إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رواية لـ مريم آل سعد ( تداعي الفصول ) ح 12

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رواية لـ مريم آل سعد ( تداعي الفصول ) ح 12

    رواية لـ مريم آل سعد ( تداعي الفصول ) ح 12

    رواية للكاتبة : مريم آل سعد
    تداعي الفصول:للكاتبة مريم آل سعد
    (الحلقة الثانية عشرة)

    التاسع والثلاثون
    عيد الشكر
    كان موعد الغداء الواحدة ظهرا... وكانت سارشة قد استعدت للحفل وارتدت فستانا من التراث الشعبي المطرز بخيوط الزينة الملونة.. كان لونه الأحمر يضيف عليها شيئا من الحيوية والمرح ويتناسق مع لون وشاحها الأسود الذي يلف شعرها ويبرز وجهها المريح وعينيها الواسعتين اللتين يميزهما الكحل العربي المحدد ببراعة فائقة تتميز بهما الخليجيات بالذات، ربما باحت عينا عائشة بالكثير وهي التي لا تكاد تخفي حسرتها وتألمها ان تكون هذه الانسانة التي امامها تلازم عكازة لتسندها.. كانت تبذل جهدا لكي لا تقول... هل يعقل ان تكون صاحبة هذا البهاء مقعدة نوعا ما، محكوم عليها بملازمة عكازتها..
    وعلى الجانب الآخر كانت سارة تحس بالذنب لأنها استخدمت عائشة في هذا اليوم واجهدتها معها منذ الأمس في التبضع والاعداد والطبخ وشغلت مطبخها وبيتها وحرمتها من اسرتها وشتت انتباه الموجودين.. على الرغم انها تعلم ان جزءا من الطعام سيكون لحفلة اخرى للغداء في بيت عائشة لنفس المناسبة.. انهم وان كانوا عربا الا انهم يتأثرون بثقافة المجتمع الذي يعاشرون، وستشارك فيها تماضر وزوجها وسيحضران نصيب الجميع من الكبسة بينما سيحضر شقيق عائشة وصديقته الأمريكية معهما الديك الرومي المشوي بالفرن الذي يشكل العمود الفقري لهذه المناسبة..
    وفور وصول تماضر بطبق الكبسة الكبير الموعود كانت الأطباق تهيأ عند مدخل بيت عائشة بانتظار الدكتورة سميث..
    ساعدت الدكتورة بعد وصولها بحمل الأطباق الى السيارة والتأكد من سلامتهم وعدم اندلاقهم، وودعت سارة الجميع وانطلقت مع مضيفتها المذهولة من هذه الأطباق العديدة والكميات الرهيبة من الأطعمة..
    هناك استقبلهم زوج الدكتورة وهو يشعر بالارتباك كردة فعل الأشخاص بالغي التهذيب ازاء كيفية التعامل مع اناس من ثقافات مختلفة. تركته سارة يساعد زوجته وحاولت ان تعتمد على نفسها في النزول لئلا تزيد من احراجهم..
    كانت عائلة الدكتورة تتكون من أبنائها طالبي الجامعة وابنتها وزوجها وطفلتها الصغيرة وشقيقتها وزوجها واولادهما الأربعة ووالدها وحماتها.. وقد كانوا منتشرين بين الصالة وغرفة الطعام والمطبخ..
    كان منزل الدكتورة مشرقا وواسعا بينما يحيط الزجاج بالصالة مما يكشف جمال الطبيعة الخارجية.. وكعادة الأجانب كانت الصور والبراويز والشموع والأيقونات واللوحات والورود والتحف تزين المكان وتصنع ديكورا رائعا من الألفة والجمال..
    احتاجت سارة وقتا كي تعتاد على المكان وعلى الناس الكثيرين المنتشرين حولها الذين يتصرفون على سجيتهم، وكأنهم وحدهم ولا يشعرون بقيود لوجود غرباء اوضيوف وسطهم.. اعطاها هذا السلوك راحة داخلية لتتخفف من توترها واحساسها بالغربة.. كان مستر كينغ والد الدكتورة اكثر الموجودين دماثة واهتماما.. فقد اشار ضاحكا الى انشغال ابنتيه بالمطبخ واعداد الغداء الشهي الذي يذكره بولائم زوجته التي انتقلت الى رحمة الله منذ سبعة عشر عاما.. وقال ضاحكا:
    سبعة عشر عاما بدونها ولكنني اميز طبخها واحس به في فمي الى الآن واجامل ابنتيها وامدح طبيخهما، واقول لهما انه يذكرني بها، وانا اعلم بأنهن يعرفن بأنني كاذب كبير.!
    قالت له سارة بتعاطف: لا بد انك تفتقدها كثيرا..
    قال بألم: وخصوصا في مثل هذه المناسبات.. اتمنى ان تكون موجودة.. بالفعل اشعر بمكانها فارغا..
    التقط الحديث مسز سميث، الذي كان يزود المدفأة بالحطب وقال مشاكسا: اذا سمعتك ابنتك فستندم على عدم دعوة جارتنا على الغداء..
    والتفت شارحا لسارة:
    انها جارتنا وحدثتها كارين عن والدها ويبدو ان هناك نية للخروج من قبلها في موعد معه..
    اشاح مستر كينغ ذو الثمانين عاما بيده متعففا: مع احترامي فان لا اطيق ثرثرة هؤلاء النسوة..
