Announcement

Collapse
No announcement yet.

للمفكرأنطون خليل سعادة - كتابه ( الإسلام في رسالتيه : المسيحية والمحمدية )

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • للمفكرأنطون خليل سعادة - كتابه ( الإسلام في رسالتيه : المسيحية والمحمدية )



    المفكرأنطون خليل سعادة ( 1904-1949 )
    كتاب الاسلام في رسالتيه

    الإسلام في رسالتيه : المسيحية والمحمدية
    المفكر انطون سعاده

    1- الضلال البعيد 2 - الجهل المُطبق 3 - الفهم المغلق 4 - ما لم يعط للجهّال 5 - ولم يتمكن منه المنافقون 6 - خرقاء ذات نيفة 7 - ليس من علم كمن لا يعلم 8 - تأويل الجاهلين 9 - ضعف الإدراك من نقص العقل 10- بين الجمود والارتقاء 11- بين الهوس والتديّن 12- أغراض الدين واختلاف المذاهب 13- مدار الخلاف بين المحمدية والمسيحية 14- مدار الخلاف بين المسيحية والمحمدية 15- بين الدين والدّولة 16- الدين والفلسفة الاجتماعية 17- نصوص المحمديّة كدولة 18- في الدولة والحرب الدينية 19- الدين والدولة 20- العُروبة الزائفة والعروبة الصحيحة 21- العُروبة الدّينية والدّعاوات الأجنبيّة 22- العُروبة كقوّة إذاعيَّة للمطامع السّيَاسية الفردية 23- التعنتات المسيحية 24- الخلاصة

    الضلال البعيد
    قلنا في البحث السابق (عودة إلى جنون الخلود فصل من 1 وحتى 12) إننا لا نصدق أن مسلماً محمدياً واحداً مُدركاً لحقيقة رسالة النبي العربي يقبل كلام رشيد الخوري الذي ظاهره تأييد الإسلام المحمدي، وباطنُه هدم للعقائد الإسلامية الصحيحة. ووعدنا القراء بتبيان ذلك في ما يجيء من هذا البحث. قلنا أيضاً أن رشيد سليم الخوري ليس من أهل العلم ولا من أهل الفلسفة والتفكير ولا من أهل الأدب الصحيح إذا اتخذنا مقياساً للأدب غير الألفاظ والأوزان. وإن تناوله الدين الإسلامي في مذهبين جليلين كالمسيحية والمحمدية ليس سوى وغول على العلم والفلسفة، في حين أنَّ قصده الحقيقي هو مدحُ الإسلام المحمدي وهَجْوُ المسيحية. يتظاهر رشيد الخوري في بدء حارضته التي أسماها، جهلاً منه، محاضرة، بأنه قد آمن بالإسلام المحمدي. ثم يأخذ في الخلط بين كلام رجل متديِّن ورجل يبحث في طبائع الأديان بدون تحيزُّ أو انحراف، اجتهاداً منه في إلباس مدحه وهجوه لباسَ البحث. فإذا كان الخوري قد أسْلَمَ حقاً، اعتقاداً منه بصحة الدين المحمدي وكلامه المُنزل، فإنَّ "محاضرته" لا تدلُّ على سوى رجلٍ أسلم عن جهلٍ بحقيقة الإسلام ونصوصه المنزلة، أو رجلٍ يتظاهر بالإسلام نفاقاً في الدين ليشتريَ بآياته ثمناً قليلاً. أولُ ما نطق به الخوري المتظاهر بالإسلام المحمدي في مدح هذا الدين كان كفراً به وبآياته. قال في بدء حارضته: "لما فضلت الإسلام على المسيحية في خطابي العام الماضي الخ" فأخذ نقطة الابتداء تفضيل الدين الإسلامي المحمدي على الدين الإسلامي المسيحي، وجعل هذه النقطة مدار كلامه فنطق بكلمة الكفر من حين فتح فاه أو جرَّ قلمه على القرطاس فحق عليه قولُ الآيات: {إنَّ الّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يُفرّقوا بين أحد منهم أولئك سوف يُؤْتيهم أُجورهم وكان الله غفوراً رحيماً} من سورة النساء (150 ـ 152). ومن سورة البقرة {ليَسَ البِرُّ أن تُولُّوا وجوهَكم قِبَلَ المشرق والمغرب ولكنّ البرَّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين الخ} (177). ومن سورة النساء {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك الخ} (162). فمحاولة مدح الإسلام المحمدي بالمفاضلة بينه وبين المسيحية، وبالتفريق بين محمد والمسيح هي محاولة كفر بكلام الله المنزل بالوحي على محمد رسوله. والذين يشايعون رشيد الخوري في قوله ويؤيدونه من المسلمين المحمديين ليسوا بالحقيقة سوى زنادقة في أثواب مؤمنين، يتظاهرون أمام المؤمنين البسطاء الودعاء القلوب أنهم يغارون على الدين، وما غيرتهم إلاّ على زينة الدنيا وأعراضها. لو لم يكن رشيد الخوري واغلاً على الفلسفة والدين والعلم لمَا كَان تجاسَر على اقتحام هذا الموضوع الخطر والخبط في مسالكه. ولكنَّه يظنّ أنه إذا التقط أشتاتاً من الأقوال الواردة لغيره وحشاها بهذر من عنده ووقف في جمهور من عامة الناس وأخذ يتشدَّق بهذه الأقوال فقد صار ((عالماً جليلاً)) كما صار بمثل هذا الخلط ((شاعراً مفلقاً)). وظنّ، فوق ذلك، أنه إذا سنده سياسيٌّ من سياسييِّ الدين والأدب كشكيب إرسلان فقد ربح الخلود ((كمدافع عن شريعة محمد وخلفائه في الأرض)) الذين يمني شكيب إرسلان نفسه بأن يكون واحداً منهم. وفيما الخوري يخلُط ويخبط وينافق في الإيمان إذا به يحاولُ الظهور بمظهر العالم الذي يقلِّب الأديان على وجوهها ويدرسُ طبائعها، والفيلسوف الذي يُعطي القيم الفكرية مواضعها، وهو يفعل ذلك من غير أن يحتاج إلى بحثٍ واستقراءٍ بل بالاستبداد بالمنطق وبتسخير القيم والمواضيع لأغراض هجوه ومديحه. ولما لم يكن من أهل العلم والفلسفة ولا من أهل الأدب الصحيح، كما بيّنا آنفاً، فقد وقف في تفكيره ونظره في المسيحية والمحمدية عند حدود التفكير العاميِّ المنحطّ الخالي من كل ثقافة ودراسة صحيحة. وليس أدلّ على خلطه وخبطه، في ما لا يعلم، من قوله: "لو كنت في هذا البحث الديني اسماً والاجتماعي فعلاً أعرض لمسائل الآخرة والجنة والنار لحقَّ لكلِّ أديب أن يلحاني، ولكني تناولت في الإسلام ناحيته الدينية البحتة، وأشرت إلى علاقته بالحياة الدنيا وتحديده سلوك الفرد تحديداً مرجعه العقل السليم." فقوله "ناحيته الدينية البحتة" مجرِّداً هذه الناحية من مسائل الآخرة والجنة والنار ليس سوى جهل بما هو الدين وما هو العلم وما هي الفلسفة، إذ لو جردنا الدين من مسائل الآخرة والعقاب والثواب لما بقي له شيء من "ناحيته الدينية البحتة".. ولكن من أين لرجل واغل على هذه المواضيع السامية أن يعلم ما هو من طبيعة الدين وما هو من طبيعة العلم وما هو من طبيعة الفلسفة؟ لا يعرف رشيد الخوري غير المثل الدنيا، ولا قدرة له على تناول غير الفكر العاميَّة، السطحية. والعامة تخبط في الشؤون الفلسفية الأساسية خبطا، ولذلك نشأت عند عامة المسيحيين السوريين الفاقدة الثقافة الصحيحة والعلم اعتقادات وتأويلات في المذهبين المسيحي والمحمدي، أقلُّ ما يقال فيها أنها جزئية وسطحية. هكذا أُخذت أول تعاليم المسيح بأنها تعاليم توحي الذل لإساءتهم فهم أقوال المسيح التي منها القول: من ضربك على خدك فحوِّل له الآخر. وأيسرُ أن يدخل حبلٌ في ثقب إبرةٍ من أن يدخل غنيٌّ ملكوت السموات. وهذه العامة نفسها، نظراً لجهلها وما ورثته من عصور الانحطاط، أخذت تؤوِّل التعاليم المحمدية من غير درس لها، وتدين محمداً والمحمديين ببعض آيات التقطتها اتفاقاً ولم تحسن تأويلها وفهمها كالآيات المتعلقة بأزواج النبي والنكاح وصور الجنة المادية، ناسية قول المسيح: لا تدينوا لكيلا تدانوا. وكذلك نشأت عند عامة المحمديين السوريين الفاقدة الثقافة الصحيحة والعلم اعتقادات وتأويلات في المذهبين المحمدي والمسيحي أقلُّ ما يقال فيها أنها جزئية وسطحية. هكذا أخذت تؤوّل آيات القرآن تأويلاً يوافق هواها، فأخذت ببعض الآيات وأهملت البعض الآخر. وهذه العامة نفسها، نظراً لجهلها وما ورثته من عصور الانحطاط، أخذت تؤوّل تعاليم المسيحية من غير درس لها، وتدين المسيح والمسيحيين ببعض آياتٍ التقطتها اتفاقاً ولم تحسن تأويلها كالآيات المتعلقة بملكوت السموات وكيف يدخلها الإنسان، ناسية قول القرآن: {آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربَّنا وإليك المصير}. من سورة البقرة 136. وقسمٌ كبير من عامة السوريين المسيحيين والمحمديين لم يعد مؤمناً الإيمان الدينيّ، ولكنه يتشبث بعنعناتٍ من التحزّبات الدينية، فهو قد فقد إيمانه الدينيَّ، ولم يحصل على ثقافة وعلم يرسّخانه في المعرفة ويهبانه نظرة شاملة في الحياة، ويساعدانه على فهم الدين وتأويله على الوجه الأصحّ، ونتج عن ذلك كلِّه انحطاط كبير في الإدراك والتأويل وفساد في الاستنتاج وتصادم في النفسيات وفوضى في المنازع وتخبّط في المذاهب. من هذا الباب العاميّ ما حبَّشه رشيد الخوري ليلقي على مدحه المحمديّة وهجوه المسيحية صفة البحث. وبهذا التفكير العاميِّ الضعيف الإدراك قال إن الناحية الدينية البحتة لا تتناول مسائل الآخرة والجنة والنار التي بها لا بغيرها صار الدين ديناً. ولولا مسائل الآخرة وخلود النفس والثواب والعقاب لما امتاز الدين بشيء ولما زاد شيئاً على التعاليم الفلسفية السامية التي قال بها فلاسفة عظام، والتي لم تأخذ في قلوب عامة البشر المكان الذي أخذه الدين بسبب عدم نسبتها إلى قوة إلهية خفية، وعدم إسنادها إلى الاعتقاد بحياة أخرى بعد الموت تحاسب فيها الأنفس على ما تقيدت به من التعاليم المذكورة وما لم تتقيد به. فالوجهة الدينية البحت هي العكس تماماً مما ذكره رشيد الخوري في حارضته الهجائية، أي إنّه بلا الآخرة والجنة والنار لا تبقى للدين وجهة دينية بحت. ومن بدائع بيان هذا الناثر، الهاجي أنه يدخل المواضيع بعضها في بعض فيشوِّش ذهن القارئ الذي لا يكاد يشعر بأنه يتتبَّع فكرة حتى يرى الكاتب قد أزاحها من أمام عينيه، كما يزيح صاحب صندوق الفرجة صورة "صاحب الخضراء" من أمام عيني الطفل قبل أن يستوعب جمال شكلها، ليضع في محلها صورة صاحب "الأبجر". فبينما الخوري يحاول التنصل من تبعة إثارة التعصبات الدينية المريعة، إذا به يقطع حبل الفكر في هذه الناحية بغتة ويدخل موضوع الدين الإسلامي المحمدي في موضوع "الناحية" التي يعالجها على هذا الشكل: "ولكني تناولت في الإسلام ناحيته الدينية البحتة، وأشرتُ إلى علاقته بالحياة الدنيا وتحديده سلوك الفرد تحديداً مرجعه العقل السليم فهو (الإسلام) لم يفصل الإنسان عن نفسه حتى تتقطع بينهما الأسباب الخ". إن القارئ ذا المنطق السليم يتوقع من "المحاضر" أن يعود بعد تمام جملة "العقل السليم"، فيعطف على نفسه ومبرِّراته ويقول مثلاً: "وإني أجد تبيان ذلك من الأمور الضرورية الخ" ويختم هذا الموضوع مُعدَّاً فكرَ القارئ للانتقال إلى موضوع آخر، ولكنَّ أصحاب الخلود الدنكيخوطي لا يفتأون يأتون بالمعجزات التي لم تخطر على قلب بشر، فليس للقارئ حيلة غير التسليم لسحر بيانهم الخاطف الأبصار والمحيّر العقول!. المهووس بالخلود مستعجل فأفسحوا له المجال. لا تظنوا أنَّ لجميع حدود المنطق قدرة على كبح جماحه. إنه أرعن، ملحٌّ، لاجٌّ، يقتحم سياجات العقل، ويقفز من النوافذ إلى المجامع، ويدخل بلا استئذان، إنه هاج سفيه، من يقدر أن يقف أمام شتمه وسبابه؟ ذهب الحديث عن نوع الموضوع وتحديده، وجاء الموضوع نفسه. ولا تسل كيف حدثت هذه العجيبة ألم يأتِك أنّ من البيان لسحراً؟ هكذا يكون السحر. فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر فقل أيها الإنسان أين المفر؟ قال صاحب الحارضة الهجائية من فيض "علمه": "فهو (الإسلام) لم يفصل الإنسان عن نفسه حتى تتقطع بينهما الأسباب، ولم يباعد بين الجسد والروح في هذه الحياة، وهما وحدة لا تتجزأ إلاّ بالموت، ولم ينس العقل الذي يجمِّل ويكمِّل بناء البشر السوي، بل لقد قدمه النبيُّ على شريعته نفسها بقوله: الشرع عقلٌ من خارج، والعقل شرعٌ من داخل، وقوله، دين المرء عقله، فمن لا عقل له لا دين له، وقوله لا يتمّ دين المرء حتى يتمّ عقله، فشرَّف الدماغ البشري بهذه الآيات البيِّنات أعظم تشريف...
    "ولقد أشاد بذكر العلم وفضل العلماء، وقال في هذا المعنى من الحكم ما يكاد يجمع كتاباً، ونحن لو بحثنا في الإنجيل لما وجدنا آية واحدة تذكر العلم بخير أو بشرّ". هذا هو الموضوع، وهنا بدء تفضيل المحمدية على المسيحية الذي قلنا إنه كفرٌ بالإسلام الذي يتظاهر رشيد الخوري بأنه آمنَ به. وبما أن الخوري قد خلط بين الدين والطريقة العلمانية في الكلام الذي شاء أن يسمِّيه بحثاً فلا بد من اقتفاء أثره في اعوجاجه والتوائه. إنه جعل هذا الكلام "بحثاً اجتماعياً فعلاً" فلنوافقه من أجل البحث. جعل الخوري أول تفضيل للمحمدية على المسيحية ما ورد في الحديث النبويِّ من الأقوال عن العقل واتصالهِ بالدين، وإشادةِ النبي بذكر العلم وفضل العلماء. فارتكب عدة جرائم ضدَّ الدين الإسلامي في المحمدية وفي المسيحية معاً، وضدَّ العقل الذي عرف محمد قدره فوصفه بما عرف. وأولُ جريمة ضدَّ الدين الإسلامي المحمدي أنه قدم الحديث الشريف على القرآن، وجعل هذا تابعاً لذاك، ووضع كلام الرسول قبل كلام الله في تبيان جوهر الإسلام المحمدي. والجريمة الثانية الكبرى هي أنه جعل الحديث النبويَّ حداً للآيات المنزلة وحكماً عليها. فإذا كان محمد قد قدم العقل على الشريعة المنزلة، كما يقول الخوري، فالشريعة قد أصبحت منقوضة، وأصبح العمل بها على جهة التسليم بأحكام الله وحدوده باطلاً. وإذا أصبح العقل هو المقدَّم على الشريعة المنزلة فأية قيمة إلهية بقيت لتلك الشريعة؟. وأول جريمة ضد المذهبين المحمدي والمسيحي معاً هو مقابلته الإنجيل على الحديث النبويِّ، والإنجيل كلام إلهيّ في عُرف الإسلام في المذهبين المسيحي والمحمدي. فمن حيث المسيح هو عند المسيحيين ابن الله وروحه كان كلامه كلام الله. وفي القرآن إنكار لكون المسيح هو الله أو ابنه من صاحبة ومشاركاً له في الحكم يوم الدينونة، ولكن فيه إثبات لكون كلام المسيح كلاماً إلهياً باعتباره منزلاً عملاً بقوله: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك الخ} (سورة النساء: 162) وجاء قول الله في سورة مريم: {فأشارت إليه قالوا كيف نكلِّم من كان في المهد صبياً. قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً. وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً (29 حتى - 31) ... والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعثُ حياً. ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون } (33و34). وفي سورة النساء: {وإنّ من أهل الكتاب إلاّ ليؤمننَّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً} (159). وفي آل عمران: {نزّل عليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدًى للناس وأنزل الفرقان الخ} (آل عمران: 3 و4). كان الصحيح. من حيث البحث، أن يقابل القرآن على الإنجيل مقابلة كلام إلهي لكلام إلهي، فلا يزين للمؤمنين أن يتبعوا غروره ونفاقه. بهذا يقضي منطق العقل. ولكن الذي اختلَّ منطقه واضطرب شعوره أيعرف الدين أو المنطق؟ بقي أن نعلق على قول الخوري المتقدم تعليقاً أوسع في ما يختص بما جعله أساس المفاضلة. إن وصف محمد الشرع بأنه عقلٌ من خارج، ووصفه العقل بأنه شرعٌ من داخل، إنما هو شيء من التعليل الشعريّ الذي لا يعيّن تعييناً جازماً مركز العقل البشري من الشرع. وقوله: لا يتم دين المرء حتى يتمّ عقله، ومن لا عقل له، لا دين له، فهو حثّ على عدم الجهل بالدين، ولا يشتمل على أيّة نظرة فلسفية شاملة في العقل. ولو اشتمل على هذه النظرة الشاملة وجعلها محمد قاعدة دعوته لكان اكتفى بأن يكون فيلسوفاً يذهب مذهب الفلاسفة المحكمّين العقل في كل الظواهر، الجاعلينه جوهر الطبيعة وميزة الإنسان، فيكون، في هذا الباب، تلميذاً من تلامذة المدرسة السورية الفلسفية التي وضع قواعدها الفلسفية الفيلسوف السوريّ العظيم زينون، وهو قبل محمد وقبل المسيح بزمان. ومن هذا الوجه ما كان يكون لمحمد فضل. إذ هو لم يزد مقدار ذرّة على مذهب الرواقيين في الفكر. إن ميزة محمد هي في أنه نبيّ لا في أنه فيلسوف. وميزة المحمدية هي في القرآن والشريعة الواردة فيه، لا في الحديث الذي هو من مجملات النبي وحسن نظره وسلامة فطرته.
    الجهل المُطبق
    قال الخوري، بعد عبارته المتقدمة: "فالإنجيل كتاب روحاني يُعنى بالآخرة فحسب ولا يعلِّم في هذه الدنيا غير الدروشة والزهد وقهر الجسد وحبس العقل في قفص من غباوة الاستسلام لما وراء المنظور وهو يقتل المواهب ويهيض الأجنحة ويعصب على العيون ويربط الفطرة بالسلاسل الثقيلة ويخنق الطموح فلا مجد عنده إلاّ مجد الخضوع الأعمى للتعاليم السماوية كما بشر بها هو. لا بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً مدى الحياة تُسام الخسف والهوان والجلد بالسياط ما دمت تعتقد أن بعد الموت حياة ثانية تُثاب فيها على خنوعك واستسلامك وصبرك على الظلم. ولقد فسح الإسلام لمحبي الكسب وطالبي الثروة مجالاً لا حد له بقوله "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً" في حين جعلت المسيحية الفقر شرطاً أساسياً لدخول السماء عملاً بقولها للغني الذي طلب أن يرث الحياة الأبدية" بع كل أملاكك ووزع ثمنها على الفقراء واتبعني " ولعمري لو عمل كل غني بهذه الشريعة لأصبح الناس جميعاً مدقعين ولم يبق في الأرض من يستطيع أن يجود على فقير بفلس". لا ننتظرُ أن يكون لرشيد سليم الخوري ضابط من جهله، لأن الضابط يكون من العلم، ولا يمكن مطلقاً أن يكون من الجهل. فهو في الفقرة المتقدمة، يتابع المقابلة بين المسيحية والمحمدية على قاعدة أن الحديث النبويَّ هو الإسلام وشريعته. فقوله: "لقد فسح الإسلام لمحبي الكسب وطالبي الثروة مجالاً لا حد له بقوله، (أي بقول الإسلام) "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً الخ" يجعل الحديث النبويّ وأقوال الأئمة (لأنَّ القول للإمام علي) في مقام الشريعة الإسلامية. وهو جهل ما بعده جهل. فالإسلام لا يقول هذا القول، وإنما الذي يقوله هو عليّ لا الإسلام. وهنالك فرق أساسي جوهري بين الرسالة الإسلامية والحديث النبوي لا يغفله غير الجهال الذين يطلبون الكسب والثروة حتى بالتدجيل على الدين والعلم. لما كان الخوري قد اتخذ في هذا الكلام صفة باحث متجرد عن الاعتقادات الدينية، وكنا قد آلينا على أنفسنا تتبعه في جميع التواءاته واعوجاجاته فإننا سنعالج هذه النقطة من وجهة الدراسة العلمية: إن الكلام الذي ورد على لسان محمد، أو قيل إنه ورد على لسانه، يُقسم إلى قسمين: قسم عزاه محمد إلى الله مُعلناً أنه نزل عليه وحياً إلهياً، وقسم لم يعزه إلى الله فهو حديث منه حدَّث به في أوقات متفاوتة. فالقسم الأول فقط هو الإسلام والشريعة الإسلامية، وفيه أوامر الله ونواهيه وحدوده، فلا يحقُّ على المسلم إلاّ ما ورد فيه. والمشكوك فيه من القسم الأوَّل آياتٌ قليلة. أما القسم الثاني فليس الإسلام ولا الشريعة الإسلامية، وإنما هو أقوال حكمية يستفيد المحمديّ منها في كيفية فهم نبيّه وفهم نظرته في بعض أحوال الدين والدنيا. وهذا القسم الثاني مشكوك في الكثير منه. ومع أن المتقدمين عزلوا المشكوك الذي سمَّوه "مجروحاً" عن "الصحيح" فإنَّ الأبحاث المستفيضة المتأخرة دلّت على أن الكثير من الحديث النبوي المحسوب صحيحاً مجروحٌ، أو غير صحيح، فلم يعد يصحّ اعتماده حتى ولا في صفته المحدودة كحديث فاه به محمد من غير أن يعيّن شريعة أو نصاً يجب التمسك به. بناء عليه، لا يقول إن الحديث النبويّ هو الإسلام الذي يعيّن للمحمديين طريق الحياة، غير جاهل جهلاً مطبقاً كرشيد الخوري الذي ظن أن استعارة بعض العبارات العلمية الصبغة وإطلاقها في معرض التدجيل لكفيلان بأن يسوّيا بين الجهل والعلم!. قلنا في المقالة السابقة إنّ المقابلة بين الإنجيل والحديث النبوي هي جريمة ضد المذهبين المسيحي والمحمدي للذّين يعتبرون نصوصهما أو نصوص أحدهما، فضلاً عن أنها دليل قاطع على جهل صاحب الحارضة أوليات "البحث" الذي تصدَّى له تزلّفاً إلى اتّباع أحد المذهبين المذكورين، غير عابئ بالعواقب الوخيمة التي يجرها مطلبه النفعي على أبناء أمة واحدة هي الآن أحوج منها في أيّ زمن آخر إلى قتل روح التعصب الديني الذي لم تجن منه غير الويل. ونقول هنا إن الجريمة قد كبرت بإقامة المثل الدنيا المادية، التي رأينا، في ما تقدّم من هذه المقالات الدراسية(عودة إلى جنون الخلود فصل من 1 وحتى 12) أن رشيد الخوري لا يعرف مثلاً غيرها، مقام المثل العليا التي تتجه إليها جميع النفوس الطالبة الانتصار على المادية المعطّلة للمزايا الإنسانية السامية. فالواضح من كلام صاحب الحارضة المتقدم أنّ المقياس الذي يستعمله لتفضيل المحمدية على المسيحية هو المقياس المادي، فبينما هو يصف الإنجيل بأنه "كتابٌ روحاني" يقيم مادية المحمدية في مقابلها ويجعل المادية أساس فضائل المحمدية كلّها لأنه لم يتخذ غير الجزء المادي البحت من حديث مشهور، وهذا الجزء هو: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً". رأى رشيد الخوري في هذا الجزء من أحد الأحاديث أعظم حكمة في الإسلام المحمدي. فقد انطبق هذا المثل على عقليته الرازحة بالمادية، أيما انطباق فقال عنه: إنه جوهر الرسالة المحمدية التي فسحت به "لمحبّي الكسب وطالبي الثروة مجالاً لا حد له". وبناء على هذه القاعدة التي وجد فيها الخوري كل الإسلام المحمدي وجوهر ما يفضل به على الإسلام المسيحي لم يجد حرجاً في أن يطلب هو الكسب والثروة حتى باستباحة إثارة التعصب الديني وإراقة الدماء بين المسيحيين والمحمديين من السوريين. إن أعظم فضيلة يراها رشيد سليم الخوري في المحمدية هي: اتباع الشهوات المادية وفسح المجال اللامحدود لها، بدلاً من كبحها وإحلال الفضائل النفسية المفضلة الإنسان على الحيوان محلها. وهو، لعجزه عن طلب المثل الروحية العليا التي يراها في الإنجيل ولا يرى خرقاً فيها يمر منه إلى ماديته الحقيرة المخرّبة، يقول إن الإنجيل كتاب "يُعنى بالآخرة فحسب"، أي إنه يجب ترك تعاليمه جانباً، في كل ما يتعلق بالحياة البشرية. والانتهاء إلى هذه النتيجة هو شيء طبيعي، فجميع الميّالين إلى الشر والإجرام يبغضون القوانين المسنونة لمحاربة الإجرام ويسبون القضاة النزهاء الذين حكموا عليهم أحكاماً عادلة قاسية. وجميع الأولاد السيئي التربية في بيوتهم المعتادين على إطلاق العنان لشهواتهم ورغباتهم الجامحة يكرهون المعلم الذي يجتهد في تعليمهم طريق الفضائل ويسخرون من تعاليمه ويستهزئون بها. لنأخذ هذا الدرس بالترتيب لئلا يفوتنا شيء من فوائده. لنعد إلى ما نقلناه في المقالة السابقة من كلام رشيد الخوري وهو مع ما نقلناه هنا أساس النظريات التي يبني عليها الخوري تفضيله المحمدية على المسيحية. فبعد أن ذكر أقوال النبي في ضرورة صحة العقل للمؤمن قال إن من أهمّ ما يمتاز به الإسلام المحمدي على المسيحية أن محمداً "أشاد بذكر العلم وفضل العلماء"، وإنه ليس في الإنجيل "آية واحدة تذكر العلم بخير أو بشر". هذه المفاضلة السقيمة تُظهر كم يجهل رشيد الخوري التاريخ الاجتماعي والتاريخ السياسي للبشرية ومقدار جهله عوامل نشأة المسيحية في بيئتها وعوامل نشأة المحمدية في بيئتها. ومع أن المقابلة بين الإنجيل والحديث النبوي لا تصحّ من أساسها كما بينا آنفاً فلا بد لنا من تناول هذه القاعدة المتهدمة للمفاضلة لأنها تشتمل على سفسطة سهلة الشيوع عند العامة والخاصة الناقصة الثقافة لكمال سطحيتها ولإغفالها الحقائق الاجتماعية والتاريخية. فهي، من هذه الجهة، تكوِّن خطراً على صحة الاتجاه الفكري وعلى الارتقاء النفسي نحو أجمل المثل العليا. نشأت المسيحية في سورية بعد أن كان قد مضى عهد طويل على ارتقاء السوريين عن مرتبة البربرية التي بقي عليها العرب بعامل بيئتهم الطبيعية غير القابلة العمران والتمدن وبعد أن كان مضى زمن طويل على إنشاء السوريين أعظم مدنية عرفها العالم في التاريخ القديم وهي المدنية التي قامت على قواعدها المدنية العصرية. نشأت المسيحية في بلاد كانت قد بلغت أوج العلم والتمدن وشبعت من الفتوحات في أفريقية وأوروبة ـ بلاد لم تكن في حاجة إلى من يحبّب إلى شعبها العلم، لأنها كانت أسبق الأمم إليه، ومنها تعلم الإقريك والرومان. فالتبشير بمحاسن العلم في أمة العلم ما كان يكون له وقع غير وقع قولك للناس: الماء ضروري لأنه يُذهب العطش، والخبز يسد الجوع. لم يكن المسيح يهودياً، ولم يكن له "آباء يهود" كما يقول صاحب الحارضة هاجياً إياه، بل كان سورياً يتكلم ويخاطب الجماهير بالسريانية. وهو نفسه رفض أن يدعى "ابن داود" كما أراد اليهود، فقال في ذلك: "كيف يقولون إن المسيح ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فإذا كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه" (لوقا: 20: 41) بهذا القول قطع المسيح كل سبيل لقيامه على أساس التقاليد اليهودية القائلة إنه يكون يهودياً من نسل داود. فلا يصح أن يقال إن المسيح كان يهودياً. فهو ابن البيئة السورية. أما المحمدية فقد نشأت في العربة التي لا عمران فيها ولا تمدن، والعرب لم يرتقوا عن مرتبة بدائية ولم يعرفوا العلم. وفنونهم مقصورة على الغزو والسلب ونظم الشعر، فحدثهم محمد بما يحتاجون إليه، ولذلك كان حديثه في محله وفي ما يحتاج إليه؛ فحثهم على طلب العلم، لأنه لم يكن لهم. وهو الذي كاد يضيق ذرعاً بهم فنزلت الآيتان: {الأعراب أشدّ كفراً ونفاقاً وأجدر ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم...
    وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذّبهم مرتين ثم يردّون إلى عذاب عظيم} (التوبة: 97 و101). وفي النصوص المحمدية اعتراف صريح بأن الرسل يرسلون لهداية أقوامهم، وأن محمداً رسول إلى العرب خاصة بدليل قول القرآن: {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربّه إنما أنت منذر ولكلّ قوم هاد} (من سورة الرعد: 7) {إنّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً وإنّ من أمّة إلاّ خلا فيها نذير} (من سورة فاطر: 24) {لقد مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (من سورة آل عمران: 164). فواضح من الآية الأخيرة أن رسالة الرسول العربي الملقب بالأمّي اختصت بالعرب بعناية الله الذي أرسله هادياً لقومه كما أرسل غيره قبله هادياً في أقوام أخرى. وهذه الهداية، لكي تكون مجدية، وجب أن تبتدئ من الدرجة التي عليها القوم لا من درجة فوقها. وهذه هي الهداية الصحيحة. فإن معلم المدرسة الفاهم الخبير لا يبتدئ تعليم الأحداث علم الجبر والهندسة والمنطق قبل أن يكونوا قد أكملوا دروس الحساب والجغرافية والأشياء. ولو أن المسيح ومحمداً تبادلا الرسالة فظهر المسيح في العربة وظهر محمد في سورية لما كانت رسالة المسيح ابتدأت على الدرجة العالية التي ابتدأت بها في سورية، ولما كانت رسالة محمد ابتدأت على الدرجة الأولية التي ابتدأت بها في العربة. لو كان محمد في سورية لما وجد حاجة به للكرازة بأهمية العلم لأن السوريين كانوا السباقين فيه، وإليهم يعود فضل تعليم العرب العلم والفلسفة كما تشهد بذلك التواريخ العربية عينها.
    الفهم المغلق

