إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

نزع قداسة النصوص بخطاب سبينوزا ( 1632-1677 )

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نزع قداسة النصوص بخطاب سبينوزا ( 1632-1677 )



    سبينوزا ونزع قداسة النصوص
    عبد الدائم السلامي
    يعدُّ خطاب سبينوزا Baruch Spinoza "1632-1677" في مسألة المقدّس حدثا فلسفيًّا هامّا1 أثّر في طبيعة الدراسات التي ظهرت خلال القرن السابع عشر وتناولت الظاهرة الدّينيّة في اتصالها بالإنسان.
    ويبدو أنّ سبينوزا استفاد من مُنجزاتِ البيئة الفكريّة والثقافيّة التي كانت سائدة في عصره، والداعية إلى ضرورة اتباع العقل في قراءة الظواهر الطبيعيّة والفكريّة بدلاً من اتباع قناة الإيمان، على غرار الآراء الفلسفيّة والعلميّة المتحرّرة من أغلال الكنيسة لكلٍّ من كوبرنيك Nicolas Copernic "1473- 1543" وجيوردانو برونو Giordano Bruno "1548-1600" وغاليلي Galilée "1564-1642" وإن لم نجد لأسمائهم حضورًا في كتاباتِه. حيث نُلفي في خطابِه الفلسفيِّ بعضًا من صَدى آراء هؤلاء الفلاسفة، بل هو يعتمد خَطَّهم الفلسفيَّ التحرُّريَّ ويضيفُ إليه من اجتهاده ما جعل أفكارَه تستفيد من سوابقِها وتُفيد لواحقَها في إطار سيرورة حركة الفكر الفلسفيِّ.
    ذلك أنّ هذا الفيلسوف الهولنديّ، الذي وُصِفَ بأنّه "أوّل العلمانيين اليهود المحدثين"2، لم ينظر إلى المقدّس، في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة3 باعتباره صفةً دائمةً في الأشياء، بل جعل له شروطًا يتحقّقُ وجودُه بوجودها وينتفي أيضًا بانتفائها. فالمقدّس، بالنسبة إليه، جهازٌ عقائديٌّ بالأساسِ تستوجبُ دراستُه منهجَ النقد التاريخيّ بما يمكّن من عزلِ ما ليسَ منه، ومن ثمّة يتمّ النظرُ إليه عبر سبيل تمحيص محمولاته الدّينيّة والوقوف فيها على حقيقة قدسيّتها وفقَ طبيعةِ ممارساتِ الناسِ لها في الزمان وفي المكان.
    وعليه، يرى أنّ "المُقدَّسَ والإلاهيَّ هو كلُّ ما كان مخصوصًا بالتقوى والشعائر الدّينيّة، ولا يظلّ الشيء مقدَّسًا إلاّ إذا بقيَ الناس يحتاجونه احتياجًا قائمًا على النيّةِ والتقوى، وفي الوقت الذي تنتفي فيه هذه التقوى، يكفّ ذاك الشيء عن أن يكون مقدَّسًا"4.
    ولعلّ في اقتران المقدّسِ بالتقوى "la piété" تأكيدًا على الأصل الدّينيّ لفكرة القدسيّةِ وحصرا لفاعليتها في المجال الاعتقادي فقط. فالحديث عن المقدّس في المطلَقِ قد يزيد من اتساع دوائر فعله بين الناسِ ويمنع البحثَ فيه من حصرِ دَلالته، وهو ما قد يزيد من غلبةِ الدّينيِّ على الدّنيويِّ، ويحدُّ من حجم الفعل العقليّ في أشياءِ الكونِ.
    لأنّ الأشياء "توصف بالمقدّسة أو المدنّسة بحسب علاقتها بعالم الروح فقط، ولا يصحّ وصفها بذلك خارج هذا الإطار"5. ويبدو أنّ ركون المقدّس إلى عالم الروح والتقوى، وهما الفضاءان اللذان تنمو فيهما القدسيّةُ حسب سبينوزا، ما يُساعد على تقليل الآثام التي يمكن أن تُرتكبَ باسمه في مجالاتٍ حياتيّة عديدةٍ، لأنّ في ربط القدسيّة بحجم ما تُوَفّر للإنسان من أمنٍ روحيٍّ، ما يحفّز المقدّسَ على الامتناع عن المشاركة في إنجاز الشُّرورِ، وذلك من بابِ أنّه متى "استخدم الناسُ أشياءهم المقدّسة لإنجاز المعاصي، تحوّل كلّ مقدّس فيها إلى مدنّسٍ".6
    وكفعل إجرائيٍّ لمفهوم المقدّس، عاد سبينوزا إلى قراءة الكتب الدّينيّة، وخاصةً منها التوراة، قراءةً ناقدةً7 أشاعتْ في قداستِها كثيرًا من الشكِّ، وارتقى فيها المقدّس من حيّز "الحلِّ" الضّامنِ لصفاءِ علاقة الإنسان بالقُوى المتعاليةِ عبر قناة التقوى والإيمان إلى حيّز "المشكل" من حيثُ ما يُثيرُ من أسئلةٍ تتعلّق بالواقع الإنسانيّ في اتصاله بكلّ ما هو إلاهيٍّ.