    كان الضحك يرتفع عاليا ليملأ الصالة ويشد الحضور ليشاركوا بالحوار بينما قال احد ابناء الدكتورة سميث الذي يلعب بلعبة الكترونية بحجم الكف بين اصابعه:
    لا بد يا جدي ان تواعد مدرسة البيولوجي لدينا.. على الأٌقل لآخذ الدرجة واتخرج وبعد ذلك افعل بها ما تريد..
    هز الجد رأسه يائسا منهم وقال لها بصوت مهموم:
    انظري لهذا الجيل يتلاعب بالعلاقات الانسانية.. العلاقات اصبحت تمضية فراغ ومصالح لا غير...!
    قالت سارة بنوع من الاعتزاز: نحن في مجتمعاتنا العربية ليس لدينا التفكير ذاته.. هناك احترام للعلاقة بين الطرفين وقدسية لها..
    وتابعت..اتدري... سأقول لك موقفاً شهدته هنا لم استطع استيعابه بحكم تربيتي.. كنت مع عائلة صديقتي لزيارة شقيقها العربي وصديقته الأمريكية التي تعيش معه.. لقد اصبت بصدمة عندما وجدنا هناك شقيقها مستلقياً على الأريكة في بيت اخته وصديقها وكأن كل شيء عادي.. في موطني يقتل الأخ اخته في موقف هكذا ويقضي بقية عمره في السجن مرفوع الرأس لانه انتقم لشرفه وهنا...في الحقيقة... لقد صدمت بالفعل يومها ولم استوعب الموقف..
    شعر مستر كينغ بالدهشة والاستغراب من ردة فعلها على امر عادي للغاية في حياتهم، وقال:
    ان هذا مثير للاهتمام.. مدهش...ان تقاليدكم تستحق التفكير بالفعل.. ولكن اليس هناك مواعدة والا يخرج الشباب مع بعضهم البعض... اقصد جميع الناس، اليس في نمط حياتهم هذا السلوك الاجتماعي.. ,؟؟
    - لا... هذا ضد ديننا.. انه يفسد المجتمع ويجعل العلاقات بين الجنسين حيوانية.. واعني بذلك انه يجعل المرأة مستهلكة وهي تتنقل من شخص الى آخر، انه عدم احترام لها.. ثم اننا كمجتمع حللنا ذلك في اطار الزواج وليس لدينا امهات عازبات بل ان القانون يلزم الرجل بتربية أبنائه في حال انفصال الزوجين لانه يعترف بزواجهما..
    هز مستر كينغ رأسه مفكرا وقال: انا افهم ما تقولين لانني محام متقاعد وايضا من جيل مختلف كان لديه بعض الاحترام للعائلة وللتقاليد..
    سألته: هل لامريكا عادات وتقاليد..؟
    وقال متراجعا: لا ادري... هل لامريكا قيم خفية تعيش في هذا الجيل وتظهر عند اللزوم اوانها تسير في طريق الاباحية والشواذ والحرية اللامحدودة للأفراد..
    جاءت الدكتورة سميث تطمئن على سارة: هل تعرفت على المجموعة..؟؟ هل انت بخير..؟؟
    قال لها والدها: هي افضل حالا من كثيرين موجودين هنا.. انها شخصية تثير الأسئلة..!
    قالت الدكتورة سميث:
    واو.. اذا نلت اعجاب والدي فهذا يعني انك شخصية مدهشة..
    تأملت ساره الرجل الثمانيني واصراره على استقلاليته وتمسكه بوحدته. تذكرت اباها بعد وفاة امها... لا بد انه كان يفتقدها بشدة هو ايضا ولكنه الآن لحق بها ولن يشعر بالألم..
    كان هناك شراب البيض وعصير الليمون وكانت د. سميث تستعد للتقديم عندما دق الجرس وقالت بارتياح... اخيرا جاء آخر ضيفين كنا في انتظارهما.. الجميع هنا انكم تعرفون د. جيمس باركر وزوجته الدكتورة سوزن باركر.
    فرحت سارة بمقدم طبيبها فقد كانت تحمل له معزة خاصة لاهتمامه بها ولانتباهه لحالتها، الم تسمه منقذها...؟؟؟
    وبعد الغداء... انشغل المدعوون بمساعدة د. سميث وزوجها في تنظيف المائدة وعملية حفظ بقية الأطعمة وهي تسأل الجميع بما يحب ان يأخذ معه من الطعام الكثير المتبقي..
    وكانت سارة محظوظة نوعا ما لانها استبعدت من عملية التنظيف باقناعها بأنها ادت دورها واكثر بعملية طبخ الكثير من هذه الأطعمة بينما فاجأها د. باركر وهو يقدم لها القهوة بقوله:
    اعترفي هناك فضيلة عليك اغتنامها من اصابة رجليك... ها انت مرتاحة وها هم يعملون..
    سألته سارة بلؤم: وانت لم لا تعمل وليس لديك اصابة بقدميك... اذن المسألة نسبية وليس لها علاقة...؟
    قال الدكتور متفاخرا: كيف من خبز الكيكة التي غطيت عليها بحلوياتك العربية.؟
    قالت سارة: بالطبع زوجتك من طهتها... هل تريدني ان اصدق انه انت..
    - اسأليها...انت لا تعرفين انني متخصص ببعض الطبخات التقليدية..
    - دكتور صعب علي التصديق انك تبتسم وليس تطبخ فقط، انك جاد أكثر من اللازم، ولم اصدقك وأنت تقول لي عندما ذهبت لرؤيتك بالعيادة.. ماذا تفعلين بهذا الكرسي المتحرك..؟ ألا ترين تحسن قدميك.. ؟ هيا انهضي.. ؟ كنت انظر الى عينيك الزرقاوين اللتين تنظران الي ببرود واحاول الاستيعاب، هل تريد مساعدتي أم تعنيفي...؟؟ بصراحة انك تخيف مرضاك..