    ليست الرسالة المحمدية هذه الرسالة المادية التي يصورها رشيد سليم الخوري ويقول إنها أطلقت الشهوات والمآرب المادية من كل قيد وأزالت من أمامها كل حد، بل هي رسالة روحانية قبل كل شيء، ومتجهة في الاتجاه عينه الذي تتجه فيه المسيحية، ولكنها اضطرّت، بحكم البيئة، لأخذ تأخر أو جمود الثقافة المادية في العربة بعين الاعتبار. ولما كانت الثقافة النفسية العالية لا يمكن أن تقوم بدون قاعدة ثابتة من الثقافة المادية فقد رأت الرسالة المحمدية أن تهتم بشؤون الثقافة المادية كي تهيئ الانتصار على المادة والتسامي في عالم الروح. ولم تكن الرسالة المسيحية في حاجة للاهتمام بشؤون الثقافة المادية، لأن البيئة السورية كانت قد بلغت بها أبعد شأو. لم يكن الحديث، "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً" فقط. وهو لو اقتصر على هذا القول لكان مذهبه الفكري هو الإغراق في المادية اللامحدودة، كما يقول الخوري. ولكن الحديث كان: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، فأخضع بهذا القول المادية إخضاعاً كلياً للروحية. فغرض السعي والكسب لم يعد للبقاء في المادية اللامحدودة، بل صار للوصول إلى المستوى الروحاني الذي ذهب المسيح إليه رأساً لعدم حاجته إلى إعداد الأساس المادّي لأن هذا كان موجوداً بكثرة. وكل من قرأ كتاب الزعيم "نشوء الأمم" يعلم أن المستوى العمراني السوري كان أعلى مستوًى في التاريخ الاجتماعي قبل عصر الآلة الحديث، وبهذا يشهد جمهور علماء الأقوام البشرية والجغرافية الاقتصادية أمثال ويدال لبلاش. ولا نترك هنا التحفظ السابق من جعل الحديث في مقام الإسلام المحمدي. إن المادية هي إحدى القضايا التي كان لا بد للمحمدية من مواجهتها لتتمكن من تقريب النفس العربية التي جففتها الصحراء إلى الحالة الروحانية التي لا يمكن أن تنشأ في حالة مادية ومقيدة للنفس. الجائع يجب أن يأكل ليصبح قادراً على التفكير في شؤون أخرى، والذي لم يتمكن من سد جوعه المادي ـ الفيزيائي لا يشعر بالجوع الروحي، والنفسية المثالية ترتقي بنسبة تأمين مقومات الحياة، إذا كانت النفس مؤهلة للارتقاء. أما المسيحية فلم تكن في حاجة إلى النظر في الحاجات المادية، لأن سورية كانت بلاداً يفيض الغنى فيها فيضاً. انظر ما جاء في نبوءة زكريا من التوراة: "وقد بنت صور حصناً لنفسها وكوَّمت الفضة كالتراب والذهب كطين الأسواق". فالبلاد التي كان الذهب والفضة فيها بكثرة التراب لم تكن في حاجة لمن يهديها إلى الكسب. ولا شك في أن الرسالة المسيحية والمحمدية واحدة. وقد جاء محمد مصدقاً للرسالة المسيحية بكلام إلهي مثبت في القرآن، وليس بمجرد حديث نبوي. ولو أن محمداً جاء قبل المسيح لكان المسيح صدق الرسالة المحمدية وعد رسالته مكملة لها من عند الحد الذي وقفت عنده، كما عدها مكملة للرسالة الموسوية من عند الحد الذي وقفت عنده وهو الحد الذي يلتقي معه حد المحمدية في التشريع والقضاء والعناية بالعلاقات الاجتماعية من الدرجة الثقافية التي عليها الجماعة التي ظهرت فيها كل من الرسالتين المذكورتين. ولقد كان التبشير والإنذار بعبادة الله وترك عبادة الأصنام جوهر الروحانية المحمدية كما كانا جوهر الروحانية الموسوية، فصفة محمد في القرآن هي صفة "البشير النذير"؛ وتلتقي الرسالتان الموسوية والمحمدية في البشارة والإنذار والتشريع. والآيات المتشابهة مبنًى ومعنًى من التوراة والقرآن كثيرة نقتصر على أمثلة قليلة منها: "فهوذا يأتي اليوم المتقد كالتنور وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشاً ويحرقهم اليوم الآتي، قال رب الجنود فلا يبقي لهم أصلاً ولا فرعاً" (ملاخي:4ـ1) {إنّ السّاعة لآتية لا ريب فيها ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون. وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين} (غافر: 59 ـ 60) "اذكروا شريعة موسى عبدي التي أمرته بها في حوريب على كل إسرائيل الفرائض والأحكام" (ملاخي: 4 ـ 4) {تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم} (النساء: 13) "وأقترب إليكم للحكم وأكون شاهداً سريعاً على السحرة وعلى الفاسقين وعلى الحالفين زوراً وعلى السالبين أجرة الأجير والأرملة واليتيم ومن يصدّ الغريب ولا يخشاني قال رب الجنود" (ملاخي: 3 ـ 5) {إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} (النساء:10) "هكذا قال رب الجنود اقضوا قضاء الحق واعملوا إحساناً ورحمة كل إنسان مع أخيه. ولا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا الفقير ولا يفكر أحد منكم شراً على أخيه في قلبكم" (زكريا:7ـ9و10) {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السّبيل وما تفعلوا من خير فإنّ الله به عليم} (البقرة: 215) {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسّعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} (النور: 22). ومن يقرأ سفر تثنية الاشتراع في التوراة، وفيه حدود الله في المعاملات والعقود، وسورتي البقرة والنساء ولا يجد بينها علاقة وثيقة في التشريع والقضاء والأحكام؟ الحقيقة أنها متشابهة إلى حد بعيد جداً. وإليك شيئاً من هذه الموازاة الشرعية بين التوراة والقرآن:
    "ملعون من يضطجع مع امرأة أبيه، لأنه يكشف ذيل أبيه" (تثنية: 27 ـ 20) {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء إلاّ ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا} (النساء: 22) "وإذا اضطجع رجل مع امرأة أبيه فقد كشف عورة أبيه. إنهما يُقتلان كلاهما. دمهما عليهما. وإذا اضطجع رجل مع كنته فإنهما يُقتلان كلاهما. قد فعلا فاحشة. دمهما عليهما. وإذا اتخذ رجل امرأة وأمها فذلك رذيلة. بالنار يحرقونه وإياها لكيلا يكون رذيلة بينكم. وإذا أخذ رجل أخته بنت أبيه أو بنت أمه ورأى عورتها ورأت هي عورته فذلك عار يقطعان أمام أعين بني شعبهما. قد كشف عورة أخته. يحمل ذنبه. وإذا اضطجع رجل مع امرأة طامث وكشف عورتها عرى ينبوعها وكشفت هي ينبوع دمها يقطعان كلاهما من شعبهما. عورة أخت أمك أو أخت أبيك لا تكشف. إنه قد عرى قريبته. يحملان ذنبهما. وإذا اضطجع رجل مع امرأة عمه فقد كشف عورة عمه. يحملان ذنبهما. يموتان عقيمين. وإذا أخذ رجل امرأة أخيه فذلك نجاسة. قد كشف عورة أخيه. يكونان عقيمين" (لاويين: 20) {حرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمّهاتكم اللاّتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة وأمّهات نسائكم وربائبكم اللاّتي في حجوركم من نسائكم اللاّتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلاّ ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً} (النساء: 23) "لا يقترب إنسان إلى قريب جسده ليكشف العورة. أنا الرب. عورة أبيك وعورة أمك لا تكشف. إنها أمك لا تكشف عورتها، عورة امرأة أبيك لا تكشف. إنها عورة أبيك. عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة في البيت أو المولودة خارجاً لا تكشف عورتها. عورة ابنة ابنك أو ابنة ابنتك لا تكشف عورتها. إنها عورتك. عورة بنت امرأة أبيك المولودة من أبيك لا تكشف عورتها. إنها أختك. عورة أخت أبيك لا تكشف. إنها قريبة أبيك. عورة أخت أمك لا تكشف. إنها قريبة أمك. عورة أخي أبيك لا تكشف. إلى امرأته لا تقترب. إنها عمتك. عورة كنتك لا تكشف. إنها امرأة ابنك. لا تكشف عورتها. عورة امرأة أخيك لا تكشف. إنها عورة أخيك. عورة امرأة وبنتها لا تكشف. ولا تأخذ ابنة ابنها أو ابنة بنتها لتكشف عورتها. إنهما قريبتاها. إنه رذيلة. ولا تأخذ امرأة على أختها الضر لتكشف عورتها معها في حياتها. ولا تقترب من امرأة في نجاسة طمثها لتكشف عورتها. ولا تجعل مع امرأة صاحبك مضجعك لزرع فتتنجس بها". (لاويين: 18) ومن مقابلة هذه الآيات في التوراة والقرآن نجد موضوع التشريع واحداً والحدود واحدة. فلنر أمثلة أخرى: "وإذا باع رجل ابنته أمة لا تخرج كما يخرج العبيد. إن قبحت في عيني سيدها الذي خطبها لنفسه يدعها تفكّ. وليس له سلطان أن يبيعها لقوم أجانب لغدره بها" (خروج: 21) {والمحصّنات من النّساء (حرمت عليكم) إلاّ ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحلّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إنّ الله كان عليماً حكيماً} (النساء: 24) "إن اتخذ لنفسه أخرى لا ينقص طعامها وكسوتها ومعاشرتها" (خروج: 21) {وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} (النساء: 3). "إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر فإن أبغضها الرجل الأخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجة بعد أن تنجست، لأن ذلك رجس لدى الرب" (تثنية: 24 ـ 1 ـ 4) {فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره فإن طلّقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنّا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبيّنها لقوم يعلمون} (البقرة: 230). والحكم في القرآن هو العكس تماماً لما في التوراة، ولكن مقصد الشارع واحد وهو تقييد الطلاق. وهكذا فسر مفسرو المحمدية حكم هذه الآية. وورد في القرآن في ما يختص بالطمث الوارد عنه في التوراة، وهو مثبت فوق، هذه الآية: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتى يطهرن فإذا تطهّرن فأتوهنّ من حيث أمركم الله إنّ الله يحبّ التّوّابين ويحبّ المتطهّرين} (البقرة: 222).
    ووردت أيضاً مشابهات أحكام الزنى والربا والسرقة وما شاكل من قوانين الجزاء. ولا نطيل الشرح في أن هذه الآيات التشريعية متساوية في الأساس، متشابهة في الشكل في ما يختص بالحالة الشرعية للأزواج والإماء وفي ما يختص بالمحللات والمحرمات في المأكل. ونضيف إلى هذا الاتفاق في المذهبين في الأحوال المدنية والشخصية الاتفاق في شؤون الدولة الدينية:
    "ومن وسط أخوتك تجعل ملكاً عليك. لا يحلّ لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبياً ليس هو أخاك (أي أخاك في ملتك)". وهذه الوصية من سفر التثنية الأصحاح (17 ـ 15). ويقابلها في القرآن: {الذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزّة للّه جميعاً} (النساء: 139)... {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا للّه عليكم سلطاناً مبيناً} (النساء: 144). في هذا القدر كفاية لإثبات اتفاق الملتين الموسوية والمحمدية في أساس تشريعي واحد. وسيأتي تبيان أسباب هذه الاتفاقات والمشابهات في ما يلي من هذا البحث.
    ما لم يعط للجهّال
    وجدنا، من مقابلة أحكام القرآن وحدوده على أحكام التوراة وحدودها، أن نصوص الشريعتين الموسوية والمحمدية واحدة مع فوارق شكلية قليلة لا تغير شيئاً من وحدة الأساس. فالله قد أوحى، إلى محمد في القرآن، الشريعة عينها التي أوحاها إلى موسى وجميع النبيين الذين تقدموا محمداً، كما هو مثبت في القرآن. والله قد أوحى إلى محمد آياتٍ مسيحية أيضاً، ولكن الشعب الذي أرسل إليه محمد لم يكن من الإدراك والثقافة بحيث يميل إلى الأخذ بالتعاليم العليا، وكانت حاجته ماسّة إلى الأساس القانوني الذي يجمع بين قبائله المتشعّثة، ويضمن العلاقات ويحدد طرق المعاملة، فلا تكون معلقة على تعاليم الفلسفة المناقبية التي علمها المسيح وجعلها تاجاً للشريعة وحكماً عليها. وكان الانتصار الأول للثقافة النفسية على حدود الشرع الجامدة. فانتصار العقل على الشرع حدث أولاّ بظهور التعاليم المسيحية؛ وأعظم أسباب نقمة اليهود على المسيح هو كونه خرج على نصوص الشرع وقال بتأويل الشرع لما يفيد الحياة ويحسّنها، بدلاً من التقيد بالنصوص، كما هو الحال في القرآن والتوراة. المسيح هو الذي قال: "لا تحكموا بحسب الظاهر، لكن احكموا حكماً عادلاً"(يوحنا 7 ـ 24) وهو قال هذا القول لأن اليهود نقموا عليه لإبرائه إنساناً يوم السبت المحرم العمل فيه عند اليهود حسب شريعة موسى، وكان قد قال قبل هذه الآية: "إن موسى أعطاكم الختان، لا انه من موسى بل من الآباء فتختنون الإنسان في السبت. فإن كان الإنسان يختن في السبت لئلا تنقض شريعة موسى أفتسخطون عليَّ لأني أبرأت الإنسان كلّه في السبت؟" (يوحنا: 7 ـ 22و23) وكان اليهود يعترضون، ليس فقط على إبراء الرجل في السبت، بل أيضاً على حمل الرجل سريره بعد شفائه، لأنه لم يكن يجوز في شريعة موسى أن يعمل شيء يوم السبت. وكان الكتبة والفريسيون يجادلون المسيح دائماً ويحاولون أن يأخذوه بجريرة مخالفة الشريعة. والإنجيل مشحون بهذه المحاولات. وأهمّ محاولة كانت هذه: "ومضى يسوع إلى جبل الزيتون. ثم رجع باركاً إلى الهيكل، فأقبل إليه الشعب كلهم فجلس يعلّمهم. وقدم الكتبة والفريسيون إلى يسوع امرأة أخذت في زنى وأقاموها في الوسط. وقالوا يا معلم، إنّ هذه المرأة قد أخذت في الزنى. وقد أوصى موسى في الناموس (الشريعة) أن ترجم مثل هذه، فماذا تقول أنت؟ وإنما قالوا هذا تجريبياً له ليجدوا ما يشكونه به. أما يسوع فأكبَّ يخطّ بإصبعه على الأرض. ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم: "من كان منكم بلا خطيئة فليبدأ ويرمها بحجر". ثم أكبّ أيضاً يخطّ على الأرض. أما أولئك فلما سمعوا طفقوا يخرجون واحداً فواحداً، وكان الشيوخ أوّل الخارجين. وبقي يسوع وحده والمرأة قائمة في الوسط. فانتصب يسوع وقال لها: "يا امرأة أين الذين يشكونك، أما حكم عليك أحد؟". قالت: "لا يا رب" فقال يسوع: "ولا أنا أحكم عليك، اذهبي ولا تعودي تخطئين"." (يوحنا: 8 ـ 2 ـ 11). في هذا المثل يظهر الصراع بين العقل والشرع بأجلى مظاهره. الشرع واضح لا شكّ فيه: الزانية ترجم في التوراة وفي القرآن تجلد كما جاء في الآية: {الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} (النور: 2) فلم يقتصر المسيح على قوله المطلق: "لا تحكموا بحسب الظاهر، لكن احكموا حكماً عادلاً"، بل وقف وحمل مسؤولية كلامه. ولم يضع شريعة جديدة تحلّ محلّ الشريعة السابقة في أمر الزنى، بل علّم بتحكيم العقل ليكون الحكم عادلاً وإن خالف نص الشريعة. وهو ما لم يجر مثله في القرآن أو الحديث وذلك لما بيناه آنفاً من أن محمداً أرسل إلى قوم كانوا مضطرّين إلى ما كان مضطرّاً إليه العبرانيون: شريعة توجد لهم نظاماً يوضح لهم المعاملات والحدود والجزاء، بدلاً من عادات الثأر والغزو واستبداد القويّ التي لا تقيم نظاماً، ولذلك نشأ هذا التوافق الكليّ بين الشريعة المحمدية والشريعة الموسوية في الشرع حتى في الجزاء ونوعه، كما في الآية: {يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى الخ} (البقرة: 178) وفيها جوهر الجزاء المذكور في شريعة موسى. وهذا يؤيّد كون محمد أرسل ليهدي بيئة لم تكن لها شريعة من قبل، وإلاّ لما وجد الوحي حاجة لتكرار ما ورد في التوراة وجاء محمد مصدقاً له. وإذا كان قد بقي في ذهن أحد شيء من الشك في ما نقوله، حتى بعدما أوردناه من الآيات القرآنية فإننا نؤيده بآيات أخرى كهذه الآيات: {وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربيّاً لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنّة وفريق في السّعير} (الشورى: 7) وهذه الآية هامة جداً، لأنها مكية، أي من الآيات التي لم يكن قد دخل فيها العامل السياسي الذي نلحظه في الآيات المدنية. {فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} (النساء: 41) {ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولاً الخ} (النحل: 36). وقد أثبتنا في حلقة سابقة من هذه السلسلة(14حلقة) شيئاً من وصف القرآن لبيئة محمد. ولعل هذه الآية تعطي وصفاً أدقّ لتلك البيئة: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إنّ الله غفور رحيم} (الحجرات: 14). هذه البيئة العريقة في البداوة لم تكن مؤهّلة لإدراك الإيمان الروحي وفهم تعاليم الفلسفة المناقبية. إنها بيئة لا تزال دون مرتبة هذه الفلسفة بمراتب. ولذلك أخذت السّور المدنية وجهة أقرب إلى البيئة وعقليتها من وجهة السّور المكية. ولذلك كان ظهور روحانية الرسالة المحمدية خارج العربة في سورية وفارس والأندلس. أما أهل العربة فظلوا تحت حكم الآية المذكورة أخيراً إلى اليوم، أي انهم أسلموا ولكن الإيمان الحقيقيّ لما يدخل قلوبهم. وهذه الحالة التي يشجبها القرآن هي التي يمدحها صاحب الحارضة الهجائية الذي لم يفهم من الإسلام إلاّ بقدر ما فهمته الأعراب، ولم يعرف شيئاً صحيحاً عن المسيحية أو عن المحمدية، وكان أحوج الناس إلى سماع محاضرات في هذين المذهبين ونشأتهما وطبيعة كلّ منهما، ولذلك قال عن الإسلام المحمديّ الذي وضع شرعاً يسمونه في علم الحقوق والسياسة "جامداً Rigido" إنه وضع القواعد الروحية ـ الفكرية للتغلب على الشرع، وقال عن المسيحية التي علّمت تعاليم فلسفية مناقبية لتأويل الشرع على ما يوافق الأفضل للحياة الجيدة حسب حكم العقل إنها دين "يقتل المواهب ويهيض الأجنحة ويعصب على العيون الخ". بعد الذي بيّناه في ما تقدم من هذه الحلقة نعود إلى نقطة هامة جداً وعدنا، في الحلقة السابقة، أن نعالجها في هذه الحلقة، وهي: أسباب الاتفاقات والمشابهات بين الرسالتين الموسوية والمحمدية اللتين لهما أساس واحد هو الشرع الذي رأينا أن أحكامه واحدة في التوراة والقرآن. ألمعنا في ما تقدم من هذا البحث، خصوصاً في الحلقتين الأخيرتين، إلى أن الرسالة المحمدية هي أيضاً رسالة روحية تتجه في اتجاه الرسالة المسيحية عينه، ولكنّها اضطرّت لأخذ الأساس المادي بعين الاعتبار وتقديمه في المعالجة على البناء الروحي. والحقيقة أن الرسالة القرآنية تقسم إلى قسمين: القسم الأول وهو المكيّ السابق للهجرة وفيه الآيات المكية المتجهة اتجاهاً روحياً على قدر ما تسمح به عقلية البيئة المحدودة العلوم والمعارف والاختبارات والأفكار والتصورات، والقسم الثاني هو المدنيّ المشتمل على الآيات المدنية والمتّجه نحو شؤون أوليات الاجتماع وضروريات بداءة إنشاء نظام اجتماعي عام يشمل جميع العرب ويحل محل العادات والعرف المقتصرة على القبائل وعلى حالات قليلة تقوم عليها الصّلات بين القبائل التي كانت قبيلة منها كأنها أمة ودولة قائمة بنفسها لا يجمع بينها غير عادة أو فريضة الحج إلى الكعبة والاصطلاح على ترك الغزو والثأر في شهر معيّن من السنة. وفي هذا القسم يظهر عاملان رئيسيان هما: التشريع والسياسة. أما التشريع فلإقامة نظام عام يلغي خصوصيات القبائل ويوحّد العرب. وأما السياسة فلجعل نجاح الرسالة ونظامها ممكناً. وهذا العامل الأخير يظهر في أمر الجهاد الذي يُغري العرب بالغزو والسلب، وقد ظهر تأثير هذه الناحية في يوم بدر ويوم أحد، وفي تشويق العرب بصور الجنة المادية وفي التساهل في شؤون حياتهم، خصوصاً في النساء وتعدّد الزوجات، مراعاة لشهوات الصحراء الحادة ولاقتصار شؤون حياة العرب على الغزو والسبي والسلب ووقوف حياتهم الفنية والروحية على الفرس والرمح والمرأة. والمرأة أو أنوثتها كانت أقوى عامل في نفسية العربي، ولذلك اعتبر القرآن هذه الناحية مع ناحية الصور المادية للجنة حتى في الآيات المكية كما في قوله: {الّذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين. ادخلوا الجنّة أنتم وأزواجكم تحبرون. يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين وأنتم فيها خالدون. وتلك الجنّة التي أورثتموها بما كنتم تعملون. لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون} (آيات متتالية من سورة الزخرف المكية: 69 ـ 73) وقوله: {إنّ المتّقين في مقام أمين. في جنّات وعيون. يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين. كذلك وزوّجناهم