إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الروائية هدى توفيق سيمفونية للموت والحياة في نصها ( بيوت بيضاء )

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الروائية هدى توفيق سيمفونية للموت والحياة في نصها ( بيوت بيضاء )

    فعل الكتابة يعلق النهايات الحاسمة
    "بيوت بيضاء".. سيمفونية للموت والحياة
    د. محمد سمير عبد السلام*
    في نصها الروائي "بيوت بيضاء" – الصادر عن دار كيان للنشر بالقاهرة 2011 – تبحث هدى توفيق عن خصوصية التجربة الذاتية، وإمكانيات تجاوزها من خلال صيرورة الكتابة السردية؛ ففعل الكتابة هنا يعلق النهايات الحاسمة، ولحظات التلاشي والغياب، والموت المتكرر، وكأن وعي الساردة يستعيد وهج الحضور في ثراء السياق اليومي اللامركزي للحياة دون توقف، كما ينقل نفسه في بدائل استعارية دائرية تستمد طاقتها من الكتابة وحدها، و تمنح الغياب طاقة نصية، ووهجا ممتدا فيما وراء الشخوص، والعلامات.
    وتبني الساردة عالمها الروائي من خلال أصالة تعدد الشخصيات، والأحداث، والثقافات، والمزج بين الهويات الفردية، وآثار الذاكرة الجمعية بما تحويه من حكايات، وأساطير لها تجسد وظيفي في السرد القصصي؛ وتختلط هذه التكوينات الجمالية المختلفة في كتابة تقوم على تصور نسائي للعالم، وأخيلة إبداعية تجمع بين إيحاءات الموت، والحياة، ويمتزج فيها امتهان الجسد باستنباته مرة أخرى في التشكيلات المجازية، والروحية، أو العوالم السحرية المجردة.
    وقد يعيد صوت البطلة تمثيل الإحساس بأصالة الاتساع الكوني؛ فهي تبحث عن الخلود فيما وراء النسبي؛ و من ثم جاءت الكتابة كاستنزاف مستمر للموت، والحياة المعلقة معا.
    ويمكننا رصد ست تيمات رئيسية في العمل؛ هي:
    أولا: سيمفونية للموت و الحياة.
    ثانيا: تناقضات الجسد.
    ثالثا: بين تداعيات النص، و الإشارات الثقافية، والروحية.
    رابعا: دلالات نسائية.
    خامسا: بين التسجيلي، والسردي.
    سادسا: أطياف المكان، وجمالياته.

    أولا: سيمفونية للموت، والحياة:
    تنمو الوحدات السردية، وتتطور في النص بين الظهور الإبداعي للشخصيات في وعي الساردة، و لحات التوقف المتكررة في الموت، أو الغياب، أو الخوف، وما يحمله من دلالة التوحد المجازي بالفراغ. وتستعيد هذه النغمات المتباينة بين شكول الموت، و الحياة حضورها في العالم الداخلي للبطلة؛ إذ تتصارع فيه طاقة الغياب، واستعادة صوتها الخاص فيما وراء النهايات الحاسمة، وكأنها تتجاوز الموت من خلال تأويله كنغمة تحمل وهج حياة جديدة قيد التشكل دائما؛ و من ثم تختلط لحظات الاغتراب في النص بالبحث عن وطن، أو مكان آخر تعاين فيه البطلة جماليات أخرى للحياة، لا تنفصل عن آثار الغياب كمنتج لحياة فنية دائرية محتملة، أو حياة حلمية تتحقق فيها نوازع الالتحام الأول باتساع العالم، و رحابة الصوت الشخصي / الكوني.
    إن ما يجمع أحداث النص، وشخوصه هو السياق اليومي المتغير الذي يعزز من رغبة التجاوز داخل البطلة؛ ومن ثم لا نجد اكتمالا بنيويا للموت، أو الحياة، ولكنهما يمتزجان في نغمات معلقة تحمل إيماءات التواتر، والاختلاف في الوقت نفسه؛ ولهذا جسدت عبارة "ليس بعد" موقف البطلة الفلسفي من الوجود؛ فهي تسعى لتجاوز المحو المطلق، دون أن تخرج من تأثيره، ودفعه المستمر لها باتجاه الهروب، وشكوله الاستعارية المتجاوزة للتكوين، كما تسعى لإعادة إنتاج براءة لحظات الحب، والأمومة، والتوحد المتعالي بالآخر، دون أن تتقيد بالوهج القديم المصاحب لها في الذاكرة، ويؤيد هذا التصور العالم الروحي الجديد الذي صنعته الساردة من علاقاتها بفاطمة البلوشية ذات الروح الشعرية الراقية، وكذلك أخيلة أحمد، وطفولة سيف، وأطياف بدر المقاومة للموت؛ وقد نبعت هذه الشخصيات من السياق اليومي الذي يؤجل بنيتي الموت، والحياة في سيمفونية سحرية تشكل وعي البطلة، وعالمها الفريد.