    ضحك مستر كينغ عاليا بينما دافع الدكتور باركر عن نفسه:
    ومن اطلق علي لقب الدكتور الساحر يا ناكرة الجميل، مشكلتك يا سارة بأنك ترفضين تقبل وضعك وذلك بعدم السماح لنفسك والآخرين بمنح البدائل لتغييره.. عندما تحبين نفسك كما أنت ستتوقفين عن رؤية نفسك كمختلفة أوضحية وحينها ستسمحين للتطورات بالحدوث وقد تكون غير ما تحتسبين.. الاعاقة ليست النهاية... انت شابة وجميلة وذكية... الكثيرون سيكونون سعداء معك..
    انتهزت سارة فرصة انضمام المدعوين الواحد اثر الآخر للجلسة دون أن يقاطعوا المتحدثين لتحكي لهم حادثة مرت ببالها:
    في ليلة كنت مع صديقاتي نتعشى في مطعم فاخر وذلك قبل أن اترك الكرسي المتحرك لاستعمل العكازتين.. انتبهت الى صوت احداهن وهي تهمس في اذني... هل ترين الشاب الأنيق الذي في الطاولة المقابلة لنا..؟؟؟ يبدو من ملامحه انه خليجي... لقد ظل يرمقك بإعجاب منذ فترة طويلة.. تابعت سارة... لا ادري لم فعلت ذلك ولكنني قلت لها... قولي للنادل ان يحضر الكرسي المتحرك... رفعت لي نظرة متسائلة وقالت... ماذا هل سنغادر الآن...؟؟ ولكنني قلت لها... اسمعي كلامي واخبريه وستفهمين.. وعندما جاء النادل بالكرسي... قلت لها انظري لهذا الشاب الآن وانا انتقل الى هذا المقعد.. انزعجت نظراتها وكانت متألمة بالفعل لانني سأفسد لحظات جميلة كانت تعتقد بأنها ستسعدني..
    تساءل الدكتور... وبعد تصرفك السادي المتعمد ذلك... ماذا كان رد فعل الشاب...؟؟
    - وماذا تتوقع...؟؟ لقد اشاح بوجهه وغادر حتى قبل ان انهي جلوسي في مقعدي.
    - اعلم انه من الصعب تحمل الارتباط بشخص بمثل حالتك ولكن الحب يفعل المعجزات..
    - اتعتقد ذلك...؟؟ كنت مرتبطة قبل الحادث بشخص ما، كنا مخطوبين وعلى وشك الزواج وتخلى عني حتى قبل ان يدرك مدى اصابتي وتقول لي انه يوجد حب..؟؟
    - لا اعرف كيف اشرح لك... لكنه يوجد حمقى كثيرون قد يتركون كل شيء ليكونوا معك يا سارا..
    احمر وجهها بشكل لا ارادي... وفهمت ان هناك اختلافات في ردود الأفعال، وكما أن هناك وجوها مختلفة للناس فهناك أيضا أرواح مختلفة لهم، والمشاعر الانسانية الجميلة لا تكون لدى الجميع ولكن عدم رؤيتها لدى بعضهم لا يعني عدم وجودها المطلق، انها تتناثر هنا وهناك ويعبق بها الجو ولكننا احيانا لا نراها ولا نتمكن من رصدها لأسباب عديدة اهمها ينطلق من داخلنا، وخصوصا اذا كونا فكرة مطلقة عن انفسنا وعن الآخرين وعن الوجود وصدقناها فنعمى بذلك عن رؤية ما عداها.
    وحان موعد التخرج وقد منحتها امريكا شهادة الدكتورة وشهادة الثقة بالنفس وعالجت روحها واستطاعت رجليها أن تمس الأرض وتسير بمساعدة عصا واحدة فقط بينما تحتاج لمزيد من الوقت لتترك هذه العكازة ايضا مع تحسنها الملموس..
    لذلك لا تستطيع اخفاء حبها لأمريكا التي آوتها عندما احست بالنبذ، وضمتها عندما كادت تتحلل في غرفتها بوطنها بلا مستقبل ولا حياة...!! امريكا الانسانية وليست امريكا السياسية وهناك فرق شاسع بين الاثنين...امريكا الانسانية لا تفرق باللون والدين والعرق وتعيش فيها الطوائف بسلام تمارس شعائرها، وتلبس ملابسها، وتأكل طعامها، وتفرض تقاليدها.. امريكا النموذج لحضارة البشرية وبساطتها وجمالها ونظامها وروعتها.. امريكا التي تحبها هي امريكا احترام الانسان وتقديره والاعتراف به.. امريكا التي يمشي فيها الانسان رافعا رأسه يستطيع مقاضاة رئيس الجمهورية دون أن تنغص حياته اجهزة المخابرات وتصطاده اجهزة الأمن..
    امريكا التي تحبها تضمن لها العيش بكرامة وانفة دون ان تخاف المرض والعجز والبطالة والقهر..!! امريكا التي تحبها تجعلها تفتح عينيها على جمال الطبيعة وسلامة الطرقات وحرية التحرك والتصرف الشخصي..! ! امريكا التي تحبها تجعلها تدفع فواتير الكهرباء والماء والهاتف والمشتروات والمرور وسائر المعاملات هي جالسة ببيتها بالبريد بيسر وسهولة والتي تعني احترام الوقت والمواعيد والنظام والترتيب وكل الأمور بمكانها دون ان يضيع الانسان لاجراء معاملة يوما كاملا اويأخذ البحث عن موقف للسيارة يوما اضافيا...!!
