إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الرخام الأسود - 1- رواية الفصل الأول منها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الرخام الأسود - 1- رواية الفصل الأول منها


    * رواية
    * الرخام الأسود
    * الفصل الأول
    * تلك هي ليالي الشتاء عندنا في الهضاب العليا ، باردة و ممطرة ، يكشف البؤس فيها عواراتنا وتجاهرنا أيامها بالحرمان ، على ارتفاع 800م عن سطح البحر، كأننا نتصعد الى السماء ، وسط الجبال الشامخات التي أقسمنا بها في نشيدنا الوطني ، الأودية الموسمية ، كالوشم الجميل على جسد الحسناء و الغابات الجميلة التي تتحدى حرائق البحث العبثي عن الارهاب ، هجرتها القواطع و الأوابد.، و فرضت النزوح على الأهالي ، في هذه الولاية التي أهملت معالمها التاريخية و تجاهلت صانعيها ببديهية حمقاء ، لما تسيس البدو فيها و تحكم الأعراب في رقاب التاس و زمام الأمور، تقود أعراف الموالين القافلة ، و يعرفنا جغرافيوها بأننا في منطقة رعوية لا تجمعنا الا القرى الاشتراكية في المناطق النائية ، حيث يغتال التمدن و تنتهك قيم الحضارة بمفهومها العصري ، و تحول العصرنة المستوردة الى شريط الساحل و الى ولايات تسلط أبناؤها على الرقاب و احتكروا التاريخ و استعبدونا بشرعيات مختلفة ...اما بالحديد و النار ، و اما بالدين ، و اما باللغة ...هكذا تعددت أربابنا لنعيش مسخ الخلاف و الاختلاف تحت لواء الشعب العظيم الذي قتلوه بتهمة الرجعية ، ثم بتهمة الكفر ، و سيقتلونه بتهم آتية كسواد الليل المدلهم ...
    * فقلت له : سودتها يا صاحبي ، و كاد الكبد أن يتفجر فعد بنا الى بيت القصيد
    * فقال: ان مأساة خضراء ، صنعها هؤلاء الوحوش ، حتى الصدف كانت ضدها ، أصبر ستتمزق أكثر يا صاحبي ....
    * سميت ولايتنا ...شقية ..، نسبة الى عاصمتها المدينة الشقية ، أحداث هذه المأساة تجري في ..عين القسوة ..قرية من قرى هذه الولاية ، و ما أكثر العيون في بلدنا ، بداية من عين الفوارة الشهيرة ، وحدها هذه العين التي لا يرتوي منها هذا الشعب ،انها رمز الحضارة و التفتح ، و شهادة مرور التاريخ من هنا ، هكذا يقدس الفن عندنا و يتغير المفهوم الأخلاقي ، هكذا يجب أن نمارس الحضارة و التفتح و نخلد القيم الانسانية و آثارها و مآثرها...هكذا يجب أن نكون... أو لا نكون ...
    * عين القسوة منطقة زراعية رعوية ، كانت اراضيها كلها تحت مزارعي الاستعمار الفرنسي اخصب الأراضي و أجملها ، يسكنون القرية و لهم في كل مزرعة مساكنا على الطراز الريفي الأروبي أنذاك ، مزينة بأشجار السرو ،زمز الخلود و البقاء و التحدي و فرض الذات ، و كان الأهالي كلهم اما يعملون من طلوع الفجر عندهم الى غسق الليل ، على فرنكات البؤس و الفقر ، أو رعاة تبتلعهم السهوب و الفيافي طوال السنة ، هؤلاء هم من أسس بعد الاستقلال لنظام حول قاطرة النتائج كلها، لتصب في هاوية بعيدة عن كل هوية ، سكنوا مساكن المعمرين و سلكوا مسلكهم في تسيير الريع بعصيهم و عفيون جديد..الشقاء يا صديقي لا يصنعه شيء واحد ...هي ذي الظروف التي تترعرع فيها معاناة خضراء ، ضحية هذه القصة بحوادثها المؤلمة ، و قدر أريد له أن يسقي الضعفاء المرارات ، و تدفع الذاث البشرية ثمن بقاءها ، و بقاءها فقط ، آلاما و آهات ، و دموعا ، ذنبها الوحيد أنها جاءت الى الحياة في الوقت الغير مناسب ..هنا في هذا البيت الذي كان يسكنه المسيو صونديرو ، بدأ الشقاء يوما يؤسس لمعاناة انسانية يعجز اللسان عن وصفها ...