    وقد عمدَ سبينوزا إلى إبعادِ المقدّسِ من مجال الحقيقةِ الذي يراه مجالاً مخصوصًا بالفلسفةِ والتفكير المنطقيِّ العقليِّ، وحَصَرَه في مجال ما فوق الطبيعةِ.. ولئن لم ينفِ هذا الفيلسوف التقاءَ المقدّس الدّينيِّ بالعقل في هدف تحقيقِ الخلاص "le salut" بالنسبة إلى حياة الإنسان رغم اختلاف سبيلِهما إليه على اعتبارِ أنّ الفلسفةَ تمكّن الإنسانَ من بلوغِ هذا الخلاصِ عبرَ سبيلِ المعرفةِ، بينما يوفِّرُ الإيمانُ خلاصَ الإنسان عبر سبيلِ الطاعةِ، فإنّنا نُلفيه يُشدَّدُ على ضرورةِ الفصلِ بينهما عبر تحديد نقاط اختلافهما التي وصَّفها كالآتي:
    - العقلُ هو الأَوْلَى بتحديد مفهوم قدسيّة الأشياء، لأنّها لا تتجلّى، في الكتب المقدّسة، إلاَّ في لغةٍ، واللغةٌ بناءاتٌ منطقيّةٌ تتأثّر ارتباطاتُها الدَّلاليّةُ بتنوّع عوامل الزّمان والمكان، وينتُجُ عن ذلك أنّه " لا يوجدُ شيءٌ مقدّسٌ أو مدنّسٌ أو نجسٌ خارجَ الفكر، بل يكون ذلك كذلك بالنسبة إلى الفكر فقط"8.
    - تختلف غايةُ الفلسفة، ومن ورائها العقلُ، عن غايةِ الإيمان، لأنّ "الهدفَ الوحيدَ للفلسفة هو الحقيقةُ، بينما هدف الإيمان، كما أشرنا إلى ذلك سابقًا، ليس إلاّ تحقيقَ الطاعة والتقوى"9.
    - يتعاملُ العقلُ مع المستقبَلِ على اعتباره ناتجَ أسبابٍ طبيعيّةٍ معلومةٍ يمكن أن يتحكّم فيها الإنسانُ، بينما ينظر الإيمانُ إلى المستقبل على كونه خارجَ الإرادةِ البشريّةِ لا يمكن التدخّل في مُجرياتِه أبدًا، من ذلك مثلاً "أنّ الأنبياءَ لا يستشرفون المستقبَل بواسطةِ العِلَلِ الطبيعيّة، ولكن يعتبرونَه وليدَ قراراتٍ ومراسيمَ إلاهيّةٍ"10.
    - يختلفُ العقل عن الإيمان في طبيعة مجالِ اشتغالِ كلٍّ منهما، ولذلك "لا يجب أن يُنظرَ إلى اللاهوتِ على كونه خادمًا للعقلِ، ولا للعقل على اعتباره خادمًا للاّهوتِ. ولكن يجب القولُ بأنّ لكلٍّ منهما ميدانه: للعقل ميدانُ الحقيقةِ والحكمةِ، وللإيمان ميدانُ التقوى والخضوعِ"11.
    -لا يجب أن نُخضِعَ العقلَ "هذه الهِبة الكُبْرى، وهذا النور الإلاهيّ"12 لأحكامِ الكتبِ المقدّسةِ التي لا تزيدُ عن كونها "حروفًا ميّتةً استطاعَ المكرُ الإنسانيُّ تحريفَها"13.

    ويسعى سبينوزا، وهو يحدِّدُ الاختلافاتِ بين العقل والإيمان من حيث طبيعتُهما ووظيفتُهما، إلى التأكيدِ على ضرورةِ القطعِ مع مقولاتِ اللاهوتِ التقليديّ التي كانت سائدة في عصره، والدعوةِ إلى صياغةِ لاهوتٍ جديدٍ تحكمه شروطُ القراءة النقديّة التاريخيّة للكتب المقدّسة التي تنزِّلُها منزلتَها الإنسانيّةَ في إطار تاريخ الأفكارِ14.
