إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أسماك السّلمون مساعٍ لإنقاذ أحد أنواعها - مجلة العلوم الكويتية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أسماك السّلمون مساعٍ لإنقاذ أحد أنواعها - مجلة العلوم الكويتية

    بعثات استكشافية

    مساعٍ لإنقاذ أحد أنواع أسماك السّلمون(*)
    يحاول علماء المصايد في جزيرة ڤانكوڤر اكتشاف ما إذا كان الصيد
    التجاري وأسماك الكوهو يمكن أن يستمرَّا معا.
    <G. زورپت>


    لقد صِيدت أسماك السلمون الشينوك في شبكة كيسية على نهر فيليپس، شمالي ڤانكوڤر في كولومبيا البريطانية.إن سمكة شينوك تزن ثمانية وتسعة كيلوغرامات لا تُعَدُّ كبيرة جدا؛ فالعينات الكبرى منها قد تبلغ 40 كيلوغراما.

    في صباح أحد أيام الشهر التاسع الضبابية الرمادية اللون، كان يطفو بهدوء على سطح قناة پورت ألبيرني، الواقعة على الشاطئ الغربي لجزيرة ڤانكوڤر، مركب الصيد گانجز I البالغ طوله 20 مترا، وقد ألقى مِرساته هناك. وكانت لُفافات من سحب طوال تمسح قمم التلال الوعرة التي تحف جانبي مدخل القناة، وكأنها جدارا خانقٍ(1) أخضر عميق. وعن ميمنة المركب، دلف للتو مركب جر (الترول)(2) متجه ببطء نحو الغرب، ولكن ما عدا ذلك لم يكن ثمة اضطراب سوى ما تحدثه أسماك السلمون(3) الكوهو القافزة التي تشق الأمواج الدكناء الهادئة، وأشباح هواة صيد الأسماك الذين يبحرون من حين لآخر وهم يلوِّحون بأيديهم.

    إن تلك الأسماك الفضية القافزة هي في طريقها إلى الأنهار الداخلية التي وُلدت فيها لتضع بيضها هناك ثم تموت. وهذا جزء صغير من موكب قديم مازال لغزا غامضا طالما شد انتباه الناس ومدَّهم بأسباب الحياة على امتداد حدود المناطق المعتدلة للكرة الأرضية لعشرات الآلاف من فصول الخريف. أما مركب الجر فهو واحد من 13 مركبا تعمل في القناة؛ وهي هناك لتعترض الأسماك، لا لبيعها ولكن كجزء من تجربة على تقنيات الصيد التجاري يجريها الباحثون، طوال أسبوع كامل، على متن مركب الصيد گانجز I.

    كذلك قد يرغب هواة رياضة صيد السمك الغاضبون في أن يكون لهم نصيب من أسماك الكوهو اللذيذة الطعم، فهي واحدة من أشهر أسماك الصيد. ولكن أن يدفعوا نحو 100 دولار أمريكي للسمكة الواحدة، سوف يكون ثمنا باهظا. وهذه هي قيمة الغرامة التي يتحتم على صائد سمكة من الكوهو أن يدفعها، ذلك أنه بناء على نصيحة العلماء ـ وبعضهم الآن على متن المركب گانجز I ـ سَنَّت الحكومة قانونا يجعل حيازة إحدى تلك الأسماك أمرا غير قانوني. بيد أن الذي يحدث الآن، ولدهشة هواة رياضة صيد الأسماك الساخطين، هو أن العلماء أنفسهم يبحرون في القناة ليقودوا القافلة الصغيرة من المراكب التجارية وهي تحصد تلك المخلوقات الرائعة ثم يقتلون بعضا منها.

    ومعظم غضب هواة صيد السمك غير السَّديد، مُوجَّه إلى <B. هارگريڤز>، عالِم الأحياء البالغ من العمر 44 عاما والذي يدير المشروع. إنهم لا يدركون أن هذه ليست قافلة عادية من مراكب الجرّ؛ إن المراكب الثلاثة عشر الموجودة في القناة اليوم بقيادة هارگريڤز مخولة بصيد الآلاف من أسماك الكوهو وقتل بضع مئات منها، آملين أن ينقذوا في نهاية الأمر الملايين منها.