    لذلك وهي في امريكا لم تواجه سوى وجه شعبها البسيط الذي يأسرها بتسامحه وتقبله لهذا الخليط المهجن الذي يتناسل في محيطها بشرعية دون ان يسمح القانون للعنصريين بالاعتراض والرفض وحماية الجنس اللاري الأبيض...!!! عندما ترى جميع الألوان والأجناس تذوب تحت لواء الجنسية الأمريكية التي تكتسب قوة ومناعة من ولاء وحب وتفاني هذه العرقيات والأصول التي لم تتوحد وتندمج بقوة وشفافية الا في مثل هذه الأمم التي صنعت عراقتها بثقتها في الانسانية جمعاء واحترامها لثقافاتهم وخلفياتهم وانتماءاتهم..
    كيف لا يحب الخليط المقيم فيها امريكا وقد اعطته الهوية والكسب المادي والكرامة والسمعة الطيبة بين الأمم لدرجة انه يستطيع ان يرفع رأسه بفخر ويقول انني امريكي حتى ولوتورط سياسيوها في استعمار الشعوب فما زالت امريكا يانعة بأسلوبها الأممي الفذ في مجال الانسانية والرعاية الاجتماعية وبناء المؤسسات واحترام القانون ! ! كيف يمكن تجاهل نظامها التعليمي الراقي ومؤسساتها الدستورية وقانونها المتماشي مع المنطق والعقل والفطرة.... ؟؟ كيف يمكن للمرء ان يرفس الأمن والنظام والحقوق المدنية للأفراد والجماعات للمقيمين داخل حدودها...؟؟ كيف يكفر بالقيم التي يعيشها هناك كالاحترام والنظافة والأمانة والذي تحترم آدميته وتتفق وديانته وحرياته ومكتسباته وخلفياته اينما جاء ومن اي بيئة ولد...؟؟ كذلك لا تستطيع اخفاء تقززها من الوجه الآخر الذي يغض النظر بدون ان يشعر بالخجل والذنب والمسئولية فعلى الرغم من اسلوبها الاستعماري الا ان امريكا تدعي امام العالم اجمع بأنها تراهن على العدالة والسلام والديمقراطية.. لا تجعل شعبها يعتقد يوما واحدا بأن امريكا تخوض حربا ضد مبادئها المثالية بينما تختبئ القذارة والفساد في الجيوب الخلفية لسياسيها الذين ينتحرون سياسيا ويخرجون من اللعبة ما ان ينكشف تورطهم دون ان يؤثروا على النظام اويهددوا شرعيته ويقلبوا مؤسساته ويحدثوا ازمة في ممثليه ويدمروا البلد بكامله..!!
    امريكا الاستعمارية القذرة التي تلوي اعناق الشعوب، وتستخدم حكام العالم لتحقيق مآربها البغيضة، وتزرع اسرائيل كجرثومة سرطانية قاتلة في الجسد العربي الاسلامي المهلهل غير آبهة بالعدالة والشرعية والكفاح الوطني العادل... هي صورة اخرى ربما لا يواجهها المتواجد فيها كمقيم يحظى بامتيازاته التي لا تفرق بينه وبين المواطنين الآخرين ولكنها تصفعه عندما يواجهها كأجنبي تتضارب مصالح بلاده الوطنية مع نواياها التوسعية الامبريالية..

    الأربعون
    أمريكا... وداعاً

    حان الوقت للتخرج والعودة الى الوطن وبحصولها على الدكتوراة اصبحت الدكتورة سارة، وقبل ذلك استطاعت تحطيم اعاقتها والمشي وان لم يكن تماما بل بمساعدة العكاز ولكنها تسير بالاسلوب الصحيح وتدرك في قرارة نفسها انه كما الحادث حصل دون خطأ منها و نتيجة لأمر لا يد لها فيه، فان الشفاء ايضا لم يتم بسبب العلاج أوغيره بل كأن الأمور مخطط لها أن تحدث في وقتها المقرر لها وشفاءها تم عندما اراد الله لها ذلك، انها تؤمن بأن لكل شيء سبباً لا يعلمه الا الله وربما احيانا من الخير حدوث الألم وهناك حكمة لموعد انتهائه بزمن يقرره الله..
    مع نهاية العام الدراسي ومع قدوم الربيع وظهور الشمس المشرقة وخضرة الأشجار وبهاء الطبيعة استيقظت سارة وكانت صور قدومها الى امريكا تتواتر في ذهنها..