بحور عين. يدعون فيها بكلّ فاكهة آمنين. لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم} (سورة الدخان مكية: 51 ـ 56). التشريع في السّور المدنية مع العامل النفسي ـ السياسي الذي ازداد قوة في هذه السور هما اللذان أعطيا المحمدية أعظم فاعليتها. يضاف إلى ذلك كون النبي عربياً يخاطب جماعته رأساً: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة: 128) وبلغتهم {كتاب فصّلت آياته قرآناً عربيّاً لقوم يعلمون} (فصلت: 3) وكون الرسالة إلهية أقوى في النفوس على الأصنام. ولما كان هذان العاملان: التشريع والسياسة النفسية والعملية هما الأشد تأثيراً والأعظم شأناً في النفسية العربية العامة فقد قدّمت الآيات المدنية، حين جمع القرآن، على الآيات المكية إلا سورة الفاتحة، وهي آيات قليلة. والسبب هو أن السّور المدنية تشتمل على أصول المعاملات وقوانين العقود. وهي الممتازة بالحث والتحريض على الجهاد ومحاربة الكفار وزينة الجنة. وقد أثبتت التواريخ العربية لسير الحركة العربية وفتوحاتها شدة تأثير هذين العاملين في النفوس العربية وعظم فاعليتهما. من ذلك ما ورد في "فتوح الشام" للواقدي. وروايته أنه لما عزم الخليفة أبو بكر على فتح سورية بدأ يوجه إليه الجيوش، وكان أول من عقد له يزيد بن أبي سفيان على ألف فارس، وربيعة بن عامر على ألف فارس. فأخذ يزيد، وكان مقدّماً على ربيعة، يجد في السير ولا يرحم الجيش فخاطبه ربيعة في ذلك فقال: "إن أبا بكر، رضي الله عنه، سيعقد العقود ويرسل الجيوش فأردت أن أسبق الناس إلى الشام فلعلنا أن نفتح فتحاً قبل تلاحق الناس بنا فيجتمع بذلك ثلاث خصال: رضاء الله عز وجل ورضاء خليفتنا وغنيمة نأخذها" (انظر الواقدي. طبعة مصر. صفر 1354 هـ. ص4) وفي خبر نزال خالد بن الوليد لكلوس في حرب دمشق أن خالداً أجاب مُنازله: "وأما ما ذكرت من بلادنا وأنها بلاد قحطٍ وجوع فالأمر كذلك، إلاّ أن الله تعالى أبدلنا ما هو خير منه فأبدلنا بدل الذرة الحنطة والفواكه والسمن والعسل" وهو ما وجدوه في الشام (الواقدي ص19). وفي جواب خالد بن الوليد لوردان في واقعة دمشق: "إن الله، عز وجل أغنانا عن صدقاتكم وأموالكم، وجعل أموالكم نتقاسمها بيننا وأحل لنا نساءكم وأولادكم" (الواقدي ص37) ولما بلغت أخبار انتصارات المحمديين الأولى في سورية إلى مكة تحرك أكابرها وأقبلوا على أبي بكر، وفي طليعتهم أبو سفيان والغيداق بن وائل، يستأذنونه في الخروج إلى سورية. روى الواقدي (ص39) "فكره عمر بن الخطاب خروجهم إلى الشام وقال لأبي بكر: "لا تأذن للقوم فإن في قلوبهم حقائد وضغائن، والحمد للّه الذي كانت كلمته هي العليا وكلمتهم هي السفلى وهم على كفرهم وأرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره، ونحن مع ذلك، نقول: ليس مع الله غالب. فلما سمعوا أن الله أعز ديننا ونصر شريعتنا أسلموا خوفاً من السيف فلما سمعوا أن جند الله قد نصروا على الروم أتونا لنبعث بهم الأعداء ليقاسموا السابقين الأولين" فسمع أبو بكر كلام عمر بن الخطّاب وأدرك أهل مكة السبب فاجتمعوا إلى أبي بكر وتظاهروا أمامه بصدق إسلامهم فرضي عليهم أبو بكر. هذه أمثلة من أمر تأثير الجهاد وما يجلبه من الغنائم. أما أمر الجنة ونعيمها المادي وزينتها فقد روى الواقدي (ص 53) أنّ رافع بن عميرة، أحد أبطال المسلمين حدّث عن حزنه على موت يونس(3) في الحرب قائلاً: "فحزنت عليه وأكثرت من الترحّم عليه فرأيته في النوم وعليه حللٌ تلمع،وفي رجليه نعلان من الذهب وهو يجول في روضة خضراء فقلت له: "ما فعل الله بك؟" قال: "غفر لي وأعطاني بدلاً من زوجتي سبعين حوراء لو بدت واحدة منهن في الدنيا لكفَّ ضوء وجهها نور الشمس والقمر، فجزاكم اللّه خيراً" فقصصت الرؤيا على خالد (بن الوليد) فقال "ليس لي والله سوى الشهادة طوبى لمن رزقها".
    ولم يتمكن منه المنافقون
    لا بأس من إيراد بضعة شواهد أخرى تعزيزاً لصدق التعليل الذي نعلله، وتأييداً لصحة النتائج التي نستنتجها، في صدد العامل السياسي النفسي للدعوة المحمدية والحركة الإسلامية، أي عامل الجهاد ومغانمه في هذه الدنيا، وثواب الجنة ولذّاتها. نورد هنا كتاب خالد بن الوليد الذي كتبه إلى الخليفة أبي بكر، الذي كان قد توفّي ولم يبلغ خالداً خبر وفاته، يخبره بدخوله دمشق فاتحاً. وهذا نص الكتاب كما ورد في تاريخ الواقدي ص 53: "بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من عامله على الشام خالد بن الوليد (وكان أبو عبيدة ما يزال كاتماً عنه أمر الخليفة عمر بن الخطاب بعزله وتولية أبي عبيدة مكانه) أما بعدُ سلام عليك فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، ثم إنّا لم نزل في مكايدة العدو على حرب دمشق حتى أنزل الله علينا نصره وقهر عدوه وفتحت دمشق عنوة (والواقع بخيانة القسيس يونس كما هو مثبت في التاريخ المذكور عينه) بالسيف من باب شرقي وكان أبو عبيدة على باب الجابية فخدعته الروم وصالحوه على الباب الآخر ومنعني أن أسبي وأقتل. ولقيناه على كنيسة يقال لها كنيسة مريم وأمامه القسوس والرهبان ومعهم كتاب الصلح. وإن صهر الملك توما وآخر يقال له هربيس خرجا من المدينة بمال عظيم وأحمال جسيمة فسرت خلفهما في عساكر الزحف وانتزعت الغنيمة من أيديهما وقتلت الملعونين الخ". وكان أن الخليفة عمر غضب لعدم تبليغ المسلمين خبر وفاة أبي بكر وقيامه خليفة من بعده وأمره بعزل خالد بن الوليد من إمارة المسلمين في سورية وبإقامة أبي عبيدة بن الجراح أميراً بدلاً منه. وفي اليوم التالي لورود كتاب خالد بن الوليد المذكور آنفاً صلى صلاة الفجر. روى الواقدي: "وقام فرقي المنبر خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، فصلى عليه وترحم على أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، ثم قال: أيها الناس، إني حملت أمانة عظيمة. إني راع، وكلّ راع مسؤول عن رعيته، وقد جئت لإصلاحكم والنظر في معايشكم وما يقربكم إلى ربكم أنتم ومن حضر في هذا البلد، فإني سمعت رسول الله, صلى الله عليه وسلم، يقول: "من صبر على أذاها وشرها كنت له شفيعاً يوم القيامة" وبلادكم بلاد لا زرع فيها ولا ضرع ولا ماء أو قربه الإبل إلا من مسيرة شهر. وقد وعدنا الله مغانم كثيرة وإني أريدها للخاصة والعامة الخ" (الواقدي ص 55). الشاهدان المذكوران فوق ليسا قول من لا شأن له من عامة الناس وجهلتهم، بل هما قول خليفة وقول أمير جيوش اشتهر بلقب "سيف الإسلام". ويحسن أن نضيف شاهدين آخرين ليتيقن القارئ من مقدار تأثير زينة الجنة، فضلاً عن الغنائم والسبي، على نفوس المجاهدين:
    سار عبد الله بن جعفر ليلحق بالمجاهدين، وكان أبوه قد قتل في تبوك. فلما بلغها طلب أن يدلّوه على قبر أبيه فنزل عليه وأقام عنده ومعه عبد الله بن أنيس الجهني وصحبه إلى الصبح. فلما رحلوا في الصباح نظر ابن أنيس وإذا عبد الله بن جعفر يبكي ووجهه مثل الزعفران، فسأله ابن أنيس عن ذلك فقال: "رأيت أبي البارحة في النوم وعليه حلتان خضراوان وتاج، وله جناحان وبيده سيف مسلول أخضر، فسلمه إليّ وقال: يا بنيّ قاتل به أعداءك فما وصلت إلى ما ترى إلاّ بالجهاد" (الواقدي ص 60) وفي وقعة اليرموك أخذ أبو هريرة يحرِّض قومه على القتال ويقول: "أيها الناس، سارعوا إلى معانقة الحور العين في جوار ربّ العالمين" (الواقدي ص 127). أثبتنا الشواهد والتفاصيل المتقدمة. هنا وفي ما سبق، لكيلا يظن أحد أننا نرسل الكلام اعتباطاً ونبني تآويلنا واستنتاجاتنا على الظن والوهم كما فعل رشيد سليم الخوري حين أخذ يهرف عن الإسلام المحمدي بما لا يعرف، ويرمي المسيحية بما هي براءٌ منه في حارضته التي سماها "محاضرة". والآن نعود إلى التشريع، بعد أن أظهرنا أهميته للعرب الذين لم يكن لهم ما كان للسوريين من الشرع المدني. ونريد أن نبين في ما يلي أسباب وحدة الشرع في الدينين الموسوي والمحمدي، وأسباب أهمية الشرع وتقديمه عند العرب على غيره من الرسالة الإسلامية بإثبات السّور التشريعية في صدر القرآن مع أن حقَّها، من الوجهة التاريخية والروحية، أن تكون في عجزه. قلنا قبلاً "إن محمداً أرسل إلى قوم كانوا مضطرين إلى ما كان مضطراً إليه العبرانيون: شريعة توجد لهم نظاماً يوضح لهم المعاملات والحدود والجزاء، بدلاً من عادات الثأر والغزو واستبداد القوي التي لا تقيم نظاماً. ولذلك نشأ هذا التوافق الكلي بين الشريعة المحمدية والشريعة الموسوية حتى في الجزاء ونوعه" الخ.. وإننا نجعل هذا القول نقطة الابتداء في هذا الموضوع الهام. ولكيلا يبقى مجال لحسبان القول المتقدم مجرد استبداد مبنّي على الافتراض نعرض لشأن العبرانيين أولاً.
    عن هذه الجماعة، وكله أو جلّه مبنيٌّ على روايات كتَّابهم في التوراة، أنها في الأصل عائلة يعقوب انتقلت، بسبب قحط أصاب الأرض، إلى مصر حيث كان يوسف أحد أبناء يعقوب قد حصل على مركز وزير عند فرعون، وأنها تكاثرت في مصر وصارت شعباً كثيراً استعبده المصريون حتى جاء موسى مرسلاً من الله وأنقذه من العبودية تحت حماية يهوه الذي أغرق فرعون ومركباته في البحر. ثم أن موسى أبقى هذا الشعب في صحراء سينا أربعين سنة عاش فيها على المن والسلوى، وبعدها أخذ يتأهب لاقتحام "أرض الميعاد" وفي أثناء وجود هذه الجماعة في الصحراء السينائية تقدم موسى إليها بالمواد الشرعية الأولى: الوصايا العشر؛ وتبعتها الأحكام التفصيلية المشتملة على الجزاء (العقوبات) وعلى قوانين المعاملات والعقود. هنا يخطر للباحث المدقق سؤالٌ هامٌّ جداً وهو: ألم يكن عند المصريين، الذين كانوا قد أسسوا دولة، شرائع اقتبسها أو اقتبس بعضها عنهم الإسرائيليون، حتى وجب أن يعلمهم الله أوليات النظام الاجتماعي المدني، كأن يكرم الواحد أباه وأمه، وأن لا يسرق، ولا يكذب، ولا يشهد بالزور، وأن لا يزني الخ؟ ألم يكن العبرانيون متبعين عادات وقوانين مدنية مصرية؟ لا تشير التوراة إلى شيء واضح عن النظام الذي كان يعمل به الإسرائيليون قبل هبوط الوحي على موسى في طور سيناء، وهبوط الوحي بالوصايا العشر يدل على أن اليهود لم يكونوا يعرفون أو يعملون بهذه الأوليات كقاعدة عامة في حياتهم. وهنا يبدأ الشك في أنّ اليهود كانوا أو عرفوا مصر قبل دخولهم أطراف القسم الجنوبيّ من سورية. ويأخذ هذا الشك يتأيد في عدم وجود ذكر أو دليل لمأساة البحر الأحمر التي تُشير إليها التوراة ويؤيدها القرآن. فلا يوجد فرعون واحد هلك في البحر في تتبعه شعباً غريباً هارباً من مصر. والمرة الوحيدة التي تتبع فيها المصريون قوماً غرباء كانت حين انتقض المصريون على دولة الهكسوس السورية التي اجتاحت مصر وأخضعت المصريين إلى أن ثار عليها هؤلاء وتغلبوا عليها، فرجع الهكسوس إلى سورية وتبعهم المصريون وحاربوهم في وادي مجدّو، وتبعوهم إلى الشمال. وقد حاول بعض مؤرخي العبرانيين أن يوجدوا صلة بين تاريخهم وتاريخ الهكسوس، ولكن الأدلة التاريخية جاءت ضد هذه المحاولة التي لم تكن الأولى من نوعها لانتحال العبرانيين تواريخ الأقوام المجاورة. الأرجح، في هذا الصدد، هو ما ذهب إليه المستشرق المحقق الكبير غيتاني (Gaetani) في كتابه (Studi du storia orientale) الذي يجزم بأن اليهود أو العبرانيين لم يكونوا قط في مصر، مستنداً إلى تحقيقات تاريخية وجيولوجية وجغرافية. فهو يثبت أن العبرانيين لم يكونوا سوى قبائل بدوية موقعها شمال شرق سورية في بقعة كانت تدعى قديماً "مصرو" (Misru)، وأن اليهود تعمدوا الخلط بين هذه البقعة ومصر المعروفة اليوم ليوسعوا تاريخهم وليتمكنوا من انتحال حكاية يوسف التي نقلوها مما بين النهرين وجعلوا حوادثها تجري بين سورية ومصر. ويؤيد هذه النظرية ما ورد في المراسلات المكتشفة في تل العمارنة في مصر التي تبودلت بين أمراء فينيقيين والفرعون، وفيها أخبار غزو قبائل "الحبيرو" أي البدو لبعض القرى والمدن الجنوبية. فاليهود لم يكونوا، قبل مجيئهم إلى سورية، يعرفون نظاماً اجتماعياً مدنياً، لأنهم كانوا في حالة بداوة بربرية، ولم يكونوا قد تمدنوا لا في مصر ولا في مكان آخر؛ فهم، والحالة هذه، كانوا يشبهون العرب من كل وجه في ما يختص بمرتبتهم الاجتماعية وحاجاتها؛ فلم يكن لهم قوانين وأنظمة عامة تضبط معاملاتهم وتعاقب مجرميهم بدلاً من ترك أمرهم لعادة الثأر. فلما أصبحوا على حدود المدنية السورية وصحَّ عزمهم على دخولها والتحضر في سورية وجدوا أن حاجتهم الأولى هي إلى نظام يؤهلهم لذلك. وكان للكنعانيين (سوريِّي الجنوب) نظامٌ اجتماعيٌّ راق وقانونٌ مدني وجزائيٌّ ينص على المعاملات والعقود والعقوبات، كما أثبت ذلك الأستاذ ألمستد أستاذ التاريخ القديم في جامعة كولومبيا، الولايات المتحدة، وهو أحد معاوني المحقق التاريخي الشهير برستد. وقد أثبت الأستاذ ألمستد هذه الحقيقة في كتابه بالإنقليزية "تاريخ فلسطين وسورية حتى الفتح المكدوني" ومن مقابلة الشرع الموسوي على الشرع الكنعاني نجد أن ذاك استمدَّ نظرياته وأحكامه من هذا. ولما لم يكن اليهود أهل تمدُّن من قبل، لم يكن من السهل أخذهم بالنظام المدنِّي والعمل به. فكان لا بد من إخضاعهم للشريعة إخضاعاً. وهذا الإخضاع لا يمكن أن يكون بواسطة شرطة وقضاء وسلطة لأنهم كانوا قبائل لا تعرف نظاماً مدنياً، وكل ما تعرفه عادات بسيطة وعرف لا تضبط التصرفات والأعمال ولا تعين الحقوق الفردية. فبأية واسطة، إذاً، يمكن إخضاعُهم؟ بواسطة سلطة خفية رهيبة وغير منظورة: الله، يهوه الذي ينتقم من المخالفين للشرائع والأحكام، المفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع. وهكذا تحولت الشريعة الكنعانية المدنية القابلة للتطور والتغير حسب تطور الاجتماع والعمران، لأنها صنع بشر، إلى شريعة دينية جامدة (Rigida) لا تقبل التطور والتغير، لأنها صارت أحكام الله الكلي المعرفة القادر على كل شيء، المعصوم عن الغلط. ومع أن هذا التحويل كان يقضي بجمود الشرع فلم يكن هناك طريقة أخرى لإعطاء اليهود شريعة تجمع أسباطهم وتوحّد أمرهم. هذه هي الطريقة الوحيدة لجميع الشعوب والقبائل التي ما تزال في حالة بداوة أو بربرية. وقد عرض ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة، لهذه الحالة فكتب الفصل السابع والعشرين من الفصل الثاني من الكتاب الأول لمقدمته وجعل عنوانه "في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلاّ بصبغة دينية من نبّوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة" وذكر ابن خلدون سبب ذلك بقوله: "السبب في ذلك أنهم، لخلق التوحش الذي فيهم، أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض الخ" وفات ابن خلدون أن يذكر في الأسباب سبب فقدان النظام الاجتماعي التمدني، ولسنا هنا في مجال يسمح بالإطالة في هذا الصدد. يضعنا كلام ابن خلدون المذكور آنفاً في موضع النظر في العرب وشؤونهم. وهو نفسه يقودنا في هذا الطريق فيصف العرب من حيث توحّشهم وغلظتهم وصعوبة مراسهم. ولكننا نحن لا نريد التوغل في مسائل الطباع، بل نكتفي بالقول أنّ حالتهم البدوية لا تسمح بتولّد شريعة بينهم ترقيّ حياتهم بالنموّ الاجتماعي والاختبارات الاجتماعية المقتصرة على حالات أولية معدودة ومحدودة. وفرض شريعة عليهم تمنعهم من وأد بناتهم، ومن أخذ الأختين زوجين، ومن الثأر بلا حساب، وتخضعهم لقانون واضح ينصّ على المعاملات والعقود والعقوبات، لم يكن ممكناً إلاّ عن طريق الدين. والدين ما كان يمكن أن يكون مفهوماً عندهم عن غير طريق المعاملات والعقود والوعود بالجزاء الماديّ الحسن، كأكل الفاكهة في الجنة ولبس السندس، كل ذلك في جنات وعيون يتزوجون فيها بحور عين. ولولا الشرع الذي تكرر إيحاؤه لمحمد بعد موسى لما كان حصل اجتماع أمر العرب في الإسلام. ولولا النظام الذي دعا إليه محمد لما كان ممكناً أن تنجح الفتوحات المحمدية ويثبت أمر المحمديين فيها، بل لكنا رأينا العرب يتزاحمون على الأسلاب والغنائم لا يردعهم رادع ولا يزعهم وازع فيتفككون بأسرع من لمح البصر. ولما كانت حالة العرب تقتضي ما اقتضته حالة العبرانيين فقد تكرر لهم الشرع عينه الذي أوحي للعبرانيين بواسطة موسى. ولذلك نرى الشريعتين الموسوية والمحمدية تنصّان على حالة واحدة أحكاماً واحدة. وهذه الحالة هي حالة أولية يحتاج فيها الناس لمثل هذه الأحكام. وقد يعجب السوريّ المتمدن لماذا وجب أن تنص الشريعتان الموسوية والمحمدية على عدم جواز الجمع بين الأختين، مثلاً. ولكي يزول عجبه نقول إنّ ذلك كان ضرورياً. ومثل الحالات التي نص عليها القرآن كان ما يزال واقعاً حتى في أيام الخليفة عمر بن الخطاب وبعدها، وإثباتاً لهذه الحقيقة نثبت ما أورده الواقدي في الصفحة 149 من تاريخه المذكور: "قال عمرو بن مالك العبسي: كنت مع عمر بن الخطاب حين سار إلى الشام فمرَّ على ماء لجذام عليه طائفة منهم نزول. والماء يدعى ذات المنازل. فنزل (عمر) بالمسلمين عليه، فبينما هو كذلك وأصحاب رسول الله, صلى الله عليه وسلم، حوله إذ أقبل إليه قوم من جذام فقالوا: يا أمير المؤمنين إن عندنا رجلاً له امرأتان وهما أختان لأبٍ وأمٍّ. فغضب عمر وقال: عليَّ به، فأتي قال: فهل بينهما قرابة؟ قال: نعم، هما أختان قال عمر: فما دينك، ألست مسلماً؟ قال: بلى. قال عمر: وما علمت أن هذا حرامٌ عليك، والله يقول في كتابه: "أن تجمعوا بين الأختين إلاّ ما قد سلف"؟ فقال الرجل ما علمت وما هما علي بحرام. فغضب عمر وقال: كذبت، والله إنه لحرامٌ عليك ولتخلينَّ سبيل إحداهما وإلاّ ضربت عنقك. قال الرجل: أفتحكم علي؟ قال أي والله الذي لا إله إلاّ هو. فقال الرجل: إن هذا دينٌ ما أصبنا فيه خيراً، ولقد كنت غنياً عن أن أدخل فيه. قال عمر: ادنُ مني. فدنا منه، فخفق رأسه بالدرة خفقتين. وقال له: تتشاءم بالإسلام يا عدوَّ الله وعدو نفسه وهو الدين الذي ارتضاه الله لملائكته ورسله وخيرته من خلقه؟ (شعب الله الخاص) خلّ، يا ويلك، سبيل إحداهما وإلاّ جلدتك جلدة المفتري! فقال الرجل: كيف أصنع بهما وإني أحبهما، ولكن أقترع بينهما، فمن خرجت القرعة عليها كنت لها وهي لي، وإن كنت لهما جميعاً محباً. فأمر عمر فاقترع فوقعت القرعة على إحداهما فأمسكها وأطلق سبيل الثانية. ثم أقبل عليه عمر وقال: اسمع يا ذا الرجل وَع ما أقول لك، إنه من دخل في ديننا ثم رجع عنه قتلناه، فإياك أن تفارق الإسلام، وإياك يبلغني أنك قد أصبت أخت امرأتك التي فارقتها، فإنك إن فعلت ذلك رجمتك". "وسار عمر حتى إذا كان بوادي القرى أخبروه أنّ شيخاً على الماء وله صديقٌ يودُّه، فقال صديقه: هل لك أن تجعل لي في زوجتك نصيباً وأكفيك رعيك إبلك والقيام عليها ولي فيها (الزوجة) يومٌ وليلة، ولك فيها يومٌ وليلة؟ قال الشيخ: قد فعلت ذلك ورضي، فلما أخبر عمر بذلك أمر بهما فأحضرا فقال: يا ويلكما، ما دينكما؟ قالا: الإسلام. قال عمر: فما الذي بلغني عنكما؟ قالا: وما هو؟ فأخبرهما عمر بما سمعه من العرب. فقال الشيخ: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين. فقال عمر: أما علمتما أن ذلك حرامٌ في دين الإسلام؟ قالا: لا والله، ما علمنا ذلك. فقال عمر للشيخ: وما دعاك أن صنعت هذا القبيح؟ قال: أنا شيخ كبير ولم يكن لي أحد أثق به وأتكل عليه فقلت: يا هذا، أتكفيني الرعي، والسقي وتعينني على دوابِّي وأنا أجعل لك نصيباً في امرأتي؟ والآن علمت أنه حرامٌ فلا أفعله. فقال عمر: خذ بيد امرأتك فلا سبيل لي عليها (أي إنها غير زانية) ثم قال للشاب: إياك أن تقرب منها، فإنه إن بلغني ذلك ضربت عنقك ثم ارتحل عمر". وفي هذين المثلين صورة واضحة للحالة التي شرَّع لها الإسلام في العربة. وهي الحالة عينها التي شرَّعت لها الموسوية.
    خرقاء ذات نيفة