    إن جماعات أسماك الكوهو، وبدرجة أقل أسماك السلمون (سليمان) الشينوك chinook salmon قد تدهورت بشكل حاد في كولومبيا البريطانية خلال السنوات الأخيرة، حتى على الرغم من أن أنواعا من أبناء عمومتها ـ وهي أسماك السلمون الوردي pink والاتشم chum والأحمر sockeye ـ قد حافظت على أعدادها. ففي حين يكافح بعض البيولوجيين لمعرفة ما الذي يهلك الجزء الأكبر من الأسماك الممتازة، يتخذ آخرون إجراءات، يُعترف بأنها يائسة، ليعيدوا الازدهار للأنواع المتردية. ويركز خبراء المصايد هؤلاء جهودهم على نقطتين حرجتين في دورة حياة أسماك السلمون: مولدها في الجداول والأنهار، وموتها في شباك صيد سفن الجر التي تعترض الأسماك عند سباحتها عائدة إلى المياه العذبة لتضع بيضها.

    إن ما هو معرض للخطر هنا ليس مجرد مستقبل الصيد في ركن ما من أركان العالم حيث الصناعة الأخرى الوحيدة التي يعتد بها هي صناعة تحويل الأشجار إلى لب الورق. «إنني أراها جزءا من صورة أكبر»، هكذا يقول <R. بيل-ايرڤنگ>، وهو تقني مصايد يعمل في قسم المصايد والمحيطات الكندي(4). «انظر ما حل بالجاموس وبالحمام الزاجل في أمريكا الشمالية. إن أسماك السلمون هي فرصتنا الأخيرة لنبرهن أنه يمكننا المعيشة مع وفرة طبيعية من دون تدميرها.»


    <B. هارگريڤز> المتخصص ببيولوجية مصايد الأسماك (في اليمين)، على ظهر مركب الصيد گانجز I، وهو يفكر مليا بخصوص مشكلة تثبيت العُلاّمات على الأسماك وذلك في اليوم الثاني لتجربته في قناة پورت ألبيرني التي تقع على الشاطئ الغربي لجزيرة ڤانكوڤر. وفي مكان آخر على القناة، تقف أيلاند سپيريت، وهي واحدة من سفن الصيد التجارية الثلاث عشرة المشتركة في تجربة هارگريڤز، ناشرة إحدى شباكها الكيسية من بكرة ضخمة عند مؤخرتها.

    ويحاول بيل-ايرڤنگ (وهو رجل قوي البنية، رقيق الصوت، ذو ابتسامة حاضرة) دعم أسماك الشينوك في مناطق ولادتها في نهر فيليپس النائي بشمال ڤانكوڤر. وحتى في تلك المناطق غير المأهولة عند مقسم توزيع المياه، تدهورت أسماك الشينوك المهاجرة بمقدار 90 في المئة منذ الحرب العالمية الثانية.

    وفي كثير من الأنهار في المناطق الأكثر تطورا في جنوب كولومبيا البريطانية، نلاحظ أن أعداد أسماك الشينوك، وهي أكبر أسماك السلمون الپاسيفيكية حجما والتي تضع بيضها في أمريكا الشمالية، قد تناقصت من الآلاف إلى بضع مئات، مما يهدد العَيوشيةَ الوراثية genetic viability للرصيد القائم. أما بالنسبة إلى أسماك السلمون كوهو التي تتكاثر في الجداول الصغيرة، فقد أُزيل 70 في المئة على الأقل من المناطق المفضلة لوضعها بيضها وتربية صغارها، وهي مناطق تقع في البقاع الأكثر ازدحاما بالسكان.