    * كان الليل حينها قد غمر الكون و خيم السكون و هجعت الحياة ، و في مثل هذه الساعة دائما ، ساعة مولد خضراء ، يرتفع ذلك النداء الذي ينبعث من أدغال الصمت ، من عمق ظلام النفس ،يتشكل منه سواد شبح قادم من كل جهة ، كأنها مقيدة فوق هذا السرير الموحش ، المسكون بلعنة شرسة تترصدها ، لا تمل و لا تغفل و لا تيأس ...منكمشة تحت الغطاء تحاول اسقاط تلك السنوات من العمر ، حديدية الأطراف ، في صراع مع هذا الأرق ، يحول الآرهاق زفراتها الى أنين ، يخرجها من الخيال الى مصرح الاحتمالات الرهيبة ...فتحت عينيها ، تنفست الصعداء ، نبضات قلبها تكاد تطغى على دقات المنبه التي تطارد الزمن لبلوغ ساعة الاستنفار ، كانت الغرفة مظلمة ، ترد جدرانها صدى الآيقاع بطريقة عجيبة تثير الأعصاب ، مزج فيها السكون بضوضاء النفس اللوامة و حركات العقارب التي تطوي المسافات من العمر في عجالة مفرطة ، تخفي سذاجتها الحدث بالحدث و تنتقل من حال الى حال ، يتداول كل شيء في نفسها و تتعاقب الزوابع ...النقاط اللامعة المضيئة و سط الظلام على شكل دائرة مفرغة ، ينبعث من مركزها شعاعان ، تشير بهما الى الساعة الثانية صباحا ، انها لم تنم أكثر من ساعة واحدة ، و لم يتخلف ذلك الكابوس الذي يطاردها في النوم مثل اليقظة . و بدأت من جديد ساعات العذاب و التأنيب ، يمزق الندم بمخالبه المفترسة الطوية الكتوم ، تتقلب يمينا و شمالا ، تدس رأسها تحت الوسادة ، تتوسدها ، تشد رأسها بين يديها ، تعض على شفتها ، محاولة بذلك أن تدفع تلك الفكرة الجنونية بعيدا بكل ما تملك من قوة ، تصاعدت وتيرة تنفسها وامتزج خفقان القلب بريبة سكون المحيط الذي يحرك النوابض في كل شيء ، استحودت الروح الشريرة على مجمع الحواس، فانسلت من فراشها كأنها حية انسلخت ، و تسربت من غرفتها الى المطبخ ، حملت خنجرا و خرجت تشد بين أنيابها على ارادة كانت تخونها دائما ، ارادة تكاد تنفلت من حين الى حين ، تمشي على دقات قلبها و الدموع متحجرة في عينيها التي تكاد ان تتفجر من شدة الاختناق ، تشق الرواق تحت ضوئه الشاحب في اتجاه غرفة خضراء ...و لما وصلت أمام الباب التفتت يمينا و شمالا ، انتظرت قليلا ، ثم دخلت و أغلقت باحكام ، أسندت ظهرها اليه تتحسس و تستجمع قواها ، وهي تحدق فيما حولها بدافع غريب وقع بصرها على صورة لخضراء في عيد مولدها الأول ، تحفة فنية صغيرة من متاحف أفريقيا السوداء وسط اطار مذهب على طاولة السرير ، يعكس زجاجه الضوء المتسرب من فجوات النافذة ، فتقدمت و هي ترتعش ، تطوي بخطوات مترددة خمسا و عشرين ستة من العمر في لحظات ، تريد القضاء على ذلك الكابوس الذي يطاردها ، تريد أن تجعل له نهاية في هذه الليلة...أشاحت بوجهها عن الصورة لتقطع شريط الذاكرة ، فوجدت نفسها أمام واقع يتحدى ...