    وذلك عبر سبيلِ تبصُّرِ معاني النصوصِ في ارتباطاتها الزمانية والمكانيّة، واستبعادِ كلِّ ما يمكن أن يخالطَها من أفكارٍ وتصوّراتٍ ولّدتْها القراءة التمجيديّة التقليديّة وما يستتبعُها من تخلٍّ عن مهمّة العقلِ وجعله يتوافق وما يُرادُ للنصِّ الدّينيّ من معانٍ. وهو أمرٌ يرى فيه سبينوزا مساهمةً في عزلِ العقلِ وإبعادِه عن مجاله المنطقيِّ، إضافة إلى ما في ذلك من تشويهٍ للنصوصِ الدّينيّة ذاتها وشحنِها بالاستعارات والخرافات والخوارق. ذلك أنّ "الدّين لا يحتاج أبدًا إلى حُليٍّ من الخرافاتِ لتجميلِه، بل على العكسِ، فنحنُ نُفقِدُه بريقَه إذا زينّاه بتلك الأوهامِ"15.
    ولا يخفى أنّ فصلَ سبينوزا بين وظائف العقل وبين وظائف الإيمان، على غرار ما مرّ معنا، مَثَّل محاولةً جريئةً في نزعِ القداسةِ "désacraliser" عن النصوص الدّينيّة وإخضاعِها لمجال القراءة النقديّة. إذْ فَقَدَت الأشياءُ المقدّسةُ ديمومةَ قداستها، وأصبحت تلك القداسةُ، في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة، محكومةً بشروطٍ عقليّةٍ عديدةٍ نذكرُ منها ثلاثةً: أوّلها أنّ المقدَّسَ يظلُّ محافِظًا على قداسته طالما اقترن بالإيمان والتقوى وأعمالِ الخيرِ، فإذا استغلّ الإنسانُ مقدّساتِه لإنجاز المعاصي انتفتْ منها القداسةُ ودخلت حيّز الدّنيويِّ.
    وثانيها ضرورةُ الوعيِ بأنّ "استخدامَ الكلمات هو الذي يحدِّدُ طبيعةَ دَلالاتِها"16، فإذا اُستخدمت كلماتُ النصوصِ الدّينيّةِ المقدّسةِ بشكلٍ يحثّ الناسَ على التقوى حافظتْ على قداستِها، أمّا "إذا اختلف مدلول الكلماتِ أو شاع استعمالُها بمدلولاتٍ مُضادّةٍ، تصبحُ تلك الكلمات، وكذلك الكتابُ الذي نُظمت فيه، وهما اللذان كانا مقدَّسْنِ سابقًا، دَنِسَيْن لا قدسيّةَ لهما"17. أمّا ثالثُ الشروط البانيةِ لقداسةِ الأشياء فيتمثّل في إلحاحِ سبينوزا على أنّ العقلَ هو الوحيدُ الذي يستطيعُ إضفاءَ صفةِ المقدّسِ أو صفةِ المدنّسِ على الموجوداتِ، "إذْ لا يوجدُ شيءٌ مقدّسٌ أو مدنّسٌ أو نجسٌ خارجَ الفكر، بل يكون ذلك كذلك بالنسبة إلى الفكر فقط"18.
