إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الأدب ومستقبل العالم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأدب ومستقبل العالم

    الأدب ومستقبل العالم
    سلمان اسماعيل
    استهلال أو مقاربة مفهوم الأدب :
    ادعاء كبير يتضمنه عنوان المحاضرة، إذ من الذي يستطيع أن يتجرأ على رسم ملامح العالم لربع قرن قادم ، وهذا الجنون في سباق التملك وإزاحة الآخر يتسارع بمقدار لا يسمح لعاقل أن يدعي علماً أو يقيناً ، ثم ما هذا (العقار) الذي يراهن عليه لحل معضلة الحضارة المنفتحة على هاوية رعب العدم؟ !
    إن العنوان يغامر ويتحدث عن مستقبل للعالم ، عندما يمارس الأدب فعاليته القصوى في تكوين سلوك الإنسان وتقوية مناعته الوجدانية..
    لكن . أي أدب هذا ، وأي مستقبل يبنيه هذا الأدب المقصود؟
    ماالأدب؟ رغم العمر الطويل لهذا (الكائن) الأليف، مازال لا يصنف في بدهيات (المعرفة) ، ومازال ذا صفة البتاسية تقبل التساؤلات المعادة!
    مصطلح الأدب ، شأن كثير من مصطلحات المعرفة ، إشكالي حقاً ، فهو ضيق ضيق في ذهن أصحاب النزعة الجمالية الصرف، حتى يكاد يقتصر على ما يسمى الأدب الإنشائي (الإبداعي): شعر ، قصة – مقالة أدبية – خاطرة. .
    (وبعضهم لا يدخل المسرح في فنون الأدب) ، وإذا ما طرح سؤال الماهية لكل فن تغدو الدائرة في الحد الأدنى من الضيف ، إذ ما الذي يسمى شعراً وما الذي يمكن أن يصنف في الرواية وهكذا؟!
    وبالمقابل: المصطلح مفتوح ومتسامح يتسع ، عند آخرين ، لأشكال انتقالية كثيرة: السيرة والرحلات ، أدب ، الرسائل ، واليوميات أدب ، المواعظ الأخلاقية والخطب الدينية أدب ، حتى بعض أشكال التناول التاريخي والجغرافي والفلسفي والجدل السياسي أدب .. أدب...
    وبعد أي أدب أعني أنا ، هنا ، هذا لابد أن يكون قد خطر لكم وهذا من حقكم أيضاً؟
    أنا مع المضيقين الجماليين حتى أكاد أكون زميتهم ، ومع المتسامحين المتسعين حتى أبدو أكثرهم تفريطاً ، فالأأدب عندي هو الروح الشعرية تسري في أي عمل لغوي يعتمد على التخيل والانزياح في استخدام الألفاظ انزياحاً يبعدها عن التعبير المباشر (التعبير الصفري في الدلالة) أي عن أقل طرق التعبير حساسية ،هذا الانزياح (الانحراف لا فرق) الذي يخلق عالماً من العلاقات المتميزة عن الواقع العملي الخالص ( ).
    وقد تكون هذه الروح الشعرية في فنون القول (اللغة) الأخرى غير الشعرية ربما تكون في كتاب على رفوف الرواية ، وفي مصنف للفلسفة ، وفي كتابة سياسية أكثر من كونها في نص ينمي للشعر شيوعا ً، لأن صاحبه استحوز على صفة الشاعر بإصراره.
    الروح الشعرية في النص هي التي تنميه إلى الأدب ، ولا يهم بعد ذلك أن تحل في قالب الرواية حسب تقاليدها ، أو تتمدد في المسرحية حسب أعرافها..
    إن تصنيف الكتب بيبلوغرافياً حسب (ديوي) وتنضيدها على رفوف المكتبات مصنفة على أساس أجناسها لا يطمئن دائماً ، فقد تكون هذه الرواية نفافلسفياً ، وهذا الكتاب الفلسفي شعراً ، وهذا الديوان إعلانا ًسياسياً ، أو نشرة سياحية..
    والشعرية (الأدبية) لا تقتصر على الفنون القولية (اللغوية) ، لقد غدت مصطلحاً متجذرا ًفي الفنون المرئية والمسموعة والصامتة ، وعلى هذا ما دامت الروح الشعرية تحتل جسد الكتابة ، فهذه لكتابة (أدب) .
    ومن هنا ستكون إحالاتي ممتدة في الأساطير والفلسفات وأدب الخيال العلمي والأمثال والأقوال المفردة.. جريا ًوراء معيار الأدبية الذي اعتمدت..