    إن الانخفاض في أعداد الأسماك، والذي بدأ منذ أكثر من نصف قرن مضى، قد عُزي إلى قَطْع الأشجار ونقلها ومشاريع التنمية الكهرمائية والتعدين وإنشاء المدن والإفراط في الصيد ـ وحديثا التغيرات المناخية. إن الموقف غير مستقر وينذر بالخطر، بحيث يؤكد بعض الخبراء أن التعبئة الكندية للجهود الفيدرالية والمحلية لتقوية المجموعات المتضائلة، ستعمل في أحسن الأحوال على دعم الرصيد القائم حتى يحدث تغير مناخي آخر ـ ربما عند نهاية دورة النينو El Nino الحالية ـ يُمكِّن عددا أكبر من أسماك سليمان من البقاء حيا في المحيط ثم يعود للمياه العذبة ليضع بيضه.

    وفي خريف 1998 مُنع الصيد التجاري بصفة أساسية لأسماك الكوهو في جميع المناطق الكندية الپاسيفيكية، وكذلك خُفِّض الصيد بمراكب الجرِّ لأسماك السلمون الوردي والاتْشَمّ والأحمر بدرجة ملموسة، مع أن هذه الأنواع ليست مهددة بدرجة تقارب ما يتهدد أسماك الكوهو. لماذا؟ لأن الصيادين التجاريين ليست لديهم الوسيلة لصيد أنواع بعينها من الأسماك، في الوقت الذي يحافظون على صالح الأنواع الأخرى. فأسماك الكوهو التي تقع في شبكة ممتلئة بأسماك السلمون الأحمر تموت عادة في الشبكة وعلى سطح المركب وفي الماء بعد إلقائها فيه مباشرة.

    بيد أن هارگريڤز يعتقد أن هناك طريقة أفضل. فتجربته التي تتكلف 000 600 دولار أمريكي هنا في قناة پورت ألبيرني تختبر عُدَد صيد جديدة صُممت لكي تستثني أسماك الكوهو في حين تصيد الأنواع الأكثر منه وفرة. فخمسة من مراكب الصيد التجارية بالجر والتي تشترك في التجربة تقوم بعمليات الصيد بالأسلوب المعتاد فقط، مستخدمة شباكا كيسية عادية ordinary purse-seine وشباكا خيشومية gill nets. وتُوقع الشباك الكيسية الأحياء في شراكها في شبكة ممتدة على مدى واسع تُجر خلف مركب الصيد بعض الوقت، ثم يرفعها «الونش» تدريجيا إلى كيس كبير يحتوي على مئات وآلاف الأسماك. وعند رفع الحمل كله إلى سطح المركب تهرس محتوياتُ الصُّرَّة عادة الأسماك الموجودة عند القاع. أما الشباك الخيشومية ذات الفتحات الأكبر، فتمسك بالأسماك من خياشيمها مغرقة الكثير منها.

    أما سفن الصيد الثماني الأخرى فتعمل على تقييم أدوات صيد وتقنيات تجريبية تم تطويرها لتكون أكثر ملاءمة للصيد العَرَضي. فمثلا يستخدم مركب صيد بالجر أنواعا جديدة من البريلارات (الطّاويات)(5). وهذه الأدوات (النبائط)(6) تشبه أكياس هواء سوداء ضخمة قِمَعِيَّة الشكل(7)، تمر خلالها الأسماك من الشبكة الكيسية إلى صندوق فرز على سطح المركب. وتُصنع البريلارات الجديدة من مادة الڤينايل vinyl الملساء لا من المادة التقليدية للشباك، وبذلك تنزلق الأسماك من خلالها بسهولة من دون أن تكشط قشورها.

    وفي اليوم الثاني للتجربة كان هارگريڤز مستعدا لمجابهة أي نوع من الكوارث التي تزعج دائما أي عالم يأخذ على عاتقه العمل في الحقل. فعلى ظهر مركب الأبحاث گانجز I، الذي تحول إلى مركز قيادة عائم، يقسم هارگريڤز وقته بين مركز توجيه الدفة(8) ومطبخ السفينة(9)، حيث كان هناك عالما مصايد يسجلان المعلومات الخاصة بالمصيد في حاسوبين صغيرين. ففي مركز توجيه الدفة كانت ترتفع أصوات أجهزة الراديو معلنة بشكل مستمر تقريبا كمية الأسماك التي صيدت في كل «رمية»(10)، وكذلك تساؤلات وشكاوى خاصة بأدوات تثبيت العُلاّمات(11)، ودائما أبدا سُباب مقذع من هواة رياضة صيد الأسماك.