    وإذا كان سبينوزا قد أخضع المقدّسَ، منذ القرن السابع عشر، للدراسة العقليّة الفلسفيّةِ وحَدَّه بحُدودِها وفقَ ما مرّ معنا، فإنّ هذا المقدّسَ ظلّ يطرح أسئلتَه على عتباتِ الفكر الفلسفيّ الراهن دون كلَلٍ، ويخترق حقولاً منه بحثيّةً كثيرةً. وفي كلّ حقلٍ تتكشَّفُ منه بعضُ معانيه حينًا ويسودُ الغموضُ بعضَها الآخر في إطار رحلتِه الباحثةِ عن شكلٍ دَلاليٍّ له يستقرُّ فيه مصطلحًا له تاريخُه في عالَمِ الأفكار وله مجالاتُ اشتغالِه الرمزيّةُ.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
    1- لمزيد تفصيل هذا الأمر يمكن العودُ إلى مقال أنطوان فليفل:
    Antoine Fleyfel, article : Spinoza et le problème du sacré au XVIIe siècle, in "Recherches de Science Religieuse", Tome 96/2 , Avril-Juin 2008, p. 241-254
    Yirmiyahu Yovel :Spinoza et autres hérétiques , Pari, Ed. Seuil 1991, p. 65.-2
    3 إسبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم حسن حنفي، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع 1985. "سنستفيد من هذه الترجمة من جهة ما فيها من ثبتٍ مرجعيٍّ، وسنعتمد الترجمة الفرنسيّة لنفسِ كتاب سبينوزا الصادر عن المنشورات الجامعية بفرنسا عام 1999 سندًا نقتطع منه شواهدَنا"
    Spinoza : Traité théologico-politique, Paris, PUF, 1999, p. 433- 4
    Ibid, p. 177.5-
    Spinoza, Ibid, p. 433.6-
    7- حول منهج سبينوزا في التعاطي مع الكتب المقدّسة، نقرأ بعض ما قيل فيه:
    - "... وبذلك يُعدُّ سبينوزا من أوائل واضعي هذا المنهج الذي يرمي إلى مقارنة النصوص بعضها بالبعض الآخر ومعرفة ظروف تدوينها واللغة التي كتب بها "هكذا في الأصل"، وبذلك يقوم منهج سبينوزا على الفحص التاريخي اللغويّ لا على الفحص الفلسفيّ أو العلميّ ولا يهتمّ سبينوزا مثلا بإثبات النبوّة أو نفيها، ولكنه يهتمّ بتحقيق النصوص وصحّتها أي أنّه يدرس النبوّة في التاريخ دون تعدّي ذلك إلى دراسة صلة النبيّ بمصدر نبوّته" "حسن حنفي بهامش الصفحة 115 من كتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة"، المرجع نفسه".
    - "ليس منهج سبينوزا مجرَّدًا ولا قياسيًّا، إنه منهج صوريٌّ ومنهجُ شراكةٍ، وهو يعمل بمفهومات مشتركةٍ... ونحن نعتقد أن فلسفة سبينوزا تبقى، جزئيا، غير قابلة للفهم ما لم نرَ فيها صراعًا ثابتًا بين= المفهومات الثلاثة: التشكيك والتنزيه والاستدلال" "جيل دولوز: سبينوزا ومشكلة التعبير، ترجمة أنطوان حمصي، ط.1، دمشق، أطلس للنشر والتوزيع 2004، ص 33".
    8Spinoza, Ibid, p. 435.
    Spinoza, Ibid, p. 481.9-
    Spinoza, Ibid, p. 439.10-
    Spinoza, Ibid, p. 493.11-
    Spinoza, Ibid, p. 12-487..
    Spinoza, Ibid, p. 487.13
    14 ثمّة صدًى كبيرٌ لهذه الفكرةِ في كتاباتِ بعضِ الفلاسفةِ الذين جاؤوا بعد سبينوزا، حيث تعاملوا مع الظاهرة الدّينيّة بمقدّساتها من جهة كونها حدثًا إنسانيًّا يحتاجُ إلى النّقد على غرار قول الألمانيّ إرنست كاسيرر Ernst Cassirer "1874-1945" وهو يوصّفُ الظاهرة الدّينيّةَ:
    " Dans sa manifestation concrète, la religion est la source des plus profondes dissensions et de luttes fanatiques entre les hommes. Elle prétend être en possession d'une vérité absolue, mais son histoire est faite d'erreurs et d'hérésies. Elle est promesse et espérance d'un monde transcendant - bien au-delà des limites de l'expérience humaine-, mais elle reste humaine, trop humaine ". " Ernst Cassirer : Essai sur l'homme, tr. Norbert Massa, Paris, Ed. Minuit 1975, chapitre 7, Mythe et religion, p. 110."
    15-ثمّة صدًى كبيرٌ لهذه الفكرةِ في كتاباتِ بعضِ الفلاسفةِ الذين جاؤوا بعد سبينوزا، حيث تعاملوا مع الظاهرة الدّينيّة بمقدّساتها من جهة كونها حدثًا إنسانيًّا يحتاجُ إلى النّقد على غرار قول الألمانيّ إرنست كاسيرر Ernst Cassirer "1874-1945" وهو يوصّفُ الظاهرة الدّينيّةَ:
    " Dans sa manifestation concrète, la religion est la source des plus profondes dissensions et de luttes fanatiques entre les hommes. Elle prétend être en possession d'une vérité absolue, mais son histoire est faite d'erreurs et d'hérésies. Elle est promesse et espérance d'un monde transcendant - bien au-delà des limites de l'expérience humaine-, mais elle reste humaine, trop humaine ". " Ernst Cassirer : Essai sur l'homme, tr. Norbert Massa, Paris, Ed. Minuit 1975, chapitre 7, Mythe et religion, p. 110."
    Spinoza, Ibid, p. 431. 16
    Spinoza, Ibid, p. 435.17


يعمل...
X