انها ممدودة تتوسد دراعيها ، تعانق ببراءة حلم الحياة ،على ضوء الشارع الذي يتخلل الفجوات و ينعكس على بياض السرير ، تظهر صورة من الظل الأسود ،انها مستلقية على الفراش ...أروع ما أبدعت يد الخفاء في رسم غرفة نوم لملكة الجمال عند الزنوج ، و أمام هذا المشهد المستسلم الآمن الذي تزينه الطمأنينة ، صرخ الواقع في وجه سترة ، صرخة البراءة يتحدى القدر المزيف الذي أريد له ، فبدأ مفعول القلب يحل محل تفكير العقل ، و كأن جسدها تلقى حقنة من منبع العاطفة ، فأحيا مشاعر الأمومة الصادقة التي أريد لها الاغتيال ، و رفضت اليد الانقياد ، فشلت و سقط الخنجر ، وارتشق النصل في قدم سترة فصرخت ، انه سهم الحقيقة التي تستيقظ دائما في آخر لحظة للحسم حتى لا تكون ضحية التزوير ، وانتشلت خضراء من نومها ، و هبت واقفة مستجمعة تستر جسدها باللحاف و تزلزل بصرختها أركان كل البيت ، سقطت سترة على الأرض و قفزت خضراء نحو الزر فأوقدت المصباح ..
    * خضراء: أمي ؟!!! ماذا حصل ؟.. ما بك ؟..
    * سترة : لا شيء ...لا شيء ، ناوليني الكحول ،أسرعي بعلبة الدواء ...انها في الحمام ..أسرعي ..
    * استيقظت كل العائلة على هذا الصراخ الذي مزق الصمت المطبق و تناسقه مع سكون الحركات ، هبوا جميعا نحو غرفة خضراء التي كانت دائما مسرحا للشغب و المناوشات .... هكذا بدأ النزيف يوما في هذه الأسرة ، أحدثته الحقيقة التي ترفض الاغتيال و لا تؤمن بالموت حتى تقتل الافتراء...
    * التف حولها الجميع ، وجلست خضراء أمامها ، مرتبكة ، تنظف الجرح و تضمده ،محاولة عبثا ايقاف النزيف ، و لما أغمي عليها حملوها على السرير ، واكتشف الجميع الخنجر الذي كان تحتها ، وساد الموقف نوعا من الريبة و الاستياء ، فأحست خضراء بأنها محل شك و محط نظر، فانتبهت لنفسها ، حملت ملابسها و ذهبت الى الغرفة المجاورة ، و لما عادت و جدتهم قد نقلوها الى المستشفى...
    * حملت سفطها و خرجت ، وانصفق الباب وراءها ،كأنه طبل قرع للاعلان عن نهاية فصل من عمرها و بداية فصل آخر ...
    * كانت الشوارع خالية ، تمتد أمامها نحو المجهول ، نحو الضياع الذي تصنعه الليالي الموحشة ، متعبة تتقدم و هي تلعن نظام التبني الذي يصطنع الأمومة و الأبوة الكاذبة، تلعن المنطق الفلسفي الذي يؤمن بالأصل في الأشياء كلها ، و يفرضه حتى على الذات التي ترتكب الجرائم و الحماقات و تتنصل منها ...و خرج من عمقها السؤال الملعون ، السؤال الخزي ، سؤال العار ، سؤال البؤس ...من أنا ؟...كأنني ليلها المظلم ، انها تكرهني لأنني لقيطة !.. لأنني سوداء !.. انها تمارس علي زمن النخاسة و العبودية ...أم لأن ابنها كريم أحبني و يريد أن يتزوجني ؟..ما أتفهني و قد صدقت ...
