثة و المتجعدة , وكذلك الدولاب الأسود وأدوات التعذيب الأخرى .
            بعد الظهر لم يبق في الغرفة غيري من المعتقلين , خرج " المعلم " من وراء مكتبه , جلس قربي , نظر إلي , قال :
            - شوف .. كلمتين نظاف .. أحسن من جريدة وسخة .
            بدأ من حيث انتهي الأخرون , خيرني بين شيئين :
            - إما العذاب والعودة إلى السجن الصحراوي حيث سألقى الإعدام , أو ..
            - الإعتراف و العودة إلى فرنسا و العمل بين صفوف المعارضة كمخبر .
            لم أختر , لكن نفيت أي علاقة لي مع أي تنظيم , ورفضت العودة إلى فرنسا .
            جميع الوسائل التي لديه جربها , البعض منها كنت قد عرفته في الأماكن الأخرى , لكن هنا زادوا عليها باستخدام الكرسي الألماني الذي أحسست أنه قد كسر ظهري , علقوني كفروج , شبحوني على السلم ...... وآخر شيء هددني باستعماله في آخر يوم .. أو أخر دقيقة من الايام الأربعة التي استغرقها التعذيب .. أنه سيدخل قنينة كازوز في شرجي .. وبعد أن أحضروا له القنينة رن الهاتف , تكلم على الهاتف بغضب , خرج بعدها من الغرفة – قبل أن ينفذ تهديده – بعد أن أمر بإعادتي إلى الزنزانة وايقاف التعذيب .
            أربعة أيام لم أكل , لم أنم ولا دقيقة واحدة , يتركونني بعد الظهر ثلاث أو أربع ساعات في الزنزانة , يداي مقيدتان , مربوطتان بجنزير معدني , الجنزير معلق إلى حلقة بالسقف , يشدونه بحيث بالكاد أقف على رؤوس أصابع القدمين , كنت احس بالراحة عندما يفكون يدي ويأخذونني إلى الدولاب أو بساط الريح أو الكهرباء .. كل وسائل التعذيب اسهل من التعليق هذا .
            بقيت صامداً , لم اضعف مطلقاً هذه المرة , كنت دائماً أقول لنفسي إنها ساعات ألم مؤقتة ستزول ... أتلهي بأفكار أخرى , قد يكون تركيزي على أحلام اليقظة خلال السنوات الماضية و السهولة التي صرت استحضر فيها أي مادة لتكون حلماً.. قد ساعدني ! اكتشفت نفسي , وسررت لما اكتشفت , قلت في سري برنة تحمل بعض التباهي :
            - هذه معمودية صيرورتي رجلاً يحترم نفسه .
            مضى الآن أربعة أيام على إنتهاء التعذيب , شبعت نوماً , رغم أنني أنام وانا جالس .
            لكن وجبة واحدة من الطعام لا تكفي .







            2 كانون الأول .
            الساعة الآن الواحدة و النصف بعد منتصف الليل , لأول مرة منذ عودتي إلى بلدي من فرنسا أشعر أن النظافة تحيط بي من كل جانب , تغمرني , فراشي نظيف , شرشف أبيض نظيف , بطانيات نظيفة , بيجاما جديدة , غيار داخلي جديد ناصع البياض , حولي عشرة اشخاص نظيفين في كل شيء .
            في الأيام الأخيرة من وجودي في الزنزانة التي مساحتها متر مربع واحد وتحتوي على بطانية مهترئة واحدة فقط ونافذتها مفتوحة على الحديقة , كنت أعاني الأمرين من البرد في الليل , لذلك أخذت أسهر طوال الليل وكلما شعرت بالبرد أتحرك وأقوم ببعض التمارين الرياضية قدر ما تتيحه المساحة , عند الصباح ألتف بالبطانية و أنام في وضعية الجلوس .
            أيقظتني قرقعة المفتاح الحديدي في الباب الحديدي , السجان الذي بت أعرفه ومعه شخصان , قال :
            - قوم بسرعة .. هات كل أغراضك يا الله .
            خرجت فوراً , لا أغراض لدي سوى بعض مزق الثياب , لم تتأخر الإجراءات كثيراً , بعد قليل اصبحنا خارج الفرع , سيارة ميكرو باص محركها يدور تقف على باب الفرع , قيدوا يدي وأمروني أن أصعد إليها , السائق وأربعة عناصر .. وأنا .
            قال كبيرهم :
            - توكل على الله .. عــ السجن الجبلي .
            انطلق الميكرو باص باتجاه الغرب أو الشمال الغربي صعوداً , خلال أقل من ساعة وصلنا .
            بين الجبال , في مكان منعزل , بناء حديث ضخم , يتألف من أربعة طوابق , مئات النوافذ .. إنه السجن الجبلي .
            نزلنا , اجراءات التسليم و الاستلام , ادخلوني لعند مدير السجن , سألني أسئلة كثيرة وعندما عرف أنني مسيحي نادى أحد رقباء الشرطة العسكرية , طلب منه أن يأخذني إلى جناح الشيوعيين .
            بينما كان الشرطي منهمكاً بفتح باب الجناح كنت أنظر مشدوهاً إلى السجناء الذين يتمشون في ممر الجناح , يسيرون .. يتحدثون .. يضحكون .. صوتهم مرتفع , عيونهم مفتوحة , كل هذا و الشرطي قريب منهم , وقف ثلاثة أو أربعة سجناء قبالة الباب ينظرون إلي , أدخلني الشرطي وأغلق الباب , بصوت خافت قلت لهم :
            - السلام عليكم .
            - وعليكم السلام , أهلاً رفيق , هل أنت رفيق ؟.
            - لا .. لست رفيقاً .
            - أهلاً بك مهما كنت .. تفضل .. تفضل .
            أدخلوني أول مهجع , وقالوا لي قبل أن تجلس هل أنت بحاجة للدخول إلى الحمام , أجبتهم نعم , أدخلوني الحمام , صابون معطر , غيار جديد , بيجاما جديدة .
            خرجت , جلست , حكيت لهم حكايتي .. رداً على أسئلتهم , تجمعت حولي حلقة من الناس يستمعون .
            أحضر أحدهم صينية كبيرة عليها بيض مقلي , بندورة , جبن , زيت وزعتر ....
            يا إلهي كما في البيت !... هل هذا سجن ؟.. سألتهم هذا السؤال , ضحكوا وأجابوا :
            - نعم سجن , لكنه سجن خمس نجوم .
            طلب مني أحدهم أن أكل وبعد ذلك أكمل حكايتي .. وكنت جائعاً كذئب .
            أكلت أكلاً حقيقياً .. شربت شاياً حقيقياً , مع كأس الشاي أعطاني أحدهم سيجارة .. سألني :
            - هل تدخن ؟
            - نعم كنت أدخن .. ولكن منذ اثني عشر عام وسبعة أشهر واثني عشر يوماً لم ادخن سيجارة .
            - يبدو أنك نسيت أن تحسب الساعات و الدقائق و الثواني .
            وانقسم الناس حولي إلى قسمين , قسم يطلب مني أن أغتنم الفرصة وأترك التدخين نهائياً , وقسم يقول أن لا ضير من بضع سجائر بعد كل هذه المدة .
            تناولت اللفافة واشعلتها , عببت نفسين منها , دخت ! .. سعلت , تابعت تدخينها , واستمرت الجلسة منذ الصباح وحتى آخر الليل .
            يسألون , يستفسرون , يعلقون تعليقات ضاحكة , ورويت لهم كل شيء. " فرغت " , وشعرت بارتياح فائق .. عبرت عنه قائلاً لهم :
            - هل هذه هي الجنة ؟.


            31 كانون الأول .
            اليوم رأس السنة , الاستعدادات على قدم وساق , الجميع منهمك بالتحضير للاحتفال براس السنة , الشرائط الملونة و البالونات , الرسوم و التلوينات , اللحوم و المآكل الطيبة , و ... المشروبات , لديهم نبيذ وعرق وكلها تصنيع محلي !.
            أعيش بين هؤلاء الناس منذ شهر تقريباً , أكثرهم عرف صديقي أنطوان عندما ذكرته عرضاً في سياق الحديث , بعضهم قال إن أنطوان صديقه , كلهم عرفوا خالي , وكلهم يحملون رأياً سلبياً فيه لأنه يتعاون مع هذا النظام , لكن الذي فاجأني أن خالي أصبح وزيراً في الوزارة الحالية !..وقد صاح الشخص الذي كنت اتحادث معه :
            - هل فلان خالك ؟
            - نعم خالي .
            - لكن كيف لا يسعى لإخراجك من السجن وقد اصبح وزيراً ؟!.
            يقولون عنه أنه انتهازي , وأنه قد باع نفسه للشيطان هو وكل حزبه , وان حزبه يتحمل المسؤولية عن سجني وسجن الآخرين وعن كل ما يجري داخل البلد من قتل وتدمير وقمع بنفس درجة مشاركتهم بالحكم .
            خالي وزير ؟.. خبرٌ أصابني بالدوار !.

            6 كانون الثاني .
            رغم عدم وجود نساء فإن حفلة راس السنة كانت حلوة بكل المعايير , لديهم الكثير من النبيذ و العرق وبعض المشروبات الكحولية التي لا اسم لها , وكلها من صنعهم هنا .. من العنب و الفواكه و المربى كانوا يصنعون هذه المشروبات .. شربنا , أكلنا , غنينا ورقصنا .. حتى الصباح , الجميع كانوا فرحين شاركوا بكل جوارحهم ....
            كنت أجلس في احدى زوايا المهجع أحتسي المشروبات وأراقب , أراقب أفعالهم وفرحهم وضحكهم , احاول أن اتلصص على دواخلهم !.. وأتساءل : هل يمكن أن يكون هذا الفرح حقيقياً ؟.. ألا يحمل كل منهم بين دفتي صدره إمرأة ما , زوجة .. خطيبة .. حبيبة ؟ ألا يتمنى في هذه اللحظة أن تكون هذه المرأة موجودة معه يراقصها .. يعانقها ؟.. ألا يشكل هذا الغياب الجارح لهذه المرأة .. مرارة وألماً ؟.. إذن من أين ينبع كل هذا الفرح المتطاير في أجواء السهرة؟
            كان كل شيء يوحي بالبساطة و المحبة , لكن لم أستطيع أن أكون صافياً , جبال من الحزن و الكآبة تجثم على صدري , حاولت أن اشارك بكل كياني , لكن هناك شيئاً في داخلي يرفض الفرح .. يرفض لأنه لا يستطيع , لا يستطيع أن يقفز فوق جدار عالٍ وصلدٍ من الحزن المتراكم طوال هذه السنوات .
            هناك .. في السجن الصحراوي , في الليالي الموحشة الكئيبة , الليالي التي تبدو بلا نهاية , عندما تترسخ القناعات بأن لا خروج من هنا !.. عندما يتساوى الموت و الحياة !.. وفي لحظات يصبح الموت أمنية !....
            لم يكن لأكثر أحلامي وردية آنذاك أن تبلغ مطامحه الوضع الذي أنا فيه الآن !.. لم أكن استطيع أن أصل إلى قناعة حقيقية – رغم كل أحلام اليقظة – أنني قد أكون في يوم ما وسط جو من الفرح كسهرة رأس السنة التي عشتها هنا في هذا السجن الجبلي !.. رغم ذلك لم استطع الفرح , لم استطع أن أضحك ضحكة واحدة من القلب !.. هل مات الفرح داخلي في زحمة الموت تلك ؟.. هل سأبقى هكذا .. ولماذا ؟.. هل سأحمل بيادر العذاب والموت جاثمة على قلبي دائماً لتخنق كل ما هو جميل بالحياة ؟!.. لست أدري .

