إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

جحيم الاكتشاف ومقترحات القراءة عند أدونيس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • جحيم الاكتشاف ومقترحات القراءة عند أدونيس







    أدونيس.. مقترحات القراءة..
    جحيم الاكتشاف

    إن نظرتنا كلها وممارساتنا كلها على امتداد القرن العشرين المنصرم لم تؤسس إلاّ لشيء واحد، كتابة المستقبل بحبر الماضي.
    ميدل ايست أونلاين
    بقلم: علي حسن الفواز
    النموذج الاشكالي للمثقف العربي

    حينما حصل الشاعر ادونيس على جائزة غوته العالمية، لم يثر حوله الكثير من الجدل، اذ ظل هذا الخبر المنشور قبل اشهر خبرا مباحا للصحف العربية، والبعض تحدث عنه بنوع من الاستعراضية المثيرة، وكأن هذه الجائزة هي تعويض عن (الخسارات) المتواصلة التي جعلت ادونيس الشاعر والناقد والمفكر يواصل لعبة وقوفه في طابور الحالمين بالحصول على جائزة نوبل الأكثر من عالمية، والمثيرة دائما للاغراء المعنوي والمادي.
    فوز ادونيس يعيدنا الى ادونيس ذاته، النموذج الاشكالي للمثقف العربي المقبول عالميا على طريقة ادورد سعيد، والمثير للجدل وخلاف (الرضا والقبول) عربيا، اذ هو يفكر بطريقة استثنائية، طريقة مضادة احيانا، يثير حوله اكثر الاسئلة اثارة ازاء الواقع والفكر والحداثة والهوية العربية والاسلامية، والتي تجعله الاقرب الى مثقفي النخبة المعرفية الكونية، تلك التي تواجه ازمات معقدة ازاء انماط التفكير، وانماط الحكم، وانماط التعاطي مع قيم الحداثة وما بعدها والتنوير ومأزق الدولة التقليدية، اذ باتت القدامة العربية المؤسساتية والفكرية في اغلب مظاهرها وازماتها باعثا على النكوص العميق في مهاوي الجهل والتخلف، مثلما هي باعثة على تغريب نموذج المثقف الجديد ازاء مواجهته لاستحقاقات الوجود والحرية واللذة، فضلا عن المسؤولية في صناعة الكثير من مظاهر التردي الذي اسهم في تفخيم المقدمات النفسية والثقافية لصعود موجات الاصولية والاسلام السياسي بمعناه (الجهادي) والذي تحول الى مغامرة في المواجهة الطاردة لكل قيم الحداثة والتجديد، وكذلك المواجهة الشكوكية الملتبسة مع الاخر الثقافي والسياسي والحضاري.
    ولعل ما أثير حول ادونيس في الايام الاخيرة من جدل عاصف، خاصة بعد رسالته الى الرئيس السوري بشار الاسد والتي نشرتها جريدة السفير البيروتية، لا يعني وضع ادونيس في القائمة السوداء على الطريقة المصرية، بقدر ما يعني الوقوف ازاء هذه اللحظة الحرجة التي كتب بها ادونيس الرسالة، فلا اظنه سيكون شتّاما على طريقة راديكالي الايديولوجيات، ولا اظنه سيكون استعراضيا كما فعل بعض محرري الصفحات العربية المستريحة، والذين يعيشون فرجة الثورة لاأكثر ولا أقل.