    وصداع اليوم هو البنادق التي تُستخدم في تثبيت العُلاّمات على كل سمكة كوهو خلف زعنفتها الظهرية. فقد كان العلماء يفقدون الكثير من تلك العُلاّمات قبل أن يتمكنوا من تثبيت إحداها. (وعلى غير علم من هارگريڤز في ذلك الوقت، كانت البنادق قد وُزعت مع عُلاّمات مغلوطة)؛ ومن ثم كان هناك طوال الصباح سيل من الشكاوى القلقة بينما أعداد العُلاّمات آخذة في النقصان.




    يبدأ تثبيت العُلاّمات على أسماك الكوهو بصدمة خفيفة، بوساطة مجذاف معدني صغير (الشكل العلوي)، تدوِّخ السمكة. ثم تؤخذ قطعة من اللحم من الصفيحة الخيشومية (الشكل الأوسط) لإجراء اختبار الدنا DNA. وأخيرا، تثبت إحدى العُلاّمات خلف الزعنفة الظهرية (الشكل السفلي).

    وكانت الساعة قد تجاوزت 11 صباحا بقليل عندما أخذ هارگريڤز، وهو شاب وسيم يتميز بصوته العميق ونظراته الثاقبة وخطوط فك تدل على الحزم، يقبض على ميكرفون المذياع بحجرة التوجيه وينادي بصوت متناغم يعيد الطمأنينة، قائلا: «لا تنزعجوا بخصوص العُلاّمات في الوقت الحاضر، فقد حصلنا على المزيد من العُلاّمات في نانيمو، وهي في طريقها إلينا بعد ظهر اليوم.»

    «تناولوا حبات ڤاليوم مهدئة»، قال <K. ويدستن> ربان المركب گانجز I، وذلك بعد أن رفع هارگريڤز إصبعه عن زر الميكرفون الخاص «بالتكلم». ثم وجه حديثه إلى هارگريڤز العابس قائلا: «فقط خمسة أيام أخرى.» ومن خلال إحدى النوافذ وراء كتف هارگريڤز، يُشاهَدُ أحد هواة صيد الأسماك خلال إبحاره في زورق (لنش) وهو يلوح بيده بحركات بذيئة.

    ويميل هواة رياضة الصيد إلى اعتبار أسماك الكوهو أنها «أسماكهم». وعلى الرغم من أن بعض مراكب الصيد بالشصِّ trolling boats تسعى لصيد أسماك الكوهو ـ وأنها كانت تقوم بذلك عندما كانت هناك كميات كافية منها ـ فمعظم مراكب الصيد التجارية تبحث عن الأنواع الأكثر وفرة، وهي أسماك السلمون الوردي والأحمر والاتْشَمّ. ومن ثَمَّ فإن الإشاعات التي تسري على أرصفة الميناء ـ بأن حفنة من الصيادين التجاريين وعلماء حكوميين أبحروا في القناة ليقتلوا أسماك الكوهو ـ تثير سخط هواة الصيد وحفيظتهم إلى أبعد حد.


    تحتوي أسماك السلمون المصيدة بالشباك على نهر فيليپس النائي، على العديد من أسماك الشينوك بما فيها تلك السمكة التي في اليسار، وبعض أسماك السلمون الوردي. وفي الخلفية يستعد العاملون المتطوعون لجذب نهايات الشبكة، مما يؤدي إلى انكماش حجم الكيس الذي يحتوي على الأسماك.

    وفي الحقيقة، إن جماعة المصايد تقتل عددا قليلا من الأسماك للحصول على عينات من دمائها للبحث عن الدالاّت الكيميائية الحيوية التي يسببها الكرب stress. وبعدئذ سوف يقوم الباحثون بمقارنة النتائج بمعدلات البُقْيَا(12) لأسماك كوهو أخرى احتفظ بها في أحواض شبكية net pens مقامة عند مدخل القناة لمراقبتها. وقد فسر هارگريڤز الأمر بقوله: «إنها إحدى الفرص النادرة عندما نتمكن من معرفة معدلات البُقيا، ومن ثم يمكننا أن نكتشف ما إذا كانت اختبارات الدم تلك تعني أي شيء ولا تعني شيئا.»