            2 آذار .
            وأخيراً بدأت جهود خالي – على ما يبدو – تؤتي ثمارها .
            من بين الاشياء الأولى التي قمت بها في أول يوم لدى قدومي إلى السجن الجبلي هي ان نظرت إلى نفسي بالمرآة .. وأحسست بالخوف , صلع في مقدمة الراس , الشعر وقد طال كثيراً خلال وجودي بالفرع أصبح ميالاً إلى اللون الأبيض , الشاربان متهدلان وقد أبيّضّ أكثر من نصفهما , العينان غائرتان تحيط بهما هالتان سوداوان , الألم و القهر و الخوف و الذل .. قد حفرت أخاديدَ عميقةً على الجبين وحول العينين ! .. أبعدت المرآة بسرعة .
            اليوم في العاشرة صباحاً حضر شرطي إلى باب الجناح يحمل بيده ورقة , صاح اسمي وقال لأبو وجيه رئيس الجناح :
            - بلغ هذا .. عندو زيارة .
            انشغل أكثر من عشرة اشخاص بمسالة تجهيزي وإعدادي للزيارة , حلاقة الذقن , تشذيب الشاربين , البنطال و القميص , الحذاء " سألوني عن نمرة حذائي واتوني بحذاء نمرته /42/ بناءً على طلبي , لكنه كان صغيراً , ولم تدخل قدمي إلا في حذاء نمرته /44/ لقد كبرت قدمي نمرتين !"
            وكانت هذه هي المرة الأولى التي ألبس فيها حذاءً منذ حوالي /13/ عاماً , مثلما كانت المرة الأولى التي أرى فيها مرآة طوال نفس المدة .
            بعد أن ألبسوني كما يلبسون العريس , رشوني بالعطور , كنت متوتراً , يداي ترتجفان , دخنت سيجارة إلى حين مجيء السجان لأخذي إلى الزيارة .
            مشيت إلى جانب السجان متوجساً مرتبكاً , كدت أقع مرتين بعد أن تعثرت بالحذاء الذي ألبسه " ما أصعب المشي بالحذاء " وصلنا إلى غرفة بابها مفتوح يجلس فيها رجل كهل ابيض الشعر وأمرأة شابة تحمل على صدرها طفلاً رضيعاً , وضع السجان يده على ظهري بلطف , وقال :
            - تفضل .. ادخل .
            دخلت .. واحتاج الأمر إلى عدة ثوان من التحديق حتى استطعت تبين ملامح أخي الأكبر !.. هو أيضاً لم يعرفني لأول وهلة " مضى تسعة عشر عاماً منذ أن رأيته أخر مرة " .
            صرخت اسمه وأنا أتقدم نحوه .. احتضنني واجهشنا بالبكاء .
            تعانقنا ونحن نبكي أكثر من دقيقة , رأسي على كتف أخي , ابكي لوعة ..اشتياقاً , ألماً وفرحاً ..أبكي ارتياحاً , هنا بر الأمان .
            ابتعد أخي قليلاً , مسح دموعه وناولني منديلاً ورقياً لأمسح دموعي , التفت إلى حيث المرأة الشابة , كانت قد وضعت رضيعها على كرسي وجلست على آخر , تبكي وتنشج , تبكي بحرقة شديدة وقد غطت وجهها وعينيها بيديها , نظرت إلى أخي مستفهماً , وبحركة من راسي سألته عنها , من تكون ؟.
            ووسط عينيه الدامعتين لاح شبح ابتسامة خفيفة , قال :
            - ما عرفتها ؟ .. أكيد ما راح تعرفها .. يا أخي هذه بنتي .. بنتي لينا .
            التفت إليها وكانت قد رفعت رأسها , احمرار البكاء يحيط ببؤبؤيها الأخضرين , قال :
            - يا لينا .. قومي سلمي على عمك .
            ألقت لينا نفسها بأحضاني , اعتصرتني واعتصرتها ونحن نلف حول نفسينا , أحسست بدوار قوي , كنت بلا وزن أطوف في الفضاء الرحب .. لا أرى شيئاً , لا أدري كيف جلست على أحد المقاعد , لينا تجلس في حجري كما كانت تفعل وهي صغيرة , تمسح دموعي , تقبلني وتقبلني وهي تهمس :
            - يا عمو .. يا عمو .. شو عاملين فيك .. يا عمو .. آخ يا عمو .. آخ .. والله العظيم أنا اشتقت لك كثير ... شلون هيك ... شلون ؟!..
            لينا .. بؤبؤ الروح .
            عندما ولدت لينا , أنا الذي اخترت لها هذا الاسم , ومنذ أن اصبح عمرها ستنين كانت لا تفارقني " لينا حبيبة عمها .. هكذا كان الجميع يقول". تنام معي في السرير , حتى لو تأخرت في المجيء إلى البيت ونامت هي قبلي , كنت استيقظ صباحاً لأجدها نائمة إلى جانبي , تسيقظ عدة مرات في الليل , تتفقدني , وعندما أعود وسواءً أكنت صاحياً أم نائماً تندس إلى جانبي .
            عندما ذهبت إلى فرنسا كان عمرها أكثر قليلاً من خمس سنوات , وهاهي الآن أمرأة كاملة , وأم أيضاً .
            أمسك أخي كتف لينا وهزها قائلاً وهو يضحك :
            - قومي انزلي من حضن عمك .. كسرتي رجليه .. شو ظانة حالك صغيرة لسى !
            جلست لينا إلى جانبي مبقية يدي بين يديها , تعصر لينا يدي وتقبلها بينما أخي يحاول أن يطمئنني .. وأن خالي يبذل جهوداً جبارة لإخراجي من السجن وأنهم ورائي ولم يتركوني أبداً , وأفهمني أن خروجي من السجن مرتبط بموافقة رئيس الجمهورية !!.. وأنه منذ أكثر من عشر سنوات جرت العادة أن أي مسؤول في أجهزة الأمن يستطيع أن يسجن من يشاء , لكن خروج أي سجين يجب أن تتم بموافقة رئيس الدولة الذي يحتفظ بسجلات اسمية لكل السجناء السياسين !.
            سألته عن صحة أمي وابي , فقال إنهما بخير .
            انتهت الزيارة ولينا متعلقة بيدي .. تعصرها وتقبلها .

            عدت إلى الجناح , إلى المهجع .. استقبلني أبو وجيه مبتسماً , و .. الحمد لله على السلامة , مبروك الزيارة .
            يتكلمون معي , أجيب ... وأنا في حالة انعدام وزن , في خفة الريشة كنت !.
            لاحظوا حالي , جلب لي أحدهم كأساً من العرق .. شربته دفعة واحدة , ضحك , جلب لي كأساً أخر .. شربته على دفعات , سألت أبو وجيه ماذا أفعل بالنقود التي أعطانيها أخي , قال:
            - إذا شئت ضعها في الصندوق , هنا لا يحتفظ أحد بنقوده وكل شيء مشترك , " نقودهم مشتركة وتوضع في صندوق واحد , طعامهم مشترك , لباسهم مشترك " , عشرة آلاف ليرة وضعتها في الصندوق , قال الشخص الذي أخذ النقود إنني شخص غني , لأن الناس هنا كلهم فقراء , وأكبر مبلغ يستلمه السجين من أهله هو ألفا ليرة , قلت إن في السجن الصحراوي اشخاصاً أعطاهم أهلهم نصف مليون ليرة , اطلق هذا الشخص صفرة تعجب من بين شفتيه .
            تممدت على فراشي , غطيت رأسي بالبطانيات .. نمت .
            ( حصيلة لأحاديث طويلة وممتدة على فترة طويلة , عرفت هنا من الشباب "كما يحبون أن يسموا أنفسهم" أن السبب الرئيس للتحقيق معي لدى جهات أمنية متعددة هو الصراع الشرس بين هذه الأجهزة , وقد شرحوا لي مع استخدام الكثير من التعابير السياسية مايسمونه "جوهر النظام السياسي في البلد" وآلية عمل الأجهزة , هذه الأجهزة التي جعلها رئيس الدولة تتنافس على شيئين أساسين : أولاً اثبات ولائها المطلق له , وثانياً الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب و الامتيازات .
            ولكون خالي وزيراً شيوعياً , وبما أنه المتدخل لاطلاق سراحي فقد انعكس موقف الأجهزة الأمنية المختلفة , سلباً أو ايجاباً , من الشيوعيين عليّ , فبعض الأجهزة تكره الشيوعيين كرهاً مطلقاً ولا تميز بين شيوعي موالٍ للنظام وآخر معادٍ , بينما الأجهزة الأخرى تكرههم بدرجة أقل ) .

