إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

للدكتور أنيس فريحة الفولكلور اللبناني و ضرورة جمعه - ج1- من كتاب القرية اللبنانية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • للدكتور أنيس فريحة الفولكلور اللبناني و ضرورة جمعه - ج1- من كتاب القرية اللبنانية

    الفولكلور اللبناني و ضرورة جمعه – الجزء الاول

    المصدر: كتاب “القرية اللبنانية: حضارة في طريق الزوال” للدكتور أنيس فريحة.


    الدكتور أنيس فريحة
    نحن الذين رأينا النور في القرية اللبنانية، نحنّ أبداً إلى مرابع الطفولة. فإن لها في أعماق نفوسنا ذكريات حلوة: العين ودرب العين، الكروم ودرب الكروم، العودة ومراح العودة، القلع ومنابت الشيح والوزال، العلّية والسطيحة المسوّرة بتنكات عتيقة صدئة، فيها الحبق، والقرنفل، والفل، وتفاحة فيها عناقيد من التفاح، والسهرات البريئة تحت العريشة. وأنّى ذهبنا، وأنى نزلنا، فإن صوَر القرية تظلّ عالقة في مؤخرة الدماغ. وليس أشهى عندنا من أن نعود إلى القرية، فندخل العليّة العتمة الدخنة، التي ولدنا فيها، وأن نمشي الساحة التي لعبنا فيها، وأن نمرّ في الأزقة والمعابر التي اختبأنا فيها.
    ولكن حضارة القرية اللبنانية، قرية طفولتنا في طريق الزوال . فقد غزت الحضارة الغربية أكثر القرى اللبنانية حتى النائية منها. وقد غزتها بعنف وقوة حتى أن صغار القرية، أصبحوا لا يعرفون قرية آبائهم. فالبيت قد تغيّر: أثاثه وأدواته، والدكان في الساحة قد زال، وقام مكانه مخزن حديث، والعرس لم يعد ذلك العرس، والمأتم لم يعد ذلك المأتم، والفرن، والتنور، والصاج في طريق الزوال، فإن في قرى كثيرة فرنا ً عصرياً، حديث البناء، يموّن القرية بالخبز الطازج يومياً، والعين، العين حيث كان الناس يلتقون للحديث، وللشكوى، وللعتاب، وللخصام قد هجرت، فإن إدارة إسالة الماء في قرى عديدة ، تجهّز البيوت من نبع بعيد يصبّ في مطبخ البيت القروي.
    ولكن في لبنان قرى لا تزال تحتفظ بطابعها القديم. فإن معايشها ، ومكاسبها، وبيوتها، وعاداتها، وأعراسها، ومآتمها، وأعيادها، وسجايا أهلها، لم تتغير ، ولم تتبدل كلياً. وإلى جانب هذه القرى، قرى أخرى تبدلت معالمها، لقربها من المدن، أو الساحل، أو لوقوعها على طرق التجارة أو السياحة، ولكنها لا تزال أيضاً تحتفظ هنا وهناك بالطابع القروي اللبناني القديم في عاداتها، وأعيادها، ومواسمها، وفي مأكلها، ومشربها، وملبسها. ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو: إلى متى ستظل القرية اللبنانية محتفظة بطابعها الخاص؟

    الفولكلور اللبناني
    مادّة الفولكلور
    يندرج تحت هذا المصطلح “فولكلور” ظواهر روحيّة، واجتماعية، وثقافيّة، وعقائديّة عديدة متنوّعة.
    عندما تجلس الأم إلى جانب سرير طفلها لتنوّمه فتغنّي له:
    يا الله ينام ابني يا الله ينام
    لاذبح لو الوزّة وطير الحمام
    يا حمام لا تصدّق
    عم إضحك عَ إبني تَينام

    يا الله ينام إبني
    يا الله يجيه النوم
    يا الله يحب الصلا
    يا الله يحبّ الصوم
    يا الله تجيه العوافي
    كلّ يوم بيوم