    ولسوء الحظ، لا يعلم هواة الصيد السبب وراء إراقة الدماء. ولكن من حسن الحظ، أنهم لا يعلمون أيضا أن وجبة الغداء على ظهر المركب گانجز I تتكون من أسماك الكوهو اللذيذ الطعم والمطهو بالبخار مع عصير الليمون وخبز الپيته(13) pita.

    وكان هارگريڤز قد ناله نصيب وافر من شتائم هواة رياضة الصيد. ففي الليلة السابقة، بعد اليوم الأول المضني، تحرش به عدد منهم عند أحد أرصفة ميناء پورت ألبيرني. ولكي يهدئ من روعهم دعاهم هارگريڤز ليشاهدوا العمل بأنفسهم اليوم. ولكن الآن، وفي غمار أزمة العُلاّمات، لم يتمكن هارگريڤز بعد من إرسال من يقابل هواة الصيد، الذين ظلوا ينتظرون نحو ساعة على رصيف الميناء وقد استشاطوا غضبا. وبعد أن بدأ أحدهم بالتهجم على هارگريڤز عبر المذياع، ردَّ عليه هارگريڤز بصوت هادئ، ولكنْ فيه شيء من نفاد الصبر، بقوله: «أعتقد أنني أسمع اتجاهات ومواقف أكثر مما أرغب في التعامل معه اليوم.» لقد تراجع الشخص المتهجم عن موقفه بعض الشيء، وتم في الحال إرسال زورق لإحضار المجموعة.

    وبعد مضي ساعتين انقشع ضباب الصباح عن ظهيرة ذات جو جاف ومنظر رائع، مع ارتدادٍ يعمي الأبصار لضوء الشمس من المياه عند مدخل القناة. وعلى سطح مركب الصيد الذي يستخدم شباك الجر ويحمل اسم أوشن ڤنتشر Ocean Venture يختبر القبطان <G. بَدِنْ> وبحارته إحدى البريلارات التجريبية التي صممها بَدِنْ بنفسه.

    ويقوم بَدِنْ بتوجيه المركب على امتداد قوس بينما تُنشر الشبكة في الماء من خلال بكرة ضخمة عند مؤخرة المركب. وبعد أن تُنقع الشبكة في الماء نحو 15 دقيقة، يقوم البحارة بسحب سلك غليظ مثبت على الجزء البعيد من الشبكة وَلَفِّه على بكرة. ويؤدي هذا إلى شدِّ القوس الطويل للشبكة لتصبح حلقة تنكمش ببطء ثم لتصبح حوضا صغيرا يضم بضع مئات من الأسماك ويتدلى من ميمنة المركب.


    على نهر فيليپس يلتقي الإنسان والسمكة ـ وبالتحديد خبير أسماك السلمون <R. بيل-ايرڤنگ> وأحد ذكور أسماك السلمون الوردي.

    لقد حان الآن وقت عرض بريلارات بَدِنْ، ويغرف البحارة الأسماك بالعشرات إلى فوهة أنبوب مائل طوله خمسة أمتار تتخبط من خلاله الحيوانات ضاربة بذيولها، لتشق طريقها إلى صندوق فرز(14) من الخشب الرقائقي. وبسرعة يلتقط الرجال نحو ثمانٍ من أسماك الكوهو الفضي، تاركين بضع مئات من أنواع الأسماك الأخرى، التي تكون غالبا من أسماك السلمون الأحمر، لتسقط من الصندوق إلى الماء.