            6 أيار .
            أعادوني إلى فرع المخابرات الذي أتيت إليه عندما عدت من السجن الصحراوي .
            زارني أخي وابنته لينا ثلاث مرات في السجن الجبلي , وفي آخر مرة قال لي أنهم يمكن أن يعيدوني إلى الفرع تمهيداً لإطلاق سراحي , وأنه يجب أن أكون مرناً ومتعاوناً .. و :
            - اليد التي لا تسطيع عضها .. بوسها .. وادعي عليها بالكسر !.
            صباحاً حضر السجان , نادى اسمي , طلب مني أن أجهز نفسي .
            أعطاني زملائي السجناء خمسة آلاف ليرة , الكثير من الثياب , بعض الأطعمة , ودعني أبو وجيه بالقبلات :
            - خليك رجّال , لا تخاف من شيء أبداً , نتمنى لك التوفيق و ... الحرية .
            في الفرع درج .. ثم درج .. الباب ذو القضبان الحديدية , قرقعة الحديد الدائر في الحديد , ومن جديد زنزانة جديدة , اسماء جديدة محفورة على الجدران ذات اللون الأخضر الفاتح .
            يومان من الوحدة .. مع أصوات التعذيب , الصراخ المعبر عن الألم الإنساني , رجال ونساء وأطفال حتى ! .. ومحاولة تجاهل كل ذلك , توبيخ الذات لأنها تحاول التجاهل ! .. التجاهل هو دعوة للبلادة و التحجر .
            مساءً يفتح السجان الباب :
            - قوم .. رئيس الفرع طالبك .
            القي التحية على رئيس الفرع الذي سبق أن قابلته منذ شهور :
            - مساء الخير .
            - أهلاً وسهلاً , تفضل .. اجلس .
            أجلس بهدوء .
            تبدأ محاضرة فيها الكثير مما يقال في الراديو و التلفزيون عن الدور التقدمي الذي يلعبه السيد القائد رئيس الجمهورية ضد الرجعية و الاستعمار , وعن أفضاله على الناس وحكمته وشجاعته وبراعته .. و .. أخيراً :
            - نحن قررنا نخلي سبيلك , لأنك انسان وطني , ولأن خالك قدم خدمات كبيرة للوطن .. و .. و ... بس نريد منك مسألتين روتينيتين !.. نريد منك أن توقع على تعهد بعدم العمل في السياسية , وأيضاً نريد منك أن تكتب برقية شكر للسيد الرئيس حفظه الله .
            - برقية شكر ؟!
            - نعم .. برقية تشكر فيها السيد الرئيس .
            - برقية شكر ؟! .. ولكن على أي شيء أشكره ؟ .
            نظر إليّ متعجباً , وباستغراب صادق قال :
            - تشكره لأنه شملك برعايته ورحمته واخلى سبيلك .
            مرة أخرى ركبني العناد البغلي الذي أصبح نهجاً لي أواجههم به كلما طلبوا مني شيء .
            بأكثر ما يمكن من اللطف , قلت :
            - أنا أسف سيادة العميد , لا استطيع أن أوقع لا على التعهد السياسي ولا على برقية الشكر .
            ذهل العميد عندما سمع كلماتي !.. سكت قليلاً وبطريقة خبير أخفى كل ذهوله واندهاشه , قال :
            - أنت تعرف أننا نكرنمك كرمى لخالك , لذلك أرجوا أن تلين رأسك قليلاً , يباسة الراس راح تضرك , وليكن بعلمك أن آلاف السجناء كتبوا برقيات شكر للسيد الرئيس بالدم , ولم يتم إخلاء سبيلهم .. فــ .. خليك عاقل ووقع أحسن لك .
            فعلاً كنت أعرف أن المئات من السجناء كانوا يطلبون من إدارات السجون محاقن طبية يسحبون الدم من عروقهم بها ليستعملوه كحبر يكتبون به برقيات شكر أو استرحام لرئيس الجمهورية راجين اطلاق سراحهم من السجن , وعندما كانت ادارات السجون لا تعطيهم المحاقن فإنهم كانوا يجرحون أصابعهم ومن الدم النازف يكتبون برقيات الشكر والاسترحام .
            لكن كنت قد قررت : " لا مزيد من الذل , وليكن السجن أو الموت " .
            و الحقيقة أن معاشرتي الطويلة للسجناء في السجن الصحراوي و السجن الجبلي علمتني الكثير من الأشياء , وأهم ما تعلمته منهم هو معنى وأهمية الكرامة والرجولة , وهما شيئان شخصيان لا علاقة لهما بتنظيم أو نظام.
            إن التوقيع على برقية الشكر كشرط لإخلاء السبيل هي الاختبار النهائي لهذه الأجهزة لتؤكد لهم أن هذا السجين قد تجرع الذل حتى النهاية وتحول إلى كائن لا يمكن أن يقف بوجههم يوماً ما، وهو على استعداد لتنفيذ كل ما يطلبونه منه, طالما هو على استعداد لأن يشكر كبيرهم على كل ما عاناه على يديه وأيدي من هم أصغر شأناً منه .
            رفضت بقوة ان أوقع .
            " لن اشكر من سجنني كل هذه السنوات الطويلة , لن أشكر من سرق عمري وشبابي .. لن أشكر من ضيع أجمل سنوات عمري .. "
            كنت أردد هذه العبارات و الجمل بيني وبين نفسي , أشحذ فيها عزيمتي وأقوي إرادتي , كنت خائفاً من نفسي .. خائفاً من ضعفي .. ظللت أردد هذه الكلمات القوية لأبعد عني الضعف .
            بعد أن يئس مني رئيس الفرع أمر بإعادتي إلى الزنزانة , أعادوني بخشونة ظاهرة .
            بعد نصف ساعة من عودتي إلى الزنزانة دخل عليّ مدير السجن , وهو شخص مسن على أبواب التقاعد , طيب القلب كثيراً , يحاول مساعدة السجناء خفية وقدر المتاح .
            بلهجة أبوية وبنوايا صادقة حاول اقناعي أن أوقع , شرح لي عواقب عدم التوقيع وأسهب في ذلك , وأورد اشياء كثيرة , منها :
            - إن من يرفض التوقيع عادة هم القيادات و الزعماء و المعارضون بشدة للسلطة القائمة , لذلك فإن عدم توقيعي سيعتبر دليلاً على أنني من هؤلاء , وينسف كل أقوالي السابقة بأنني لم أعمل في السياسة ..
            ظل يحاول خاتماً حديثه بالعبارة التي قالها لي أخي :
            - اليد التي لا تستطيع عضها .. بوسها .. وادعو عليه بالكسر.
            وبقيت مصراً على موقفي .
            بعد ذهاب مدير السجن فكرت طويلاً , ضحكت .. لو كنت في السجن الصحراوي لاستطاعوا أن يجعلوني أوقع على آلاف البرقيات , لا بل إنهم يستطيعون أن يجعلوني أقبل حذاء أصغر شرطي !.
            الشعور بالحماية .
            معرفتي أن أهلي عامة وخالي على وجه الخصوص يتابعونني خطوة بخطوة ولّد لدي احساساً بأنني محمي , ويمكن أن يكون هو الأساس الفعلي لموقفي الرافض للتوقيع !.. ولكن ..
            ألا يوجد شيء نابع من الذات ؟ .




            3 تموز .
            التاسعة وسبع وثلاثون دقيقة صباحاً، أقف على الرصيف المبلل بالمياه أمام الفرع بعد أن أغلقوا الباب خلفي .
            واخيراً .. أنا حرّ ! .
            ثلاثة عشر عاماً وثلاثة اشهر وثلاثة عشر يوماً .. مضت على وصول الطائرة , التي كنت على متنها , إلى مطار عاصمة الوطن .
            دوار في الرأس , طنين في الاذنين , زوغان في العينين .
            عشرات السيارات الصفراء تنطلق أمامي مسرعة وفي الاتجاهين , مئات الناس يهرولون بسرعة في كافة الاتجاهات .
            سمعت من ينادي خلفي , التفت , رأيت حارس الفرع يشير لي بيده يأمرني أن أبتعد من أمام الفرع , " تساءلت : هل هي آخر أوامرهم لي ؟ " .
            ابتعدت أكثر من مئة متر , وقفت على الرصيف , وقفت أمامي سيارة أجرة صفراء , سألني السائق إن كنت أريد الصعود .. صعدت , انطلقت السيارة مسرعةً , الهواء يضرب وجهي .. أغمضت عيني , سمعت صوت السائق :
            - لوين رايح .. استاذ ؟
            - إلى أي مكان !
            سكت السائق قليلاً , نظر إلي في المرآة متفحصاً .. عاد للسؤال :
            - لأي مكان .. تحب تروح استاذ ؟.
            لم أكن راغباً بالحديث مع أي كان , اردت اسكاته قلت :
            - أريد أن تأخذني مشوار .. دورة في كل الأحياء القديمة .
            ************

            بعد خروجي من عند رئيس الفرع وبعد محاولة مدير السجن معي لأوقع , أهملوني تماماً أكثر من شهر ونصف , في الايام الأولى من هذه الفترة كنت فرحاً ومزهواً وراضياً عن نفسي تماماً , لكن مع استمرار الاهمال بدأ الاحساس بالضيق و الملل ينتابني , يومياً كنت اسمع أصوات التعذيب و الصراخ , وفي يوم من الأيام سمعت صراخ ولدٍ صغير يتعذب , فكرت أن أطرق الباب لأطلب منهم مقابلة رئيس الفرع !.
            حتى الكلمات التي يجب أن أقولها له كانت جاهزة :
            - سيدي العميد .. لقد فكرت طويلاً , وأنا على استعداد للتوقيع على أي ورقة تريد !.
            فركت جبيني وأنا أسير خطوتين إلى الأمام ومثلهما إلى الخلف , جلست , وضعت رأسي بين يدي , فكرت , ضربت راسي بالحائط , بكيت .. بكيت , تمددت ونمت .

            في 23 حزيران حوالي العاشرة صباحاً فتح السجان الباب وقال لي أن أجهز نفسي للزيارة .
            أخي لوحده دون لينا , يجلس إلى جانب العميد , قام العميد وقال أنه سيتركنا لوحدنا لكي نأخذ حريتنا بالكلام , قال ذلك بمنتهى التهذيب و اللباقة .
            بدأ أخي الحديث , حوالي الساعة أو أقل قليلاً , ساق الكثير من الأمثال , وضغط عليّ بشدة يدعوني إلى التوقيع , تكلم .. وتكلم , أنا مطرق براسي أستمع إليه , استمع إليه وأزداد ابتعاداً عنه ! هل هذا أخي الكبير الذي كان يوماً ما مثالاً وقدوة لي ؟!.
            دون أن أرفع راسي قلت له أنني لن أوقع على أي شيء ,انني اذا كنت عبئاً عليه فارجو ألا يكلف نفسه زيارتي ثانية .. ثم .. اندفعت كتلة من الغضب و الحنق إلى حلقي فصحت بوجهه .. إنه إذا أراد ثانية أن يزورني ليسمعني هكذا كلام .. هكذا نصائح .. فأرجو منه بشدة ألا يزورني , لأنني اشعر بالقرف اتجاهه !.
            اتسعت عيناه دهشة .. فغر فمه , سكت مطرقاً ..
            أنقذ العميد الموقف بدخوله , واستوعب الموقف حالاً .. التفت إلى أخي وقال بهدوء :
            - سلم لي على خالك .. مو قلت لك أن رأسه يابس .
            شكر أخي العميد وخرج .
            عشرة أيام أخرى من الإهمال , عشرة ايام من العذاب النفسي المضني .. هل خسرت أخي ؟ .. هل أنا عبارة عن مدعٍ فارغ صغير؟.. هل أريد أن البس نفسي ثوب المناضل الصلب ؟.. ألن يكون هذا الثوب فضفاضاً عليّ كثيراً ؟.. أليس المنطق الذي يتكلم فيه أخي هو السائد إن لم يكن هو الصحيح ؟.. أتقلب على جمر النفس , و .. أحترق !.
            في 1 تموز الساعة الحادية عشر صباحاً ادخلوني إلى غرفة العميد لأجده واقفاً باحترام بينما أخي وشخص أخر كهل , أبيض الشعر , جالسان !.. عرفت فيما بعد أن هذا الكهل هو خالي .
            استأذن العميد بأدب جم أن يخرج من الغرفة بعد أن طلب لنا ثلاثة فناجين قهوة .
            بعد التحيات و القبلات بدأ خالي محاضرة طويلة انتهت بالتأنيب و التوبيخ , ثم أصدر لي أمراً حازماً بالتوقيع على الورقة التي مدها لي .
            بهدوء شديد رفضت .
            قام عن كرسيه لأول مرة , " فكرت .. كم يبدو كبيراً في السن !" اقترب مني حانقاً , توقف , التفت إلى أخي بسرعة وسأله أن كان يستطيع التوقيع على الورقة بدلاً مني , أومأ أخي برأسه موافقاً .. ثم وقع , صرّ خالي على اسنانه , وقال لي :
            - يا ويلك .. إذا حكيت أي كلمة !.
            حضر العميد. ناوله خالي الورقة. رن العميد الجرس بعد أن وضع الورقة في درج المكتب. أمرهم أن يعيدوني إلى الزنزانة. بعد يومين وفي الساعة التاسعة وسبع وثلاثين دقيقة كنت أقف على الرصيف المبلل أمام مبنى الفرع.. حرّاً!
            ************


