إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الأديب ( فرانز كافكا ) يهودي تشيكي الغائب الحاضر - بقلم جهاد فاضل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأديب ( فرانز كافكا ) يهودي تشيكي الغائب الحاضر - بقلم جهاد فاضل

    عالم فرانز كافكا
    • لايزال كافكا يُقرأ إلى اليوم بشغف بخاصة سيرته الملتبسة
    • كافكا كاتب يهودي ولكن هل كان صهيونياً؟
    • غارودي: كافكا شاهد على عصره.. و كان ثورياً أراد أن يقول الحقيقة
    • باحثون يجزمون أن كافكا لم يتأثر بالحركة الصهيونية ولم يكن لليهودية دور في أدبه.
    • القلق الوجودي والخوف من الحياة والاغتراب والتشرد والنفي مواضع مركزية في روايات كافكا

    بقلم- جهاد فاضل:
    رغم أنه من الأقلية اليهودية في تشيكوسلوفاكيا ويكتب بالألمانية، فقد حقق فرانز كافكا شيئاً من الوحدة الأوروبية في حياته القصيرة إذ مات وله من العمر 41عاماً. فقد ولد في تشيكوسلوفاكيا عام ١٨٨٣، وكتب بالألمانية لا باليديتشية (لغة يهود أوروبا الشرقية) ولا بالتشيكية أو السلوفاكية، وعاش بين النمسا والمجر (في تلك الفترة كانت هناك امبراطورية تضم النمسا والمجر). وهو ينتمي إلى أسرة يهودية تعمل بالتجارة. لكنه فضل الالتحاق بوظيفة في شركة تأمين على العمل في محلات والده مع أن أسرته كانت ثرية.
    ومع أن سنوات طويلة قد مرت على وفاته (توفي عام ١٩٢٤) وفي سيرته ما قد ينفر البعض منه (يهوديته وربما صهيونته بنظر بعض الباحثين في أدبه وكذلك احتضان الدوائر الإسرائيلية له)، فإن كافكا يُقرأ باستمرا ويجد على ا لدوام مَن يشغف به وبأدبه، وبخاصة بسيرته الملتبسة. وليس هذا الكتاب الصادر في دمشق، والذي نعرض لبعض صفحاته في هذا المقال، سوى دليل على اهتمام المثقفين به، وإعادة قراءته من جديد وإخضاعه للبحث والمساءلة. ذلك أنه إلى جانب من يتحدث عن صهيونية ما في كافكا، هناك الكثيرون ممن يتصدون لهذا الزعم ويبرئون كافكا من هذه التهمة الجائرة، ونفضه يده مبكراً من مساعي اليهود لإنشاء دولة يهودية فوق أرض فلسطين. فكافكا إذن ليس كاتباً صهيونياً مفرغاً من صهيونيته. وإنما هو بالدرجة الأولى كاتب كبير له عالمه الخاص به، وهو عالم مازال يجذب مريدين كثيرين يجعلون من كافكا أحد عمد الأدب البارزين في عالمنا المعاصر.
    يرى الكاتب الفرنسي روجيه غارودي أن إنتاج كافكا ثمرة علاقة بين إنساني ولا إنساني، وأنه لم يكن عدمياً أو يائساً، بل شاهد على عصره، وأنه كان ثورياً أراد أن يقول الحقيقة.

    ولكن آخرين ومنهم كتاب تشيكيون يرون كافكا كاتباً فكاهياً أو مسلياً. هذا إلى جانب من ينظر إليه على أنه، وهو اليهودي، مجرد روائي مسيحي. ويرى يساريون وفرويديون أن كافكا يمثلهم بحق. وإلى جانب من يلح على أنه كان «كاتباً يهودياً»، تؤكد سيرته أنه لم يكن يعرف كلمة واحدة من اللغة اليديتشية. (كان يتقن التشيكية والفرنسية ويعرف الإنجليزية والإيطالية). لم يتلق أي تربية دينية عند أهله. ولم يكن يعترف بيهوديته إلا مضطراً. وله أقوال عديدة في رسائله إلى صديقته ميلينا تنم عن عدم استلطافه لليهود. فقد ذكر في إحدى رسائله إليها: «رأيك باليهود الذين تعرفينهم طيب أكثر من اللازم. أحياناً أتمنى أن أحشرهم جميعاً (بمن فيهم أنا) في الدرج، وأنتظر، ثم أسحب الدرج قليلاً لكي أرى فيما إذا كانوا اختنقوا جميعاً. وإذا لم يكن هذا قد حدث، فإنني أعود وأغلق الدرج من جديد، وأعيد العملية إلى ما لا نهاية»!
    وفي رسالة أخرى يتحدث كافكا عن أطباء يهود يمسدون لحاهم قساة ضد المسيحيين واليهود.