    ويحمل بَدِنْ إحدى الأسماك الزَّلقة المتلوية، وهي كتلة من العضلات تزن 12 كيلوغراما، على نبيطة تشبه المجذاف مصنوعة من غربال معدني، ثم يضغط على زر النبيطة فتعمل صدمةٌ كهربائية خفيفة على تدويخ السمكة. وبسرعة، يقيس موظف المصايد السمكة ثم يثبت العُلاّمة عليها، وباستخدام خرّامة ورق يحصل على بعض اللحم من الصفيحة الخيشومية لاستخدامه في اختبار الدنا DNA testing. وستصبح تلك العُلاّمات مهمة بعد بضعة أسابيع، إذ سيبحث المراقبون عن هذه العُلاّمات المثبتة على أسماك الكوهو في الأنهار الداخلية. وستساعد المعلومات المثبتة على العُلاّمات على تحديد أي الأسماك بقي حيا مدة كافية كي يضع بيضه. (وستقدم المعلومات عن الدنا طريقة لتدعيم تعرّف الأسماك التي فقدت عُلاّماتها). وتُقتل أسماك الكوهو للحصول على عينات من دمها على مركب جرٍّ واحد، وهو مركب يختلف كل يوم، ومن ثم يمكن مقارنة مستويات الكَرْب للتقنيات التجريبية المختلفة.

    وبعد الغروب يستريح بَدِن، وهو يرتدي حذاء خوض مطاطيا وقبعة لاعبي كرة البيسبول، ويبتسم من خلال لحية شعثاء في حجرة التوجيه بمركبه. لقد عمل بَدِن صيادا تجاريا مدة 26 عاما. وبينما تطقطق أجهزة الراديو وتثرثر في الخلفية، يقول بَدِن: «إنني أريد أن أكسب عيشي، ولكن بالتأكيد سأحتاج إلى الحصول على رزقي العام المقبل ولأربعة أعوام من الآن أيضا.» ثم يستطرد قائلا: «نحن نريد أن نبرهن لقسم المصايد والمحيطات الكندي (DFO) بأنه يمكننا تغيير وسائل الصيد لتصبح أكثر رحمة بأي كائن يرون أنه في مأزق. يقول كثير من الناس إنه لا يمكن عمل ذلك، ولكننا سوف نثبت لهم أن الأمر ممكن.»

    قد يكون بَدِن محقا. ولكن حتى إن كان كذلك، فالصيد الانتقائي لن يكون كافيا في حد ذاته لإحياء هجرة أسماك الكوهو والشينوك. ولذلك ففي الكثير من الأنهار، يعمل خبراء المصايد والمتطوعون من زاوية مُتمِّمة، محاولين زيادة أعداد أسماك السلمون الصغيرة جدا، والتي يُطلق عليها الأفراخ(15)، والتي تسبح هابطة نحو مصب النهر.

    تُجمع الأسماك صغار السن(16) حية حيث تُحفظ في حوض من الشباك حتى تصبح الإناث جاهزة لوضع البيض. عندئذ يقتل العمال الأسماك، ويجمعون بيضها ثم يخلطونه بالسائل المنوي للذكور في دلو لإخصابه ثم تُحْضن الأحياء الناتجة في مَفْرَخَة hatchery. وتتم عملية الحضن لأسماك الشينوك من الشهر 10 حتى الشهر 3 و4. وعندئذ تُطلق الأسماك الصغيرة في النهر كدعاميص (فراي)(17) تزن الواحدة منها نحو نصف غرام. وبحلول الشهر 6 تكون الأسماك قد نمت إلى أفراخ، تصبح عند بلوغها وزن 5 و10 غرامات قادرة على الهجرة سابحة باتجاه البحر. وقد يرفع الحَضْن في المرابي معدل البُقيا حتى طور الفرخ من نحو 5 في المئة إلى 80 و90 في المئة. وهكذا ينجح عدد أكبر من الأسماك في الوصول إلى المحيط ـ حيث يبقى منها حيا في المعتاد أقل من واحد في المئة لتعود إلى مواطنها خلال بضع سنوات لتضع بيضها.