            دارت بي السيارة زهاء ساعة، تجاهلت السائق تماماً، كنت في حالة انعدام تفكير، صحوت بعدها .. وسألت نفسي : إلى أين .. إلى أين ؟.
            شعرت برغبة جارحة للنوم ! .. أريد أن أنام , أريد أن أنام !.
            أعطيت السائق عنوان بيتنا. نزلت من السيارة بعد أن أعطيته نصف ما أملك من النقود. مشيت على الرصيف. كنت أنظر إلى الرصيف وأخشى في كل لحظة أن ينخسف و أغوص في حفرة لا نهاية لها .
            صعدت الدرج، ضغطت الجرس .. من سيفتح الباب ؟.. أمي، أبي ؟ .
            لم يفتح لي أحد ! أين أبي؟ .. أين أمي؟..
            جلست على الدرج، بقيت جالساً ثلاث ساعات تقريباً، مرت بي العديدات من جاراتنا صعوداً أو نزولاً، ينظرن إلي باستغراب وتوجس، لم أعرف أية واحدة منهن. حضر شاب أنيق يلبس نظارات طبية، نظر إلي باستغراب ثم تجاوزني، فتح باب بيتنا .. ودخل !.
            وقفت .. ناديت عليه، التفت إلي دون أن يستدير ناظراً بطرف عينه.
            - نعم .. شو بتريد؟
            - من أنت .. لوين داخل؟.
            ************


            تعارفنا. انه زوج لينا ابنة أخي. رحب بي ترحيباً شديداً، قال إنه سيجهز الحمام بسرعة، وإنه يجب أن أغير ثيابي. سألني إن كنت جائعاً، طلبت منه فنجان قهوة بلا سكر. يدور سؤال في حلقي.. أخشى كثيراً أن أطرحه. أنهيت شرب القهوة.. اعتدلت في جلستي، وسألته :
            ـ أين أبي و أمي؟
            فوجئ... نظر إلي بدهشة ممزوجة بالشفقة، بدأ يتمتم:
            - لا أعرف.. أنا ولينا، وقت معرفتي بلينا .. لم يكونا موجودين. رحمهما الله .. ما تعرفت لا على الوالد ولا على الوالدة .. و .. و..
            ما كنت أخشاه.. حاصل. آه يا أمي ويا أبي، هل قلتما أو قال أحدكما إنه يتمنى أن يراني قبل أن يموت؟ .. هل تسبب سجني وغيابي بتعجيل موتكما؟.. أدفع نصف حياتي مقابل أن أضع رأسي لمدة خمس دقائق على صدر أمي.
            أنور زوج لينا يقف أمامي مرتبكاً، يراقبني، سألته إن كان يعرف مكان الدفن، أومأ برأسه أن نعم.
            كتب ورقة وضعها على الطاولة. انطلقنا نحو المقبرة، وصلنا، اسم أبي وأمي واضحان على الحجر، رسم أنور إشارة الصليب على صدره...
            وقفت قليلاً أتمعن الكتابة ولا أفهم شيئاً، احتضنت الحجارة الباردة وأرحت رأسي عليها، أغمضت عيني... شعرت براحة كبيرة... أوشكت أن أنام، تذكرت أنور فوقفت. في داخلي شعور بأن علي واجباً ما اتجاه الموت يجب القيام به، اتجهت نحو القبلة... القبر بيني وبين مكة، فتحت كفي باتجاه السماء وقرأت الفاتحة، ثم وبشكل آلي... صليت صلاة الجنازة!.

            6 تشرين أول
            بعد أسبوع من خروجي من السجن دعاني أخي أبو لينا إلى عشاء في مطعم خارج المدينة , كان المطعم جميلاً وهادئاً لا يسمع فيه إلا صوت الموسيقى الناعمة وصوت خرير النهر المنحدر من الهضاب الغربية .
            على العشاء حدثني عن أمي و أبي و قال إن ابي قد رتب قبل وفاته وضعي المالي بحيث يكون بيت العائلة الذي تسكن فيه حالياً لينا مع زوجها ملكاً لي , وأنشأ باسمي شراكة بعمل تجاري مع أحد الأقارب وأن الأرباح من يومها تحفظ لي مما شكل ثروة صغيرة , وقال :
            - من هذه الناحية لا تحمل هم , وضعك المادي مرتب و الحمد لله .
            بعدها سألني إن كنت اريد السكن لوحدي بحيث تخرج لينا وزوجها من بيتي , فرفضت رفضاً قاطعاً , أحسست أن لهجة الرفض الحازمة قد أشعرت أخي بالارتياح .
            مع إنتهاء كأس العرق الثانية اصبح الجو أكثر استرخاءً وحميمية , استرجعنا بعض الذكريات العائلية .. وفجأة اعتدل في جلسته وتطرق إلى الموضوع الذي كنت أخشى أن يفتحه أو يلمح إليه , قال :
            - راح كون صريح معك .. حول الكلام الذي قلته لي بالفرع أثناء الزيارة , يا أخي .. في البداية أحسست بجرح عميق , لكن بعد عدة ساعات أحسست بالفرح , بالفخر , لأنك رجل .. وبطل ..
            رفعت يدي واسكته .

            خلال هذه الشهور الثلاثة كان أكثر ما يضايقني هو معاملة الأخرين لي بصفتي بطلاً !!.

            " الفائض الرئيسي في السجن هو الوقت , هذا الفائض يتيح للسجين أن يغوص في شيئين , الماضي .. و المستقبل , وقد يكون السبب في ذلك هو محاولات السجين الحثيثة للهرب من الحاضر و نسيانه نسياناً تاماً .
            و الغوص في هذين الشيئين قد يحولان الإنسان إما إلى ..... إنسان حكيم هادئ , أو إلى شخص نرجسي عاشق لذاته ومنكفئ لا يتعاطى مع الآخرين إلا في الحدود الدنيا , أو إلى ..... مجنون !.
            منذ أن وعيت هذه المعادلة حاولت جاهدأ أن أتحول إلى ذلك الإنسان الهادئ , ولا أدري إلى أية درجة نجحت .
            من هنا رفضت أن أتاجر بسجني , رفضت أن أكون بطلاً عندما أراد الآخرون عند خروجي من السجن أن يعتبروني ويعاملوني كبطل , أنا أعرف امكانياتي جيداً .. ببساطة ... أنا إنسان .
            أنا خواف ورعديد وجبان .. إلى درجة أنني قد أتبول في ثيابي من الخوف .
            أنا شجاع وصلب وعنيد .. إلى درجة أنني أصمد أمام اقسى اساليب التعذيب .
            لكن .. وبكل الأحوال لست بطلاً , فسلوكي هذا الطريق لم يكن بخياري , و البطل لا يمكن أن يكون بطلاً لسلوكه طريقاً بالإكراه .
            بذلت جهوداً مضنية مع لينا وزوجها , حتى استطعت أن أقنع لينا أنني لست أسطورة , وبالتالي أن تتعامل معي بمنتهى البساطة , وأن أقنع أنور أن لا حاجة لكل هذا التهيب و الإجلال في التعامل معي , لا حاجة لأن يقف احتراماً كلما دخلت أو خرجت من الغرفة , " عمري يزيد عمر أنور بحوالي العشر سنوات " .
            ************


            منذ الساعة التاسعة وسبع وثلاثين دقيقة من الثالث من تموز لاحظت شيئاً لم أعهده في المدينة سابقاً .
            الغبار .. الغبار يغطي كل شيء في المدينة , الطرقات , الشوارع , الجدران , كلها مغطاة بطبقة رقيقة من الغبار الأصفر الناعم , أوراق الاشجار الخضراء .. التي كنت أعرفها سابقاً زاهية لامعة بخضرتها .. مغطاة بهذه الطبقة الرقيقة من الغبار .
            حتى وجوه الناس السائرين في الشوارع و المتسكعين في الساحات و على الارصفة .. مغطاة بهذه الطبقة الغبارية الصفراء .
            يغسلون وجوههم , يجففونها , لكن الغبار لا يزول , يبدو ملتصقاً بالوجوه أو أنه من تكوينها ! .. ويبدو هذا الغبار واضحاً عند الابتسام , فالابتسامات على ندرتها – هذه الندرة التي تقترب من العدم حتى أنني شككت أن الناس في مدينتي قد نسوا فعل الابتسام – تترافق مع هذا الغبار، فإذا حاول شخص ما الابتسام , تبدو هذه الابتسامة شائهه .. ويبدو هذا الشخص وكأنه قد كبر في السن عشرات السنين , وأهم عرض من أعراض الإبتسام هو ظهور طبقة الغبار الملتصق بالوجه ظهوراً واضحاً .. حينها تظهر حبيبات الغبار هذه مجسمة واضحة .
            خشيت أن أسأل أحداً عن أمر الغبار هذا .
            ************