    إن هذا البحث العلمي الجديد بنظرياته ومعلوماته لا يُتوخَّى منه غير جلاء الحقيقة في طبيعة الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية على ضوء عناصر كل منهما كما هي في ذاتها. وهذا الدرس العظيم الأهمية البعيد عن كل تأثير ديني لا يقصد تفضيل أحد المذهبين الجليلين على الآخر، بل يقصد تبيان تلاحم هذين المذهبين مع إظهار علاقة كل منهما بالمرتبة الاجتماعية للبيئة التي نشأ فيها وعلاقة الآيات والتعاليم لكلّ من المذهبين بمرتبة بيئته من الوجهة التاريخية. وقد قال الكاتب قبلاً "لو أن المسيح ومحمداً تبادلا الرسالة، فظهر المسيح في العربة وظهر محمد في سورية لما كانت رسالة المسيح ابتدأت على الدرجة العالية التي ابتدأت بها في سورية، ولما كانت رسالة محمد ابتدأت على الدرجة الأولية التي ابتدأت بها في العربة" وهذا القول ينفي كل فكرة تفضيل للواحد على الآخر أو للرسالة الواحدة على الأخرى، ويجعل أية مقابلة أو مقارنة بين الرسالتين مقصورة على الحالة الاجتماعية والمرتبة الاقتصادية التي نشأت منها كلٌّ من الرسالتين وأوجبتا أن يكون نهج الرسالتين مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بهما. فالمقابلة ليست بين المسيح ومحمد، بل بين سورية والعربة من حيث هما وضعان اجتماعيان متباينان اقتضى كل منهما منحى خاصاً في الدين. أما الرسالتان الدينيتان فغرضهما وجوهرهما واحد كما سبقت الإشارة وكما سيجيء. فنحذِّر القراء من المتعيشين بالتعصب الديني الذين يحاولون إيجاد تأويل فساد لكل نظرية صحيحة بقصد إثارة الفتنة والاصطياد في الماء العكر. أظهرنا، في ما تقدم، حالة العربة الاجتماعية ـ الروحية التي أوجبت اهتمام الرسالة الإسلامية المحمدية اهتماماً كلياً، أساسياً، جوهرياً بالقضية المادية ووجوب تنظيم شؤونها العملية تنظيماً حقوقياً، قانونياً يعمل به جميع العرب فيرقّي شؤونهم الاجتماعية ويوسع نظرتهم الإنسانية ويقربهم من الحياة الروحية على قدر المستطاع؛ وهذا لا يعني أن النبي العربي لم يكن مدركاً سمو النظرة الروحية في الشؤون الإنسانية، بل يعني أنه رأى لزوم الاهتمام بالأوليات وأنّ الرسالة الإسلامية المحمدية رأت أن تتناول الجماعة الإنسانية المختصة بها من عند درجة مداركها وشؤون حياتها في حين أنها لم تغفل المطالب الروحية العليا. وقد توسعنا في تفصيل هذه الحقيقة لكي نضع أمام السوريين درساً علمياً يفيدهم في فهم خصائص ملتين يكاد لا يخلو مجمع من مجامعهم من بحثهما وبحث القضايا الاجتماعية ـ السياسية التي ولدَّها متجاورين ومتلاصقين، خصوصاً في سورية التي لا يمكن معالجة قضاياها القومية ـ السياسية من غير تناول مشكل التحزبات الدينية ونظرياتها الأساسية والعارضة. وأهمية هذا البحث تجعلنا نعتقد بأن صرف النظر عنه إلى شؤون السياسة الخارجية والوطنية الاعتباطية لا يساعد على حل قضايانا القومية الحقوقية والسياسية والاقتصادية. فرسالة البعث القومي الاجتماعي إلى السوريين ليست متولدة من مجرد كرهٍ للأجنبي، بل من رغبة روحية لا تعود تتمكن المطامع الأجنبية من تفسيخها وإضعافها. إن أساسنا القومي الاجتماعي يجب أن يكون في وحدتنا الروحية الكلية قبل كل شيء. وهذه الوحدة الروحية يجب أن تشمل كل فكرة وكل نظرة في حياتنا. والمفكرون السطحيون فقط يجهلون ضرورة بحث نظراتنا وفكراتنا الدينية بحثاً علمياً، جريئاً، صريحاً لا يُبقي مجالاً للغموض والريب بقصد الوصول إلى نتيجة كلية تجتمع فيها نفوسنا بكل ما فيها من رغبات ومطامح وآمال. ولا بد من القول بأن ما تقدم وما سيجيء من هذا البحث ليس، مع كل نظرياته الجديدة ودقة معالجته للأمور التي تناولها، سوى شق طريق لأبحاثٍ تالية مستفيضة توسِّعُ دائرة فهمنا وترقي إدراكنا لشؤون حياتنا النفسية التي منعنا التخبط فيها عن الاتجاه نحو المرامي القومية الصحيحة ومثلها السامية. فالقصد من هذا البحث ليس مجرد إظهار أن رشيد سليم الخوري ليس سوى واغل عليه عن جهل بخصائصه وفاقة كلية في الشؤون الثقافية العالية، كما يتوهم بعض الناس من العامة ومن طائفة تسمي نفسها "أدباء وقادة الرأي" وتسمم النفسية العامة بآرائها السخيفة وروحيتها السقيمة. فلنعد إلى البحث. ظهر لنا، في ما تقدم، الفساد الأول والثاني للمفاضلة بين المحمدية والمسيحية في حارضة رشيد سليم الخوري. فالأول هو ما كان من عدّ الحديث النبوي الإسلام، ومقابلته على آيات الإنجيل وإساءة فهم الحديث. والثاني عدّ الأساس الماديّ جوهر الرسالة المحمدية، وعدّ خلوّ الإنجيل من حثّ على الكسب وعلى طلب العلم نقيصة فيه. والآن نتناول الفساد الثالث لكلام الخوري الذي لا نهتم بتفنيده وبيان فساده إلاّ لأنه نموذج لكلام متناقل في أوساط واسعة من السوريين إذا لم يوضح لها صحيحه من فاسده ظل عاملاً من عوامل جمودها. وهذا الفساد الثالث هو قوله عن الإنجيل، الذي يقول القرآن إنه كلام منزل، إنه كتاب "لا يعلِّم في هذه الدنيا غير الدروشة والزهد وقهر الجسد وحبس العقل في قفص من غباوة الاستسلام لما وراء المنظور وهو يقتل المواهب ويهيض الأجنحة ويعصب على العيون ويربط الفطرة بالسلاسل الثقيلة ويخنق الطموح فلا مجد عنده إلاّ مجد الخضوع الأعمى للتعاليم السماوية كما بشر بها هو ولا بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً مدى الحياة تُسام الخسف والهوان والجلد بالسياط ما دمت تعتقد أن بعد الموت حياة ثانية تثاب فيها على خنوعك واستسلامك وصبرك على الظلم" وقوله أيضاً "في حين جعلت المسيحية الفقر شرطاً أساسياً لدخول السماء عملاً بقولها للغني الذي طلب أن يرث الحياة الأبدية، "بع كل أملاكك ووزع ثمنها على الفقراء واتبعني" ولعمري لو عمل كل غني بهذه الشريعة لأصبح الناس كلهم مدقعين ولم يبقَ في الأرض من يستطيع أن يجود على فقير بفلس". لما كنا آلينا على نفسنا أخذ كلام الخوري بالترتيب فإننا نرى، من أجل ترتيب البحث، أن نتناول عبارته الأخيرة المتعلقة بالفقر ودخول السماء قبل تناولنا الفقرة السابقة التي هي النتيجة الكلية الكاملة التي توصَّل إليها رشيد الخوري من تعاليم الإنجيل كلها. المؤمنين من المذهبين المسيحي والمحمدي كفراً صريحاً. فالمسيحية لم تجعل قط الفقر شرطاً أساسياً أو شكلياً لدخول السماء، ولا يوجد ف فاختلاف الإنجيل عن التوراة والقرآن هو في أنه ليس شريعة، بل تعاليمَ فلسفةٍ مناقبيةٍ لا تحكم على مخالفيها أحكاماً جزائية ولكنَّها تقول إن الارتقاء نحو حياة أفضل أو الحياة المثلى لا يكون إلاّ بها، أي بمعانيها الروحية. وقد رأينا في ما أثبتناه قبلاً أن المسيح لم يسنّ قانوناً جديداً في الزنى، بل علم تعليماً فلسفياً مناقبياً يقود الناس نحو الارتفاع في فهم الحياة، عن مجرد النصوص القانونية للأفعال. فكأن المسيح يقول أن رجم الزانية لا يشفي المجتمع من أمراضه الوبيلة. وهذا تعليم مناقبي وليس شريعة. وكذلك قوله للغني الذي أراد أن يرث الحياة الأبدية: "بع كل مالك وأعطه للمساكين فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني" فهو تعليم وليس شريعة. وهذا التعليم عينه صار شريعة في المحمدية عملاً بقول القرآن: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (المائدة: 47) {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربَّصوا حتّى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} (التوبة: 24) {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقّاً في التّوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله... إلى آخر الآية} (التوبة: 111) فالرسالة المحمدية لا تخالف الرسالة المسيحية في هذا الباب، بل توافقها كلَّ الموافقة. ولكن رشيد سليم الخوري، الذي يرى المفاضلة بين الأنبياء والتعاليم قائمة على تقدم الزمان وتأخره، يرى أنه أحكم من محمد وأحكم من القرآن نفسه لأنه جاء بعده. كما قال عن الإسلام المحمدي أنه أرقى من الموسوية ومن المسيحية "حسب سنَّة النشوء والارتقاء لأنه جاء بعدهما"!. على هذه القاعدة البديعة في فهم نظرية النشوء والارتقاء يكون رشيد سليم الخوري أرقى من محمد ومن القرآن لأنه جاء بعدهما!!. لنبحث في قول المسيح الذي يُثبته القرآن بآيات عديدة، ويرفضهُ رشيد الخوري ويدَّعي، جرياً على قاعدة الجهال، أن الإسلام المحمدي ضده: إن الحكم على دين بكامله بأخذ آية واحدة من آياته، وتجريدها عن موضوعها المتعلقة به وتأويلها أسوأ تأويل ليس جهالة رشيد الخوري وحده، بل جهالة قسم كبير من العامة المسيحية والمحمدية وجهالة عدد غير قليل من الخاصة الناقصي الثقافة، المغترِّين بزيادة بعض نواحي اطلاعهم على نواحي اطلاع الأميين ومن هم في حكمهم. المسيح لم يقل: "أيها الناس كل من اقتنى ذهباً وفضة وعقاراً فجزاؤه جهنم النار". إنه لم يضع شريعة تحرِّم الغنى وتُبيح الفقر وتوجبه شرطاً لدخول السماء. أما المثل الذي قدمه الخوري فليست هذه طريقة فهمه وتأويله على وجهه الصحيح. المسيح جاء حاملاً رسالة مناقبية للقضاء على مثالب المجتمع الذي تشبث بقوانين صارت جامدة، وأجاز أفراده لأنفسهم الخمول وارتكاب جميع أنواع الموبقات التي لم تنص الشريعة على كيفية معاقبتها. فهو كان مجاهداً وأتباعه يجب أن يكونوا مجاهدين بأنفسهم وأموالهم. وفي وقت الجهاد يطلب من أهل الغاية أن يضحوا التضحية العظمى. فالغني الذي جاء يطلب أن يرث الحياة الأبدية جاء في بدء الجهاد، وهو وقت يوجب التجرد الكلي، فطلب منه المسيح ما يطلب في مثل هذا الوقت، فصعب الأمر عليه فلم يكن له حظ أن يدخل السماء لأنه رفض الجهاد بنفسه وبماله من أجلها، وبالتالي إنه رفض وضع كل قوته لتحقيق الرسالة. وقد وافق القرآن هذا التعليم المسيحي كل الموافقة بقوله: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} (التوبة: 111) وبقوله: {وما لكم ألاّ تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السّموات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعلمون خبير} (الحديد: 10) فهذه الآية القرآنية تفضِّل الذين أنفقوا وجاهدوا قبل مجيء النصر على الذين أنفقوا وجاهدوا بعد حلوله حتى ولو كانوا مساوين للأولين في مقدار النفقة. وقال القرآن أيضاً: {لكن الرّسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون} (التوبة: 88) وحكم هذه الآية واضح وهو الجهاد بالنفوس والأموال وليس ببعضها. وقال أيضاً: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً} (النساء: 95) ومع أننا نلحظ ظهور العامل السياسي ـ النفسي في هذه الآية فأمرُ الجهاد واضح لا غموض فيه، وهو الجهاد بالنفس والمال في سبيل السماء، وليس في سبيل الكسب كما يفهم رشيد الخوري الذي عدّ سعيه للكسب بالتجارة في البرازيل "جهاداً" وقد شدد القرآن النكير على الأغنياء الذين يحتالون ليقعدوا عن الجهاد بقوله: {إنّما السّبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون} (التوبة: 93). وموافقة القرآن للإنجيل في هذه الأحكام هي موافقة كلية لا جزئية، فقد ورد في الإنجيل في وعظ المسيح للفريسيين هاتان الآيتان: "مع ذلك فقد بقي لكم أن تتصدقوا مما في أيديكم فيكون كل شيء نقياً لكم. لكن الويل لكم أيها الفريسيون فإنكم تعشرون النعنع والسذاب وسائر البقول وتتعدون العدل ومحبة الله وكان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك." (لوقا: 10 ـ 41 و42) فالمسيح لم يقل هنا "أن تتصدقوا بكل ما في أيديكم" ولو كانت شريعته جعل الفقر شرطاً لدخول السماء، كما يقول صاحب الحارضة، لكان وجب أن يقوله. ومن آيات المسيح التي تدل على مبلغ جهل رشيد الخوري التعاليم المسيحية المثل التالي: "فقال (المسيح) رجل شريف الجنس ذهب إلى بلد ليأخذ لنفسه مُلكاً ويعود فدعا عشرة عبيد له وأعطاهم عشرة أمناء (وزنات) وقال لهم: تاجروا حتى آتي. وكان أهل مدينته يُبغضونه فأنفذوا في أثره رسلاً قائلين لا نريد أن يملك علينا هذا. فلما أخذ المُلك ورجع أمر إن يُدعى عبيده الذين أعطاهم الفضة ليعلم ما بلغت تجارة كل منهم. فأقبل الأول وقال: يا سيد، إن مناك قد ربح عشرة أمناء. فقال له: أحسنت أيها العبد الصالح وقد وُجدت أميناً في القليل فليكن لك السلطان على عشر مدن. ثم جاء الثاني وقال: يا سيد، إن مناك قد كسب خمسة أمناء. فقال لهذا وأنت كن على خمس مدن. وجاء الآخر فقال: هو ذا مناك الذي كان عندي موضوعاً في منديل لأني خفت منك لكونك رجلاً قاسياً تأخذ ما لم تضع وتحصد ما لم تزرع؛ فقال له من فمك أدينك أيها العبد الشرير، قد علمت أني رجل قاس آخذ ما لم أضع واحصد ما لم أزرع، فلماذا لم تجعل فضتي على مائدة الصرف حتى إذا قدمت أستوفيها مع ربي. ثم قال للحاضرين خذوا منه المنا وأعطوه للذي معه العشرة الأمناء. فقالوا له يا سيد إن معه عشرة أمناء. إني أقول لكم إنّ كل من له يُعطى فيزداد ومن ليس له يؤخذ منه ما هو له "لوقا: 19 من 12 إلى 26" فلو كانت "شريعة" المسيح تقول بشرطية الفقر لدخول السماء، كما يقول الخوري في معرض تدجيله ونفاقه، لكان وجب أن تكون الآيات على عكس ما هي فيأخذ العبد الكسول الذي لم يتاجر بالمال السلطان على العشر مدن والعشرة الأمناء ويدخل ملكوت السموات. ولكان وجب أن يقول المسيح "إني أقول لكم إن كل من له يذهب إلى جهنم وكل من ليس له يكون له الجزاء الحسن ويدخل ملكوت السموات". ولكن رشيد الخوري يرى قليلاً حتى تشويه الحقائق الدينية وإثارة الفتن الدينية في سبيل "الكسب اللامحدود" الذي يدعي، على جهل منه، أنه جوهر الرسالة المحمدية. هذا الرجل، الذي شوَّه التعاليم الدينية ووجد بُلهاء يصفقون له باسم الدين، يريد أيضاً أن يشوه التعاليم السورية القومية الاجتماعية من أجل منافع وعده بها بعض المتعصبة. ولكن ساء فأل المنافقين.