    إن أرقاما دامغة كهذه هي التي دفَعَتْ، في يوم آخر من أيام الشهر 9 المشرقة، 11 شخصا ليتطوعوا بوقتهم مرتدين ملابس ثقيلة قد بلَّلها الماء، كي يقوموا بتطويق أسماك الشينوك في نهر فيليپس الشديد البرودة. وتطل على هذا النهر من جميع الجهات جبال شاهقة تكسوها أشجار شربين دوگلاس Douglas firs وأشجار الأرز cedar الأحمر والأصفر وأشجار تنّوب سِتْكا Sitka spruces والشوكران hemlocks وأشجار الحور alders. كذلك يوجد في المنطقة عدد لا بأس به من الدببة الرمادية grizzly bears، التي تبدو لسكان المدينة نشيطة بشكل يدعو إلى الخوف والقلق. ولكن الذي هدَّأ من روعهم هو أن أحد المتطوعين كان قد اصطحب بندقيته، أما الآخرون فقد بدوا مسترخين مطمئنين حتى إنهم اصطحبوا أطفالهم وكلابهم التي راحت تمرح في سعادة على طول الشاطئ.

    لقد نشر المتطوعون شبكة صيد كبيرة(18) عبر النهر، ثم سحبوها نحو كيس يحتوي على بضعة آلاف من أسماك السلمون مكدسة بإحكام، تتلوى وتنثر الماء. ويقف بيل-ايرڤنگ وبعض البحارة حول الشبكة منكبين للأمام قابضين على 20 و30 من أسماك الشينوك الكبيرة المرقطة النحاسية اللون، تسبح بين أسماك السلمون الوردي التي تفوقها عددا بنسبة 1 : 100. وتكون أسماك السلمون الوردي مرئية تحت الماء من خلال العكارة البنية اللون التي تثيرها جميع الأنشطة، خلف فتحات الشبكة الخضراء اللون. وفي هذا الطور من الحياة تبدو الأسماك حدباء مسنّمة بشكل واضح، فاغرة أفواهها عند حافة الشبكة، التي اشتبك بها بعض منها بفكوكها السفلية الخطافية الغريبة الشكل.

    لقد اتكأ بيل-ايرڤنگ بملابسه السوداء المصنوعة من المطاط مغطيا رأسه بقلنسوة زرقاء، على العوامات البيضاء المصنوعة من الپولستيرين التي تحمل الشبكة، ثم يغطس وجهه في الماء ويحملق خلال قناعه في كتلة الأسماك المتلوية المهتاجة. وفجأة يرفع رأسه ويقول: «هنا يوجد ذكر»، ثم يعلن: «إنه ذو منظر متألق ورائع».

    وبكل رشاقة وحذق يحتضن بيل-ايرفنگ سمكة الشينوك الزلقة، والتي يبلغ طولها طول باب سيارة، ثم يزلقها في كيس أسطواني. إن أسماك السلمون هذه هي واحدة من 18 من المجموعة التي نضجت بدرجة كافية بحيث تُضم إلى العشرات الموجودة في الحوض الشبكي الذي يوجد في مكان قريب بالنهر. وفي النهاية سيصل المجموع إلى 70 سمكة من أسماك الشينوك ـ وهو محصول جيد للموسم، وفقا لما يقوله <R .W. پاركر>، (أحد المتطوعين) الذي يستطرد قائلا إنهم خلال العام الماضي (1998) كله لم يمسكوا إلا أربع سمكات فقط.

    وكذلك عثر هارگريڤز على أسماك أكثر مما كان يتوقع. فقد كانت حصيلة أحد مراكب الصيد بالجرِّ في تجربته أكثر من 900 من أسماك الكوهو في رمية واحدة، وهو عدد مدهش. ثم يتذكر: «منذ أسبوع مضى كان يجادل كل واحد منا بأننا لن نحصل على ما يكفي من أسماك الكوهو لكي نجعل التجربة تنجح». وفي نهاية اليوم الثاني من التجربة كنتُ مع هارگريڤز على مقدمة مركب الأبحاث گانجز I ـ ورحنا ننظر شزرا إلى الشمس الغاربة ونتنفس الأريج الثقيل لكتل أخشاب الأرز التي تطقطق من حولنا وهي تطفو في مجموعة من الكتل المتصلة عند مدخل القناة ـ فمنذ عشرين دقيقة عرض أحد مساعدي هارگريڤز عليه نسخة من الصحيفة اليومية المحلية ألبيرني فالي تايمز وعلى صفحتها الأولى صورة فوتوگرافية لهارگريڤز ومعها قصة بخصوص تجربته. ولم يكن لدى هارگريڤز وقت إلا لإلقاء نظرة خاطفة عليها مصحوبة بابتسامة عريضة، قبل أن يتلقى تقريرا بخصوص محرك (موتور) خارجي لأحد المراكب وقد غمرته المياه.