            بعد خمسة عشر يوماً من خروجي فكرت بالقيام بواجبي الأول , زيارة أهل نسيم , ومحاولة تطمينهم عنه .
            ضجة خروجي من السجن خفت قليلاً , انخفض معدل الزوار كثيراً , الزوار من الأهل و الأقارب , يأتون .. يتلفظون بعبارات التهنئة التقليدية , الكثير من عبارات التبجيل , وأكثر من كل شيء .. النصائح :
            - الحمد لله على سلامتك .
            - نحن نفتخر بك .
            - لا تنظر إلى الخلف .. المستقبل لا زال أمامك .
            - أصلحك الله .. ضروري تعمل بالسياسية ؟.. يا أخي العين لا تقاوم المخرز !.
            اسمع أنا كل هذا وأرسم ابتسامة بلهاء على وجهي .
            صديقان أو ثلاثة من أيام الصبا و الشباب , أرسلوا لي خبراً في منتهى السرية و الخفاء :
            - نحن نود زيارتك .. لكننا نخاف نتائج هذه الزيارة , فعذراً !.
            واحترمت جبنهم كثيراً .
            أخبرت لينا و أنور عن سفري إلى مدينة نسيم الساحلية , رتب أنور جميع الاجراءات ورافقني حتى انطلاق البولمان باتجاه الشمال . لأول مرة منذ سنوات طويلة أحس أنني انسان , جاري في المقعد ومرافق الباص يعاملاني كإنسان , عندما يخاطباني يخاطباني بلقب استاذ !.
            أرجعت المقعد إلى الخلف , أغمضت عيوني , صددت كل محاولات جاري بفتح حديث معي , استرجعت ذكريات نسيم .. يا هل ترى ماذا يفعل الآن ؟..
            في كل مكان من هذا العالم يمكن أن تنشأ علاقات حميمية بين شخصين , لكن أن تنشأ علاقة حميمية بين شخصين في السجن , حتماً سيكون لها معنى آخر , مذاق آخر .. نكهة أخرى .
            أيام كثيرة , وليال طويلة .. طويلة نقضيها في الحديث , أعرف كل شيء عن عائلة نسيم , الأب , الأم , الأخوة , الأخوات .. عاداتهم , تقاليدهم , تفاصيل عائلية دقيقة لا يمكن الحديث عنها إلا .. بين سجينين !
            بعد فترة من هذه الأحاديث يصبح لكل من طرفي العلاقة السجنية هذه حياتان عائليتان , الحياة التي عشتها في عائلتي الحقيقية , والحياة التي عشتها متقمصاً , حالماً , في عائلة نسيم ! .
            استرجع التفاصيل الطازجة بينما الباص يجتاز مسرعاً مناظر آخاذة وساحرة من الخضرة و المياه .
            المائة كيلو متر الأخيرة اسرني فيها جمال الطبيعة إلى درجة أنني لم استطع أن أفكر إلا بما أرى , إلى اليسار البحر الرائق بزرقته المتدرجة , والى اليمين الجبال الشاهقة الخضراء .
            يتلوى الطريق , يقترب من البحر حتى يدانيه , أرقب تكسر المويجات الصغيرة على الشاطئ , أرى السابحين و السابحات يحتضنون البحر و يحتضنهم , ويبتعد إلى درجة يغيب فيها البحر عن أعيننا فأنظر يميناً إلى بساتين البرتقال و الليمون و الزيتون .. هذا الاخضرار الندي .
            ويصل الباص إلى المدينة , مدينة نظيفة , أنزل واستقل تكسياً , أعطيه العنوان الذي أعرفه كما أعرف عنوان بيت أهلي , أصل , أنزل , ودون عناء أقف أمام بيت أهل نسيم واضغط الجرس .
            بين رنين الجرس وخروجي من البيت مطروداً مهاناً حوالي الثلاث ساعات .
            فتح الباب ووقفت طفلة صغيرة في العاشرة من عمرها , قلت :
            - مرحبا عمو , هذا بيت أهل الدكتور نسيم ؟
            لم تجب , ركضت إلى الداخل , سمعتها تقول :
            - ماما .. ماما , في واحد عم يسأل عن الدكتور نسيم .
            ثوان قليلة خرجت بعدها أخت نسيم في ثيابها المنزلية وقد وضعت بسرعة غطاءً على رأسها , عيونها مثقلة بنظرات الدهشة و الاستفسار , وقد عرفتها فوراً , ابتسمت وقلت لها :
            - مرحبا .. أكيد أنت سميرة ؟
            جمدت في مكانها مواجهتي قليلاً مرتبكة وقد سمرت عينيها عليّ .. سحبت نفساً عميقاً وقالت :
            - نعم يا أخي .. نعم ! أنا سميرة , بس حضرتك مين ؟ .. كيف بتعرفني ؟.
            - أنا صديق نسيم , وجئت أزور أهله واطمنهم عليه .
            - أهلاً وسهلاً .. يا أهلاً وسهلاً .. صحيح ؟ .. يعني نسيم حي ؟ .. نسيم عايش ؟..
            مع العشرات من التساؤلات و الترحيبات ووسط دموع غزيرة .. أخذت سميرة تدور حول نفسها .. لا تعرف ماذا تفعل , طفلتها إلى جانبها , تسألني عدة أسئلة دون أن تنتظر جواباً , ثم تتبعها .. يا أهلاً وسهلاً , مسحت دموعها عدت مرات بغطاء الراس , وأخيراً انتبهت , قالت :
            - عفواً .. عفواً , تفضل .. تفضل .
            أدخلتني إلى غرفة الضيوف , جلست , ذهبت هي قليلاً ثم عادت , قالت :
            - اتصلت مع زوجي .. زوجي في الجمارك , لم أجده , تركت له خبراً .
            سكتت قليلاً .. ثم وبحرقة :
            - من شان الله يا أخي .. طمني عن نسيم , أكيد نسيم عايش ؟ .. و وينو ؟
            شرحت لها .. تكلمت وتكلمت , رويت لها العديد من قصصهم وحكاياهم العائلية و التي لا يعرفها إلا أفراد العائلة , فصدقتني , سألتها عن والد ووالدة نسيم .. عندها ازداد بكاؤها وتحول إلى نشيج , وفهمت من خلال الدموع و النحيب , أنهما قد توفيا , توفيا بحسرة الولدين .
            الأول وهو المنخرط بصفوف المعارضة الاسلامية انقطعت أخباره نهائياً وتضاربت الآراء بين أنه قتل في إحدى العمليات وبين أنه معتقل , أما نسيم فقد انتظرت العائلة في اليوم المحدد لعودته متهيئةً للاحتفال بهذه العودة رغم غصة الولد الأول .
            لكن العائد لم يعد , وطال الانتظار , بدأ الأب رحلة ماراثونية عبثية بين إدارة المطار وشركة الطيران و السفارة الفرنسية .
            القنصل الفرنسي أكد بعد شهر من الانتظار على أن نسيم قد غادر الأراضي الفرنسية متوجهاً إلى بلاده , لكن شركة الطيران الوطنية وادارة المطار لم يقدما إلا إجابات غامضة لا تنفي ولا تؤكد .
            ست سنوات بقي الأب مواظباً على السفر إلى العاصمة , في كل مرة يبقى ثلاثة أو أربعة أيام يتنقل خلالها بين السفارة الفرنسية و الشركة الوطنية للطيران و المطار الدولي , لكن دون فائدة .
            عرفه موظفوا القنصلية الفرنسية , وكان الجواب واحداً في كل مرة . الشركة الوطنية للطيران كان جوابها واحداً في كل مرة : رفضت رفضاً قاطعاً إطلاعه على قائمة المسافرين في الرحلة التي كان من المفترض أن يكون نسيم ضمنها . إدارة الأمن في المطار الدولي ردوه عدة مرات رداً لطيفاً , ثم أخذوا يعاملونه بخشونة , بعدها هددوه بالاعتقال , وفي رحلة آب من السنة السادسة صفعه أحد عناصر الأمن في المطار صفعتين على وجهه .
            خرج الأب وهو يبكي لأول مرة في حياته , قالت سميرة :
            - و الله يا استاذ .. لم نشاهده أبداً وهو يبكي , حتى أمي قالت بعد أن رووا لها الحادثة أنها لم تشاهده يبكي أو يضعف ولا مرة في حياتهما المشتركة الطويلة .
            اصيب الأب بجلطة دماغية لم تقض عليه ولكنها ألصقته بفراشه مدة أربع سنوات مشلولاً عاجزاً عن الحركة و الكلام .
            نسيت الأم كل شيء , حتى أولادها , كرست نفسها لخدمة الرجل الذي رافقته هذه الحياة , كانت لا تخرج من غرفته إلا لقضاء حاجة أو لشأن خاص به .
            دام هذا الحال أربع سنوات توفي الأب بعدها , وبعد شهرين لحقته الأم .
            البنات تزوجن , سميرة وزوجها الكمركجي يسكنان بيت العائلة .
            أعطيتها رقم هاتفي , سجلت رقم هاتفها .
            ران صمت استمر أكثر من دقيقة , شعرت بعطش فطلبت من الطفلة أن تأتيني بكأس ماء , مقرراً الرحيل بعد شرب الماء , فيما أنا أشرب فتح باب البيت وسمعت خطوات الرجل , هبت سميرة واقفة وخرجت مسرعة .
            سمعت همساً في البداية , ثم صوت نقاش حاد , صوت الرجل الذي ما ينفك يرتفع بينما سميرة تحاول جاهدة خفض صوتها والطلب إليه أن يخفض صوته , رغم ذلك سمعت أغلب ما دار بينهما .. بصوت خشن :
            - ولك .. كيف تدخليه على بيتي و أنا غايب , أنا ناقصني مجرمين وخريجين سجون ! .
            - يا ابن عمي .. يا ابن عمي , الله يخليك ويطول عمرك .. هذا ما نو مجرم , هذا من عند نسيم , صديق نسيم , هو فاعل خير .. الله يخليك طوّل بالك .
            ودخل زوج سميرة بلباس الجمارك , طويل القامة , اشقر , مكفهر الملامح , وببرود وجفاء شديدين قال :
            - مرحبا .
            هببت واقفاً وأنا أقول :
            - أهلاً وسهلاً .
            بإشارة من يده طلب مني الجلوس بينما بقي هو واقفاً , بادرني بأول سؤال :
            - كيف تسمح لنفسك أن تدخل إلى بيت رجل في غيابه ؟
            لم يتنظر الجواب , تبع هذا السؤال سيل من الأسئلة التي لم يكن يريد لها جواباً , وأنقذت سميرة الموقف بدخولها الغرفة , تحول إليها آمراً إياها بالخروج , أبت الخروج ممسكة يده .. ومتضرعة :
            - من شان الله .. ابوس ايدك .. ابوس رجلك , هذا صديق نسيم ونواياه كلها خير ..
            سحب يده بعنف وهو يصرخ :
            - خير ! .. عم تقولي خير !.. بتعرفي لو عرفــــ "وا " .. انه هيك ناس عم يزوروني .. وقتها راح ينخرب بيتي .. وبروح لعند أخوك الدكتور !.. وإلا هذا المجرم الثاني .. قولي لي .. عندها شو بصير فيكي .. و بالأولاد ؟.. أه احكي .
            ثم التفت إليّ .. وبصوت أهدأ قليلاً :
            - شوف .. أنا لازم خبر الأمن , بس من شان خاطر نسيم .. راح خليك تروح .. بس وينك !.. ترى لا شفتني ولا شفتك .. ويا ويلك إذا هوبت صوب بيتنا مرة ثانية .. فهمان هــ الحكي ؟.
            خرجت لا ألوي على شيء , اتصبب عرقاً وأصواته تلاحقني .
            رميت نفسي في أول سيارة رأيتها وقلت للسائق أن يأخذني إلى البحر , لكن السائق توقف وقال :
            - لكن .. هذا هو البحر .. قدامك يا استاذ !.
            - خذني إلى بحر غير هذا البحر .. يعني خارج المدينة .
            في مطعم بحري لا أذكر منه شيئاً , جلست و أكلت , لا أعرف ماذا وكيف أكلت ,لا أعرف كم بقيت جالساً .
            في اليوم الثاني استيقظت من نومي عند عودة لينا بعد الظهر , مع القهوة أخبرتني أن أمراة اسمها سميرة اتصلت هاتفياً وسألت عني وأنها تعتذر بشدة عما حدث .
            استرجعت أحداث اليوم السابق محاولاً أن استوعب ما حدث .
            حاولت أن أنسى .