    ليس من علم كمن لا يعلم
    قلنا، في ما تقدم، أن المسيح جاء حاملاً رسالة مناقبية للقضاء على مثالب المجتمع الذي تشبَّث بقوانين صارت جامدة وأجاز أفراده لأنفسهم الخمول وارتكاب جميع أنواع الموبقات التي لم تنصَّ الشريعة على كيفية معاقبتها. وهذا أيضاً شأن محمد. إلاّ أن الفرق بين المسيح ومحمد أن المسيح لم يكن محتاجاً لأن تكون رسالته تشريعية لأن المجتمع الذي نشأ فيه كان ذا شرائع سبكتها الموسوية في شكل إلهيّ، وأن محمداً وجد أشد ما تحتاج إليه جماعات بيئته هو التشريع فأدَّى هذه الرسالة، وأضاف إليها تعاليم مناقبية من النوع المسيحي عينه، إلاّ أنه تناول بها أيضاً أموراً كثيرة مختصة بأهل بيئته فضلاً عن الأمور العامة. وقد وجدنا الكلام الإلهي في القرآن يوافق كل الموافقة تعليم المسيح المناقبي الذي جاء جاهل يدَّعي العلم يقول إنه يخالفه. بل إننا حين التمعُّن في النصوص نجد أن القرآن كان أشدّ تأكيداً من الإنجيل بوجوب الاستغناء عن كل مال وعقار في سبيل السماء. ففي الإنجيل كله لا يوجد حكم كحكم الآية القرآنية: {إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} } (التوبة: 111). ولا وعيد الآية: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربَّصوا حتّى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} (التوبة: 24). فالمسيح لم ينذر الأغنياء ومفضِّلي أموالهم على محبة الله واتّباع المسيح, هذا الإنذار الشديد، وقوله لتلاميذه، مستخرجاً لهم العبرة من رفض الغني بيع أملاكه وتوزيعها على الفقراء: " ما أعسر على ذوي الأموال أن يدخلوا ملكوت الله. إنه لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من أن يدخل غنيّ ملكوت الله" (لوقا: 18 ـ 24 و25) ليس حكماً عليهم بالرفض والهلاك من أجل غناهم، بل تعييناً لحقيقة حالهم التي اختاروها لأنفسهم، إذ فضلوا أموالهم على عمل مشيئة الله. وهذا التعليم ليس ضد الغني عينه، كما أوهم رشيد الخوري جهله، بل ضد جعل المال معبود الإنسان من دون الله أو الفضائل العليا. وإذا تابع الدارس ذيول هذا الحادث والتعليم المسيحي المستخرج منه ظهر له عظم تدجيل رشيد الخوري بادّعائه فهم تعليم المسيح والشريعة الإسلامية وتعليم محمد. فالآيات التالية هذا نصها: "فقال السامعون: فمن يستطيع إذاً أن يخلص. فقال: ما لا يستطاع عند الناس مُستطاع عند الله. فقال بطرس: هو ذا نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك. فقال لهم الحق أقول لكم إنه ما من أحد ترك بيتاً أو والدين أو اخوة أو امرأة أو بنين لأجل ملكوت الله إلاّ ينال في هذا الزمان أضعافاً كثيرة، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية" (لوقا: 18 ـ من 26 إلى 30). فإذاً القصد الواضح من نص التعليم أن يُثاب الإنسان في هذه الدنيا أيضاً فضلاً عن ثواب الآخرة، فيزداد غناه الدنيوي أيضاً إذا عمل بهذا التعليم، فكيف يكون هذا القول موجباً للفقر، كما يدجِّل رشيد سليم الخوري؟ ومن مقابلة آيات القرآن، التي أثبتناها، على هذه الآيات الإنجيلية يتَّضح أن المطابقة بين التعليمين المسيحي والمحمدي هي كليّة، وفي بعض الآيات المطابقة ليست أساسية فقط بل شكلية أيضاً كما في تعداد الآباء والأبناء والإخوان والأزواج الذي يكاد يكون حرفياً في الإنجيل والقرآن. ننتقل إلى أخطر الأقوال التي فاه بها رشيد الخوري في حارضته الهجائية التي لم يرم من ورائها إلى غير إثارة الفتنة الدينية واستدرار جيوب الذين ما يزال يأخذهم هوس التعصب الديني. ونحن لا يهمنا من تناول هذا القول الدفاع عن الدين المسيحي أو إثبات صحته وصحيحه. لسنا مبشري أديان. وإذا كان رشيد الخوري أراد أن يكون مبشراً دينياً لقضاء لبانة في نفسه فذلك شأنه هو الذي لا ندخل فيه ولا في شأن الذين أغروه بركوب هذا المركب الخشن. نحن نسوق هذا الدرس من أجل محاربة التدجيل العلمي والتدجيل الديني والاستهزاء بالتعاليم على الإطلاق، سواء أكانت دينية أم غير دينية. ومن أجل إيضاح الحقائق التي تساعد على التخفيف من غلواء التعصب الديني المبنيّ على تشويه هذه الحقائق ونشوء اعتقادات في صددها لا يمكن أن يذهب التعصب الأعمى بدون ذهابها. أثبتنا، في ما تقدم، فقرة من حارضة رشيد الخوري جمعت النتيجة الكلية الكاملة لما سماه صاحب الحارضة "بحثاً دينياً اسماً واجتماعياً فعلاً" في ما يتعلق بالدين المسيحي أو الإنجيل. وهي الفقرة القائلة إن الإنجيل كتاب "لا يعلِّم غير الزهد وقهر الجسد وحبس العقل في قفص من غباوة الاستسلام لما وراء المنظور، وهو يقتل المواهب ويُهيض الأجنحة ويعصب على العيون" وإنه "لا بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً مدى الحياة تُسام الخسف والهوان والجلد بالسياط ما دمت تعتقد بأن بعد الموت حياة ثانية تُثاب فيها على خنوعك واستسلامك وصبرك على الظلم". وقلنا إننا سنعود إليها بعد بحث قوله إن المسيحية "شريعة توجب الفقر شرطاً لدخول السماء" فلنبحث في هذا الكلام. إن هذا القول هو الذي عنيناه قبلاً، ونجعله هنا شاهداً على قولنا هناك أنه سفسطة سهلة الشيوع عند العامة وعند الخاصة الناقصة الثقافة، وإيضاحنا أن سبب هذه السهولة هو كمال سطحية هذه السفسطة وإغفالها الحقائق الاجتماعية والتاريخية، وهو الإغفال الذي رأينا أوجه في تفضيل الدين الإسلامي المحمدي على الدين الإسلامي المسيحي لسبب أن محمداً "أشاد بذكر العلم وفضل العلماء، وأنه لا يوجد في الإنجيل آية واحدة تذكر العلم بخير أو بشرّ". لا يذكر صاحب الحارضة النصوص الإنجيلية التي استند إليها وحلَّلها وحقق فيها ليخرج بهذه السفسطة الباهرة في "بحثه الاجتماعي فعلاً" القائلة إنّ الإنجيل كتاب لا يعلِّم غير الدروشة والزهد وحبس العقل والاستسلام للعبودية والصبر على الظلم. فهذا الكلام المرسل جزافاً على عواهنه من غير ضابط من النصوص ولا شواهد كاملة من التعاليم التي يتناولها هو آخر بدعة من بدع الواغلين على العلم في ما يمكن أو يحتمل أن يُسمَّى بحثاً علمياً "اجتماعياً"، مهما يكن من شأن هذا النعت غير المضبوط. فهؤلاء الشياطين أو السعادين لا يرون ضرورة لبحث التعاليم أو المبادئ أو الأقوال التي يعطون حكمهم عليها بصورة نهائية جازمة. فعقلية عظيمة السخافة كعقلية رشيد الخوري لا تجد حاجة لدرس نصوص المحمدية ونصوص المسيحية حين النظر فيهما والبت في طبيعة كل منهما وخصائصه وإظهار كيفية توصلها إلى النتيجة الأخيرة التي تصل إليها. إن هذه العقلية السفسطائية التي لا تعلو عن عقلية الأميين ترى أن التعاليم شائعة بين الناس ومعروفة،وأن إقرار النتيجة شيء بديهي لا يستدعي إعادة نظر، بل يكفي تقديم آية واحدة مفصولة عن موضوعها كآية طلب المسيح من الغني أن يبيع أملاكه ويوزعها على الفقراء ليمتحن صدق إيمانه، واتخاذها شاهداً يغني عن الباقي في عرف هذه العقلية الفقيرة الثقافة الطامعة بالخلود والمال. وقد رأينا في ما سبق مقدار إساءة فهم الآية وموضوعها وإساءة الاستشهاد بها. إن التعاليم المسيحية شائعة، وكذلك التعاليم المحمدية، ولكن شيوع هذه التعاليم لا يعني دائماً أن الشائعة عندهم درسوها ومحّصوها وفهموها فهماً كلياً أو مستوفًى، بل قد يعني، وهو الأصحّ، أن من الجهالة الاستناد إلى هذا الشيوع غير المضبوط، خصوصاً في مجتمع ما يزال فيه بقية كبيرة من انحطاط الثقافة ونقص العلم اللذين هما من نتائج فقده رابطته وسيادته القوميتين. ولولا شيوع هذه التعاليم شيوعاً يولِّد كثيراً من الأغاليط في محيط من الثقافة المنحطة والعلم الناقص لما وجدنا بنا حاجة لتناول هذه السفسطة ودرسها وتحليلها بصورة جدية، بل لكنا فضَّلنا خوض الموضوع من نقطة ابتدائية غير هذه النقطة ومن وجه غير الوجه الذي تحملُنا عليه هذه السفسطة. قد رأينا، في ما تقدم، مقدار ما يعرف أو ما يجهل رشيد الخوري من الرسالة القرآنية وبعض مقدار ما يعرف أو ما يجهل من الرسالة المسيحية، فلنر مقداراً آخر من علمه وجهله مبتدئين بقوله إن الإنجيل "لا يعلِّم في هذه الدنيا غير الدروشة والزهد". من أين استمد الخوري هذا الحكم؟ من خبط العامة في التعاليم ذات الصبغة الفلسفية في المناقب. من منَّا لم يسمع كثيراً من العامة والخاصة الناقصة الثقافة تتحدث عن المسيحية والمحمدية بصورة بعيدة عن الفهم؟ من منّا لم تطرق أذنه مثل هذه العبارة الحقيرة: "تقبر الإنجيل أيش بيعلّم غير الكسل. شو بيستفيد الإنسان من قول المسيح: "لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ولا لأجسادكم بما تلبسون. ولا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس"."؟ أليس من هذا القبيل تماماً ما يقوله رشيد الخوري في حارضته مدَّعياً أن الإنجيل "لا يعلِّم غير الدروشة والزهد؟" بلى. بلا زيادة ولا نقصان ولكن ما أبعد هذه النظرة الانحطاطية عن مقصود هذا التعليم المسيحي. المسيح لم يقل هذين القولين اللذين تستشهد بهما العامة المبلبلة والخاصة المستمدة ثقافتها من الأفكار الشائعة، الخطرة، وحدهما كتعليم كامل تام في نفسه، بل قالهما في عرض موعظة كاملة تعالج حالة عامة وتتجه نحو نتيجة كلية هي محاربة الإغراق في المادية الفردية والانحطاط إلى أسفل دركاتها حيث يصبح قلب الإنسان مع كنزه المادي المفضَّل عنده على جميع الفضائل العليا المنسوبة إلى "مشيئة الله" والانتصار على الأنانية الفردية لقيام مجتمع أفضل. فالمسيح لم يقل آية واحدة ليعبِّر بها عما أراد أن يرسخه في الأذهان، بل قال سلسلة عبارات في موعظته على الجبل، كلّها مرتبطة بهذا المعنى الواحد المتعلق بوجوب تفضيل محبة المناقب والفضائل الباقية على محبة المال، فهو لم يكد يُتمّ عبارته القائلة: "فلا تطلبوا ما تأكلون أو ما تشربون ولا تقلقوا" حتى أردفها بآيتين "وأبوكم (الله) يعلم أنكم تحتاجون إلى هذا، بل اطلبوا ملكوت الله وهذا كله يزاد لكم" (لوقا: 12 ـ 29 و30 و31). فهل وقف رشيد الخوري ومن حذا حذوه عند الجزء الثاني من الآية الأخيرة المذكورة آنفاً وتأمل معناها ووجد أنها لا تعني شيئاً غير الدروشة والزهد والفقر؟ هل وقفوا عند هذه الآية المذكورة آخراً وتمعنَّوا في معناها الذي جمع المقصود من الآيات السابقة والغرض الكامل الذي رمى إليه المسيح منها ووجدوا أن هذا الغرض هو الدروشة والزهد والفقر، لا أكثر ولا أقل؟ شتان بين غرض هذا التعليم وما فهمه ويفهمه رجل يتكلَّم في الدين ولا يعرف ما هو الدين، ويدَّعي العلم وهو ليس سوى خرقاء ذات نيفة. إن درس موعظة المسيح والآيات المتعلقة بموضوع الغنى يوصل إلى نتيجة واحدة هي: إنه إذا اتجه أبناء المجتمع الواحد نحو طلب حالة السعادة التي تولدها الفضائل السامية فإن المجتمع يخسر الأنانية الفردية المنحطة القتالة، ولكنه لا يخسر أسباب العيش والرفاه، لأن التعاون في المجتمع يولِّد المحبة، والمحبة تزيد التعاون، ومن هذا التفاعل بين المحبة والتعاضد يتولَّد فلاح المجتمع؛ فأيّ عقل غير سخيف يقول إن فلاح المجتمع يعني الدروشة والزهد والفقر؟ وهل يقول الإسلام المحمدي بغير هذه النتيجة؟ أتُعارض الآيات القرآنية والأحاديث النبويَّة هذا التعليم؟ كلاَّ، بل هي تؤيَّده وتتجه معه في اتجاه واحد؛ ولا يحاول نفي ذلك غير جاهل مغرور يدَّعي أنه أخبر بالإسلام المحمدي من القرآن ومن محمد نفسه. انظر كيف يعلِّم القرآن هذا التعليم الإنجيلي عينه: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدّنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} (الشورى: 20) فهذه الآية توافق كل الموافقة آيات الإنجيل في تعسير دخول السماء على الذين يفضلون حرث الدنيا على حرث الآخرة. وإليك آية أخرى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} (البقرة: 261) وأخرى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالّتي تقرّبكم عندنا زلفى إلاّ من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضّعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} (سبأ: 37) وغيرها: {زيّن للنّاس حبّ الشّهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدّنيا والله عنده حسن المآب} (آل عمران: 14) وغيرها: {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدّنيا وما عند الله خير وأبقى للّذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكّلون} (الشورى: 36). ألا يرى رشيد سليم الخوري، الواضع على عينيه نظارتين ذهبيتي الحتار والوهج، أن الإسلام المحمدي يشترك مع الإسلام المسيحي في تعليم "الدروشة والزهد والفقر والاستسلام لما وراء المنظور والخضوع الأعمى للتعاليم السماوية"؟. أليس هكذا يفهم المير شكيب ارسلان الإسلام حتى قال عن رشيد الخوري إنه يفوق كثيراً من أقحاح المسلمين المدافعين عن شريعة محمد وخلفائه في الأرض؟