    تذكرت رقدتها في المستشفى عندما حادثتها تماضر لتهنئها بالسلامة بعد اصابتها بالحادث وكيف تمنت يومها أن تكمل هي الأخرى دراستها بالخارج وتبتعد عن محيطها المعبأ بالذكريات المؤلمة.. تتذكر علاجها الطويل أواستسلامها بالأحرى لوضعها الصحي ودفنها نفسها حية كتعذيب ذاتي لا تجد مبررا له اليوم.. وكيف جاء السفر الى امريكا ومرحلة التأقلم والتحرر من الذهول والصدمة وسجن النفس الداخلي والتغلب على الاصابة والقدرة على المشي من جديد، وكيف كانت تجربة الدراسة في امريكا تجربة ثقافية بالدرجة الأولى حيث جاءت وهي خريجة المناهج العربية التي طبعت في ذهنها امجاد المسلمين وسنوات ازدهارهم في العصور الذهبية الأموية والعباسية والأندلس وامجاد خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، لقد اتت من عبق التاريخ مزهوة بتراثها لتكتشف منذ دراستها بمعهد اللغة واحتكاكها بالطلبة وخصوصا اليابانيين والصينيين والكوريين بثقافات أخرى موغلة بالتاريخ هي ايضا لها خصوصيتها وانبهارها واستطاعت أن توسع تصوراتها واحساسها بالعالم حولها الى صورة شمولية أكبر.. وبعد ذلك وجدت ان لدى الامريكيين مع جميع الجنسيات الأخرى قواسم انسانية لم تشعرها احيانا بأن كريستين امريكية فقد كانت تأكل وتشرب وتحلم وتفكر مثلها، وكانت احيانا كصديقتيها عائشة وتماضر وقد زالت الفروق الثقافية كلها ليتكلموا جميعا بلغة الوجع والهم الانساني الواحد وتجلت الآيات القرآنية ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم) وفي الحديث: (لا فضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى )... يا سبحان الله التقوى هي الكلمة الفاصلة، وهي التي تحدد الانسان وافضليته عند ربه وليس بكل المسلمين تقاه وليس بكل غيرهم فاسقين..
    عادت سارة الى الوطن تحمل درجة الدكتوراة، وقدمين تتماثلان للشفاء، وعصا تعتكز عليها بدون الكرسي المتحرك، ونفسا برأت من خيبات الماضي واحباطاته، وروحا تسامت عن آلاعيب الحثالة ودسائس الباحثين عن موقع في خريطة الزمن..
    عندما حطت الطائرة في المطار وفتح بابها وخرجت مع العائدين كان الجو معبقا بالرطوبة الخانقة والحر الشديد وليس هناك ذرة هواء واحدة بالجو، كان الوقت مساء، ولكنها اشتمت شيئا بالجو رغم قتامته وعتمته ولزوجته، شمت رائحة الوطن..
    وهي بأمريكا كانت تتمتع بحياة رغدة آمنة ممتلئة بالدراسة والأصدقاء والاسترخاء النفسي، ولكن ذلك لم يمنعها من السكن الروحي في الوطن بنفس الوقت، بالذكريات التي تظهر بأحلامها وتشكل طفولتها وخبراتها ووعيها وشخصيتها، بكل موقف تواجهه ولا تتوقف عنده بل انه يرتد الى تجارب سابقة ومواقف ماضية في بلادها. كل عصب فيها معجون بحياة حافلة صنعت شخصيتها في ارضها منذ طفولتها وصباها ومراهقتها ونضجها.. كان لكل شيء يحمل عبق التراث من طعام وشراب وموسيقى يلمسونه بالغربة له معنى لديها وزملائها الخليجيين، كان يشدهم وينظرون اليه باجلال وفرح كأنهم اكتشفوا كنزا، كان كل خبر وتعليق عن البلد يهتمون به ويتناقلونه كأنهم ابتعدوا ملايين الأفلاك عن مسقط رأسهم ولا يصدقون ما يقربهم منه، كانوا يجتمعون ليحموا ذاكرتهم من الصدأ وليعيدوا ويكرروا عاداتهم وتقاليدهم وكلام عجائزهم لئلا يندثر الانتماء ويفقدوا الهوية، كانوا يرتبطون بملابسهم اكثر ويرتدونها بمناسباتهم ليروا الآخرين بفخر من هم وأي حضارة جميلة وغنية انجبتهم، كانوا يفتخرون بأنفسهم ويريدون أن يراهم الآخرون بثقافتهم ليعرفوا كم هم اقوياء ولهم جذورهم وذاكرتهم العتيقة وليس بمسخ انفسهم والضياع وسط الآخر.
    اختلطت بها مشاعر غامضة وهي تتنفس الوطن من باب الطائرة وتتساءل:
    ها قد عدت، هل استطيع ان اتعايش مع الواقع الجديد، هل يستطيع استيعابي أم سأتعب من جديد ولن اتصالح معه، ولكن اين المفر هذه المرة...؟؟

    الحادي والأربعون
    لا عودة للماضي...!!

    في بيت عبدالرحمن استعدوا لاستقبالها بطلاء غرفتها وتغيير الأرضية واعادة تركيب ستائر جديدة لها مع وضع بعض الاكسسوارات الجمالية للترحيب بها.. وكانت في المطار وضحة وابناؤها وقد حملوا الورود بينما استمرت حلقة الاحتفالات بين بيوت الاخوة بمقدمها بذبح الخراف واقامة ولائم العشاء ودعوة الأهل والأنساب والمعارف..
    عادت سارة الى عملها في المؤسسة ولكن ليس الى مكتبها البائس المجمد لان المؤسسة انتقلت الى مبنى جديد مجهز بالمعامل الحديثة وبالتخطيط العصري الذي نقل المؤسسة الى المرحلة الانتاجية المأمولة.. لقد تغيرت الأمور للأفضل وليست كما كانت..
    وعندما قابلت مدير الادارة الملحقة بالمؤسسة وجدت مديرا جديدا شابا ممتلئا بالحماسة، متحلياً بالخبرة والشهادات اللازمة، كانت مفاجأة سارة أخرى لها وقد احتفل بها مديرها واعطاها حقها عندما قال لها:
    انك يا دكتورة لست بموظفة جديدة... أنت من الأوائل الذين ساهمت افكارهم وجهودهم بتحديث المؤسسة ويشرفني أن اعرض عليك أن تكوني مستشارتي للأمور الفنية بالادارة.