    * التفتت ، عبوسا كان الشارع ، تتقدم وسط لسعات البرد القارص ، و زخات المطر اللاذعة ، شارع معظم مصابيحه احترقت و من يصلحها ، برك الماء على الرصيف تتلألأ ، تعكس أشعة الضوء الشاحب ، غمامات من الضباب تسوقها ريح القر نحوها ، قالت في قرارة نفسها ..حتى أنت ؟..عندما تأتي أيها الشقاء تأتي بالكل ..
    * تحاول خضراء اختراق مخازن الذاكرة و ملامسة ما وراءها ، لعلها تسترجع ذلك اليوم الذي صنع بؤسها مقابل لحظات متعة ، ربما بثمن بخس ، أو بدافع حب غموس ، يوم النزوة التي قذفتها في رحم عاق ، جعلها الرقم المجهول في معادلة خبيثة و دنيئة ...و لكن ..
    * تودع بعيون همعة تلك القرية الهاجعة التي كانت تحتضنها فيها الجدران برفق انبجاس الحجر ، امام اجحاف البشر .. هنا كانت تأوي حينما تكتسحها رغبة البكاء ، أو تعاقب لآتفه الأسباب ، هنا كانت تخفي دميتها لما كانت صغيرة خشية عليها منهم ، هنا دفنت قطتها لما سمموها لأنها سرقت عظما سقط من المائدة ، في هذه الحديقة أشياء كثيرة لا تزال تتذكرها ...و هذه دار عمي مبارك الأسود ، يلقبونه ببامبرا ، ذلك الرجل الرحيم ، آآآه ، عمي بامبرا و هذا السواد الحاني الذي كان يجمعنا ، وكلبه ركس صديقي الوفي ، كلما دخلت عليهم يصعد معي و يلعقني ، يلعب معي كأنه طفل مشاغب ، من هنا كنت أمر الى المدرسة ، زجاجها مكسر و بدون مدفأة يعلمنا جلاد لا يرحم ...المدللة الوحيدة كانت بنت رئيس البلدية ، الحاج قادة ، لا يعرف حتى المكان الذي يجب ان يمضي فية على الوثائق الادارية ... تذكرت عامر، كانوا ينادونه بابن السوداء ، تضحك ، آآآه منه كان هو كذلك ماكر و شيطان ، مغامراته مع المعلم لا تعد و لاتحصى ، صديقاتها البدويات كن يقضين أوقات الفراغ أمام المدرسة ،يأكلن الخبز و اللبن البارد، كانت تتمنى أن تأخذهن معها الى البيت ولكن ...في بعض المرات تفقد شهيتها و تخنقها الرحمة بهم
    هذا دكان السنوسي مغلق بخمسة أقفال ، مسكين عمي السنوسي رغم كل هذا الحرص و اليقظة و سرقوه عدة مرات ، دائما أبناء الشافي ، حياتهم كلها سجون ، يقودون جماعة أشرار ، و يا ويح من يبلغ عنهم ، و حتى اذا دخلوا السجن ، هم أول من يخرج..فقدت قدرة مقاومة البرد ، و جرى في جسدها دم بارد ، و بدأت ترتعش من الخوف ، تلتفت يمينا و شمالا ، راودتها فكرة الرجوع الى البيت ، لكن الجرح كان أعمق من معالجته بالعودة ، بالعكس المجهول أرحم ، و من يدري ... تذكرت و هي التي أفنت عمرها في خدمتهم ، تطبخ ، نغسل ، و تنظف ..حملت شقاء البيت منذ طفولتها ، هكذا نشأت ، يحبونها أفرادا و يمقتونها جماعات ، تعرف كل شيء عنهم و لا تعرف عن نفسها شيئا ، يلقبونها باليابسة و هي أخصبهم بدنا و أجملهم رسما ، تضحك غير مبالية بهم ، يكرمهم الأهالي خوفا من أذاهم و لنفوذهم ، يأتونهم بالسمن و الصوف و اللبن و الخضر و الفواكه و خرفان المناسبات ، يتوسطونهم للرشاوي و قضاء حوائجهم ، كان أبوها بالتبني رئيس قسمة الحزب الحاكم ، وحده في القرية تصحو على يديه و تمطر ، انه من قبيلة اولاد سيدي ساد ، التي تمثل الأغلبية في هذه المنطقة ، تعصب الآباء و تشيع الأبناء بالشيوعية الحمراء التي لا ترحم حتى من يخالفهم في اللباس ، اسسوا لعقلية فرنسية بمراس أعرابي ، ظاهره رحمة و باطنه عذاب ، و طال عليهم المثل القائل ..فارس من ركب اليوم ..