            تعليق


            • #7
              رد: مصطفى خليفة - القــوقعـة - يوميات متلصص


              13 تشرين الثاني .
              اتركوني بسلام فأنا لا أريد منكم شيئاً .
              استيقظ صباحاً دون موعد محدد , يكون البيت فارغاً , أنور ولينا في عملهما , البنت الصغيرة في الحضانة , أبقى قليلاً في السرير ثم أنهض , أرتدي ثيابي كلها " منذ أن خرجت من السجن و أنا أنام عارياً " , أتوجه إلى باب الغرفة المقفل , افتحه , أضع " ركوة " قهوة ثقيلة على الغاز وأذهب إلى المغسلة .
              ساعة أو ساعتين وأحياناً أكثر أجلس على " الكنبة " اشرب القهوة بلا سكر وأدخن , أدخل إلى المرحاض " أنا حريص جداً أن اقضي حاجتي اثناء غياب لينا عن البيت , وأعتقد أن المسألة هنا معقدة قليلاً , فبنفس الدرجة التي تضايقني عملية اعتباري اسطورة من قبل لينا , إلا أنها ترضي بعض العوالم الجوانية في نفسي , أي بما انني بطل واسطورة كبيرة في نظرها فإنني – مع ضيقي من ذلك – أحاول باكثر من وسيلة أن أوكد ذلك , ومنها عدم دخولي المرحاض في حضورها , فالاسطورة التي في ذهنها أو البطل ذاك , يجب أن يكون منزهاً عن كل ما هو كريه , وهو أرفع من هذه الحاجات الإنسانية الوضيعة .. لذلك ومنذ أن عشت معها في بيت واحد , لم ترني قط أدخل المرحاض .... " .
              أرتدي ملابسي , أخرج , أسير على غير هدى , لا أحد يعرفني , لا أعرف أحداً , أسير .... و أسير , لا أفكر بشيء محدد , قد اشتري قطعة شوكولاته فاخرة , انا أحب الشوكولاته ولدي الكثير من النقود , آكلها .. أدخن و أنا أمشي , في الكثير من الحالات أجلس في حديقة صغيرة قريبة من بيتنا .
              أشتري بعض الحاجات التي أشعر أنها قد توفر بعض المال على لينا و زوجها , فوضعي المادي أفضل منهما بكثير , أنا مليونير تقريباً .
              ************

              مسألتان أرعبتاني .
              اتركوني بسلام فأنا لا أريد منكم شيئاً .
              منذ فترة حضر خالي الوزير – وهو يتردد لعندنا بشكل دوري – وبعد الكثير من الأحاديث المعتادة , التفت إليّ فجأة وقال :
              - أما آن الأوان .. تفكر بمستقبلك ؟.
              وجمدت !!.
              المستقبل ؟!.. وهل لإنسان في مثل سني ووضعي مستقبل ؟!.
              خالي مثل أغلب رفاقه , آراؤه قاطعة حاسمة ولا تقبل النقاش , يتكلم دائماً بلهجة العارف بكل شيء , ويتخذ هيئة من يمتلك الحقيقة دائماً .. ولوحده !.
              لذلك قال كلامه هذا بلهجة الآمر , وتطرق إلى المسألتين المرعبتين بالنسبة لي : العمل .. و الزواج !.
              أيد جميع الحاضرين الفكرة , انتفخت أوداج خالي , ابتسم , التفت إلى بعض نساء العائلة وقال :
              - أمر العمل , اتركوه لي .. أما الزواج فهو مهمة هــ الصبايا , يا الله .... شوفوني شطارتكن .... ونقوا شي عروس تكون حلوة ومناسبة لهذا العريس المليونير .
              ارتفعت صيحات النساء وزقزقاتهن وفوراً بدأن أحاديث جانبية عن مواصفات العروس المطلوبة .
              ذهب خالي وانهمك الجميع في ترتبات الخطبة و الزواج , وانا صامت ! لم يسالني أحد رأيي , وبقيت صامتاً . هاتان المسألتان أتعبتاني لفترة طويلة .
              بعد مضي حوالي الاسبوعين طلبني على الهاتف موظف كبير في الإذاعة و التلفزيون , عرفني على نفسه وطلب مني الحضور إلى مكتبه لمناقشة سيناريو مسلسل تلفزيوني وقال :
              - إذا عجبك السيناريو, فوراً نوقع العقد لتخرجه, ولا تسأل عن الإمكانيات المادية فهي متوفرة و الحمد لله .
              احتجت إلى الكثير من اللباقة لكي أعتذر بلطف , لكنه واصل :
              - يا أخي لا ترفض , تفضل لعندي إلى المكتب و أنا واثق أنك ستقتنع , يعني..لا تواخذني..أنت صحيح مخرج لكنك اسم غير معروف, وأنا لاعتبارات أظنك تعرفها, أقدم لك فرصة العمر على طبق من ذهب .
              ورفضت .
              نتيجة الرفض كانت توبيخاً شديداً من خالي عند المساء , وأمرني أن أوافق على العرض , لكني رفضت , قال بغضب :
              - انت واحد حمار .
              بقيت مسألة الزواج، لا يمر يوم دون أن تتصل أو تحضر إحدى نساء العائلة ، أغلبهن يبدأن الحديث بجملة واحدة :
              - أما شو لقيت لك عروس .. لقطة .. لقطة ، واذا مشي الحال .. راح يكون بيتك بالجنة .
              وتبدأ عرض مزايا هذه العروس التي قد تكون قريبتها أو جارتها ، واحداهن رشحت لي أختها .
              كنت أحتاج إلى صبر أيوب ، خاصة والحديث يجري مع النساء ، فأنت تسطيع بسهولة أن تجعل أية إمرأة تبدأ الكلام ، لكن من العسير جدا أن تجعلها تسكت .

              اتركوني بسلام فأنا لا أريد منكم شيئا .

              منذ أن خرجت من السجن أحسست أن هناك هوة لا يمكن ردمها أو جسرها بيني وبين الآخرين ، حتى أقرب الناس إلي ، اخوتي أو لينا ، أحك عواطفي ومشاعري فلا أشعر تجاههم بشيء ، الحيادية في المشاعر ، لا شيء يشدني ، لا شيء يثير اهتمامي .
              لكل انسان لغة تواصل خاصة به يستخدمها بإقامة العلاقات المتفاوتة في القرب أو البعد عن الناس ، هذه اللغة .. لغتي الخاصة بالتواصل مع الناس ، مفقودة .. ميتة ، والأكثر من ذلك ليست لدي الرغبة بالمطلق في إيجاد لغة تواصل جديدة ... أو احياء القديمة .
              دائما أشعر أن لهم عالمهم .. ولي عالمي ، أو ليس لديّ عالم أبدا ، لكن قطعا لا أنتمي لعالمهم .
              أرتعب من فكرة الاضطرار إلى مخالطة الناس بحكم العمل أو أي شيء آخر ، أريد الابتعاد عنهم أكثر ما يمكن !!..
              الانزواء !.
              أريد أن أكون منسيا ومهملا منهم .
              الزواج ؟ .... يا الهي .
              أن تأتي إنسانة ما تشاركني فراشي وطعامي ومرحاضي وروائحي !!..
              إن مجرد التفكير بهذا المضوع يتعبني ويصيبني بالدوار .
              اتركوني بسلام فأنا لا أريد منكم شيئا !.
              وفي لحظة غضب طلبت من لينا أن تبلغ الجميع هاتفيا انني لا أريد من أحد أن يكلمني في موضوع الزواج بعد اليوم أبدا .
              كانت النتيجة أن قال لي خالي :
              - أنت واحد بغل .
              أما النساء اللواتي كن يسعين لتزويجي فقد اعتبرن الموضوع ماسا بكرامتهن وانطلقت السنتهن تنهشني ..
              - لا تعمل خير ، شر ما يجيك ..
              - على شو شايف حاله !! . يعني كل واحد يدخل شي يومين عـ السجن يصير يعنطز حاله هيك !
              - رضينا بالهم ، لكن الهم ما رضي فينا ..
              - يعني ختيار " مكحكح " واصلع .. مثل القرد ، يعني لأنه عندو قرشين ما عاد حدا يعجبه !.. صحيح مثل ما يقول المثل : يا آخذ القرد على ماله ، بيروح المال ويظل القرد على حاله .
              كل هذ وأكثر .. ولكن رب ضارة نافعة ، فقد تحولت العلاقات إلى ما يشبه القطيعة .
              وأخيرا .. تركوني بسلام .

              25 كانون الأول
              اليوم عيد الميلاد ، وهو يتوافق مع العيد الثاني لميلاد ابنة لينا .
              حقا أنني قد عشت عمرا طويلا !! .. وقد يكون أكثر من اللازم ، لا زلت أذكر حماسي الشديد عند ما كنا نحضر للاحتفال بأعياد ميلاد لينا نفسها ، الأول .. الثاني .. الثالث .. وحتى الخامس .
              الآن أرقب " ومن مسافة " التحضيرات الحماسية لأجواء عيد الميلاد ، وللاحتفال بعيد ميلاد ابنة لينا .
              ************

              طوال الشهور الماضية حياتي محصورة بمجموعة من الأفعال القليلة ، وعلى الأغلب يشكل قسم منها السبب أو العلة للقسم الثاني :
              أنام ، آكل ، أشرب ... و... استيقظ ، أتغوط ، أتبول ..
              أتجول هائما على وجهي في الشوارع والطرقات والحدائق ، حولي الكثير من الناس ، لكني لا ألحظ الوجوه ، أحس الناس كتلة هلامية ، أو كتلة أثيرية .. جزءاً من الهواء المحيط بي ، لا ألحظ شيئاً أو وجهاً ... فالانسان عادة لا يرى الهواء المحيط به .
              اشتريت جهاز تلفزيون جديداً وضعته في غرفتي ، لا اشاهد إلا الأفلام الأجنبية والمسلسلات ، لا أتابع الأخبار مطلقا ، لا أفوت أية مباراة كرة قدم سواء كانت محلية أم أجنبية .
              أنور زوج لينا يعمل مبرمجا للكمبيوتر ، أغراني بتعلمه وهو لا ينفك يردد عبارة : " في هذا الزمن من لا يعرف الكمبيوتر يعتبر أميا " ، تعلمت واشتريت جهازا حديثا ذا نوعية جيدة ، لم استخدمه إلا لألعاب الورق
              " الشدة " وخاصة لعبة تسمى " العنكبوت " .
              منقطع كليا عن كل ما يدور في هذا العالم ، حاولت لينا عدة مرات أن تعيد صلتي بالناس .. بالمحيط ، أحيانا كنت أحب أن أسايرها وأجاملها ، لكني رفضت بعناد تغيير أسلوب حياتي .
              في حضور الناس أحس بالوحشة والغربة ، أشعر أن هناك عبئا ثقيلا ملقى على كاهلي !.. ولا يزول هذا الاحساس إلا عندما أعود إلى غرفتي , استلقي على سريري وأحدق بالسقف , أبقى ساعات .. ساعات طويلة على هذه الشاكلة .. ودون أن أفكر بشيء !.
              أنور ولينا يتحركان الآن بحماس شديد ، يزينان شجرة الميلاد ، بحضران الشموع .. يرتبان المائدة ، هناك عدد من المدعويين ، أفكر كيف سأتملص من هذه الحفلة الصاخبة !.. في داخلي حزن أسود .
              لم أخبر أحدا بما حدث لنسيم !.
              ************



