إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

يركب قطار الراحلين خيري شلبي بالوداع الأخير لـ أُنْس الحبايب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • يركب قطار الراحلين خيري شلبي بالوداع الأخير لـ أُنْس الحبايب

    الوداع الأخير لـ «أُنْس الحبايب»





    ربما كان يعلم بأن الرحلة اقتربت من النهاية وأن عليه أن يركب قطار الراحلين فأراد أن يستدعي أحباءه وزملاءه وسنوات طفولته وصباه الأولي، لعلها تكون زاده في عالم
    الآخر أو ليكتب شهادته عن عصر كامل يمثل مصر في الأربعينيات والخمسينيات بفلاحيها وأفنديتها حينما كان الحلم بوطن أفضل فريضة واجبة علي الجميع.
    لا أحد سيعرف لماذا كتب «خيري شلبي» كتابه الأخير (أُنْس الحبايب) الذي صدر قبل شهور قليلة عن الهيئة العامة للكتاب من وفاته ولكن من سيقرأ ما بين دفتي الكتاب سيعرف يقيناً لماذا كان «خيري شلبي» أديبا كبيرا وحكاء أعظم فقدناه.
    نحن في العام الرابع والأربعين من القرن الماضي (عام 1944) في قرية صغيرة تسمي شباس عمير تابعة لمركز قلين بمحافظة كفر الشيخ ينطق أهلها حرف السين في عسر مغلظة فتتحول إلي «صاد».

    لا أحد سمع عنها أو يتذكرها علي خريطة القطر المصري آنذاك، ولكن الكاتب الكبير خيري شلبي يستحضرها من الماضي ليرسم وبقوة من خلال قريته المجهولة خريطة كاملة المعالم ودقيقة الوصف لريف مصر المحروسة فعبر كلمات مفعمة بالامتنان والحب لشخوصها ودروبها المتربة التي كان يحلم هو ورفقاؤه بأن تصبح ذات يوم شارع داير الناحية مرصوفاً وتجري فيه عربات الترام علي قضبانها ويصير في بلدته موقف لأتوبيسات الكافوري أو القصراوي تنقلهم بسهولة إلي دسوق وطنطا وكفر الشيخ ودمنهور ثم تعيدهم بمواعيد معلومة منتظمة شأن البندر والمدن الكبري.
    هذه الأحلام البريئة التي داعبت خيال الطفل «خيري شلبي» وزملائه كانت بواعثها إعلان وزارة المعارف العمومية بجواز حصول التلميذ «خيري شلبي» ودفعته علي الشهادة الابتدائية في العام الدراسي (1949 - 1959) من مدرسة قريتهم «تفاس عمير الأولية الإلزامية» وأنهم لن يسافروا إلي البندر محملين أهاليهم نفقات السفر التي هي فوق احتمالهم!
    هل ما قلته سلفاً يكفي لأن تعرف سنوات التكوين الأولي عن الكاتب الكبير «خيري شلبي»؟ الإجابة من عندي: بالطبع لا.
    فعبر مائة صفحة ويزيد يحكي خيري شلبي عن مدرسته الصغيرة النظيفة المرشوش فناؤها دائماً بالمياه وأبوابها وشبابيكها ممسوحة بالفوطة الزفرة المبللة ومراحيضها التي يتم تنظيفها يومياً وتزويدها بحبات النفتالين ذات الرائحة النفاذة أو ترش بمحلول الفنيك.