    انها الآن في بوابة القرية تنتظر القدر الآتي متحدية كل الأعراف ، تتصور مغامرتها مشاهد مختلفة من فصول هذا المجتمع المعوق ، حين يمثل مسرحية اختفائها، و هي كذلك حتى أيقضها ضجيج محرك شاحنة لشركة سوناطراك، شركة البترول الذي يراه الجميع والغاز الذي لا تراه العين المجردة ، أشارت الى السائق فتوقف ، فأسرعت تتسلق السلم ...ألقت نظرة أخيرة على قرية القسوة السائق : الى أين أيتها الجميلة ؟
    خضراء : الى مدينة أروان .. وتوقفت تنتظر الاذن ..
    السائق : أدخلي ، وأغلقي الباب جيدا .. مرحبا بك في عالم الطريق
    خضراء : شكرا
    كان السائق ضخما ، يتجاوز الأربعين من العمر ، أبيض بشنب أسود كثيف ،و شعر طويل ، عريض الوجه صغير الأنف بمناخر الثعلب و دقيق الشفتين ، يرتدي معطفا أسود من الجلد الخالص ، تحته قمص أزرق بمربعات سوداء ..
    أنطلقت الشاحنة تنتفظ من عالم السكون و قيود المكان ، كأنها وحش يهاجم الزمن ، مقارنة بالذات البشرية بدت لها الشاحنة كبيرة جدا و مدبر أمرها صغير جدا ..كانت رائحة التبغ الممزوجة برائحة المازوت تعكر الجو الداخلي ، ففتحت خضراء الزجاج دون اذن ، و فتح السائق الراديو..
    السائق : القرآن ..صح نومكم في المحطة..
    أطفأه ، و أشعل سيجارة ، كثرت حركاته و نظرات و فهمت خضراء أنه يبحث عن رأس حبل للثرثرة ، فبادرته قائلة
    خضراء : هل عندك أولاد ؟..
    السائق : لست متزوجا ، أفضل حياة العزوبية ، لأنني وجدت في تنقلي هذا عبر هذه المسافات الطريلة متعة ما بعدها متعة ، و الزواج مسؤولية والتزام كبير ، و قيود لآ أتحملها ، الحرية عندي أغلى من أن أتقيد برابطة لست واثقا من نجاحها ..
    في هذه الأثناء كانت خضراء قد غادرت الشاحنة ، متحدية سرعتها ، تحوم تلك النفس كاليرقاء في عمق التفكير الذي يحاول عبثا اختراق الماضي ، لم تتوصل الى شيء ، سراب و ضبابية ، و لا نهاية تمتد من كل جهة ، تدفع الى الضياع .. و بدت للسائق على تقاسيم وجهها تغيرات الصراع الذي تعيشه فقال
    السائق :هل أنت مريضة ؟..
    الا أن تناسق اجترار المحرك الذي كان يأكل بعضه بعضا ، و احتكاك الأفكار المتصارعة في نفسها حال دون وصول السؤال الى مداه.. فهمزها..
    السائق : هل عندك مشاكل ؟..
    خضراء : لا ، لا شيء ، مجرد غفوة من حزن الفراق ..