    تلك الرسالة بقطع النظر ان نكون معها او ضدها هي موقف من محنة العدم الثوري الذي اقترن بمحنة الايديولوجيا العصبوية، تلك التي اسهمت في صناعة نصف كوارثنا الثقافية والسياسية والنفسية، والتي خلقت لنا عقائد من التابو، ومنظرين يشبهون الفقهاء، وثوارا يماثلون الحواريين، وتاريخا مفخّما ومفخخا، وغير قابل للقراءة.
    احسب ان جوهر رسالة ادونيس يكمن في هذا الاشهار، والتفاصيل ستكون جزءا من لعبة الدم الذي يراق على ارض سوريا وسط فرجة عربية واقليمية ودولية غريبة، وربما بعضها يصفق للمذبحة لكي تتواصل فصولها ببهاء استهامي مريع.
    ازاء هذه المعطيات يبدو ان ادونيس سيظل محورا للحديث والتشفي، لكنه رغم ذلك سيبقى ايضا الاكثر اثارة للاسئلة في شعرنا وثقافتنا المعاصرة، مثلما سيظل الباعث والمحرض على الكثير من المكاشفة وعلى القراءات الاكثر توغلا في الجسد واللغة والذات والحرية، تلك القراءات التي تشبه لعبة المواجهات المفارقة لكل استلابات الحداثة وعقدها التاريخية والوجودية.
    هذه الاسئلة تضعنا دائما امام مقترحات مغايرة للقراءة، وامام الحاجة الى ان نضع القصيدة واللغة والكائن امام جحيم اخر، قد لا يشبه جحيم دانتي، لكنه الاكثر غواية على ترحيل فاعلية الكتابة الجديدة الى المطهر حيث نعترف باننا نقف عند قيامة اخرى.
    فلماذا اذا - ورغم كل هذا الجدل والكراهية احيانا - تتحول اوراق ادونيس عند عتبات هذه القراءة الى اعترفات ثقافية؟ او تبدو وكأنها محاولة في كتابة البراءة من كل المهيمنات التي احاطت الشاعر بالريبة والشكوك والرعب؟ لماذا يعلن ادونيس نفسه ناقدا ساخطا مرعوبا من التاريخ والخطاب والمكان؟ لماذا ينظر ادونيس الى المنفى بعين المثقف المنفلت من عقاب الامكنة دائما وليس بعين السياسي او المهاجر اوصاحب النوستالجيا المفجوع؟ لماذا يرتاب كثيرا بالقصيدة اليومية، القصيدة التي لا يمكن ترمم انكسارات الوجدان الثقافي ازاء صدمات الرعب اليومي العميق الاثر والوجع؟
    هذه الاسئلة وغيرها يبدو ان ادونيس قد اثارها في كتابه القديم الجديد "رأس اللغة وجسم الصحراء" الصادر عن دار الساقي. والذي يضعنا عند حافات القراءة والمراجعة بنوع من الرعب، مراجعة اسئلتنا، ومراجعة طرائقية ادونيس ذاته وبصفته كاتبا يقف عند حافة النار دائما، حافة البلاد التي تأكلها الصراعات، وحافة الايديولوجيا التي حنطت التاريخ، وبلدّت الفكر، مثلما هو الوقوف عند حافة الاخرين الذين يفصلون بنوع من التعسف بين الشاعر والبلاد، وحافة الاخرين الذين يصطنعون للفرجة نصوصا ومراثي واحيانا اوطانا اضطرارية وقاسية، لذا يبدو محاولة قراءة الكتاب مرة اخرى محاولة في تأمل النص والتاريخ وملامح ما يتمظهر مما يتساقط من اللعبة الافتراسية لوعيه القرائي الاستثنائي، الوعي الذي لا رياء فيه ولا خشية من الاعتراف بتلمسه الحاد للكثير من اسئلتنا الثقافية.