    تأويل الجاهلين
    رأينا، في ما سبق، مقدار فساد كلام رشيد الخوري في تأويله الجاهل لكلام المسيح الحاضّ على ترك الأنانية القاتلة لروح المحبة، المانعة التعاون في المجتمع؛ وسنرى هنا تأويله الجاهل لكلام المسيح في ترك المخاصمة ووجوب التساهل والمغفرة. وهذا التأويل الجاهل هو قوله: "لا بأس في شريعته (الإنجيل) أن تعيش عبداً رقيقاً مدى الحياة تسام الخسف والهوان والجلد بالسياط ما دمت تعتقد أن بعد الموت حياة ثانية تثاب فيها على خنوعك واستسلامك وصبرك على الظلم". إذا كان رشيد الخوري قد حاول أن يدعم تأويله السابق في "الدروشة والزهد" بالتعلق بعبارة واحدة من عبارات المسيح فهو لم يجد حاجة لتأييد تأويله هذا الأخير بآية أو بجملة من الإنجيل. ومما لا شك فيه أنه يستخرج هذا التأويل الفاسد من آيات إنجيلية شائعة عند العامة شيوعاً غير مضبوط، وهي من موعظة المسيح على جبل الزيتون وهذه هي:
    "من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخل له رداءك أيضاً، ومن سخَّرك ميلاً فامش معه اثنين، ومن سألك فاعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تمنعه. أحبُّوا أعداءكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلُّوا لأجل من يعنّتكم ويضطهدكم". رشيد الخوري وأمثاله من قليلي العلم وفقراء الأدب يأخذون هذه الآيات ويؤولونها على قدر عقليتهم، ويقولون أن تأويلهم هذا تعليم المسيح. وتأويلهم هو، كما رأينا من كلام الخوري، أن القصد في هذا التعليم هو جعل الإنسان مستسلماً للخنوع والعبودية والخسف والهوان والجلد بالسياط؛ فلنرَ هل يصح هذا التأويل؟ قلنا في ما تقدم أن المسيح لم يضع شريعة كما يتوهم رشيد الخوري الذي لا يعرف الفرق بين تعليم العقيدة واشتراع القوانين، ولذلك لا يجوز قط أن تحمل الآيات المذكورة على محمل الحكم القانوني، فهي تعليم فيه تشديد في معالجة حالة اجتماعية ولدها جمود الشرع ونقص التعاليم المناقبية في الدين. وهذا التعليم لا يقصد قسمة الناس إلى ظالمين ومظلومين كما يتوهم أمثال رشيد الخوري فتكون هنالك جماعة بحق لأفرادها أن يصفعوا كل من ليس من فئتهم على وجهه، وتكون هنالك جماعة يتوجب على أفرادها أن يحوِّلوا خدودهم الأخرى لضاربيهم، بل هو يقصد نفي الخصومة والضرب والظلم من المجتمع. والآيات المذكورة لا يمكن أخذها وحدها لأنها لم تقل في معرض الإطلاق، بل في معرض موضوع متعلقة به ومرتبطة فيه بآيات أخرى جاءت معها في وقت واحد. بعد أن حث المسيح تلاميذه على ابتغاء البر وسلامة القلب مهما تعرضوا للملام والاضطهاد انتقل إلى تعليم فلسفته الاجتماعية التي لا تقف عند حدود الشرع. فالشرع الجزائي وظيفته سلبيّة أكثر مما هي إيجابية. فالقانون يعاقب على الجرم، ولكنه لا يعين الفضائل، وهو يضع الحد ولكنه لا يشق طريق الارتقاء. إنه يحفظ نظام المجتمع، ولكن ترقية نفسيته تبقى في مهام التعاليم المناقبية والنظرات الفلسفية في قواعد الحياة الاجتماعية ومثلها العليا. فهذه التعاليم والنظرات الفلسفية لا تكتفي بحالة الإنصاف الأولى التي أوجدتها الشرائع والقوانين سواء أكانت هذه دينية أم مدنية، وهي حالة تأمين حصول الطريقة العملية Modus Vivendi لتسيير شؤون المجتمع وحفظ نظامه، بل ترمي إلى تعديل شؤون المجتمع وتغيير نظامه على ما ينطبق على مثلها العليا وما تراه أفضل لترقية الحياة الإنسانية الاجتماعية. وتظهر الحاجة إلى هذه التعاليم والنظرات الفلسفية في المجتمعات التي اجتازت طور التشريع الابتدائي وحازت الطريقة العملية الصالحة لتسيير شؤونها الحيوية. وهذه هي المجتمعات الصالحة لنشوء التعاليم الفلسفية. وسورية كانت بلاد تمدُّن باذخ عرفت التشريع المدني، ثم جاءها اليهود الذي اقتبسوا من السوريين المذهب الديني الذي هو مذهب الإله الذي يرى ولا يُرى، خالق السموات والأرض وعالم الغيب وجعلوه مصدر الشرع(4) فصار الشرع جامداً غير قابل التغيير، مهما تغير الزمان وقلبت الظروف والأحوال، وصارت النظرة إلى الحياة مؤسسة، مناقبياً وفلسفياً، على الشرع؛ واكتفى الناس، الذين آمنوا بالدين الجديد، بالأساس المناقبيّ المستمد من الشرع. بجمود الشرع، عن طريق الدين، جمدت الفلسفة المناقبية أيضاً، وبطل مبدأ الفيلسوف السوري الكبير زينون القائل بأن الفكر أو العقل هو جوهر الحياة الإنسانية. فحدث في المجتمع السوري تصادم عنيف بين النفسية السورية والشرع الموسوي الذي أخذ يقوى على عامل العقل بسبب قوة فكرة الله التي استند إليها والتي أخذت تغلب على فكرة آلهة الأساطير القديمة والأصنام. ولم يعد في الإمكان التأثير على المجتمع إلا عن طريق فكرة الله، لأنَّ هذه الفكرة أضعفت منزلة الحكمة البشرية وقوة العقل الإنساني تجاه حكمة الله وتدبيره. وهذا هو السبب في اتخاذ التعاليم المناقبية المسيحية الفكرة الدينية أسساً لها. فظهر المسيح بمظهر الموعود به من الله ليكون به الخلاص، وعلى هذا الاعتقاد الديني استند المسيح ليؤدي رسالته المناقبية التي أهم ما فيها، بصرف النظر عن أهمية تعاليمها، أنها أعادت النظرة السورية إلى الحياة القائلة بتسليط العقل على مجرى التاريخ، وأن ميزة الإنسان الأساسي هي الفكر، وأنها كانت انتصار النفسية السورية الفاصل على النفسية اليهودية القائلة بتحديد الحياة الإنسانية وفاقاً للشرع الموسويّ. قلنا إن المسيح بعد أن شدَّد روحية تلاميذه انتقل إلى تعليم فلسفته المناقبية الاجتماعية. وقد بدأ المسيح تعاليمه بمهاجمة الوقوف عند حدود الشرع والاكتفاء بالفرائض. قال: "قد سمعتم أنه قيل للأولين: لا تقتل، فإنَّ من قتل يستوجب الدينونة. أما أنا فأقول لكم: إن كل من غضب على أخيه يستوجب الدينونة، ومن قال لأخيه راقا يستوجب حكم المحفل، ومن قال يا أحمق يستوجب نار جهنم"، فهذا التشديد بوجوب ترك الجمود المحدَّد بالشرع ليس تشريعاً جديداً ينص على معاقبة الذي يغضب على أخيه، كما نص الشرع الموسوي المأخوذ عن الشرع الكنعاني على معاقبة القاتل بالقتل، بل هو تعليم يقول بالحكم المناقبي المستمد من النظرة الفلسفية الجديدة. ويثبت أنه تعليم ليس فقط في أنه لم يعين العقوبات، بل في الآيات التابعة وهي: "فإذا قدَّمت قربانك إلى المذبح وذكرت هناك أن لأخيك عليك شيئاً فدع قربانك هناك أمام المذبح وامض أوَّلا فصالح أخاك، وحينئذ ائتِ وقدِّم قربانك" ثم الآية: "قد سمعتم أنه قيل للأولين: لا تزن، أما أنا فأقول لكم: إن كل من نظر إلى امرأة لكي يشتهيها فقد زنى بها في قلبه"، ثم الآيات: "قد قيل من طلّق امرأته فليدفع إليها كتاب طلاق، أما أنا فأقول لكم: من طلّق امرأته إلا لعلة زنى فقد جعلها زانية، ومن تزوج مطلقة فقد زنى". وفي تعليم الآيات الأخيرة قواعد مناقبية للترفَّع عن الشهوات الحيوانية، والاتجاه نحو المثال الأعلى التمدنيِّ نحو الحب وتفاهم الحبيبين للاشتراك في حياة نفسية راقية يكون الحب فيها حافزاً على الأعمال الكبيرة والإنتاج العمراني والثقافيِّ بدلاً من التلاشي في المغامرات الشهوانية. والإسلام المحمدي، الذي نشأ في إقليم حدَّد الحياة البشرية تحديداً شديداً وأحرجها حتى أصبحت الشهوات الحادة المنصرف الوحيد لِقوى الناس، فضَّل أن يتزوج الرجل امرأة واحدة في حين أباح تعدَّد الزوجات نظراً لمقتضيات البيئة، يقول القرآن: {فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} (النساء: 3). وقد تابع المسيح إعطاء القواعد المناقبية فقال: "قد سمعتم أيضاً أنه قيل للأولين: لا تحنث، بل أوف للربّ بأقسامك، أما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتة لا بالسماء فإنها عرش الله ولا بالأرض فإنها موطئُ قدميه, ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرةً منه بيضاء أو سوداءَ، ولكن ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير". وهذا التعليم سام جداً يرفع احترام الناس أنفسهم وأقوالهم حتى يصيروا يعنون ما يقولون دائماً فيكون كلامهم موثوقاً به من غير حاجة إلى حلف خاص يدل على الشكِّ بصدق رواياتهم وأقوالهم الأخرى. وتابع تعليمه بعدم تجميد الفضائل النفسية بالاكتفاء بحدِّ القانون فقال: "قد سمعتم أنه قيل: العين بالعين والسن بالسن؛ أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخلِّ له رداءك أيضاً، ومن سخرك ميلاً فامشِ معه اثنين. من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تمنعه". هذه القاعدة المناقبية السامية ليس تأويلها الحسن ما أوَّله رشيد الخوري من غير استناد إلى كلام المسيح؛ بل تأويلها الوحيد الصحيح الذي لا يقبل الجدل هو أنَّ المسيح قال بوجوب التساهل في الحقوق الفردية من أجل خير المجتمع؛ فقوله: "لا تقاوموا الشرير" لا يعني عدم مقاومة الذين يفسدون المجتمع، بل يعني عدم الاستسلام لعوامل الفساد التي منها تفضيل حق الفرد وخيره على حق المجتمع وخيره، فالشرير هو الذي يريد أن يقودك إلى الشر بدفعك إلى مقاومته بسلاحه وهو الشر، واستعمال هذا السلاح لا يخفف الشرَّ في المجتمع، بل يزيده، لأن الانتقام يكون بحدة وبلا قياس. فالغبن لا بدَّ واقع، وبالغُبن ازدياد الأحقاد والضغائن والعداوة وتفكك المجتمع وفساده. فمقاومة الشر الحادث بين إنسان وابن مجتمعه تكون، حسب قاعدة المسيح المناقبية، بالتساهل في الحقوق الفردية الذي ينتهي، في الأخير، إلى نفي الشر، لأنه متى تعلَّم كل إنسان أن يتساهل من أجل الخير العام لم يعد هناك من يريد الظلم، فينتفي الظلم بالمرة، أو يقلّ كثيراً حتى لا يشعر به. وإذا انتفى الظلم فكيف يكون بانتفائه حصول الخنوع والخسف والهوان؟ إن رشيد الخوري الجاهل تعاليم المذهبين المسيحيّ والمحمديّ يظن أن المحمدية تخالف هذا التعليم المسيحيّ، وبناء على هذا الظن الآثم أخذ يصرِّح باختلاف المحمدية والمسيحية في هذا الصدد. ولكنَّ الحقيقة هي أنَّ الرسالة المحمدية تعلِّم هذا التعليم عينه في القرآن والحديث، فانظر ما يقول القرآن: {وَلاَ تستوي الحسنة ولا السّيِّئة، ادفع بالّتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم} (فصلت: 34) {ثمَّ كان من الّذين آمنوا وتواصوا بالصّبر وتواصوا بالمرحمة} (البلد: 17) {إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإنّ الله كان عفوّاً قديراً} (النساء: 149)، وأقوى هذه الآيات في هذا الاتجاه هي المذكورة في الأوَّل من سورة السجدة. وقد اكتفت الرسالة المحمدية بهذا المقدار من موافقة التعليم المسيحي مراعاة لحالة البيئة، ولذلك كانت هذه الآيات مطلقة من غير تعيين لكيفية التطبيق بالأمثال، كما في الرسالة المسيحية. فالبيئة العربية كانت، كما بيّنا في ما تقدم من هذا البحث، أشدَّ حاجة إلى وضع حدٍّ للفوضى وإقامة حدود الشرع التي تمنع الانتقام الجامح الذي كاد يقع فيه النبيُّ نفسه، منها إلى الحياة الثقافية العليا. فقد روي عن محمد أنه "لما رأى حمزة وقد مثِّل به" قال: "والله لئن أظفرني الله بهم لأمثّلنَّ بسبعين مكانك" (ذكره الإمام البيضاوي في شرحه سورة النحل) ثم إن النبي كفر عن يمينه بنزول الآية: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصّابرين} (النحل: 126) ومع أن هذه الآية مشرَّبة روحاً مسيحية في القسم الأخير منها وهو قوله "ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" فإن القسم الأول مجانس للشرع الموسويّ الذي هو بداءة تنظيم المجتمع. وقد كانت موجبات البيئة لتساهل الرسالة قوية أحياناً، خصوصاً بعد الاتجاه نحو جمع كلمة المحمديين على قتال الذين لا يؤمنون إيمانهم، ونصرة الدين بالقوة، كالتساهل بتجويز ضرب النساء لحملهنَّ على إطاعة رجالهن. فقد وردت في سورة النساء الآية {الرّجال قوّامون على النّساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم (في زواجهن) فالصّالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاّتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً إنّ الله كان عليّاً كبيراً} (النساء: 34). فلهذه الآية علاقة بحكاية حال وهي أن سعد بن الربيع، أحد نقباء الأنصار، نشزت (عصت) عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها. فانطلق بها أبوها إلى النبي فشكا، فقال محمد: "لتقتص منه". ". ثم كان أن الآية نزلت فقال النبي "أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير". وفي هذا القول تدبير حكيم لمعالجة الحالة معالجة ما كان يجب أن تولد صدعاً في صفوف المسلمين. مع كل هذا التساهل الشرعي الذي أبدته الرسالة المحمدية تجاه مقتضيات حالة البيئة فإنَّ النبي كان في بعض كلامه الذي حدَّث به حديثاً لا إلزام فيه، أعلى مطلباً للناس عامة وأبعد مرمًى، مستفيداً من أن كلامه ليس شرعاً حتمياً، بل إرشاداً يحثُّ المؤمن على التمسك به من غير عنت ولا إكراه؛ فهو في الحديث الذي يخرج به من خصوصيات البيئة وضروراتها إلى عالم الإنسانية الواسع الذي يتناول بيئات التمدن أيضاً، يجاري المسيح في تعاليمه المناقبية مجاراة لا تترك زيادة لمستزيد. في الحديث الذي يتناول تعاليم عمومية، كما في الآيات التي يلاحظ أنَّ عوامل البيئة قيدتها بعض التقييد، تظهر لطافة نفس النبي العربي السورية الأصل، فإذا جوهرها وجوهر نفس المسيح واحد لأنهما من أرومةٍ واحدة في الأصل، قبل أن صارت القبائل الكنعانية مستعربة، وهي القبائل العدنانية الكنعانية الأصل التي منها النبي محمد. لينظر القارئ كيف يتحد التعليم المحمدي بالتعليم اليسوعي فإذا هما تعليم واحد وليس تعليمين. وإذا كانت البيئة العربية الصحراوية وأساليب معيشتها قد اقتضت نظراً خاصاً بها فإنَّ المرمى الأخير المناقبيَّ للرسالة المحمدية لم يقصِّر قيد شعرة عن مرمى الرسالة المسيحية. قال محمد في حديث له: "أوصاني ربي بتسع أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السرِّ والعلانية، والعدل في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكراً ونطقي ذكراً ونظري عبراً". فإن العفو عن الظلم هو مُوَازٍ لتحويل الخدِّ الآخر لمن ضربك، وإعطاء من يحرُم، ووصلَ من يقطع موازيان لقول المسيح: من سخرك ميلاً فامش معه اثنين، ومن طلب مالك فلا تمنعه. إذاً لا خلاف في جوهر الإسلام في الرسالتين المحمدية والمسيحية، ولا مغايرة إلاّ في ما اقتضاه اختلاف البيئة، لا ما اقتضاه قصد كلٍّ من الرسالتين، لأنه لا اختلاف في أنَّ قصدهما واحد. فإذا كانت تعاليم المسيح تعلِّمُ الخنوع والاستسلام والهوان والصبر على الظلم، فتعاليمُ محمد وآيات القرآن توافقها على ذلك كلَّ الموافقة. ولا وجه مطلقاً يجيز القولَ الذي قاله في هذا الصدد رشيد الخوري، في محاولة عقيمة للانتصار لمذهب ضد مذهب آخرَ بتشويه تعاليم الرسالتين ونسبةِ أمورٍ إليهما لا مُسْتند صحيح لنسبتها إليهما. ولعن الله من أراد إيقاظ الفتنة.