    و حتى تبعد الحديث عن نفسها ، تابعت تقول
    خضراء: ما هي الأماكن التي تعجبك في وطننا الحبيب ؟
    السائق : تعجبني زيتونة سيق ، و وردة البليدة ، و مياه سعيدة ، و ملأة قسنطينة ، و سروال العاصمة ، و جلباب تلمسان ، و حايك وهران ، و وشم الصراء ، انني وطني محافظ حتى النخاع ...أهوى كل شيء يربطني بالماضي بالأصل ، بالتاريخ ، حتى الأسطورة أعشقها ...
    خضراء : الماضي ؟.. الأصل ؟.. التاريخ ؟.. هذه كلمات عجزت معاجم العالم عن شرحها ،و اثبات حقيقتها و شرعيتها ، أنا لا أومن بها ، لأنها مزورة ، مفبركة ...الحياة هي المستقبل و الماضي هو متعة الحلم عند الأقوياء والكابوس المزعج عند الضعفاء ، المزعج ، نعم المزعج و المفزع السائق : رغم هذا أ،ت تسأليني عن الماضي ، و كل حاضر وليد ماض معين ، و حاضرنا تاريج المستقبل ، هكذا علمتني مدرسة الحياة ، مدرسة السفر ، مدرسة الطريق الطويل الذي يصل الزمان بالمكان ..
    خضراء : الطريق ؟.. الطريق مدرسة المشردين ، و المنبوذين ، و بقايا هذا المجتمع الذي لا يرحم ..
    السائق : أظن أن النكران و الجحود قد أصاب منك حضه و أصابك في الصميم ، لا يتعفن الماء الا في البرك ، أما المياه الجارية تمخر الأرض و تشق طريقها في الصخر و منثنى الرابية ،تبقى دائما أطهر و أنقى ..
    خضراء : يذكرني كلامك بسبخة وهران و واد الحراش ، انها فضلات أهلها لا غير ، انهما التاريخ الحقيقي لمخلفات البشر ، لأمة تبلع دون هضم ، أمة متنكرة لأفعالها و أقوالها ، هكذا التاريخ الذي تمجده أنت أيها المحافظ ، لا تحاول لن يصلك صافيا نقيا ، التاريخ يا سيدي فضلات الأمم الحية ، تقتات منها الأجيال الميتة ، و صدق من قال ، ان صدق التاريخ فأنا أكذوبته الكبرى ... خيم الصمت من جديد و انقطع تيار الكلام ، وانفرد كل منهما باجترار كلام صاحبه ..
    و قال السائق في نفسه ...ان هذه القلعة السوداء شرسة في النقاش ، لا أظن أنها تفتح أبوابها الحقيقية لأحد ، ذكرته بزنوج أمريكا ، يقال أنهن يتميزن بالأنفة و الزهو ، و الافراط في الكبرياء ...لا شك أنها في حالة متوترة ، أو أنها تعاني من عقدة نفسية ..
    السائق: موظفة أنت أو طالبة ؟..هل لي أن أعرف أسمك ؟
    خضراء : اسمي بنية ، أعمل ممرضة
    السائق: عمل انساني مشرف
    خضراء : في وسط الوحوش ، بل أفظع من ذلك ، انها انسانية آلية تطورت فيها آليات الظلم و الجحود ، و..
    فقاطعها قائلا
    السائق : كفى ، كفى ..توقفي قليلا ، ما هذا التشاؤم يا سوداء الباطن ، انك تعانين من عقد كثيرة ، و كأني بك في عهد النخاسة و العبودية...ألست كالريح المرسلة ، حرة طليقة ، لا يقيدك مكان ولا يحاصرك زمان ؟..
    خضراء : آه لو كنت ريحا ... لعصت بهذه المجتمعات ، و قذفت بها الى الجحيم ، أي حرية هذه التي تتكلم عنها ، حرية الذباب و الحشرات و البهائم ، هذا المفهوم للحرية هو الذي صنع نخاسة العصر واستعبد الجميع ..