              منذ عشرة أيام رن الهاتف في البيت ، عادة لا أرد أنا على الهاتف ، ليس هناك من يتصل بي ، ظللت مستلقيا على سريري ، نادت لينا :
              - يا عمو .. التلفون الك !.
              لأول وهلة جفلت ، ذهبت إلى حيث التلفون ، لينا تمسك السماعة ، سألتها :
              - مين ؟ .
              - واحد اسمه الدكتور هشام .
              أخذت السماعة وتكلمت ، ذكرني بنفسه ، تذكرته جيدا . أحد الأطباء اللذين كانوا معي في السجن الصحراوي ، وهو من أوائل الذين اتخذوا موقفاً جيدا مني ، كان من الأصدقاء المقربين لنسيم .
              فوجئت ، سألته من أين يتكلم ، أعلمني أنه ونسيم قد خرجا من السجن ، وأن نسيم أعطاه رقم الهاتف هذا طالبا منه الاتصال بي ، قال :
              - نسيم يحييك .. يرجو منك الحضور إلى هنا .
              أجبت أنني سأكون عندهم غدا ، أعلمني بلباقة أنه لا يجب أن أذهب لعند نسيم في البيت ، رتبنا موعدا في عصر اليوم الثاني في مقهى بحري قريب من بيت أهل نسيم .
              المقهى شبه فارغ ، اخترنا طاولة على الحافة تتكسر تحتها الأمواج الصغيرة ، جلسنا نسترق النظر إلى بعضنا ، شعرهما لا زال قصيرا ، مضى أكثر من نصف ساعة على لقائنا ولم تلتق نظراتي بنظرات نسيم !..لماذا لا ينظر إليّ مباشرة ؟ عندما التقينا حضنا بعضنا بعنف ، نحن الثلاثة حضّنا بعضنا وبدأنا نبكي ، بكينا أكثر من خمس دقائق " لا أعرف سبب البكاء ،الفرح باللقاء .. أم أن كلاً منا يبكي على نفسه ؟ " .
              بعدها بدأت البسمات المتبادلة ، نسيم لم يبتسم أبدا ، زائغ النظرات ، لا يتكلم .
              شربنا أنا ونسيم البيرة ، شرب هشام عصيرا ، هشام هو الذي يتكلم ، شرح لنا مخططاته للمستقبل ، هدفه واحد وبسيط ، قال :
              - أخرجوني من هذا البلد .. وأنا على استعداد للعمل "زبالاً" في أي مكان آخر على ظهر الكرة الأرضية.
              " هشام طبيب جراح تجميل ، ويعتبر متميزا في اختصاصه !".
              نسيم صامت يحدق بنظره إلى نقطة في عمق البحر .
              سألت هشام كيف تم خروجهما من السجن .
              فجأة ودون سابق انذار ، فتح عناصر الشرطة الباب ليلا وأخذوا يقرؤون الأسماء , خرج جميع من تليت أسماؤهم , عندما تفحصوا بعضهم تبين أنه يمكن تصنيفهم في ثلاث فئات : المشلولون , المصابون بأمراض عضال ويتوقع موتهم قريباً , الرهائن ..
              فيما بعد انضم إليهم قسم من نزلاء مهجع البراءة , الذين غدوا شباباً في العشرينات من عمرهم بعد أن قضوا أكثر من عشر سنوات في السجن . نقلوا الجميع بالحافلات إلى العاصمة .
              قبل ذلك كانت السلطة قد سربت أخباراً شتى عن نية الرئيس باصدار عفو عام عن السجناء , لم يصدق أحد سواءً داخل السجون أو في خارجها هذه الإشاعات , لكنهم تعلقوا بالأمل .
              بضعة أيام في العاصمة , أي في سجون العاصمة , حاولوا تحسين مظهر السجناء قليلاً , اشتروا لهم ألبسة جديدة , أعطوا كل سجين مبلغ مئتي ليرة كمصروف جيب وثمن بطاقة السفر لكل واحد إلى بلدته أو مدينته .
              في اليوم المقرر لخروجهم من السجن وضعوهم في حافلات أخذتهم إلى أكبر و أهم ساحة في المدينة , أوكلوا الأمر إلى أحد كبار ضباط الأمن الذي فهم الأمر حرفياً :
              - تأخذهم إلى الساحة , تضع الباصات حول الساحة , تنزل الجميع إلى الساحة , المطلوب مظاهرة تأييد للسيد الرئيس .
              عند التنفيذ أشار عليه البعض أن هناك عشرات المشلولين وهولاء لا يستطيعون السير في مظاهرة !.
              لكن الضابط أصر , لقد قال له رؤساؤه كلمة : الجميع .
              في الوقت المحدد لانطلاقة مسيرة تأييد السيد رئيس الجمهورية , كان لا يزال ما يقارب الأربعمئة سجين يحاولون إنزال ما يقارب المئتي مشلول !.. أنزلوهم , أجلسوهم في صفوف نظامية على الاسفلت الدائري العريض , وقف أمامهم المصابون بالأمراض العضال , مرضى السرطان , مرضى القلب و الشرايين , مرضى السل ..... وكذلك الشيوخ وكبار السن , في مقدمة الجميع أفراد مهجع البراءة , وهم الأكثر شباباً و معهم البعض من تنظيم الرهائن , أمام الجميع لافتة ضخمة مكتوبة باللون الأحمر الدموي وبخط جميل , معنونة :
              " مبايعة مكتوبة بالدم "
              يبايع فيها المتظاهرون السيد رئيس الجمهورية ويعاهدونه أن يفدوه بدمائهم وأرواحهم , وأنهم كلهم جنود لديه !.
              ************

              الأمواج لا زالت تتكسر تحتنا تماماً , يصل إلينا بعض الرذاذ أحياناً , نسيم ساكت يدخن بشراهة , الدكتور هشام يمسك بدفة الحديث , بدأ يتحدث عن مخططاته للمستقبل :
              - أهم شيء هو أن أخرج من هذا البلد اللعين , يومان أو ثلاثة وتكون أموري قد ترتبت .
              لديه أخٌ يعمل بحاراً على إحدى السفن التجارية السويدية , هذا الأخ كان موجود صدفة عند خروج هشام من السجن , ابلغه هشام برغبته الحارقة لمغادرة البلد فرتب له عملاً على السفينة التي يعمل بها , العمل هو مساعد طباخ السفينة , مساعد الــ " شيف كوك " .
              الدكتور هشام يكاد يطير فرحاً بهذه الوظيفة , هذه الفرصة للهرب .
              نسيم ساكت , أنا قلق .
              قلق رغم أنني لم أحس بالفرحة المتوقعة لدى رؤيتي نسيم مرة أخرى , أحسست أنه إنسان عادي , لا بل إنسان مريض , واغتنمت فرصة انشغاله بالتحديق الدائم إلى نقطة محددة في البحر لاسأل هشام خفية وبالإشارة فيما إذا كان نسيم يتناول دواءه بانتظام ؟
              هشام قلب لي شفته السفلى دون اكتراث , لا يعرف !
              أحسست أن مجيئي إلى هنا بلا معنى , ماذا أفعل هنا ؟.. بدأ الملل ينتابني , تخيلت نفسي مستقلياً على سريري في البيت أدخن , مجرد التخيل أراحني , فأنا بالعام لم أعد أحب التفكير , إن مجرد إشغال فكري و ذهني بأي قضية مهما كانت صغيرة تتعبني , أحس عندها أن رأسي قد انتفخ والصداع يطرق الصدغين .
              قررت أن أعود إلى بيتي , ولكن كيف لي أن أنسحب , لحد الآن - ورغم أن نسيم قد بكى كما بكيت عندما تعانقنا- لم يتفوه بجملة واحدة مفيدة , فكرت أن أشده للمشاركة بهذا الحديث , قلت :
              - شو يا نسيم .. هذا الدكتور هشام يخطط للهرب من هذا البلد , ماذا تخطط أنت للمستقبل ؟.
              صمت قليلاً , التفت إليّ , لأول مرة تلتقي عينانا , عيناه حمراوان , بحدة وتشنج واضحين قال :