    فناظر المدرسة «حسن الزيات» لم يكن يتسامح مطلقاً في شيئين كليهما خطير: النظافة والضبط والربط.
    الكاتب الكبير «خيري شلبي» هنا يجعلك لا تشعر بأنه يتحدث عن مدرسة صغيرة إلزامية لأبناء الفقراء فيصف لك موقع المدرسة الفريد بشبابيكها العريضة المطلة علي الخلاء الممتد إلي الحقول وتلة المقابر والمحاط ببيوت عتيقة من الطوب المخلوط بالتبن. في هذه المدرسة تعلم «خيري شلبي» كيف يتذوق اللغة العربية ببلاغتها ونحوها وصرفها وشعابها وأن يجلس علي تختة (القمطر) مرتفعة قليلاً وفي وسطها تجويف يبيت فيه القلم الرصاص أو الريشة وهي عبارة عن سن من المعدن ذي يد طويلة كالقلم وفي منتصف هذه الشريحة من كل تختة دائرة مفرغة تبيت فيها دواة حبر مصنوعة من الخزف الصيني الأبيض تملأ دوماً بالحبر الأزرق القاتم فيستقيم خطه ويعرف لمعاني الكلمات التي يكتبها قيمتها وجمالها.
    واحد وستون عاماً تفصل بين التلميذ في الصف السادس الابتدائي «خيري شلبي» وبين تلاميذ المدارس الحكومية اليوم - والتي يقال عنها كذباً وزوراً إنها مجانية - الذين تطالع أعينهم الصغيرة كل يوم تلال القمامة أمام مدارسهم ومصاريف الدروس الخصوصية وتختهم المتهالكة وبياض الفصول الكالح التي ينوء بها كاهل أهلهم فلا تعليم حقيقيا في المدرسة ولا علاقة أستاذية بينهم وبين معلمهم الذي تحول إلي جامع للمال لا يهمه تعليم تلاميذه ولا أخلاقهم.
    فخيري شلبي التلميذ يفرح بكتبه الدراسية التي يتسلمها مجاناً ويتطلعها مبهوراً بالرسوم الملونة لأنواع الحيوانات والأشجار والغابات، يتسلم الكراريس ذات الجلود الصفراء والورق الزهري المصقول ذي هوامش بالخط الأحمر علي الجانبين مع كراسة خط أنيقة وقصبتين من البوص المجوف يستقيم معها خط التلميذ ويجعله جميلاً مضبوطاً بقواعد الخط العربي، أما وجبة الغذاء المجانية التي توزع عليه هو ورفقائه في الظهيرة فهي رغيف طازج وبيضتان مسلوقتان مع قطعة كبيرة من الجبنة الصفراء الملون ذات الطعم الحريف اللذيذ ومغرفة من الفول المدمس المغمور بالزيت الفرنساوي مع قطعة حلاوة طحينية وأحياناً أصبع موز وبرتقالة!!
    من سيقرأ هذه المؤانسة بين الكتب الكبير «خيري شلبي» وأحبائه سيحسده علي الرغم من تقلبات الزمن المادية في حياته واضطراره إلي امتهان العديد من المهن لتوفير حياة مستورة لنفسه ولكن في تصوري عاش حياة شديدة الثراء والغني الإنساني والنفسي فيكفي أن تقرأ ما كتبه عن فضل معلمه «حسن ريشة» أستاذه وابن شيخ كتاب القرية والشهير بـ «ريشة أفندي» وتبنيه الكامل له وزملائه لكي يحصلوا علي أعلي الدرجات في الشهادة الابتدائية أسوة بتلاميذ المدارس الإلزامية فيحقق ما أراد ولكنه المعلم الذي يحلم بمستقبل أفضل لتلاميذه فيدور علي بيوت تلاميذه ومنهم تلميذه خيري شلبي ليقنع أهاليهم بتكملة تعليمهم ويرشدهم إلي مدرسة المعلمين المعفاة من المصاريف ليضمنوا لأولادهم مستقبل مضمونا فتجيء اللحظة الفارقة في مستقبل التلميذ خيري شلبي والذي كتب عن استمارة الكشف الطبي في مدرسة المعلمين أنه لن يقبل إلا بعد عمل نظارة طبية له فيسعي مرة أخري المعلم والأستاذ «حسن ريشة» ويحكي أزمة التلميذ خيري لأهل القرية فمن أين يأتي والده بخمسة عشر جنيهاً وهو أب لاثني عشر ولداً وبنتاً هي ثمن مصاريف الكشف الطبي وعمل النظارة فيتكاتف أهالي القرية جميعاً في جمع المبلغ ويذهب الأستاذ حسن ريشة إلي والد خيري لعمل النظارة الطبية لكي يلتحق بمدرسة المعلمين العليا فكانت أول نظارة طبية يضعها علي عينيه الكاتب الكبير خيري شلبي علي نفقة أهل بلدته.
    «مصابيح تحت العمائم» هكذا يتحدث خيري شلبي عن جيل بأكمله من الأزهريين الخلص الذين يحق لهم أن نصفهم بالمنارات دون تزيد أو مبالغة أو بقششة في الأوصاف، الكثيرون منهم حصلوا علي عالمية الأزهر الشريف وعادوا إلي قراهم علماء بغير وظيفة رسمية حكومية اللهم إلا تفليح أرض ورثوها عن آبائهم أو يباشر بعضهم عملاً تجارياً موسمياً أو يعمل مأذوناً شرعياً أو يبقي رأساً لعائلة تفخر به وتكتسب بفضله عزة فوق عزة إلا أن مجرد وجودهم في أي بلدة يكون مصدر إشعاع ليس دينياً فحسب بل ثقافي وعلي درجة عالية من الاستشارة والشعور بالمسئولية الإنسانية أولاً ثم الوطنية ثم القومية الإسلامية يقدمهم الناس إلي منابر المساجد والإمامة ويلجأ إليهم الناس في طلب الفتاوي إذا استعصي عليهم أمر من الأمور فإن أفتوا كانوا بشراً ومواطنين بالدرجة الأولي يستخدمون عقولهم وما وهبوا فيها من علم ليس لإخافة الناس وإرهابهم من عذاب القبر ونار جهنم ليس بإظهار الله سبحانه وتعالي كمنتقم جبار فحسب وإنما لتيسير الأمور وإرشاد العقول الجامحة وهدهدة النفوس الحائرة وتطمينها وزرع الأمل فيها اعتماداً علي الرحمن الرحيم القابل للتوبة غافر الذنوب متي استقام المذنب عن حق وصدق.
    حيث العبادة تعني العمل والصلاة تعني يقظة الضمير والتقوي تعني الإخلاص في تنوير العباد وإرشادهم إلي السلوك القويم.
    أين ما كتبه خيري شلبي عن الشيوخ ورجال الدين في القري الصغيرة الممتدة بالآلاف في دلتا وصعيد مصر في حركة تنويرية دون ضجيج أو افتعال يعلمون صحيح الدين من الذي نراه ونسمعه الآن ويتعلمه الشباب من شيوخ السلفيين والمتشددين ورجال الدين بالفضائيات أصحاب البدل الأنيقة وأربطة العنق الوردية!!
يعمل...
X