    قبلت سارة بكل سرور لان ذلك يعني اشرافها المباشر على كل المعامل الواقعة تحت تنظيم ادارتهم بالمؤسسة..
    بعد وصولها بشهور قليلة فوجئت بصديقتها تماضر التي استقرت بالوطن قبلها تطلب رؤيتها بسرعة وقبل موعدهما الأسبوعي الذي تعودتا على اللقاء به بعد وصولهما واستقرارهما بالوطن حيث يتعشيان معا في احدى المطاعم الهادئة.. واتفقتا على شرب القهوة مساء في احدى جلسات الكافي شوب عندما قالت تماضر بحماس وجدية:
    تتذكرين بالطبع خطيبك السابق، سالم، لقد اتصل بي بالعمل وكلفني بابلاغك بأنه لم يكف عن متابعة اخبارك، وما زال يفكر بك، ويريد أن يتقدم اليك بالزواج مجددا..
    غاص قلب سارة وامتعضت واحست بلفح رياح حارة تلفحها تحمل معها ذكريات أليمة، وقالت بصوت يحمل احباطات الماضي:
    هل تدركين يا تماضر انه كسرني عندما تخلى عني وأنا بين الحياة والموت اذا قلنا ذلك مجازا.. كنت محطمة من تداعيات عملي ومن العزلة التي احكم بعض الأشخاص فرضها علي، كنت اختنق من الضغوط النفسية التي تبثها ذبذبات الأرواح من حولي، ، من قدرة الوجوه على التلون والتصنع والتمثيل، هل تستحيل القلوب الى صفائح مجوفة، وهل تتجرد من النبل والكرامة وعزة النفس...؟؟
    كنت اعاني من اجتياح متجرد من الشعور لا يبالي بمن يكسح في طريقه وما يقتطع من اخضر ويابس لا يرده ضمير ولا تمسه خلجة وجدان ثم جاء الحادث وكنت موعودة بفقدان قدماي وفقدتهما فعلا لمرحلة طويلة وماذا فعل هو..؟؟ وجه لي الضربة القاضية اللطمة التي ان افقت منها اليوم فهذه معجزة الهية منحني اياها الله، اتدرين في تلك الظروف تركني وهرب...!! هكذا... لملم نفسه وانسل مبتعدا دون أن يمنحني حق سؤاله لماذا...؟؟ دون أن يكلف نفسه الالتفات الى الخلف ليعرف حال من خلفها وراءه، لم يهتم بي كإنسانة... فكيف أولي نفسي ثانية لشخص لا أثق به، وقد تخلى عني مرة بأسلوب شنيع وخال من الشهامة، ألن يكررها عندما تمر نفس الظروف أوما يشابهها والمفاجأت أعظم، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وقد أديت ديني ودفعت ثمنا باهظا من تفكيري وعواطفي ومشاعري ولا أستطيع أن ادفع الثمن مرتين فقد اكتفيت وتعلمت وأصبح ايضا لا يمثل لي شيئا ولا اريد أن اعرفه ولا يهمني امره بشيء.. فقط أعجب بجرأته ليتصل بك ويطلب منك مكالمتي بهذا الموضوع، لقد باعني وتركني وهنت عليه ألا يحرك ذلك شيئا من الخجل في نفسه.
    انصدمت تماضر والتي اعتقدت بأنها تزف نبأ جميلا الى سارة، بينما رفعت سارة وجهها لها وركزت عيناها عليها وسألتها:
    لوان ذلك جرى لك أولاحدى أخواتك، هل ستقبلين خطوبته من جديد وهل تشجعين اختك عليها..
    بوجوم هزت تماضر رأسها رافضة الفكرة، فقالت لها سارة:
    اذن كيف ترضين لي ما تأبينه وترينه كبيرا عليك.. لا... يا تماضر قد دفعت الثمن بما يكفي، لقد تعذبت واستحالت حياتي الى جحيم لا يطاق وكرهت صنف الرجال ولم أعد اثق بأحد منهم بسبب هذه التجربة.. ليس سهلا أن يصيبك الغدر من اقرب الناس اليك، حينها تخافين الجميع ولا تثقين بأحد مطلقا.. الله يفتحها عليه ويوفقه ويوفقني كلا في طريق مختلف..