    بين الجمود والارتقاء
    قلنا، في ختام البحث السابق، إن تعاليم المسيح المناقبية القائلة بالتساهل في الحقوق الفردية لا تعني مطلقاً ما يفهمه المصابون بالعجز الفكري كرشيد الخوري الواغل بسفسطته على العلم والفلسفة، وهو الخمول والاستكانة وقبول الذل والتسليم للظلم، بل، على العكس، إنها تعني سلامة المجتمع وفلاحه، وهو نفي الخمول والذل والظلم بوضع قاعدة البطولة الاجتماعية المتلائمة مع حالة التمدن السوري الذي صار أساس التمدن العالمي الحديث في مكان البطولة الفردية أو القبيلية التي هي خصائص الشعوب الأولية والمتبدّية والتي لا تصلح أساساً لإنشاء مجتمع، متَّحد، راق. هذه البطولة الاجتماعية هي بطولة التضحية الفردية في سبيل خير المجتمع، وهي البطولة التي يكتشفها الدارس الخبير في صميم النفسية السورية منذ بدء التاريخ. وإن جذور مبدأ التضحية الفردية في سبيل الخير العام موجودة في تضحيات الكنعانيين (ومنهم الفينيقيون) لمولوخ وداجون التي استفظعها بعض الدارسين لقساوتها المتفقة مع درجة التمدن الأولية، ولكنها، في الحقيقة، تمثّل مبدأ فدية المجموع بتقديم الفرد ذبيحة تضحية من أجل استرضاء الإله واستعطافه ليُسبغ النعمة على الوطن والأمة. إن هذا المبدأ أساسي لكل مجتمع جدير بالبقاء والارتقاء، الذي ظهر بمظهر وحشي في عهد مولوخ هو هو عينه الذي عاد فظهر في تعاليم المسيح بمظهره الإنساني الراقي الخالص من أوهام العصور القديمة التي كانت في فجر التاريخ. وقد لازم مبدأ التضحية الفردية الحضارة السورية في جميع أدوارها فكان من أفعل العوامل في ازدهارها وامتداد نفوذها وبسط سلطان الدول السورية الهكسوسية ثم الفينيقية على شاطئ أفريقية الشرقي والشمالي وعلى جزر البحر المتوسط وعلى إسبانية وشاطئ فرنسة نحو المتوسط. ومن الروايات المدونة عن هذه البطولة الاجتماعية في تاريخ الدول الفينيقية أنّ رُبّان أحد المراكب، التي تكوّن الأسطول الفينيقي التجاري، عندما رأى المراكب الإغريقية لاحقة به تصوّر وخامة العاقبة على التجارة الفينيقية من جلب مزاحمين إغريق إلى بعض الأسواق أو مصادر المعادن ففضَّل التضحية بنفسه فخرق مركبه وأغرقه فارتدَّت المراكب الإغريقية خاسرة. فمبدأ التضحية الفردية في سبيل خير المجتمع هو أهم مبدأ مناقبي قام عليه فلاح أي مجتمع متمدن أو متوحش. ولولا هذا المبدأ السامي لما سقط جندي واحد شهيداً في ساحة الحرب دفاعاً عن شرف أمته أو طموحاً إلى مجد قومي أو إلى موارد جديدة للحضارة. ولولا هذا المبدأ لما عرَّض نفسه طبيبٌ خبير لخطر الموت في تجربة بعض السموم أو الجراثيم في جسده، ولما جازف طيّار بحياته بامتحان طيارة، ولا غوّاصٌ بامتحان غوّاصة. ولولا هذه التضحيات الفردية لما حدث هذا التقدم الباهر في الحضارة. والتضحية ليس لها شكل واحد لأنها ليست حالة شكلية، بل مبدأ عاماً. فالذي لا تكون التضحية قاعدة عامة عنده لا يعرف البطولة الاجتماعية ولا يقدم عليها، ففائدته للمجتمع قليلة أو سلبية. ومن أشكال التضحية تضحية الشهوات الحادّة وتضحية الأنانية العمياء التي يسميها سفسطائي الخلود رشيد الخوري "تقييداً للفطرة بالسلاسل الثقيلة". وهذه التضحية صعبة جداً على الذين لم يروّضوا أنفسهم على الفضائل واندفعوا وراء المثل السفلى. ولذلك يصف رشيد الخوري المسيحية بأنها "عدوة نفسها" لأنها، في تسميته لها، "ديانة التضحية" ومن أجل ذلك يراها عديمة الفائدة. وهو يفضل المحمدية عليها، لأن المحمدية، في عرفه، كما جاء في حارضته "دين الفطرة" فيقول فيه: "فهو في اعتقادي موجود قبل وجوده أي قبل ظهور الدعوة، وما محمد بن عبد الله إلا منبه له ودالّ عليه، فهو مكتشفه لا مخترعه" وهو يريد بذلك أن المحمدية رسالة إبقاء الإنسان على فطرته الأولى بكل ما فيها من شهوات وأنانيات ومحبة للكسب بلا حدود؛ وهو يعني، أيضاً، أن المحمدية ليست رسالة الحكمة الإلهية، بل "دين اكتشاف الفطرة"؛ وهو، بعد بلوغه هذا الأوج من السفسطة السفلية، يعود فيقول إن "شريعة محمد وإن سايرت الطبيعة فهي كاسرة من حدتها مقلّمة أظفارها" ، فلا تدري تماماً ما يريد أن يقول هذا الجاهل المخلّط ولا تعرف للإسلام المحمدي صفة ثابتة، فهو مرة "دين الفطرة الموجود فيها قبل وجوده" ومرة أخرى هو دين "مساير للفطرة ولكنه كاسر من حدتها، مقلم أظفارها"، وبعد كل هذا وذاك لا تعرف، مما يقوله، نتيجة فكرية ثابتة، سوى أنه يهرف عن الإسلام المحمدي بما لا يعرف ويقول كلاماً لا مُحصَّل له كمن يتكلم عن أمور مغيَّبة. وإنك لو قتلت نفسك جهداً لما استنتجت من كل هذا التخليط أية فكرة ثابتة عن الحالة الاجتماعية المثلى أو المستوى الاجتماعي ـ النفسي التي يرمي الإسلام المحمدي إلى إيجادها. إن رشيد الخوري يفضل الإسلام المحمدي على المسيحية لأن هذه تطلب مقداراً أكبر من الرياضة النفسية والجسدية لتحويل معظم قوة الإنسان نحو الأرقى والأنفع للمجتمع كمجد البطولة والتضحية والمناقب العالية التي تبلغ ذروة الشهامة والعفو وبذل المقدرة في سبيل خير المجتمع، ولأن الإسلام المحمدي، في عرفه، يكتفي بالكسر من حدة الفطرة غير المروَّضة وتقليم أظفارها. فماذا يعني ذلك غير الاكتفاء بحدّ من الارتقاء تجمد الإنسانية عنده جموداً يشبه جمود الحيوانات التي يمكن المرء أن يكسر من حدة فطرتها ويقلم أظفارها، كما يفعل مروضو الوحوش، دون أن يكون من وراء ذلك أيُّ ارتقاء اجتماعي ـ نفساني عند تلك الحيوانات، ذلك لأن كسرَ الحدة وتقليم الأظافر لا يغيّران النظرة إلى الحياة تغييراً نفسياً جوهرياً بمعنى الارتقاء. إذا كانت هذه هي النظرة الإنسانية المثلى في ما يجب أن يكون غرض الفلسفات الدينية، فأكثر قبائل أفريقية وأسترالية وأميركة المتوحشة قد بلغت "قمة الجودي التي يستقر عليها فلك الإنسانية الغارقة في طوفان العقائد والنظريات والفلسفات المتباينة" لأن لجميع هذه القبائل أدياناً تكسر من حدة الفطرة وتقلِّم أظفارها! كل قبيلة من قبائل الشعوب الأولية أو الفطرية لها عادات من خرافات أو دين تكسر من حدة الفطرة وتقلِّم أظفارها. ففي الجاهلية كان للعرب أيضاً عادات من خرافات أو سحر أو دين تكسر من حدة الفطرة أو تقلم أظفارها، فكان لهم شهر حرام يترك فيه حمل السلاح ويرفع الثأر والانتقام، وعادات في الزواج والمعيشة والاجتماع، وشورى في القبائل. فإذا كانت هذه هي قمة الجودي فلماذا جاء الإسلام المحمدي إليهم إذا لم يكن درجة فوق تلك الدرجة الأولية لقبائل العربة، واتجاهاً نحو درجة أعلى في الإنسانية عامة يشترك فيها مع درجة المسيحية؟ ليس هذا البحث مدار الكلام في هذا الموضوع، فسنعود إليه في بحث تالٍ. فلنعد الآن إلى إشباع ما بدأناه في البحث الأخير. رأينا في البحث المذكور أن المقصود من تعاليم المسيح هو شيء غير "تقييد الفطرة بالسلاسل الثقيلة" وأن هذا الشيء الذي لا تقدر العقول الناقصة أو العاجزة على إدراكه هو سيطرة الوعي النفسي على الأفعال الحيوانية وما هو بمعنى الغريزة، وتحويل مقدار غير يسير من حيوية الإنسان التي كانت تنفق في المتع الجسدية إلى الأعمال المفيدة من ميكانيكية وصناعية وزراعية وعلمية وأدبية وفنية واجتماعية واقتصادية. وقد ذهب المسيح إلى هذه النظرة المناقبية رأساً لأن البيئة السورية كانت قد ارتقت عن درجات كسر حدة الفطرة وتقليم أظفارها، وأصبحت تتطلب مستوى أعلى من الارتقاء النفسي. ببلوغ هذه الذروة المناقبية ابتدأ نجاح الأمم المسيحية، وليس بالتخلي عنها، كما يدعي هذا الواغل على المواضيع الاجتماعية، الملقَّب "بالقروي" أما أسباب تأخّر الشعوب الإسلامية المحمدية وجمود المحمديين فبعضُه لا دخل للدين فيه حيث البيئة الطبيعية قاسية لا زرع فيها ولا معادن، وضرعها قليل. ولكن حيث أسباب العمران متوفرة فأهمّ أسباب الجمود هي ترك العمل بالتعاليم المحمدية العالية المشتركة مع روحية التعاليم المسيحية واكتفاء بعض الشعوب المحمدية من الدين "بكسر حدة الفطرة وتقليم أظفارها" وترك ذروة المثل العليا النفسية، فبعدت عقولهم عن طلب التفوّق العلمي والتكني والفني، فقد قيل: "من طلب العلى سهر الليالي"، ولكن الذي يقضي لياليه مرتمياً مع فتاة فوق أغصان الربى "ليذوق شهدها غصباً عنها" ويزدري شعورها ويحتقر كرامتها، كيف السبيل لخروجه من جمود السفولية ومثالب المثل الدنيا؟ بين الأمم التي أكثرُ عددها من المسلمين المحمديين نجد سورية أرقاها وأشدها نشاطاً وأسبقها في العلم والفنون والصناعات، وما ذلك إلاّ لمؤهّلات جنسها وعملها بموجب النظرة المناقبية السورية المتجلّية في تعاليم المسيح وأرقى تعاليم محمد؛ فأكثر السوريين المحمديين لا يميلون إلى تعدُّد الزوجات والانغماس في الشهوات المكسورة الحدة، ويفضلون توجيه قواهم إلى الأفيد للمجتمع. وقد جمد العلم عندهم في القرون الأخيرة بتوالي الفتوحات البربرية. ولكنك لا ترى هذه النظرة أو الحالة عينها عند محمديي أفريقية حيث مزيجُ الشعوب وطبيعة الأرض تجعل المجتمع أكثر ميلاً إلى اللهو والأفعال الغريزية. وقد أثّرت تأثيراً كبيراً في حالة جمود الشعوب المحمدية تعاليم الجهاد الديني الحزبي السياسي التي هي من الخصائص العربية في الدين، وليست من المبادئ الإنسانية العامة، أي إنها تعاليم لا توافق البيئات المتمدنة. فلو كان المحمديون السوريون، ولا نتكلم عن غيرهم، "يرفعون راية المسيح البيضاء" وراية محمد البيضاء فيتساهلون في حقوقهم الفردية ويحسنون إلى الذين يسيئون إليهم ويعفون عمن ظلمهم ويصلون من قطعهم لكانوا أزالوا أعظم عقبة من عقبات الاتحاد القومي بفضل النظرة المناقبية التي يشترك فيها محمد والمسيح. ومتى حصل التساهل من الجانبين المسيحيّ والمحمديّ في الحقوق الفردية أو الحزبية، الدينية، الداخلية، بفضل هذا الفهم العميق لغاية دينهما، وتمّ من وراء ذلك الاتحاد القومي المسالم كل المسالمة في الداخل، أمكن حينئذ أن تنهض الأمة السورية كرجل واحد، وتسير إلى فلاحها، فلا تكون في وحدتها هذه محمدية ولا مسيحية، بل قومية اجتماعية، ينظر أفرادها إلى الحياة نظرة واحدة، ويفهم كل منهم رسالة الدين بهذه النظرة. بهذا التعليم السوري القومي الاجتماعي تنهض الأمة السورية وكل أمة عربية تتخبط في محاولة عقيمة للتوفيق بين حزبية الدين والواقع الاجتماعي وليس "بسيف الرسول"، كما ينادي رشيد الخوري المأجور ليقول هذا القول. إن سيف الرسول لا يفيد في النهضات القومية، ففائدته الوحيدة كانت لنصرة الدين في بيئة يتعذّر فيها الانتصار بالفكر والفهم في العربة. وما نسبة السيف إلى محمد في القضايا القومية إلاّ من باب التزلّف إلى متهوِّسي المحمديين. فالسيف انتضته الدول والأمم في حروبها وفتوحاتها قبل المحمدية وقبل المسيحية. ولقد شق سيف هاني بعل إيطالية من شمالها إلى جنوبها في فتح لم يشهد التاريخ له مثيلاً قبل محمد بنحو ثمانية قرون. وكان السيف يشهر في العربة قبل محمد. ومزية محمد الوحيدة في استعمال السيف هي أنه أدخله في المسائل الدينية أيضاً. أما في المسائل القومية فلم يكن لمحمد أيّ فضل فيه. وهذه الحقيقة، التي لا غبار عليها، تمكّننا من إدراك مبلغ سخافة البيت الذي نظمه رشيد الخوري تزلفاً وتمهيداً لوغوله على العلم، وصفّق له السيد حسن كامل الصيرفي الكاتب في بعض المجلات المصرية وهو:

    إذا حاولت رفع الضيم فاضرب بسيف محمد واهجر يسوعا

    ً فنسبة رفع الضيم إلى سيف محمد الديني ليس سوى إقحام يخالف جميع الحقائق التاريخية، فالأمم، من قبل محمد بعشرات القرون، تعمد إلى السيف أو الرمح أو النبلة لرفع الضيم. أما تهكمه بعد هذا البيت على تعاليم المسيح بقوله:
    "أحبوا بعضكم بعضاً" وعظنا
    بها ذئباً فما نجّت قطيعا
    فمن أغرب ما عُرف في باب التخليط والخبل، "فأحبوا بعضكم بعضاً" هي لوعظ الرعاة وجمع الخراف وليست "لوعظ الذئاب". ولذلك أوصى المسيح تلاميذه، حين أرسلهم ليكرزوا، قائلاً: "ها أنا مرسلكم مثل خرفان بين ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات وودعاء كالحمام" (متى: 10 ـ 16) وهذا يعني ألاّ يبقوا مع الذئاب كالخرفان، بل أن يصيروا كالحيات في دهائها وإدراكها مع محافظتهم على الوداعة وسلامة النية، لأن مهمتهم تعليمية وليست حربية. أما هذر رشيد الخوري القائل: "ليس الإنجيل في نظر النصارى إلاّ ملحقاً أو ذيلاً لتوراة اليهود يكمل ما ابتدأ من شرها الفظيع ويتمم نبوءاتها القاضية بتجديد عهد العداء والتعدي على أهل فلسطين" فمن أحط النفاق والزندقة والتدجي، وكذلك قوله "فماذا استفاد المسيحيون من إنجيلهم وقد علقوه في قفا التوراة للفرجة" فإذا كان رشيد الخوري يتظاهر بالنقمة على المسيحية لمجرد أن المسيحيين جمعوا الكتابين، التوراة والإنجيل، في مجلد واحد أحياناً، فما قوله بوجود قسم كبير من سيرة اليهود وفرائض دينهم في القرآن كما بيّنا آنفاً؟ المسيح هو الذي حرَّر الإنسانية من الشرائع التي جعلها اليهود أحكاماً أبدية: أما أن المسيحيين أرادوا جمع التوراة إلى كتابهم ليؤيّدوا ألوهية المسيح وصحة مجيئه موعوداً به في النبوءات فلا يُفيد ذلك ما يفيده وجود شرائع موسوية كثيرة وقصص يهودية في صُلب القرآن. إن الأمم المسيحية المتفوّقة لم تبلغ ما بلغته من التقدم بتجريدها "سيف الرسول" بل بتجريدها سيف الوطنية أو القومية أو الفتح المعروف من قبل زمن محمد. هذا من الناحية الخارجية، أما من الناحية الداخلية فكان تقدُّمها بترك السيف واتّباع تعاليم العدل والرحمة التي لا قيام لأيّ مجتمع بدونها، ولذلك نزلت الآية القرآنية بجعل الرحمة قاعدة الترابط بين المحمديين، واعتماد السيف في المسائل الخارجية فقط. ولما كان الدين الإسلامي في المحمدية قد تحول من مجرَّد تعليم روحي إلى دولة قائمة على قاعدة الدين غرضُها جمعُ مصالح المنضمين تحت لوائها وبسط نفوذها إلى الدنيا بأسرها، عملاً بما جاء في القرآن: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} وقوله {إن الأرض يرثها عبادي الصالحون} كان لا بُدَّ له من الأخذ بأسباب قيام الدول من تجنيد الرجال ومباشرة الحرب. ولكن هذه الغاية ليست غايتها القصوى، بل هي وسيلة إلى الغاية القصوى التي هي: الرحمة في المجتمع والعدل في الحكم. وهذه هي زبدة التعاليم المسيحية. فإذا افترضنا أن الله جعل الأرض كلها ميراث المسلمين وورثوها فعلاً فماذا بعد ذلك؟ أليس القصد من هذا الوعد تعميم الصلاح من الرحمة والعدل؟ ألا يقول القرآن: {محمد والذين معه رحماء بينهم}؟ وقال أيضاً {من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالرحمة} {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}. أما المسيحية فلم تنشأ نشأة دولة، ولم تسر على خطة دولة، بل كانت تعليماً فلسفياً مناقبياً منزّهاً عن خطط الدولة، غرضه خير المجتمع الداخلي؛ وما نريد بالمجتمع هنا هو ما أوضحته في كتابي "نشوء الأمم" وسميته "الواقع الاجتماعي". وهو يعني كلّ مجتمع أو كيان اجتماعي. فالتعليم المسيحي ليس غرضه إنشاء دولة تجمع أتباعه وتحارب الدول الأخرى، وليس قصده جمع أشتات شعب وتنظيمهم في دولة كما جرى لليهود والعرب، لأن البيئة السورية عرفت الدولة من زمان فقامت فيها دول فتحت الفتوحات وجنّدت الجنود وأنشأت الأساطيل البحرية وسنت القوانين، وإنما كان غرضه إيجاد القواعد المناقبية التي تثبت المجتمع وتزيد فاعليته الروحية تجاه زعازع السياسة والحروب. والأمم تتعرض، في تاريخها، للانكسار، كما تتعرض للانتصار، فإذا انكسرت فلا إقالة لعثارها إلا بمبادئ مناقبية متينة. أما إذا فقدت هذه المبادئ واعتمدت السيف فقط فإن السيف يأخذها ولا يعود يقوم لها قائمة. في الحرب الحاضرة(5) تسقط أمام أعيننا دول ضخمة حاربت حروباً كثيرة وفتحت الفتوحات العديدة ولم تحد ولا مرة عن نهج السيف السويّ، فما هو السر في سقوطها؟ السرّ في فقدها القوة الروحية والمبادئ المناقبية. إن سبب سقوط فرنسة، مثلاً، هو في ترك الثقافة المناقبية وتقطيع "السلاسل الثقيلة التي قيدت الفطرة" (على تعبير رشيد الخوري)، وإطلاق أبنائها العنان لشهواتهم المقلّمة الأظفار الناعمة الملمس. وإن سبب انتصارات ألمانية الأخيرة هو في كبح جماح الشهوات وسلك سبيل "الشدة المتناهية" في ترويض النفوس والأبدان. وإن من أسباب جمود المجاميع الإسلامية المحمدية غير ما ذكرنا، بعض أحكام الشرع التي لا تتفق مع عوامل التقدم المدني كمعاملة المرأة وتحجيبها. فتصوَّر أن مدينة لندن أو برلين أو نيويورك بملايينها وصناعاتها ومكاتبها ودوائرها آهلة بمجموع إسلامي محمدي محافظ على قاعدة تحجّب النساء حتى لا تسفر المرأة إلا لزوجها وأخيها وأختها وابنها وأقرب الأقربين إليها، فهل يمكن هذا المجموع أن يقوم بمتطلبات حاجات عمران مدينة من هذه المدن على مستواها التمدني الحاضر، الذي لم يبلغ هذه الدرجة إلاّ باشتراك المرأة كزوجة وأم وأخت ومدبّرة بيت ومربية أولاد ومعلمة مدرسة وممرضة وكاتبة على الآلة الكاتبة ومشتركة في المعاهد الثقافية والدور العلمية وفي كل شأن من شؤون الحركة الاجتماعية وفي الأدب والفنون وفي جميع أشكال الحياة الاجتماعية والقومية؟ ألم تجد تركية أن تمسّكها بفهم الإسلام القديم لا بدّ أن يقضي عليها فقامت بحركة تجديدية من فوق إلى تحت وصارت من الأمم العصرية التي لها منزلة خطيرة في مجمع الأمم الحية، فكان الفضل في نهضتها للوعي القومي الذي قاد كمال أتاتورك الأمة التركية إليه، على الرغم من صياح شيوخ الدين الغيورين على نصوص الشرع ومن صخب الغوغاء الذي عمد الشيوخ إلى تهييجه؟ ألم يكن الفضل في نهضة الأمم المسيحية من قبل أنها نهضت في وجه تحويل المسيحية إلى دولة دينية رئيسُها البابا؟ نقول كل ذلك لنبين أن الموضوع القومي هو غير الموضوع الدّينيّ، وأن أسباب تقدّم الأمم وتأخرها ليس ما ذكره رشيد الخوري في حارضته وأثبتناه في البحث السابق، ولنوضح أن المبادئ الدينية الوحيدة التي تفيد الأمم في نهضاتها القومية هي المبادئ المناقبية التي يقول رشيد الخوري برفضها ويعيّر المسيحية بها ويمدح الإسلام المحمدي لاعتقاده أنه مخالف لها. ألم نرَ أنه في "الأعاصير" الذي جمع فيه أخلاطاً من النظم سماه "شعره الوطني" يقول أيضاً:
    بلادك قدّمها على كل مـــلة
    ومن أجلها أفطر ومن أجلها صُم فقد مزّقت هذي المذاهب شملنا
    وقد حطمتنا بين ناب ومنســـم سلام على كفر يوحّـــد بيننا
    وأهلاً وسهلاً بعده بجهنـــــم
    ويقول أيضاً:
    ما أضاحي عرفات ومنًى
    بل ضحايا الشام بالمجد غنيه

    فمن أين جاءته الآن هذه الحمية الجاهلية على عرفات ومنى والبئر؟
    أثبتنا، في ما سبق، أنه ليس لرشيد الخوري تفكير خاص، وأن معظم ما في نظمه ونثره مستعارٌ إما من بعض أقوال كبار المفكرين والكتاب أو من عاميين نيّري الذهن. وأكثر ما اقتبسه من غير ذكر أو شكر هو سطحي ويوافق مقدار عقله. وقد قلنا في البحث السابق أنه لولا الانحطاط العلمي والثقافي العام عند عامة السوريين والسواد الأعظم من خاصتهم لما وجدنا حاجة بنا للنظر في قوله الهراء الرامي إلى إيقاد نار الفتنة الدينية العمياء. ونزيد الآن أن من الدوافع التي دفعتنا إلى مناقشة كلام هذا الجاهل الأحمق كون بعضه مقتبساً من كلام بعض مشاهير كتاب العصر الماضي الرجعيين الذين انتشرت كتاباتهم في أوساط محمدية واسعة وعدها سوادهم النور الذي يجب أن يُسترشد به، أمثال الكاتب المشهور جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده. فإن كلام رشيد الخوري، الذي أثبتناه في الأبحاث السابقة الأخيرة وفندناه وأظهرنا بطلانه وفساد تأويله، يكاد في بعضه يكون منقولاً بالحرف عما جاء في مقالتين وردتا في "العروة الوثقى" التي أصدرها الكاتبان المذكوران في باريس سنة 1884؛ وهاتان المقالتان هما "النصرانية والإسلام وأهلهما"؛ والثانية "انحطاط المسلمين وسكونهم" وفي بعض مقالات أخرى كمقالة "القضاء والقدر". فمن المقالة الأولى أخذ رشيد الخوري هذا القول كله، بتحريف قليل: "إن الديانة المسيحية بُنيت على المُسالمة والمُياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص وإطراح الملك والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجاتها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها، وترك أموال السلاطين للسلاطين، والابتعاد عن المنازعات الشخصية والجنسية، بل الدينية. ومن وصايا الإنجيل: "من ضربك على خدّك الأيمن فأدر له الأيسر" ومن أخباره أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد وهي فانية؛ والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح وهي للّه وحده", ويتلو ذلك وصف لتقدم الأمم المسيحية بما يخالف تعاليم دينها، ووصف لتأخر المسلمين المحمديين خلافاً لتعاليم دينهم. ولما كان قد بلغنا إلى هذا المصدر الأساسي للأقوال والأفكار التي وردت في حارضة الخوري، فإننا سنتمم معالجتنا لموضوع المذهبين المسيحي والمحمدي وأغلاط فهمهما وما ينتج عن ذلك من نظرات شاذة عن العلم والمنطق في الاجتماع والسياسة بناء عليه، تاركين ما تبقى من حارضة الخوري، وهو معظمها، لعدم وجود أية وحدة فكرية فيها، فهي فسيفساء خطابية جُمعت موادّها "من كل واد عصا". ونعود بعد الفراغ من النظر في هذا الموضوع إلى تناول تعريضه بالنهضة السورية القومية الاجتماعية ومسألة "العروبة". والذي يقابل كلام "العروة الوثقى" الملقى على عواهنه على ما أثبتناه في هذا الصدد في ما سبق من هذا البحث يجد أن أقل ما يقال فيه إنه اجتهاد مشوّه مشوّش لا تدّبّر فيه للإنجيل والقرآن.
    فالقول إن المسيحية جاءت برفع القصاص باطل، وإنها جاءت بإطراح الملك والسلطة باطل، وإنها قالت بنبذ الدنيا وبهرجتها باطل، إلاّ في وجوه مخالفة للفضائل الاجتماعية أيّدها فيها القرآن، وقد بيّناه. المسيح قال: "لا تحكموا بحسب الظّاهر، ولكن احكموا حكماً عادلاً" ، وهذا لا يرفع القصاص؛ ولا يوجد في الإنجيل قول باطراح الملك والسلطة. وأما أن المسيحية "وعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها وترك أموال السلاطين للسلاطين" فقد حوّره الخوري وجعله هكذا "لا بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً مدى الحياة تُسام الخسف والهوان الخ" وقد بيّنا فساده في ما سبق وأثبتنا أنه تأويل سطحي مغرض. على أن في هذا الكلام اجتهاداً في فهم قول المسيح للذين كانوا يبحثون عن جريرة يأخذونه بها ليهلكوه "أوفوا ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه". ولكن ما أبعد هذا الاتجاه عن حقيقة ما عناه المسيح. فإن هذه الآية ليست مطلقة ومستقلة، بل هي متعلقة بحادث وعبارات سابقة؛ وذلك أن رؤساء الدين اليهود، لما عجزوا عن أخذ المسيح بجرم من تعاليمه يهيّجون الشعب به عليه، صاروا يطلبون أن يجدوا فيه مخالفة لسلطان الدولة الأجنبية الحاكمة ليسلموه إليها. وعلى هذه القاعدة جرى الرجعيون في سورية ليسلموا زعيم النهضة السورية القومية الاجتماعية إلى سلطان الدولة الأجنبية الحاكمة بعد أن عجزوا عن أن يجدوا نقصاً في تعاليمه يثير الشعب عليه. والواقع الذي اقتضى قول المسيح هو كما يلي: "فهمّ رؤساء الكهنة والكتبة أن يُلقوا عليه الأيدي في تلك الساعة، ولكنهم خافوا من الشعب لأنهم علموا أنه قال هذا المثل عليهم، فرصدوه وأرسلوا إليه جواسيس يراؤون أنهم صدّيقون لكي يأخذوه بكلمة فيسلموه إلى رئاسة الوالي وسلطانه؛ فسألوه قائلين: يا معلم، قد علمنا أنك بالصواب تتكلم وتعلّم ولا تأخذ بالوجوه، بل تعلّم طريق الله بالحق. أيجوز أن نعطي الخراج لقيصر أم لا؟ ففطن لمكرهم فقال لهم: لماذا تجبرونني؟ أروني ديناراً. لمن الصورة والكتابة؟ فأجابوا وقالوا: لقيصر. فقال لهم: أوفوا ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه" (لوقا: 20: من 19 إلى 25). كلّ متدبّر لهذه الآيات يجد أنّها أبعد ما يكون عن الاجتهاد القائل بأن المسيحية تقول بوجوب "الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها". ولو كان هذا قصد تعليم المسيح لكان قاله في مواعظه ولكان أجاب السائلين على الفور: "يجوز أن تعطوا الخراج"، ولكنه لم يقل ذلك، بل قال إنه يجوز رد دنانير قيصر المطبوعة صورته وكتابته عليها إليه. ولذلك لم يقدر اليهود أن يأخذوه بجرم ضد الدولة، ولم يقدروا أن يدّعوا أو يقولوا إنه يعلم الخضوع لسلطان أجنبي ويهيّجوا الشعب عليه؛ وهم إنما سألوه ليوقعوه في إحدى الجريمتين السياسية أو المناقبية، فتغلّب على مكرهم برفض الموافقة على دفع الجزية، ولكن من غير الوقوع في مكيدة أعدّت له ليسلموه إلى المحكمة الأجنبية. والقرآن يقول: {والله خير الماكرين}. أما الإشارة إلى "المنازعات الشخصية والجنسية، بل والدينية" ففيها تشويه كبير. وقد رأينا أن المسيح ألقى نزاع العقائد بين الناس، ولكنه علّم بالابتعاد عن المنازعات الشخصية حرصاً على وحدة المجتمع وسلامته. ولم يقل بترك الدفاع عن حقوق المجتمع تجاه المجتمعات الأخرى، وهو ما يرمي الاجتهاد المذكور إلى إيهامنا بأنه قاله أو علم به وهو باطل كما رأيت. ومن استعارات رشيد الخوري قوله في الرسالة المحمدية "الدين الإسلامي" إنها "مدرحية" أي "مادي روحي معاً". فقد يظنّ القارئ غير المطلع أن هذا القول هو فكرة جديدة فلسفية الخوري، والحقيقة أنه مأخوذ من كتابي "نشوء الأمم" ومن شرحي لمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي. فهو فكرة فلسفية اجتماعية أبديتها في مناسبات عديدة. وآخر ما أعلنته من أمر نظرتي الفلسفية كان في خطابي في أول آذار سنة 1940، الذي نشر في "سورية الجديدة" في العدد الصادر في 27 نيسان من السنة المذكورة. قلت: "إن الحركة السورية القومية الاجتماعية لم تأتِ سورية فقط بالمبادئ المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة. إن الحركة السورية القومية الاجتماعية ترفض الإقرار باتخاذ قاعدة الصراع بين المبدأ المادي والمبدأ الروحي أساساً للحياة الإنسانية، ولا تقف الحركة السورية القومية الاجتماعية عند هذا الحد، بل هي تعلن للعالم مبدأ الأساس المادي ـ الروحي للحياة الإنسانية ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل متجانس يحيي ويعمر ويرفع الثقافة ويسير الحياة نحو أرفع مستوى". إن المبدأ الذي جاء به سعادة هو نظرية فلسفية شاملة تتناول قضايا العالم الاجتماعية والاقتصادية وشرحها، ويقتضي كتاباً على حدة يبحث في المبادئ الماركسية المادية لتنظيم المجتمع والمبادئ الفاشية المازينية الروحية لتنظيم المجتمع والصراع بين هاتين الفئتين من المبادئ، ثم مبدأ سعادة الذي يخرج من القاعدتين المتصادمتين بقاعدة واحدة عامة يمكن أن تجمع عليها الإنسانية. وهو بحث واسع بل فلسفة كاملة في الاجتماع والتاريخ. أخذ رشيد الخوري هذه الفكرة الفلسفية العظيمة التي لا يطيق عقله إدراك عمقها وأهمية القضايا الاجتماعية التي تشتمل عليها، فمسخها وجعلها مجرد كلام سطحي بسيط يقصد به إيجاد مقابلة استبدادية بين "الأديان" الثلاثة المسيحي والمحمدي واليهودي؛ فقال "فالدين المسيحي دين تصوّري لا ينفع الدنيا لانفصاله عنها، ولا الآخرة لعدم حاجتها إليه. وهو نقيض الدين اليهودي الذي هو ماديّ صرف. أما الدين الإسلامي "فمدرحي" إذا صح النحت والتركيب، أي مادي وروحي معاً". وليس غير الجهال أعطيت لهم حكمة أخفيت عن الحكماء يفهمون ما هو محصّل هذا الكلام الاعتباطي. فإذا كان المذهب المحمدي مادياً وروحياً معاً، فالمذهب الموسوي أيضاً كذلك، وكذلك المذهب المسيحي. فكلّ مذهب ديني من هذه المذاهب، بل كل دين على الإطلاق يزعم أنه جمع شؤون الروح والجسد، وهذا لا يعني شيئاً جديداً في الدين والاجتماع، إلا أن رشيد الخوري خص الإسلام المحمدي به من دون المسيحية والموسوية ليوهم الغوغاء وناقصي العلم بأنه عالم بهذه "الأديان" وبأن له نظرة فيها لها طابع فلسفي. وهذا التقليد أقبح من تقليد السعدان للنجار الذي أدخل إسفينا في خشبة فشقّها وترك الإسفين فيها، فجاء القرد يقلّده فركب على الخشبة فتدلّى ذنبه في شق الخشبة فرفع الإسفين ليقلّد النجار فأطبقت الخشبة على ذنبه!.
Working...
X