    وبالنسبة إلى هارگريڤز المتحفظ، فإن مجرد ابتسامة عريضة كان أمرا يدعو للدهشة. أما العلامة الأخرى الوحيدة على أنه الآن أكثر استرخاء مما كان عليه منذ ست ساعات مضت، فهي تلك الضحكة التي انطلقت منه عندما طلب إليه أن يعدد بعض شدائد اليوم، فقد سرد من الذاكرة خمسا وستا قبل أن يضمنها «إيجاد وقت لوسائل الإعلام» ـ ولقد كانت إيماءة صريحة إلي.

    لقد شعر هارگريڤز براحة؛ لأن أزمة السِّمات لم تفسد سوى ثلاثة أطقم فقط. وبصفة أساسية، كان ذلك نوعا من الطوارئ الروتينية غير المتوقعة والتي تفصل بين العاملين على أرض الواقع وبين النظريين. ويُبسّط هارگريڤز الأمر قائلا «إنه من السهل أن تخطط للتجارب وأنت جالس في أحد المكاتب، ولكن هناك في الخارج حيث العالم الحقيقي ـ بما فيه من طقس ومراكب وأسماك، وما يتصل بها من أمور سياسية ـ سوف تعرف ما إذا كنت قادرا على القيام بالعمل الميداني أم لا».

    وهناك أخبار طيبة على الجبهة السياسية أيضا. فبعد جولة هواة رياضة صيد الأسماك لمشاهدة التجربة تحولوا من حانقين إلى متملقين. «لقد كانوا عدوانيين إلى حد كبير الليلة الماضية»، هكذا يتذكر هارگريڤز، ولكنه أردف قائلا: «عندما غادروا اليوم سألوا عما إذا كان هناك أي شيء يمكنهم القيام به للعون، وقالوا لنا ما عليكم إلا أن تطلبوا».

    إن هارگريڤز المتحفظ عادة يكاد يبدو الآن منتشيا؛ ربما كان مبعث ذلك ندم خصومه المفاجئ، وربما كانت رائحة الأرز العطرة ومشهد قرص الشمس الكبير الذي يبهر البصر وهو يغوص في الجبال، جاعلا المياه تتألق بوهج أصفر باهت. وفي الختام يقول هارگريڤز «إنني أعشق العمل الميداني، إنه أفضل جزء من مهمتنا.»

    مراجع للاستزادة
    [انظر: «الاستزراع الطبيعي للأسماك السلمونية»، مجلة العلوم، العدد 1(1987)، ص 38].
    Scientific American,January1999

    To Save a Salmon(*)
    (1) canyon
    (2) trawler: نوع من مراكب صيد الأسماك مزود بشبكة ضخمة كيسية الشكل تُجر خلف السفينة لتجرف الأسماك وغيرها من الكائنات التي تتجمع عند مؤخرة الشبكة.
    (3) وتعرف أيضا هذه الأسماك بأسماك سليمان. (التحرير)
    (4) Canadian Department of Fisheries and Oceans DFO
    (5) brailers
    (6) devices
    (7) wind socks: كيس وجورب مخروطي الشكل يعلق على عمود فيعرف من اتجاهه اتجاه الريح.
    (8) wheel house
    (9) galley
    (10) set، وهي نشر الشبكة مرة واحدة.
    (11) tag عُلاّمة (ج: عُلاّمات): رقعة تُدون عليها معلومات تختص بالمنطقة التي صيدت فيها السمكة وتاريخ تثبيت هذه العُلاّمة وغيرها من المعلومات. وتثبت عادة خلف الزعنفة الظهرية، وذلك لمتابعة تحركات الأسماك. (التحرير)
    (12) البقاء حية.
    (13) الخبز المستدير المعروف في دول الشرق الأوسط.
    (14) sorting box. (التحرير)
    (15) smolts
    (16) juveniles
    (17) fry
    (18) seine net
يعمل...
X