    الكتاب يجمع عديد المقالات والتأملات والافكار التي انحنى عليها ادونيس خلال السنوات الاخيرة، تلك التي سجل فيها انشغالاته بازمة ما يراه المثقف العربي للوجود والعولمة والحرية والدين والحرب وحوار الثقافات او تقاطعها، واشكالات وعيه داخل فضاءات الشعر وطروحاته التجديدية، فضلا عن اشكالات الزمن الثقافي وعلاقة المثقف بتداعيات وعي هذا الزمن وازمته ازاء ثباته في الكتابة والاجراء وفي نظره الى التاريخ وما يفترضه من سجالات كانت سببا في اتهام ادونيس ذاته بالمروق عن الملة كم وصفه احد فقهاء السلفية ذات مرة.
    الكتاب يبدأ بالحديث عن المنفى، الذي ينظر اليه ادونيس مثل نظرته الى (النص) فهو خاضع للتحول، وخاضع للقراءة، وقابل للتلاقح والانزياح. يقول ادونيس "المنفى ليس مسألة جغرافية، وانما هو مسألة ثقافية" وكأنه يضعه كمفهوم امام توصيف اشكالي يثير الكثير من الاسئلة، خاصة في التعاطي مع موضوعات المنافي العربية، تلك التي تحولت الى منافي سياسية وايديولوجية وجسدية سحبت معها بالضرورة الجغرافيا التي صنعت للمثقف ارباكا عميقا في نظره الى الامكنة. اذ باتت امكنة المنفى اكثر تعويضا من الامكنة (الوطنية) التي ارتبطت بالقمع والقهر والاستبداد والمهانة. وهذه القراءة العميقة للمنفى لا يمكن اغفالها عن ظاهرة (ادونيس) ذاته فهو كائن ثقافي خاضع منذ اكثر من نصف قرن الى توصيف المثقف المنفي، المنفي في وعيه واسمه ولغته وقراءته المتمردة والمتحولة الى تاريخ (الثابت) في منظمتنا الثقافية العربية، مفهومه للمنفى قادته الى مواجهات حادة مع اصوليات وسلفيات تضع التحول بمثابة الخطيئة، وتنظر الى التفكير خارج السياق بنوع من الارتياب الباعث على الشك. وهذا ما يضع طروحات ادونيس الخلافية امام اجتهاد قرائي اخر، اجتهاد يضع النص في فضاء ثقافي مختلف تماما، مختلف في نظره الى حياتنا وازماتنا وخساراتنا، وانماط ثقافتنا العاجزة عن انتاج فاعليات للحداثة، اسئلة تلامس الخبيء والمضمر، لها القدرة على ان تعيد النظر في مفاهيم السلطة والحرية والمعرفة والتحضر وبناء قواعد مادية للتنمية والاقتراب من المستقبل.
    كل ما في ثقافتنا هو (الماضي) وان ازمة الثقافة تكمن في تكريسها للدفاع عن الماضي ضد المستقبل. هذا المستقبل صار مثارا للريبة والالتباس والتفقه في علومه وشروطه وقياساته، والذي ينكشف كل يوم على قيم جديدة تحتاج بالضرورة الى وعي جديد والى مجتمع جديد والى تعليم جديد والى فاعليات تؤمن بالتعدد والبناء الديمقراطي ونبذ الديكتاتوريات والثيوقراطيات، تلك التي انتجت لنا طول قرون ثنائيات خالدة للرعب والاستبداد والتابعية، بين حاكم ومحكوم وتابع ومتبوع ومالك ومملوك وغيرها. وطبعا هذه الثنائيات انتجت لنا سلطات قامعة وثقافات مقموعة، وتاريخا طويلا من ثقافات التوريات والمسكوت عنه..
    في قسم آخر من الكتاب يتحدث ادونيس عن "الكتابة العربية" باعتبارها الخزان السري والعلني للافكار، فهو يقول انها "كتابة مستنفذة سلفا" أي انها تقف عند حافة الخواء، كتابة تعيد نفسها، لان المثقف الذي يصنع الكتابة هو جزء من النظام الاجتماعي الثابت، وان الثقافة هي خطاباته العالقة بازمات السياسة والسلطة والتاريخ. هذا النظر الى الكتابة يقرنه ادونيس بتساؤله المرعب الى نفسه "لماذا يظل الزمن في الثقافة التي تنتمي اليها جاثما جامدا ويرفض النهوض"، وكأن الكتابة هي ضجيعة الزمن، هو الذي يطهرها ويلوثها وهو الذي يمنحها القدرة على ممارسة مغامرة الحياة والخروج على الضجر والنفاذ والموت.