              - بدي أشكل عصابة .. عصابة مجرمين .
              ضحك هشام , وبعفوية سأله مازحاً :
              - ليش العصابة ؟.. بدك تسرق البنوك ؟.
              - لا .. ما بدي أسرق , أنا ما بسرق .... نسيم ما نه حرامي !.. بس في واحد كمركجي سرق مني بيتي واختي .. اغتصب بيت أهلي , وكل يوم يغتصب أختي سميرة !.. وهلق يريد طردي من البيت !.. راح أقتل هذا الكمركجي .. وكل كمركجي بهــ البلد .... راح أقتل كل الكلاب المجرمين .... راح اقتل يللي عم يغتصبوا كل يوم أمي وأمك .... أختي و أختك ... بيتي وبيتك .
              جمد هشام وسكت .
              التفت نسيم بعدها إلى نقطته التي يحدق فيها .. في عمق البحر , وران صمت عميق على جلستنا .
              أرى من خلال سلوك نسيم نذر عاصفة قوية , عاصفة هوجاء تنذر بالإنفجار , ويبدوا أن هشام أيضاً أحس بالخطر , تبادلت وإياه النظرات خفية , علائم الحيرة .. الارتباك علينا نحن الاثنين .
              أحسست بتعب شديد , بانتفاخ في الرأس وصداع , حزمت أمري وقررت الانسحاب و السفر , السفر إلى البيت حيث السلام و الهدوء و اللاتفكير .
              المقهى البحري الذي نجلس فيه قريب من بيت أهل نسيم , وفيما أنا غارق في أفكاري احاول اغتنام أول فرصة مناسبة لكي أعتذر وأنسحب , هب نسيم واقفاً , التفت إلينا وطلب منا أن ننتظره هنا , وأنه لن يغيب أكثر من خمس دقائق , فوجدتها فرصة مناسبة لأقول إننا كلنا يجب أن نذهب , وأنه يتعين عليّ السفر بعد قليل لارتباطي باشياء هامة في العاصمة .
              وقفت ووقف هشام , سكت نسيم قليلاً .. نظر إليّ بعمق مصوباً نظرة من عينيه الحمراوين لم استطع تفسيرها , بعدها طلب منا أن نمشي معه قليلاً صوب البيت لأن هناك شيئاً يجب أن يعطيني إياه , استفسرت منه عن هذا الشيء , قال إنه هدية منه لي .
              دقيقة أو أكثر وصلنا أمام البناء المؤلف من ستة طوبق و الذي خرجت منه ذليلاً مطروداً قبل بضعة أشهر .
              وقفت مع هشام على الرصيف المقابل للبناء ننتظر عودة نسيم , قلت لهشام إنه يجب أن يتابع وضع نسيم الصحي لأنه – على ما أعتقد – على أبواب نوبة جديدة , وأن عليه أن يتحادث مع أخته وصهره ويضعهم في صورة الوضع الصحي , لوح هشام بيده وقال :
              - صهر نسيم واحد كر !.. الحكي معه خسارة , بعدين ... يوم أو يومين راح قول لهذا الوطن العزيز باي .. باي .
              لم يتم هشام كلامه , سمعنا صرخة من سطح البناية , رأينا نسيم يلوح بيده وينادي اسمي ... وبأعلى صوته فهمنا منه ما معناه أنه سيقدم موته هدية لي !!! .
              وقفز .
              على الرصيف .. أمام مدخل البناية , تحول نسيم إلى كتلة من الدماء و اللحم المهروس و العظام المحطمة .
              أمام جمع كبير من المارة , وأمام أعيننا .. قفز نسيم من سطح الطابق السادس .. إلى الرصيف أمام البناية .
              و ..... مات نسيم .
              سحبني هشام من يدي , سرنا .. لم أكن أفكر بشيء !. لم أكن حزيناً ... لا أحس بأية مشاعر .. سلبية كانت أم إيجابية !! .
              وضعني هشام في أول بولمان ذاهب إلى العاصمة , أوصاني ألا أخبر أحداً أننا كنا مع نسيم قيل انتحاره , لأن هذا سيعرضنا للتحقيق والسؤال و الجواب .
              وصلت البيت في الواحدة بعد منتصف الليل , لم أخلع ثيابي كعادتي حين أدخل , أحضرت لترعرق من المطبخ وجلست في غرفتي أشرب وأدخن .
              استيقظت لينا , وقفت بثياب النوم قبالتي تتفرس في وجهي , قالت :
              - شو القصة .. عمو ؟ .. وين كنت ؟ وليش هلق عم تشرب عرق ؟ ...
              لم تكمل لينا سيل أسئلتها , حضر أنور زوجها , استيقظ هو أيضاً ... قال :
              - يا سلام !.. العم يشرب العرق مثل العادة , لكنه اليوم متأخر عن موعده هاتي كاس لــ نشاركه .
              شرب معي كأساً من العرق , شربت لينا كأساً صغيراً , استأذن أنور وذهب لينام , بقيت لينا جالسة قبالتي تنظر إليّ بقلق , صببت الكأس الثالثة عندما لاحظت أن لينا تهم بالكلام , رفعت يدي .. أسكتها وطلبت منها أن تذهب للنوم , رفضت و أفهمتني أنها لن تذهب قبل أن تعرف ماذا أريد , .. لماذا أدفن نفسي في الحياة هكذا ؟.. لماذا أشرب هذه الكميات الهائلة من العرق و التبغ يومياً وكأنني أسعى للإنتحار ؟ ... لماذا .... ولماذا ؟.
              أفرغت الكأس الثالثة دفعة واحدة , بدأ العرق يطفو في رأسي , نظرت إلى لينا وتساءلت : ماذا تريد هذه الصبية الجميلة التي تدعوني بــ " عمو الحبيب " ؟ . أعرف أنها تحترمني وتحبني كثيراً .. رغم هذا لم يكن لدي أية رغبة بالكلام !.. سكت طويلاً بينما هي تنتظر كلامي ... لا أدري كيف بدات الكلام , ولا ماذا قلت , لقد تكلمت كثيراً ... اسمعي يا لينا , كنت أتمنى لو كانت أمي على قيد الحياة لكنت أرحت نفسي في حضنها ووضعت رأسي على صدرها وبكيت ... بكيت فقط , البكاء لدي حاجة ... وحاجة قوية .
              اليوم يا لينا انتحر صديقي وتوأم روحي !!..أنتحر أمامي و اهداني موته "هل يمكن أن يكون الموت هدية ؟ " .
              لم أبكِ ... لم أحزن .
              يا لينا : أنا أؤمن بقول يقول إن الإنسان لا يموت دفعة واحدة , كلما مات له قريب أو صديق أو واحد من معارفه ... فإن الجزء الذي كان يحتله هذا الصديق أو القريب ... يموت في نفس هذا الإنسان !.. ومع الايام وتتابع سلسلة الموت ... تكثر الأجزاء التي تموت داخلنا ... تكبر المساحة التي يحتلها الموت ...
              و أنا يا لينا ... أحمل مقبرة كبيرة داخلي , تفتح هذه القبور أبوابها ليلاً ... ينظر إليّ نزلاؤها .. يحادثونني ويعاتبونني .
              أشرب العرق يومياً يا لينا ... لكي أنام !.
              أمسكت لينا يدي وطفقت تبكي , آخر ما سمعته منها هو رجاؤها أن تحل محل أمي , وأن أضع رأسي على صدرها وأبكي !..
              وقفت على قدمي و أنا أكاد أفقد التوازن , أمسكت يدها وسحبتها إلى غرفتها , دفعتها إلى الداخل وأغلقت الباب .
              عدت إلى غرفتي واقفلت الباب بالمفتاح .. لا أذكر متى نمت ! .

              3 تموز
              ها قد مضى عام كامل على لحظة خروجي من السجن !.
              ينام الإنسان فلا يعود يشعر بشيء مما يدور حوله , تدخل حواسه جميعاً في حالة سبات .
              يستيقظ الإنسان فتسيقظ حواسه جميعاً ويصبح مدركاً لما حوله .
              لكن بين النوم و اليقظة هناك لحظة , ثانية أو أقل أو أكثر , هذه اللحظة لا هي نوم ولا هي يقظة , لحظة التحول بين الحالتين أو الإنتقال من حالة إلى أخرى .
              هذه اللحظة التي تمثل نصف وعي .. أو نصف احساس .. نصف إدراك .
              ضمن هذه اللحظة , ضمن المسافة الزمنية التي تستغرقها " لحظة " .. لازلت أرى نفسي " نصف رؤية " , أحس " نصف احساس " .. أنني في السجن الصحراوي !!.
              مضى عام كامل ولازلت أرى نفسي عند استيقاظي في السجن الصحراوي .
              هل يمكن القول أنني خرجت من السجن قولاً وفعلاً ؟.
              لا أعتقد ذلك !.
              يومياً .. أمارس نفس الأفعال الآلية و الضرورية لاستمرار الحياة , أكل وأشرب وأنام .. و..
              هل سأحمل سجني معي إلى القبر ؟.
              في السجن الصحراوي .. شكل خوفي المزدوج قوقعتي التي لبدت فيها محتمياً الخطر !... هنا – ويسميه السجناء عالم الحرية – خوفٌ من نوع أخر , وقرف .. ضجر , اشمئزاز , كلها شكلت قوقعة اضافية أكثر سماكة ومتانة وقتامة !! ... لان الأمل بشيء أفضل كان موجوداً في القوقعة الأولى !.
              في القوقعة الثانية لا شيء غير .... اللاشيء !.
              يشرب الإنسان الخمر , الكأس الأولى قد لا تفعل شيئاً , يستمر بالشرب إلى أن يصل إلى حالة السكر , وهي الحالة التي ينفصم فيها عقل الإنسان .. للسكران عقلان ,عقل سكران : ليكن اسمه اللاعقل , لكنه ليس نفياً للعقل , ليس عدماً , هو نقيض العقل , اللاعقل شيء مادي موجود !... كوجود العقل ذاته .
              اللاعقل هو الذي يتحكم بأفعال السكران وحركته ويدفعه لارتكاب الأخطاء .
              و العقل الثاني للسكران هو عقل صاح , واعٍ , لكن ليست لديه سلطة في تلك اللحظة على هذا الشخص , هو يرى ويراقب ويسجل ... دون أن يستطيع التدخل .
              منذ عام وأنا أعيش الحالة هذه !.. أعرف ان انزوائي وانكفائي ... عزوفي وكرهي للتعامل مع الناس حالة غير صحية , لكن ... لا الرغبة و لا الإرادة موجودتان للتغيير ... بل على العكس , أحس رعباً قاصماً للظهر عندما يومض في ذهني خاطر أن أعود للعيش كبقية الناس !... " يا إلهي كم العيش مثلهم , متعب وسخيف ! " .
              ************

              بعد وفاة نسيم بأكثر من شهر اتصل بي صهره " الكمركجي " هاتفياً , اعتذر ... أخبرني بحادث انتحار نسيم "إنهم لا يعلمون أنني كنت حاضراً " ودعاني إلى حضور الأربعين , لا أعلم الحيثيات التي دفعتهم لدعوتي , ذهبت في الموعد المحدد , ذهبنا جميعاً إلى المقبرة , رأيت بعض الوجوه التي أعرفها من السجن , عدت في النهاية إلى أحد الفنادق المطلة على البحر مقرراً قضاء الليلة فيه .
              مساءً ذهبت إلى أحد المطاعم , تناولت العشاء وشربت , شربت كثيراً , بالكاد استطعت الوصول إلى غرفتي بحدود الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .
              استلقيت على السرير بكامل ثيابي , احدق خلال الظلام إلى نقطة ضوء آتية من الخارج ومطبوعة على سقف الغرفة , و ... حضر نسيم !!...
              انتصب قبالتي عند طرف السرير , لم يتكلم , لم يتحرك ... فقط ينظر إليّ نفس النظرة التي رأيتها في أعماق عينيه قبيل انتحاره بدقائق , عندها فهمت النظرة , عتاب قاتل ... وعبارة :
              لم تركتني .... لم تركتني !.
              وكأني كنت اسمع المسيح لحظة موته يصرخ ... بعتب ... احتجاج .... حيرة .... وبالكثير من الحب :
              إيلي .. إيلي ... لم شبقتني ؟.
              انفجر الحزن داخلي كبركان حبيس , اعتدلت , ذهب نسيم وهو لا يزال ينظر نفس النظرة .
              سيطرت عليّ فكرة واحدة إلى حد الهوس، أن أحمل باقة ورد وأذهب إلى المقبرة، أحتضن حجارة نسيم و أبكي ... أبكي حتى الثمالة .
              الورد لنسيم ... و البكاء لي .
              خرجت إلى الشارع أبحث عن محل للورود في الساعة الثانية بعد منتصف الليل ؟... لا أحد في جميع الشوارع التي لبتها بحثاً عن الورود!.

              ها قد مضى عام كامل على لحظة خروجي من السجن .

              كانت لحظة بحثي عن الورود الفورة العاطفية الوحيدة التي أشعرتني أنني كبقية البشر !... لكنها همدت عندما ظللت أبحث عن الورد حتى الصباح.
              ورأيت أنه من الأنانية بمكان أن أذهب دون ورود... لأبكي فقط. من الأنانية أن ألبي حاجتي دون حاجة نسيم. نسيم يريدني أنا فقط... وأمامي فقط... يريد أن يرد اعتباره. وأنا أريد أن أبكي لأفرغ بعض السواد الممتلئ في القلب.

              وعاد السواد ليطمس كل شيء.
              ************
              قضيت هناك داخل قوقعتي في السجن الصحراوي آلاف الليالي استحضر وأستحلب المئات من أحلام اليقظة، كنت أمني النفس أنه إذا قيض لي أن أخرج من جهنم هذه، سوف أعيش حياتي طولاً وعرضاً وسأحقق كل هذه الأحلام التي راودتني هناك.
              الآن... ها قد مضى عام كامل... لا رغبة لدي في عمل شيء مطلقاً.
              أرى أن كل ما يحيط بي هو فقط: الوضاعة و الخسة .... والغثاثة !!.
              وتزداد سماكة وقتامة قوقعتي الثانية التي أجلس فيها الآن ... لا يتملكني أي فضول للتلصص على أي كان !.
              أحاول أن أغلق أصغر ثقب فيها، لا أريد أن أنظر إلى الخارج، أغلق ثقوبها لاحول نظري بالكامل إلى الداخل.
              إليّ أنا.. إلى ذاتي!..
              وأتلصص.

              تعليق


              • #8
                رد: مصطفى خليفة - القــوقعـة - يوميات متلصص

                عمل أكثر من رائع شكرا أخي الكريم على العمل الرائــــــــــــــــــــع

                تعليق

                يعمل...
                X