    وله جملة مشهورة تقول: لم ترشدني يُد المسيحية في هذه الحياة كما أرشدني كيركيجارد (فيلسوف وجودي). وفي عام ١٩٢٢، أي قبل وفاته بسنتين، عُرضت عليه رئاسة تحرير مجلة يهودية، فرفض العرض.
    وقبل وفاته بأسابيع كتب إلى والد صديقته دورا، التي كانت ترعاه في المستشفى، رسالة يرجو فيها منه السماح له بالزواج من ابنته. ومع أن والد دورا كان رجل دين، فقد ذكر له كافكا بصراحة في رسالته أنه ليس يهودياً مؤمناً.

    وفي مجموع آثاره الأدبية لا توجد شخصية يهودية واحدة.
    وفي عام ١٩٨٥ نشر الناقد اليهودي هانز ديترتشمرمان كتاباً بعنوان «ترجمان بابل» كتب فيه: لم يكن كافكا صهيونياً. ليس هذا وحسب، بل إنه كان يرى الصهيونية عائقاً بالنسبة إلى أدبه. وقال هذا الناقد إن كافكا لم يتأثر بالحركة الصهيونية، وحتى اليهودية لا دور لها في حياته.
    أما خبراء الدعاية الصهيونية فقد قاموا بأكبر عملية سطو عليه إذ ادعوا أنه كان صهيونياً. وكان مرجعهم الوثائقي الأساسي في ذلك كتاب لغوستاف يانوشي بعنوان «أحاديث مع كافكا».
    في هذا الكتاب يجد القارئ آراء لكافكا في ماهية الشعر والشاعر، وآراء له في عدد كبير من الكتاب والفنانين والفلاسفة مثل شكسبير ودستويفسكي وأوسكار وايلد وأفلاطون وبيكاسو وفان كوخ. كما نقرأ تقييمه لعدد كبير من الكتب.

    كما يتحدث عن قيمة ولا قيمة العقائد، عن النظام الرأسمالي، وعن الثورة البولشفية، عن الحرب والسلم، عن الطبقة العمالية العالمية وعن الجماهير.
    ويطلع القارئ في هذا الكتاب على خفايا نفس كافكا، ونظراته في الحياة، وأسرار مرضه، وقضاياه العائلية. وحتى على رأيه بالبغايا. ويبوح لمحدثه بآرائه في أصدقائه وفي كتبهم وزوجاتهم!
    وبدون تركيز، وبشكل عارض، ترد في الكتاب جمل قليلة عن اليهودي والصهيونية، مثل قوله: «نحن اليهود لسنا رسامين وإنما رواة».
    في الكتاب يقول أحد الباحثين إن كافكا ليس كاتباً عاديا. صاحب «القلعة» و«المحاكمة» له أثر عميق في أدب القرن العشرين. لم يصنع كافكا تلامذته قط. ابتكر أسلافاً أيضاً. من يُنكر أننا في اللحظات الحرجة، وعندما نشعر بأننا دخلنا إلى نفق طويل لا خلاص يلوح في نهايته، أو عندما نشعر أننا تورطنا في دوامة تلفنا معها، من الصعب علينا التخلص منها، نردد الجملة المفضلة: «إنها حالة كافكاوية»!.
    إذا كان تكرار كلمة كافكاوية يقتصر على طبقة مثقفة عندنا، فإن هذه الصفة لبعض المواقف في الزمان المعاصر هي أمر روتيني، وبالأخص على الألسن الناطقة باللغة الألمانية تقفز دائماً هذه الكلمة لكي تصف الالتباس الحاصل، ولكي تزيل كل سوء فهم يمكن أن ينتج عنه. أصبحت هذه الكلمة جزءاً من اللغة اليومية المتداولة.