    ويرى من زاوية اخرى وبوعي اكثر اغترابا وتشاؤما ان "نظرتنا كلها وممارساتنا كلها على امتداد القرن العشرين المنصرم لم تؤسس الاّ لشيء واحد، كتابة المستقبل بحبر الماضي" ولا احسب ان ادونيس يمارس هذه القراءة المضادة الاّ تحت ضغط ما تشكله الظواهر السياسية اليوم من هموم اغترب فيها المواطن والفيلسوف والحاكم والشرطي والشاعر، الاغلب هم في منافي داخلية وخارجية، هذه المنافي تخضع لمهيمنات خارجة من رحم التاريخ ذاته، وليس من الخارج (الامبريالي) و(الاحتلالي) و(العولمي) لوحده فقط. أي ان ثقافاتنا لم تشرعن خطابا للاطمئنان الى حياتنا المعاصرة بكل قدريتها وصدماتها، وانحازت الى الماضي المطمئن دون اسئلة، تستل منه الاحكام الكاملة والرموز الكاملة والبطولات الكاملة. يقول ادونيس في هذا السياق "ما اغرب حياتنا العربية، الموتى الذين يبعثون اكثر من الاطفال الذين يولدون"، وكأنه يحاول ان يقترح قراءة للمستقبل، تلك القراءة التي لا تفلسف الماضي، ولا تضع كل ملفاته في المتحف، قدر ما تضعه عند حافة الاسئلة، حافة هذا الصخب اليومي والكوني الذي يقترح ان نكون أمة سردية وليست شعرية.
    في هذا الكتاب ثمة انحياز واضح للمكان اللبناني والفضاء الثقافي اللبناني، من منطلق ان لبنان رغم كل ما يحدث هو اكثر الامكنة العربية انحيازا للفكرة المدنية، والفكرة الثقافية، وهذه الحيازة تجعل هذا المكان مولدا لمواجهات ساخنة قد يختصر فيها العقل العربي الكثير من حروبه.
    نظرة ادونيس الى تاريخ ازمات العقل العربي/الاسلامي ومواجهاته مع الاصوليات الثقافية والايديولوجية، تمنحه الكثير من الانفعال، والكثير من الاسئلة، تلك الاسئلة التي يبدو فيها الكثير من (العدم)، وفيها هامش مفتوح للتأمل تبدو هناك فوضى في الاسئلة، وقد تبدو ايضا ان ادونيس ينزع الى تخليص ثقافتنا وشعريتنا من اليومي الفج، والشعبي الاكثر فجاجة، وقد يبدو ايضا انه غير مطمئن للمزاج السياسي والايديولوجي الذي تدار به الشؤون والشجون، لكن خاصية ادونيس ان يكون هكذا، صانعا استثنائيا للاسئلة، تلك الائلة التي قد تجلب الرعب والخوف وقد تجلب الضجر، لكنها عموما تحرضنا على ان نفكر، وان لا نكون عموميين بالكامل. من حقنا ان نعترف ومن حقنا ان نحاور، ومن حقنا ان نذهب الى الحضارة دون عقد، وحساسيات وان نمسك رأس اللغة وجسد الصحراء لنعيد ترتيب الخارطة من جديد.
    هذا الكتاب يدعونا الى فاعلية القراءة والكشف، ويفتح امامنا افق آخر الاسئلة الادونيسية التي ما زالت ومنذ نصف قرن تولد فينا المزيد من الاحتجاج، والمزيد من التعالي والمزيد من البحث عن ريادات حقيقية اكثر قدرة على الاشباع، واكثر غواية على انتاج الافكار والنصوص المفتوحة.


  • #2
    رد: جحيم الاكتشاف ومقترحات القراءة عند أدونيس

    الله يعطيكي الف ألف عافية رحاب على هالموضوع...بتشكرك

    تعليق


    • #3
      رد: جحيم الاكتشاف ومقترحات القراءة عند أدونيس

      أعشق أن أقرأ عن ادونيس أكثر من أن أقرأ له
      ارتبط بالحديث عنه بشعور لا أعرف أن اترجمه
      ولكن يبقى الانصات لهدير كلماتك
      وروعة حضورك عزف مختلف

      شكراً على المجهود الرائع
      أضعف فأناديك ..
      فأزداد ضعفاً فأخفيك !!!

      تعليق

      يعمل...
      X