    ويتوتر السياق اليومي للبطلة بين الخوف، ومعاينة التمثيلات الجزئية للعنف، والشر، وكذلك الاتصال الروحي بالآخر، والعناصر الكونية، والثقافية، ومن هذا التوتر تنشأ سيمفونية الموت، والحياة، وتعلو نغماتها باتجاه تصعيد نغمتي الحضور، والغياب معا بدرجة كبيرة في النسيج النصي، وبخاصة في علامتي فاطمة البلوشية، وبدر.
    وتعايش البطلة مشاعر التوحد بالآخر / المختلف في علاقتها بصديقتها السرية في مصر؛ فقد بزغت في حياتها كالنور ثم خلفت ظلمة الغياب عقب دخولها في السجن في قضية ملفقة، وفي السياق نفسه تشبه البطلة الخوف بوحش ينمو في عالمها الداخلي.
    إن ازدواجية البروز، والاختفاء في النص تعلق الحضور الإبداعي للبطلة في تلك المساحة المتخيلة من الظلمة القهرية، ولكن الضمير الإنساني يبدو كوهج سري للحياة، ويتطور رغم سطوة قوانين الضرورة، وعبثيتها في مواجهة حركية الإبداع، والصيرورة الكونية.
    وقد تنقل نغمات الموت، والحياة نفسها في أخيلة الفراغ؛ وهو الممثل التصويري لأحلام اليقظة المرتبطة بالتيمة الفنية في النص؛ فهو يجسد مساحات الغياب الداخلية، ويكشف عن براءة التجاوز، أو التحول المميزة لتلقي وعي البطلة لعلامات الحياة.
    تقول البطلة عقب وفاة زوجها / محمد أفندي:
    " أتحول إلى فتاة نصف قروية، والنصف الآخر مدني، ثم نصف امرأة، وأخيرا نصف وطن، وأظل أحيا في فراغ النصف".
    لقد صار الفراغ بديلا عن الضمير نفسه؛ وهو ممثل للامتلاء، ومقاومة البنية السلبية للفراغ؛ أما الأخير فقد قلل من مساحة الحضور المشبعة في المشهد؛ ولهذا جاءت أخيلته مؤكدة للسلب، والانشطار في بنية الصوت.
    الفراغ صوت هامشي يعزز من الزيادة، بينما يقلل مساحات مجازية من اكتمال الصوت، دون مركزية للوجود، أو المحو.
    وقد تعاين البطلة الموت في حالة صاخبة ممزوجة بقوة التحول الطيفي للجسد خارج بنية الموت نفسها؛ فقد رأت تجربة الموت المفاجئ لشخصية محمد المصري في عمان عندما تمزق جسده في حادث سيارة، ثم صار مثل شبح أبيض في وعيها.
    يبدو الموت هنا كحياة أدائية مجزأة، تحمل خاصية الانتشار، لا النقص، أو العدم، كما تستشرف الجسد في الحالة الطيفية، أو تستنزفه في صخب الموت نفسه.
    لقد فكك الصخب بنية التوقف، ونقلها في حالة الصيرورة الإبداعية للحياة اليومية التي أوشكت أن تكون مزيجا من الأطياف، والعلامات المادية، دون انفصال بينهما.
    ويصل التصاعد السيمفوني إلى القمة في حالة "بدر"؛ إذ نبع من غياب أصلي؛ فنحن نعرفه بعد موته في كل من مستويي تطور علامات النص، أو القراءة، و لكننا نعاين حضوره الطيفي الآخر في تجربة البطلة، و أخته حميدة، ووالدته.
    تعتقد حميدة أن الجن يسخرونه في أعمال شاقة، وأنه يعاني من الوحدة، كما تعاين البطلة حضوره كصوت خفي يتنفس، ويتركز في حائط بغرفته.
    وبعيدا عن أسطورة احتباس بدر، ومقاومته المادية للغياب، فهو يمثل فكرة العودة للحياة، واختلاطها الأصيل بالموت في سياق تعدد بنائي داخل العلامة الواحدة.
