إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

محمد الماغوط يعود الى الغابة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • محمد الماغوط يعود الى الغابة

    محمد الماغوط يعود الى الغابة
    جمانة حداد
    (لبنان)

    أمس توفي شاعر كبير يدعى محمد الماغوط (1934 - 2006). نقطة على السطر. شاعر من طراز البدائيين الفطريين الذين يجيء شعرهم معهم مثلما يجيء المطر مع الغيم، ومنه.
    لا علوم، لا مدارس، لا جامعات، ولا حتى اجتهاد، سوى اجتهاد الألم حين لا يعود في وسع الوجدان أن يتحمل صرخاته فتخرج هذه منه على طريقة الحمم، ومثلما يُطرَد الجنين من الرحم، ملطخاً بدم الخروج وبلعنة الولادات.

    هذا الآتي من السلمية، ذهب الى دمشق عاصمة بلاده، وحطّ في بيروت عاصمة شعره، ليحزن في ضوء القمر ويقول:

    الفرح ليس مهنتي.
    شاعرُ غريزة وموهبة وفطرة، هو محمد الماغوط. وشاعرُ حياة.
    وعندما تكتب هذه الحياةُ شعرَها فهي تكتبه بالأظافر، وبالنثر الفجّ المباشر الذي يقول كل شيء، فإذا كل شيء هو الشعر.
    والشعر متوحش، أرعن، وقح، فظ، ماجن، نزق، عدواني، ولكنه مجنّح، وحقيقي.
    وعلى صورة هذه الحياة نفسها، شعر الماغوط. وعلى طريقة السيول التي عندما تتجرأ على السدود، كل السدود، ولا تستطيع هذه سوى أن تنحني أمامها، فإنها تجتاح الأراضي وما عليها، وتغمر الكائنات، بشراً وطبيعة، وتصادر السهول والجبال والأودية وممتلكات الخيال، لتنادي بسلطانها على اللغة والكلمات.
    شاعرٌ جمع شعره من سيره المتسكع تحت النجوم، وفي الأزقة، أزقة هذه الأمة، ولملمه من فجوات روحه المتشققة كأرض أصابتها الزلازل.
    لم يكن شاعراً منارة، ولا شاعراً تاريخياً. كان فقط شاعراً كبيراً، ومن لحم ودم، وبكل خلجات جسمه وروحه الملعونين. وهذه منحة كانت موهوبة لقلة نادرة، ولم تتوافر لكثيرين من مجايليه، والملتحقين، واللاحقين.
    أكثر الشعر فيه، هذا النثر الذي يقول الأشياء العادية، الأشياء اليومية، أشياء كل شيء، من السياسة، الى الحب، الى الوطن، الى الجنس، الى العربدة، الى الكحول والسكارة، الى التسكع، الى الجوع والفقر والتشرد الى الأحلام المتكسرة والأوجاع الميؤوس من شفائها. فكانت هذه الأشياء تنقلب بين كلماته، بسحر ساحر، وتصير هي الشعر.
    وكم أحبّ لبنان، وكم وكم أحبّ بيروت. وكم استطاع أن يحقق شعريته فيهما، وخصوصاً في هذه العاصمة التي جعلته في قلبها، وواحداً من كبار أهلها وشعرائها، بين صفحات "شعر"، و"خميسها"، وجنباً الى جنب مع حزمة رفاقه الرواد.
    قال محمد الماغوط عن لبنان المحترق إنه يثب كفرس جريحة عند مدخل الصحراء، وإنهم إذا صرعوه "سأطلق الرصاص على حنجرتي". وقال عن نفسه إنه جاء متأخراً الى هذا العالم كزائر غريب بعد منتصف الليل، ولا شيء يربطه بهذه الأرض سوى الحذاء.
    أذكر أني اتصلت به منذ مدّة، كي اطلب منه يوماً في حياته. مراراً اتصلت، وكان يتمنّع: "إنني مريض ومتعب"، كان يقول. وكنتُ اعاود الاتصال، حتى وافق أخيراً. لكنّ الجلاد الأخير انقض عليه قبل أن يعطى لنا أن نحظى بيومه ذاك. وشاء القدر أن نستضيفه يوم موته.
    هذا الذي ولد عارياً، وشبّ عارياً كالرمح، كالإنسان البدائي، على قوله، ها هو يخرج عارياً من بيته ليعود الى الغابة.
    وإذا من بطاقة هوية لهذا الشاعر "الجلف" فهي هذه البطاقة فحسب: "عيناي زرقاوان من كثرة ما نظرتُ الى السماء وبكيت".
    و"النهار" التي أحبته، وصفحتها الثقافية، تنحنيان لغيابه، وتتذكرانه.
    ونقطة على السطر.
    </span>
يعمل...
X