    ترى من أين تأتي صلاحية هذه العلاقة السحرية تقريباً، التي نمنحها لهذه الكلمة المشتقة من اسم كافكا؟ من أين يأتي هذا الشعور الواثق بأننا حين ننطقها، لا نحتاج إلى شروحات اضافية توضح ملابسات الوضع الذي نحن فيه؟ إضافة إلى ذلك، من أين لنا أن نعرف أننا لا نخطئ عندما نستند في حديثنا على محام (أكثر مما هو داعية) لم ينطق باسم ناس عصره فقط، إنما ذهب في كتاباته إلى أبعد من عصره ذاته ، كما نجح في التعبير عن البؤس البشري, بؤسنا بغض النظر عن الجغرافيا التي نتواجد فيها.
    القلق الوجودي والخوف من الحياة، الاغتراب وتشرد ونفي الإنسان الحديث، ظلت المواضيع المركزية التي تشكل محور روايات وقصص فرانز كافكا، إضافة إلى حياته. خلف كل بطل من أبطاله يواجهنا كافكا ذاته. في كل أعماله المكتوبة بشكل عبقري وشيق، تعيش شخصيات تجد نفسها فجأة خاضعة لقوى لا يمكن التحكم بها. وعلى المستوى ذاته الذي عاشت فيه هذه الشخصيات، يبدو أننا في عصر الاغتراب العالمي الذي نعيشه، فقدنا السيطرة على مسارات الأشياء، وعلى الاستسلام للتكرار العبثي لأمور نقرف منها حقيقة، لكننا لا نستطيع إيقاف إعادة إنتاجها. وكما يبدو نحن الآخرون أيضاً نخضع لإرادة، لمزاج الأوضاع تلك التي دأب فرانز كافكا ذاته على وصفها عند الحديث عن نفسه في رسائله ويومياته.

    كان كافكا يشعر وفي شكل مستمر أنه يعيش تحت وضع يضغط عليه، بأنه محكوم يعيش حياة ممزقة، هي التي تقوده، خصوصاً أنه يعرف أنه مجبر على أداء واجباته كموظف في «مؤسسة التأمين على حوادث العمال»، حياة الموظف التي مقتها كافكا ولم يستطع الفكاك منها على رغم أنه ظل يصارع المحيط من أجل الاعتراف بمكانته الأدبية. وكان أكثر ما يثير اليأس عنده، هو شعوره بأنه قادر على تغيير هذا الوضع المتناقض لكن كسله وتردده يمنعانه من تغيير مسار حياته. هكذا لم يتمكن كافكا من إبعاد شعوره بالذنب، وكان أكثر ما يخافه هو النتائج المترتبة على فشله.
    قد يكون تمزقه هذا هو الذي ضخ الدم في شرايين كتاباته، لأنه كان على قناعة بأن الكتابة فقط هي التي تسمح له بانفتاح كامل للحياة والروح. وهناك على الورق فقط لا يمكنه أن يقوم بأي تنازلات. ليس من الغريب إذن أن يشبه كافكا الكتابة بعملية فتح جرح ما.