    إن بدر يمثل ذروة للحضور، والغياب معا في نسيج يجمع بين السلام الروحي، والصراع بين الموت، و الحياة؛ ومن ثم أشبعت علامته الشبحية بمادية مفرطة للأثر، وشكوله المجازية التي تؤكد طاقة الحضور المعلقة في فراغ الأخيلة، وعوالم اللاوعي.
    ثانيا: تناقضات الجسد:
    يمثل الوعي بالجسد – في النص – التناقض بين تمثيل الهوية الفردية من جهة، والتبعية لعلاقات رأس المال، والأبنية الغرائزية القهرية التي تجمع بين الحسد، والعنف، وممارسات الحب المجردة من العامل الشحصي، أو الروحي في الإنسان من جهة أخرى.
    وقد تنوعت إشارات الساردة إلى أنساق التبعية لسياق رأس المال المتطرف في بعض شخصيات النص؛ مثل إلهام، وسعاد، وأماني، بينما يرتكز منظور البطلة على اندماج هويتها الفردية بالجسد؛ ومن ثم فقد قاومت محاولة بعض زميلاتها الاعتداء عليها من خلال آلية الغياب كمقاومة لأي بنية اختزالية للهوية الجسدية، وإعادة تشكيلها في خبرات إنسانية، وروحية تمثل البراءة، والانشقاق على المنظومة المادية المغلقة التي تسقط الجسد في علاقات، وأنساق نفعية مجردة من العنصر الإبداعي للهوية الذاتية.
    لقد تمركزت صورة الدم في وعي البطلة، وهزت رأسها كتعبير عن رفض تدنيس الجسد بإسقاطها في نموذج غريزي مختلط يجمع بين الحب، والعدوان.
    ولهذا الأداء التعبيري دلالة ثقافية ترتبط بتناقضات العالم الخارجي الذي يعلي من المنفعة، و قتل الحب، والتعارض الجذري مع تشكيل هوية أنثوية فريدة.
    أما الدم فيجمع بين أخيلة الخصوصية، واستعادة المتكلمة لروحها، وكذلك العنف غير الواعي المضاد للهوية الذاتية، وللوهج الجمالي للتكوين الحي، وقد استمد قوته – في النص – من تكرار حالات التعارض بين الأنا والآخر في الذاكرة الجمعية.
    ثالثا: بين تداعيات النص، والإشارات الثقافية، والروحية:
    تشير ساردة هدى توفيق – في مقاطع طويلة من النص – إلى العلامات الثقافية المميزة للمكان سواء في مصر، أو عمان، وتحتفي بوصف الملابس، والمعمار، والعادات، والتقاليد، والحكايات المستمدة من الذاكرة الجمعية، وغيرها.
    ولم تكن الإشارات الثقافية بعيدة عن حركية النص، وتطوره؛ فقد تحولت القيم باتجاه السلب، والشكلية، والعنف، وامتزجت بمخاوف الغياب في العالم الأول للبطلة في مصر، واختلطت إيحاءات المعمار، والملابس في عمان ببكارة اكتشاف العالم، وأحاسيس التجاوز، وقد اتجهت أحيانا إلى الغياب المعلق، أو الحيادي الذي تمثله جماليات الظلمة، أو البيوت البيضاء مع تكرار أحداث الموت في النص.
    وتمتزج القيم النفعية باستعادة العوالم الثقافية، والعادات المحلية في الغربة؛ لتجسد درجة من التباين، والتعددية الأصلية في بنية الهويات المختلفة، وما تحمله من دلالات التسامح، والتعارض أيضا.
    تصف الساردة - في المستوى الأول - الإشارات الثقافية المكان، و ما يحمله من تناقضات فكرية، أو مشاعر تتفق مع تكوينه، وتطور هويته؛ فهي ترصد تباين الواقع الجغرافي عن السياق الاستهلاكي، وواقعه الافتراضي في عمان، ثم تحوله إلى حزن خفي؛ بينما توجه نقدا لقيم العنف، والعبث، والشكلية في مجتمعها المصري، وتنعكس تلك الإيماءات الثقافية في محاولات التجاوز، أو في شعور الخوف الدائري المصاحب للتحولات السلبية في حياة البطلة.
    إن الساردة ترصد القيمة في روح المكان، وجمالياته، وأصواته البشرية التي تعاني بدرجات متفاوتة من حالات الغربة، والانشقاق، والبحث المستمر عن هويات جديدة تتمتع بدرجة من السلام الداخلي المفقود.