    وعندما يخرج الأطفال إلى ساحة القرية، وأزقتها يلعبون بالحجارة، والعيدان، والدّمى ألعابا لا يعرف لها بدء. وعندما يجلس القوم شتاء حول الموقد، أو صيفا على “السطيحة” أمام العليّة، فيقصّ عليهم قاصّ أخبار الجنّ، والرصد، والغول، والخوارق وظهور الأولياء، وعندما يحدّثهم محدّث عن أبطال القرية أو العشيرة، وعن شجعانها، وعندما ينقلب الحديث إلى مقارعة في الأحاجي، والأمثال، والشعر العامي، وعندما تشحب الفتاة، وتفارقها حيويتها فتقول عجوز الحيّ “قد خطّوا لها” ولا يعيد لها رونقها سوى رقية من راقي الحيّ، وعندما يجتمع القرويون متعاونين على جمع الغلال: قطف العنب، وجمع الشرانق، وصنع الكشك، وسلق البرغل، وصنع الدبس، وتعبئة جرار “القورما”، وعندما يُجلسون العروس على دكة فيجلونها، ويغنّون لها، ثمّ يخرجون بها راكبة فرسا وبيدها خميرة لتلصقها على عتبة باب العريسظن وعندما تنطلق الحناجر بالزغردة والأهازيج والحداء والحوربة – أقول جميع هذه وغيرها كثير، تندرج تحت لفظة فولكلور.
    فالفولكلور هو مجموعة العادات، والمعتقدات، والخرافات، وأساليب العيش القريّ.
    وهذا الفولكلور يعيش فينا رغم هزئنا به، ورغم ضحكنا من سخافته، ويستمر في مجتمعنا، رغم محاربتنا إيّاه، ويخلد في تصرّفنا، وسلوكنا، وعاداتنا، وأعيادنا، وعقائدنا، وسمرنا، وفرحنا، وغمّنا، وحزننا، لأنّه جزء من الحياة. ولا نتخلّى عنه لأنّه ينقلنا من الأجواء الثقيلة، إلى الأجواء العبقة الطليقة المنعتقة من ربقى العدد، والكمّ والكيف والقياس والبرهان. يستأنف إلى قلبنا لأنّه أسبق في الزمن من العقل، والمنطق، والقياس. فيه شيء من الأنوثة الحلوة، لأنّه في أكثره من صنع المرأة، ومن ذكريات العجوز.
    وإننا نشهد الآن جيلا من الناس في لبنان، لا يعرف شيئا عن حياة القرية، فيحسن بالذين عاشوا وتعرفوا على حياة القرية، إبقاءً على الإرث القديم، أن يجمعوا الفولكلور إن لم يكن للتاريخ، فللمتعة الروحيّة التي ينعم بها قارئ الفولكلور.
    الفضائل اللبنانية
    قد يُخيّل إلى بعض الناس أن الحضارة علوم ومعارف. هذه من الحضارة. وقد يتوهم بعضهم أن الحضارة هي الآلة. الآلة ناحية من الحضارة، لا سيّما إذا كانت الآلة تُجمّل الحياة، وتزيدها بهجةً ورونقا. وقد يظنّ البعض أن الحضارة صنع وبناء وعمران. هذه نواح من الحضارة، ولا سيما إذا كان هذا النوع من النشاط عاملا في تدميث الحياة، وفي إسباغ مسحة من الرضى والسعادة على العيش.
    الحضارة في جوهرها مجموعة فضائل روحيّة وعقليّة: الدين، والأخلاق، والفلسفة، والعلم، والعدل، والإحسان، والذوق، والفن، والدماثة، والمعاملة، والعادات الفاضلة. فإذا كان جوهر الحضارة فضائل، فإنّ في القرية اللبنانية قسطا وافرا من الحضارة الخيّرة. ولكنّها حضارة في طريق الزوال. وعندما نسمع آباءنا يتحسّرون على الماضي، وعندما يذكرون القديم بالخير فإنّما يتحسّرون على تلك الفضائل، ويتذكرون ذلك العيش الهانئ.
    وإذا أردنا التحدّث عن الفضائل اللبنانية هنا، لا نقصد بذلك المدح والمباهاة. كلا إنما نحن بصدد تدوين واقع الحياة القرويّة، كما كنّا نعهدها في مطلع القرن العشرين. وعند ذكرنا هذه الفضائل، لا ندّعي أنها فضائل يتّصف بها كلّ قروي لبناني. اللبنانيون بشر، فيهم الخير وفيهم الشرّ، فيهم الكرم وفيهم الحرص، فيهم النبل وفيهم الحطّة، فيهم التقوى وفيهم الكفر. وسنأتي لاحقا على ذكر النقائص في الخُلق اللبناني، ولن نستنكف عن ذكر المثالب. ولكننا آثرنا البدء بذكر المزايا الطيّبة، والصفات الكريمة التي يتصف بها أكثر سكان القرى اللبنانية، لأنّها حَريّةٌ بالتدوين. نذكر منها بإيجاز كليّ:
    - كرم الضيافة.
    - النجدة (ويسمّونها العونة).
    - القناعة.
    - التقشّف والصبر غلى المكاره.
    - حسن الثقة والأمانة.
    - الصدقات السريّة.
    - المصالحة وحسم المنازعات.
    - احترام كبير السن.
    - الآداب العامة.