    وربما هذا هو الكفاح الطويل الذي يعيشه الإنسان دائماً، طالما أن هناك شيئاً اسمه الحياة هو الذي جعل أعمال كافكا الروائية والقصصية، بل ويومياته ورسائله، أن تكون بالنسبة إلينا حتى اليوم وغداً ذات معنى، وأنها تظل شابة في داخلها، لن تشيخ لأن كل إنسان مهما كان لون جلده، ومهما كان دينه ولسانه ومكانه، يشعر بأن له صديقاً عليلاً عاش في مدينة براغ، وكتب أعماله باللغة الألمانية، مات مبكراً جداً، ولكن رسالته عبرت عصره إلى كل العصور اسمه فرانز كافكا.
    كان الأثر الذي تركه كافكا على معاصريه من الكتاب ومن جاء بعدهم بأجيال كبيراً جداً ويمكنه تلمسه بسهولة ويسر. لقد كان الكاتب الأطول ظلاً كما يصفه أحد الكتاب الذي يلمح إلى تأثيره الكبير على عدد من الكتاب المعروفين والمكرسين في الدوائر الأدبية والنقدية. ألبير كامي كان يكتب مثل كافكا تماماً وقد صرح في أكثر من موضع باعجابه بكافكا ورأى أن هناك صلة وثيقة وتتقارباً حميماً يربط بينهما. صموئيل بيكيت بأبطاله المهمشين ذوي الأسماء المختصرة أو الغائبة، وعزلته ككاتب يدين بالكثير كذلك لكافكا.
    بالإمكان تلمس أثر كافكا كذلك لدى الأمريكيين اللاتينيين خورخي لويس بورخيس وغارثيا ماركيز بعوالمهما الغريبة وواقعيتهما السحرية، وميلان كونديرا الذي ولد ونشأ في نفس المدينة التي ولد فيها كافكا، أي براغ. هناك أيضاً الروائي الأمريكي فيليب روث الذي كتب رواية قصيرة بعنوان «الثدي» سنة ١٩٢٧، وفيها يتحول بطلها ديفيد كيبش إلى ثدي أنثوي. وفي ذلك كما لا يخفى تأثر برواية كافكا «المسخ». وفي رواية أخرى لروث بعنوان «بروفسور الرغبة» يعود كيبش مرة أخرى، وهو هذه المرة أستاذ يهودي للأدب ليس على وفاق مع والده وكذلك مع إرثه اليهودي يدرس مادة حول كافكا ويجد صلة ما تربط ما بين الطابع الأيروتيكي الغريب لعالم كافكا، وبين انغماسه وهوسه بعالم الجنس، الأمر الذي يدفعه إلى السفر إلى مسقط رأس كافكا وزيارة قبره. بول أوستر، الروائي الأمريكي المعروف ليس بعيداً أيضاً عن أجواء كافكا خصوصاً في «ثلاثية نيويورك» حيث البحث عن الهوية ومحاولة العثور عن الذات، والسعي للوصول إلى المعنى في زمن أصبح فيه المعنى متعذراً ومتفلتاً لا يمكن القبض عليه. الفائز بجائزة البوكر عن روايته «بقاء اليوم»، كازو ايشجورو، البريطاني ذو الأصول اليابانية، وأحد أهم الأصوات الروائية البريطانية المعاصرة هو أيضاً واحد من أولئك الذين لم ينجوا من سحر كافكا، وبخاصة في روايته الضخمة «المتوحد» التي تهيمن عليها الأجواء الكابوسية الكافكاوية بامتياز منقطع النظير. هناك أيضاً الكاتب الإيراني صادق هدايات صاحب «البومة العمياء». إن قائمة الأسماء المدينة لكافكا والمتأثرة به طويلة ولا تقتصر على ثقافة أو لغة واحدة. فمن البين أن الأثر الذي تركه كافكا اتخذ طابقاً كونياً شمل مناطق متباعدة ثقافياً ولغوياً وجغرافياً. وفي هذا تفسير وتبرير لمقولة أن كافكا هو صاحب الظل الأطول بين كتاب القرن العشرين.
    بقيت كلمات حول كافكا الحالم الأبدي والكابوسي الأبدي الذي لا يستفيق من كابوسيته وأحلامه التي تخلقها الفتيات العابرات في حياته. ينتظر شبح المرأة ويؤجل لقاءه الجسدي بها إلى ما لانهاية. جعل من المرأة كائناً يحسه من خلال رسائله إليها. لم تكن المرأة عنده أكثر من كائن للكتابة، يجد في علاقته بها المسوغ الحقيقي للنص الأدبي الروائي والقصصي. فإذا وُجد أي ثابت أساسي في طبيعة كافكا، فإنه هذا التناقض بين الحاجة الميْؤوس منها إلى علاقة، والعجز عن اقامة علاقة. هذا العجز الذي يُغلب، والذي يتفاقم أحياناً فيتحول إلى «رغبة في وحدة بلا وعي»، أو خوفاً من الاتصال، من الانسياب إلى الطرف الآخر، فلا أعود وحيداً قط. من هذا التناقض ينشأ شعور الانفصام المتواصل.
    وكان شديد الحساسية تجاه جسمه. وقد تنبه إلى هذه الحساسية منذ طفولته، مما جعله مراقباً بانتباه لجسده الذي كان ميزان حياته كلها وسبب نفوره مما هو خارج هذا الجسد. فنجده يحرص على تجنب الضوضاء ويعتبر غرفته ملجأه الشخصي بل جسده الخارجي، ولا يطيق الزوار. حتى العيش مع أسرته اعتبره مصدر عذاب له. يقول: «أكره بشكل قاطع كل أقاربي لأنهم أشخاص أعيش بالقرب منهم. وقد بلغت مناوراته مع إحدى الفتيات، لتنفيرها منه، حد قوله لها: «لا يمكنك العيش معي يومين. أنت فتاة يُفترض أن تبحث عن رجل لا عن دودة أرض رخوة»!

    ويرى أحد المحللين النفسانيين لشخصه، أن الأدب كان عبارة عن علاج نفسي لشخصيته، أو أنه كان بمثابة التحليل النفسي الذي يشفيه من أمراضه وأوجاعه. لذلك كان كافكا يخلع على شخصياته الروائية والقصصية كل مخاوفه وعذاباته الداخلية وعقده النفسية. ولو لم يصبح كاتباً لربما كان مصيره الجنون. وبالتالي فإن الكتابة أنقذته من الانهيار أو من الانتحار. ومع ذلك فإن عالمه عالم غرائبي محاط بالجنون على الدوام!
يعمل...
X