    أما المستوى الثاني فيجسد بعض التفاصيل الخاصة بثقافة المكان؛ مثل الملابس، والمعمار، والحكايات الشعبية؛ فتسهب في وصف البدلة العمانية النسائية المطرزة بنمنمات الأرابيسك، والخيوط الذهبية، أو لمعان البيوت البيضاء في الظلمة، وكذلك حكايات السحر، وارتباطها بامرأة تسخر بعض القطط في الأذى، وغيرها.
    وتمثل تلك الملامح أصوات المكان، وألوانه، وبنيته الخيالية المشتركة مع نماذج الذاكرة الجمعية، والإيماءات التشكيلية للمعمار؛ وبقدر ما تمثله من خصوصية جمالية، فإنها تمتد إلى اختلاط الحلم بالواقع، والنماذج الروحية الممتدة في اللاشعور الجمعي، بتأويلاتها النسبية في المجتمع.
    وقد تجسد المستوى الثالث في نقل عادات الخبيز المصرية إلى العالم الثقافي المختلف في عمان – بين المصريات؛ وهو ما يؤكد خاصية العمق داخل حالات التعدد، والاختلاف، والتراكم الثقافي.
    رابعا: دلالات نسائية:
    تؤكد رواية هدى توفيق خاصية تميز النوع في الوعي المبدع، وذلك من خلال عناصر فنية عديدة؛ مثل الإسهاب في التفاصيل التي يرصدها وعي المرأة لعمليات الخبيز، وأشكال الملابس، والوصف الدقيق للتفاعل بين إدراك المرأة، وجسدها، وتحولات القيم الثقافية في المجتمع من منظورها الخاص، وكذلك مشاعر الأمومة كبنية فاعلة في الوعي تسبق تحققها بشكل واقعي، أو مجازي، وإعادة إنتاج الآخر / الرجل؛ مثل زوجها، وأحمد، وعبد العزيز من موقع نسوي مختلف، وتأكيد عنصر المغايرة؛ وهو المميز لإبداع المرأة؛ إذ يعلو على مجرد تناولها لشخصيات نسائية؛ ولكنه يرتكز على بناء الهوية الأنثوية من خلال استعارات النص، وتطورها في العالم الداخلي الفريد للبطلة، ونميزه بنقطة التجاوز، واستنزاف الموت في مساحة متخيلة من الوجود.
    ويتجلى الخطاب النسائي في وصف البطلة لفاطمة البلوشية التي تبدو في وعيها كقمر جميل يتجلى كطاووس من ذهب، أو عريشة ياسمين، أو راقصة باليه، كما يبدو في تفاعلها الأمومي مع سيف حين يرتديان زي البلياتشو ذا الألوان العديدة.
    إن هذه التشكيلات التصويرية البديلة للأنثى المتعالية التي تشبه القصيدة في حالة فاطمة البلوشية تنبع من وعي شعري نسوي يشكل الآخر في لغة تبدأ، وتنتهي في أخيلة الوعي الأنثوي، وما يحمله من خصوصية في التصوير، والتشكيل، كما تنبع الأمومة من صورة البلياتشو ذات البهجة الجمالية الملائمة للوعي النسائي.
    خامسا: بين التسجيلي، والسردي:
    تمزج الساردة بين بعض الإحالات التسجيلية المعروفة لدى المروي عليه، و تطور النص السردي؛ فمحرقة غزة تقترن – في النص- بتفاوت القوة، والبحث المتجدد عن الحياة فيما وراء الموت، ويقترن غزو العراق بانهيار المركزيات، والإحساس بالفراغ، والبحث عن هوية ذاتية، أو قومية، ويقترن حريق مسرح بني سويف بتعليق الإحساس بالوجود، و الشعور بضرورة الرحيل، والتجاوز المستمر للعبث من داخل سطوته على البطلة.
    سادسا: أطياف المكان، وجمالياته:
    للمكان أصوات جمالية، وأطياف، وإيماءات مجازية في رواية بيوت بيضاء؛ فنلمح أصوات البساطة، و البراءة ممزوجة بالعنف، والمخاوف في العالم المحلي للبطلة، كما نعاين أطياف ما بعد الموت، والأصوات الأقرب إلى المجاز في عمان؛ مثل فاطمة البلوشية، وبدر، وسيف، وأحمد، وغيرهم، وتختلط هذه الأصوات بتشكيلات المكان، وألوانه، وتمثيلاته المتجددة في الوعي الجمالي.
    *كاتب من مصر

يعمل...
X