    لم تتوقف سارة عن الاحساس بوجود سلطان بحياتها، انها تعرف بأنها لا تعني شيئا لديه وان وجودها وعدم وجودها سيان، ولكنها لم تفلح بملئ هذا الفراغ العاطفي داخلها، لم تسمح لأي كائن بالتسلل الى قلبها ولا تدري هل هي عقدة بعد تخلي سالم عنها وهي الشعور بعدم الثقة والأمان...؟؟ هل لانها لم تجد الانسان الذي يميل اليه قلبها...؟؟ هل انه نصيبها أن لا تتعلق بأحد وأن تظل ابواب قلبها مغلقة الى الأبد... شيء واحد تعلمه، وهو وجود مخدر بحياتها اسمه سلطان لا يدعها تأسف على كونها عانسا بينما العمر يجري...! وربما لولا انها تعرف بأن ما بينها وبين سلطان ما هو الا مجرد اوهام ما فكرت فيه...؟؟
    هل كانت طبيعية لتفكر هكذا...؟؟ بمعنى ألم تكن واقعة تحت تأثير سحر معين...؟؟ ؟ ام ان سذاجة العواطف ليس لها دخل بالمقدرة العقلية والامكانات العلمية...؟؟ هل يمكن ان يندرج تفكيرها تحت اطار تفكير الانسان الطبيعي...؟؟ انها تعلم علم اليقين بأن لو احد اخبرها شيئا كهذا عن احد ما فلن تعرف كيف تصفه...؟؟ هل هو مريض نفسيا...؟؟ يائس من العلاقات الأنسانية...؟؟ يتصف بالغباء وفقر الالمام في التصرف والسلوك...؟؟
    ولكنها تتكلم هنا عن نفسها ولا تدري للأسف لم تفكر بهذه الطريقة الساذجة الحالمة الفارغة من المضمون...؟؟ والأنكى ان احساسها الساذج به لم ينته مع الأحداث الأليمة الماضية والزمن الطويل بل انها ما زالت عالقة بها وتتمثلها وتعيشها ولا تدري كيف تتعلق بهذه الأفكار مع علمها بأنها اوهام...؟؟ ولم تدعها تسيطر على حياتها وتملأها...؟؟ انها تعلم بأن ذلك مضحك وخطأ وغير صحيح وغير منطقي ولكنها مستعدة للتفكير فيه مجددا والوقوع في فخ تهاويمه الصغيرة مرة اخرى واخرى واخرى..
    لماذا هو..؟؟ ؟ لو جردته من سلطته و وظيفته الهامة، ماذا تعرف عنه..؟؟ هل تعرف شيئا عن شخصيته...؟؟ معتقداته...؟؟ سلوكياته...؟؟ شيئا مفيدا عن حياته..؟؟ انها اسيرة معلومات استشفتها عنه لا تدري هل هي حقيقية وصادقة ام فقط من انطباعاتها وصدى لكلام واراء الآخرين..؟؟ انها تراهن على احاسيسها الداخلية عنه... لقد كونتها على مر السنوات منذ ان وعت على شخصيته وتوجهاته وآرائه التي استخلصتها من احاديث وتعليقات من حولها..
    انها تعجب من نفسها...على الرغم من انه صفعها مرة بمرارة انتقامه واهانها معنويا بمؤازرة المخربين وتأييد الفاسدين، وأذاها نفسيا بسماحه لمسلسل التدمير والبغض بالبدأ والأستمرار، وحطمها مهنيا عندما خنق تفاعلها وعطل نشاطها الا انها لا تشعر البتة بأنه عدو لها او انه سبب لها التعاسة والألم.. هل يغفر الانسان ببساطة لمن يحب وهل هذا هو التفسير المعقول لهذا التخاذل الذي يضعفها امامه..؟؟
    أم انها حيلة عقلية تستند عليها لتربط نفسها بالحياة، الموضوع لا علاقة له بالحب أو العواطف انه فقط مجرد تعود على نمط من التفكير، وأيضا اشباع حاجة نفسية ليكون الشخص محبوبا وقادرا على الحب ولو في خياله، في تلك المنطقة الداخلية الآمنة داخل نفسه التي يجاهد ليحولها الى واحة خلابة يرتاح فيها مع تصوراته الذاتية، ولا بد ان فارس احلامها يحتوي على هذه الصفات التي وجدتها بالوزير وما دام هذا الفارس غير متوافر ولن يكون بفعل الاحباطات والمرارة الداخلية المتكاثفة داخلها فلقد توجت هذا الشخص المجهول السيطرة على احلامها.
    وان يكون جديرا بذلك أولا يكون فان مسألة اطاحته من موقعه تتطلب تتويجاً بديلا له ولا تملك القدرة على المغامرة ولا تشعر بوجود البديل وقد باتت لا تثق بصنف الرجال وتلمح الغدر بأخلاقهم ولا تشعر بالأمان لهم.. اصبح المهم لديها أن تشعر بالغنى الداخلي والسلام النفسي، ولأنها انسانة تتنفس المحبة وتشعر بها من حولها وتريد أن يزهر قلبها دوما ويتشبع بالشفافية والألق والجمال الذين لا يمكن ان يشعر بهما قلب لا يحب ولا يحس لذلك فانها سمحت لهذه المشاعر الخيالية باحتلالها والتنفس من خلالها..

    الثاني والأربعون
    خالد يعود

    من الصعب ان يتواصل الانسان اكثر مع حياته اذا خبا الأمل وتلاشت جذوته..
    تغير شكل وضحة، ذبلت ورقت روحها حتى تلاشت في الصمت والسكون، ورغم ايمانها العميق فان شلال الحزن الجارف طوى حيويتها معه فانكسر وجدانها وبقيت الدموع الحبيسة تضغط على صدرها وتضيق بالها..
    هل كانت عصبية فحسب أم كانت متوترة متوجسة خائفة من شيء غامض يهددها بقدومه.. كلما اسرعت الخطى الى المستشفى كان وجيب قلبها يسبقها، يا ترى ماذا سيكون حال خالد..؟؟ هل ستكون تباشير خير واستجابة مفرحة...؟؟ أم انتكاسة خطيرة واخباراً سيئة..؟؟
    يا لقلبها وهي ترى الأسلاك الموصلة اليه لتمده بأسباب الحياة، وجسده الحبيب ملقى على سرير مهمل وأناس يروحون ويجيئون ويحركونه اليمين واليسار، لا يرقون لقلبها الحاني وهو يكاد يقفز من مكانه مع كل غرزة حقنة ومع ادخال كل خرطوم وسلك، كانت تردد في دعاء عجيب
    يا ليتني افديك بعمري، يا ليت ربي يستبدلني بك يا خالد
    يا رب اجعله يحيا ولو كان الثمن عمري
    كان دعاؤها غريبا
    وكانت سارة تنهرها بألم وانقباض عن هذا الدعاء، وتدعوها الى استغفار ربها وطلب الشفاء لابنها بدون مقايضات، انه قادر كريم...!!