    السائق : هذه فلسفة و كلام لا يعكس الواقع ، لو كنت فلاحة لمات الناسجوعا ، تشاؤم وانهزام كلي ، أمام تحديات بسيطة و طبيعية يصادفها الجميع و في كل المجتمعات
    خضراء : لست فلاحة والناس يموتون جوعا ، و لست حاكمة والناس يموتون مئات المرات ظلما ...و الناس ...و الناس...أما أنت لا شك أنك ابن ما وراء العصر ، أرجوك لا تجعلني أسجل أسفارك في سجلات العبثية ، بالله عليك بأي عين تنظر أنت الى هذا المجتمع ؟..أبهرتكم السطحيات ... خنقها الدمع فسكتت...
    و عاد الصمت ليخيم من جديد و يترك المجال لسمفونية الاجترار ،اجترار النفس و الحديد ...يستوي الطريق أمامها و يمتد حتى يدرك الأفق ، ثم تأتي المنعرجات ، الأشجار تمر كأنها تقتلع و يرميها الزمن الى الوراء بكل ما أوتي من قوة ...هكذا تنظر خضراء الى الأشياء ، الزمن في نظرها لا تقهره الا القوة ، قوة السرعة ، و سرعة الحركة ، رغم أنها تقدمنا الى الموت ، و تحدث الاصطدامات و الانكسارات ، الا أن الانسان عازم على الوصول بسرعة على حساب العمر ...هكذا التحمت نفس خضراء بالمسافة و شجون السفر، و دون سابق انذار قفز تفكيرها الى حادثة البارحة ، ماذا سيقولون بعدها ، سيقولون هربت المجرمة ، و يقول آخرون اراحنا الله منها و يقول ...آآآه ،كريم هو الوحيد ، نعم هو الوحيد ... و بدأت مراسم الندم تتشكل في كل مدارك ذاتها ، اغرورقت عيناها و كادت تنهار بالبكاء ، تصارع فكرة العودة الى البيت بأيد فارغة وقلب جريح ...حينها كان البيت مسرحا للتساؤلات ، و حقلا للظنون و الاتهامات ، الكل في الغرفة حول سرير الأم الطريحة ،رؤوس منحنية أثقلتها التساؤلات ، و شفاه تأكلها أسنان الغضب الذي تغذيه الكلمات الملتهبة ، التي تتطاير كالشظايا من كل جهة ...

    كانت حينها نونة الشبح ، هكذا ينادونها ، هذه العمة العانس ، واقفة أمام الباب ، تطارد بنظراتها عيون الأم ، كأنها تريد أن تقول لها شيئا ... امرأة طويلة ، بوجه عريض تملأه عيون البوم ، تتابع مجريات الحديث في صمت مريب ، كأنها تخفي وراءها منبع الحدث ، فضولية الى أقصى درجة ، لا تفوتها صغيرة ولا كبيرة ، تساعدها شساعة البيت وكثرة أجنحته على تحركاتها المريبة ، تجدها دائما حيث لا تتصور أن تكون ، وحيث لا يجب أن تكون ، كأنها السراب ، تتصرف ببرودة ، تمر أمامك مر الكرام ، أينما كانت يثير تواجدها اسئلة الشك ، لا تتكلم كثيرا ، عندما تنظر اليها تشعر وكأنك أمام شبح تتصارع في عمقه أرواح متناقضة وملامح الوعيد ، تزرع في نفسك رهبة ممزوجة بنوع من الشفقة والحذر ، ليلة الحادث شاهدتها خضراء في آخر الرواق ، واختفت فجأة ، ولما خرجت كانت تراقبها من شباك الطابق العلوي ... لا يعرف عنها سوى أنها العمة الشقيقة ، كانت هي اللبنة الأولى في تشكيل هذه الأسرة ، تحتفظ بجميع أسرار البيت وماضيه ، لا تقوم بأي شغل ، كأنها السيدة الشرفية للعائلة ، لا يدخل غرفتها أحد ، تعيش في عزلة وهي محور البيت ، تظهر وتختفي بسرعة ، لا يحدد أحد مكانها ... في هذا البيت لا تستطيع أن تجزم أنك وحدك الا وهي معك ، الجميع يتحفظ ، صورة لظل ليس له جسد ...