    كرم الضيافة
    وقد قصرنا صفة الكرم على الضيافة، لأن كرم القروي يبرز أحسن ما يبرز في إكرامه الضيف، وفي تفانيه في خدمته. يعتزّ القروي بدعوة الضيف إلى غداء، أو عشاء، أو إلى المبيت عنده. ويشعر بنوع من الغبطة، والزهو عند إقامته وليمة، يدعو إليها الضيوف والأصدقاء. وقد يُظهر من ضروب الكرم ما لا طاقة له على تحمّله. وفي كلّ قرية لبنانية يقصّون عليك قصّة بعد قصّة، عن أناس يستدينون، ليكرموا الضيف، وعن أناس افتقروا بعد غنى، لفتحهم بيوتهم “مضافات”. ذلك لأن الكرم من صفات الزعامة والوجاهة. يقولون “الكرم بِغَطّي كِلّ العيوب!” ويقولون “أُضرُب سَيف بتِتأمّر، إطعِم خِبز بتِتمشيَخ” وأي قروي لا يحبّ أن يكون أميراً أو شيخاً في قريته؟
    وإذا أتى غريب، ونزل في القرية زمناً، أو أراد استيطانها، فإنّ أهل القرية يشعرون بواجب الضيافة.

    (قطن طبيب أرمني رأس المتن أكثر من 25 سنة، بعد تخرّجه من الجامعة الأميركية. أيُّ بيت في القرية لم يدعُهُ إلى طعام؟ أيّ بيت لم يرسل له ثماراً أو خضراً، أو شيئاً من غلاله؟ أحبّوه وأحبّهم. طبّبهم، وخدمهم، ولكنّهم أخلصوا له، وأحسنوا وفادته. وعندما تراه يقول لك:” آه الضيعة، الضيعة رأس المتن كتير كتير حلو!”)
    كان يوم لم يكن فيه اصطياف. فكان أهل القرى ينزلون إلى بيروت، ويلحّون على أقاربهم المقيمين هناك، أن يصعدوا إليهم، إلى الضيعة، لقضاء الصيفيّة. “ما تِحْملُوا تِقْلِة! تِقْلِتْكُم عَ الأرض. العِلِّية حاضرة، وفِرْش قدّ ما بَدْكُن، بَسْ تِطْلَعوا. يا ميّةْ أهْلا وسهْلا!” وكان كثيرون من البيروتيين، الذين عندهم أقارب في الجبل، يصعدون في الصيف لقضاء بعض الوقت. فكانت الأمّ تحمّل ابنها سلّة في أسفلها خُضَر: لوبياء وبندورة وبطاطا وخيار وباذنجان، وفي أعلاها فاكهة: عنب وتين، وتقول له:” يَلا خوذ هالسَّلة لَقَرايبنا”!
    ولا يقتصر الكرم على إضافة الغريب، بل نجد أنّ القروي يظهر كرمه نحو جاره، وقريبه والفقير في قريته. فإنّه يوم اللحامة (عندما يُذبح الخروف المسمّن لصنع القورما) يولم ويدعو الأهل. وإذا طبخ غمّة (وهي أكلة مستحبّة تتألف من سلق مقادم الخروف الرأس والكرش بعد حشوه بالأرز والحمّص واللحم والبصل والتوابل الكثيرة.) أرسل بصحن منها إلى جيرانه أو أقاربه. وإذا طبخ هريسة، وزّع منها على الأصحاب، وإذا سلق القمح بعث بها متبّلا بحبّ الرّمان، والصنوبر، وماء الزهر، والسكّر إلى الجيران والأصحاب. وإذا أقبل الموسم لا ينسى أن يرسل هديّة من غلاله إلى من هو بحاجة إلى هذه الغلال، من فقراء العائلة، كالزيتون والصنوبر والدبس.
يعمل...
X