    عندما يطول الشقاء ويمتد الليل بحيث تصبح الشمس امنية بعيدة المنال، عندما يرهق القلب من العناء وتخور القوى من الصمود والانتظار، عندما يثقل الحزن كاهل الانسان ويظلل ايامه ولياليه، ويربض على صدره كالجاثوم المستبد.. عندما تتساوى الأشياء وتختلط الأفراح بجحافل النكبات والأحزان، وتتلوث المسرات بفجائع المحن والمخاوف، حينها يصبح الانقباض والألم سيدة الوجود..
    هكذا كانت ايام وضحة الأخيرة، قد استسلمت للأرواح الآتية من بعيد تولول في الظلام، وتندب شيئا غامضا كان يروعها حدوثه، وكانت لا تنام..
    اصبح الأرق ملازما لها، وتنافر اعصابها يوترها، وتوقع احداثا مرعبة قادمة يجعلها على شفير الجنون.. اصبحت كثيرة السهو والنسيان والغياب في عوالم غامضة تناديها للبعيد.. تنكفىء على قراءة القرآن، وتنزوي للدعاء في غرفتها بالظلام لا تشعر بالوحدة ولا الوحشة لانها تسافر في عوالم اخرى تغيب فيها ولا تشعر بضجة أبنائها وحياتهم الصاخبة التي تريد استرجاعها من الأصوات الغامضة التي تسكنها وتأخذها عنهم في عوالمها الغريبة..
    كلما رأت صور خالد في الطفولة وسن المدرسة ودخول المراهقة كانت تبكي بكاء لا يتوقف، وتؤنب نفسها وقد ادمنت تعذيب الذات، انه هروب من الألم الى الألم.. في وحدتها المطبقة بظلام الظنون والتفكير، انفصلت عن الحياة الاجتماعية للآخرين..
    كانت مصلوبة بين السماء والأرض، لم تكن من أهل السماء ولكنها قطعا ليست من سكان الأرض.. انها روح هائمة تهمي كالمطر على سرير ابنها تسقيه من لوعتها وتطعمه من بؤسها وتحنو عليه من أساها..
    تهمس بين الفينة والأخرى افديك بعمري... أفديك بعمري، وترتل القرآن وهي تمسد رأسه، وتفرك يديه، وتبتهل الى الله ، وتبلل وجهه بدموعها قبل أن تقبله مودعة اياه الى الغد..
    وفي غيابها المعنوي تعلقت ابنتاها بخالتهما وأخذتا يمضيان وقتهما في بيت عبدالرحمن بصحبة بناته اللاتي يقاربهن في العمر.. ووجد محمد في ابن خاله ملجأ له من عصبية والده وسكون والدته واهمالها الواضح لهم وهو يقارن بين تعلقها بخالد، وهو مسجى غائبا عن الوعي في المستشفى وحرصها لزيارته صباحا ومساء وبين حزنها وسهومها الدائم بحيث لا تستسيغ قصة تحكى لها ولا تصبر على تكملة حكاياتهم مع رفاقهم ونوادرهم..
    وحده فقط نواف الذي انعكس عليه حزن والدته المتراكم المدفون بالأعماق، كان يلتصق بها وهي تصلي أوتقرأ القرآن، فقط ليشعر بالأمان معها، وقد اخافه عويل الأحزان الذي يحس به ببراءة طفولته ينهمر بين حنايا صوتها وانكسار روحها..
    في لجة مخاوفها وهمودها وانكسارها جاءها هاتف من المستشفى اوقع قلبها:
    كانت ركبتاها تصطكان وقد شعرت بأن اللحظة التي تخشاها قد اتت..
    هل ينازع بألم...؟ هل يتوجع...؟؟ هل وهل... وقبل ان يغمى عليها سمعت شيئا كأنه الحلم..!
    اعجوبة قد حدثت، خالد اسيقظ من غيبوبته وهو في وعيه التام... تعالوا بسرعة الى المستشفى..!
    تسمرت في مكانها، احتاجت لبعض الوقت لتستوعب بعقلها ما قيل وتصدقه وتتفاعل معه.
    لم يبق للأفراح مكان في روحها المتصدعة، ولم تفلح الشحنات المضيئة لهذه المعجزة المباركة في صدم جسدها الواهن وتحريكه كأنها استنفذت كل قواها... سواء للحزن او للفرح او للتعبير، فقط كانت دموعها تهطل وتهطل..
    حتى من يراها لا يعتقد بأنها تبكي فرحا وحمدا لله لأعجوبة لم تكن بالبال، وحالا تم اليأس منه منذ زمن بعيد..
    بهدوء عجيب سارت الى غرفة زوجها احمد لتزف اليه النبأ حيث كان كعادته مسترخيا على كرسيه يدخن ويسمع الراديو ويقرأ الجريدة في آن واحد..
    وقفت امامه وتمتمت كأنها تخاف أن يغدر بها الزمن ويغير رأيه:
    احمد... اتصلوا من المستشفى، خالد استيقظ من الغيبوبة وهو في وعيه...
    ولم تكمل كانت دموعها تنهمر في صمت..

    وللأحداث بقية

يعمل...
X