    ثورة : هذا أقل ماكنت أتوقعه ، ان لعنة اللقطاء تطاردها حتى الموت ، سترون ذلك ..
    الأم : لقد انتهى كل شيء ، لن يكون لها المكان بيننا أبدا ، قالها الأولون ًالمربي اليه ربي ً هي ذبحت الكلب لا تسلخيه أنت .
    ثورة : كنا نحنو على أفعى ، لم أكن أكرهها الا لسواد أفعالها ، انظرو الى ذلك الأبله ، أراد أن يتزوجها ، كم كنت غبيا وساذجا ، وهكذا يعيرون أبناءك بأولاد اللقيطة
    الأب : يتزوج من ؟
    ثورة : يتزوج خضراء
    الأب : خضراء ؟! .. هذا هراء كيف يحصل هذا في بيتي ؟! لماذا أنا آخر من يسمع في هذا البيت ؟
    الأم : هون عليك يا حاج مجرد كلام أطفال ، لم يكن من الأهمية بمكان ، وأنت يا ثورة كفى !..لا تزيدي .. كفي عن أذى أخيك
    كريم : سأبحث عنها لعلها تكون عند عمي بامبرا
    الأم : لا تحاول يا بني ، انها كابوس العائلة وانزاح ، دعنا منها ..فقط لا أريد أن يسمع أحد بهذه الفضيحة ... خضراء سافرت
    ظهر نوع من الارتياح على وجه الأم ، كأنها أحطت رحلا ثقيلا ، نسيت جرحها وهمت بالوقوف ، فأعادها الألم الى وضعيتها ، تنهدت وهي تنظر الى السقف وهمهمت ، وأخيرا جاءت النهاية وبتكلفة أهون ...
    كريم : ماذا تقولين ؟
    الأم : لا شيء أراحنا الله منها
    نظر اليها كريم مستغربا كيف تحولت أمه بين عشية وضحاها الى وحش لا يرحم ، ماكان يظن أن أمه تحمل كل هذا الكره لخضراء
    الأب : اتركوها ترتاح قليلا ، لقد تعبت كثيرا ، أما تلك اليابسة ، يعني بها خضراء ، فالى الجحيم
    انصرف الجميع وبقي كريم ، ولما استوت أمه على فراشها ، وضع على صدرها الغطاء ، وهمس في أذنها قائلا ...
    لماذا كل هذه القساوة يا أمي ؟!.. لماذا كل هذا البغض ؟! لماذا ؟ لماذا ؟
    الأم : كم أنت طيب يا كبدي ، ليت الناس كلهم كريم ، يسامحون مثلك ، ولكن هيهات هيهات يا بني الدنيا آكل ومأكول ...
    خرج كريم يجر الخطى ، وهي تنظر اليه بعين الشفقة ، تنهدت وقالت .. من أجلك ، ومن أجلها ، ليس لي خيار آخر ، لعل هروبها يكون قد حمل معه كل الافتراضات المأساوية التي كانت من المحتمل أن تصيب هذه العائلة ..
    وصلت الشاحنة الى محطة الوقود ، تزودت ثم انطلقت ولا يزال السائق يلتزم الصمت وأحست خضراء بنوع من الحرج وهي تنظر الى صاحب المعروف الذي وضعته في قفص ، وبدى على وجهه الانهزام وشعرت في نفس الوقت بقوة تدفعها الى خوض المغامرة بكل ثقة ومواصلة الطريق ، لعلها تكون قد تزودت هي كذلك بعزيمة أقوى ..
يعمل...
X