    وفي ماهية الأدب لا أستطيع أن أدعي أنني قادر على وضع تعريف مبتكر ولا أقدر أن أغامر أيضاً ، تبني تعريف مستعار لنا قد أو منظر أدبي، فما أصعب أن يصطفي المرء تعريفاً للفن (أي فن) ، ذلك لأن طبيعة هذه المعرفة المركبة يصعب تأطيرها: لقد أضيئت جوانب في الفن والأدب من المعرفين ، لكن أحداً لا يستطيع أن يدعي الإحاطة بالجوانب كلها ، ثم هل للفن أبعاد محددة بدقة؟
    إن من قدم تعريفاً للفن ، تعريفاً للأدب ، انحاز ، بالتأكيد إلى ما رآه الأهم لديه، وقد ولدت ثنائية الماهية والوظيفة للفن شكولاً من التعاريف والتعميمات التجريبية التي تفيد كمداخل ذات علاقة بمرجعياتها المختلفة ، لكنها لا تستوعب الفن ، مما يجعل ، وهذا طبيعي الاجتهادات مفتوحة أبداً مع هذا اللون من النشاط الذهني – الوجداني المتجدد المليء بالأسرار والمتكاثر بالدلالات.
    (تولستوي حاول أن يقارب (ماهية الفن) ، لكن ما الذي وصل إليه؟
    لقد ناقش عريفات الفن المتباينة التي وصل إليها واختارها بالطبع في ثلاثين صفحة ، ودفعه اعتداده ووزنه الأدبي والفكري إلى أن ينص على تعريفه الخاص: إن النشاط الفني يتلخص في أن يستحضر الفرد في ذاته إحساساً يكون قد جربه من قبل ، وبعد أن يستحضره في ذاته يوصله إلى الغير بحيث يجرب الغير هذا الإحساس عينه ، وهكذا تصل إلى الغير عدوى هذا الإحساس ويجربه )
    لا أريد أن أقف إزاء نظرية العدوى في الفن ، لأن ذلك ، رغم أهميته ، لا يعد أمراً مطلوباً أو مفيداً في مسار هذا البحث (المحاضرة) على الأقل ( )
    كل منا يتذوق الفن والأدب ، ويكاد يكون واثقاً من ذائقبه ، مؤمناً بإشاراتها ، لكننا لا نستطيع ، دائماً أن نحلل الرسالة التي تسلمنا هذه القصيدة أو المقطعة أو القصة..
    لكن ماذا يحدث لو أننا انقطعنا عن سماع الشعر ، لو أننا هجرنا قراءة الرواية، لو أننا قاطعنا قاعات المسرح ، لو كففنا عن النظر في المقالة ، لو أغلقنا الأبواب في وجه كل هذا الذي يسمى فناً؟!
    إن مثل ذلك يخطر لنا أحياناً ، بل هو واقع بالنسبة لبعض البشر ،ـ في كل حين، ويجري لآخرين في فترات طويلة أو قصيرة ، وعلى الرغم من صعوبة مقاطعة الفن أو هجره ، ذلك لأن فنوناً بدية قريبة أو بعيدة من الفنون المعروفة يصطدم بها الفرد حتى لو كان وحشياً ، فإن البشر يستطيعون أن يحيوا لكن لا يحيون حياة طيبة ، أو لا يحيون كأناس (على حد قول شيللي).
    وقد تدعو التراكمات باسم الأدب إلى الزهدية، وتشجع على الانصراف عنه، لكن الحقيقة أن الشعر قليل في العالم ، والأدب الحقيقي بفنونه المختلفة قليل أيضاً ، والعالم ما زال بحاجة إلى الفن ، بحاجة إلى الأدب ، رغم صدمة أرقام النشر والبشارات التي تحملها العناوين ، ولم تستطع إحصائيات كتب النقد أن تشير إلى تسمية النصوص الفنية الحقيقية ، فهي (أي كتب النقد) تقع بين النقد وتقليده وتوهمه..
    وليس صحيحاً أن التقدم العلمي حال دون الحاجة للفن أو قلل من أهميته، ذلك لأن الأدب (والفن عامة) يعمل عمله في فجوات العلم، وما أكثرها و أوسعها !.. وهو (أي الأدب) لا يلحق به ولا يتبعه ولا يقتفيه ، فإما أن يكون متقدماً عليه ، أو متأخراً عنه ، ولكل منهما ملامسته الخاصة للحياة ، فالعلم فظ خشن ، والحياة رهافة ، والأدب وحده هو الضامن أن يقرب ما بينهما .. في صرح الأدب تتجمع العلوم كلها .. وتصبح المعرفة في الكتابة الأدبية احتفالاً والأدب مهما اختلفت مدارسه واقعي بصفة قاطعة ،لأأنه حقيقة الواقع وإشعاعه .. ( )
    وعندما يكون الأدب الذي يعنينا هو الأدب الكوني الذي تخلص من خدمة العرق والجنس والدين ، وأخلص للإنسان الموحد في هذا العالم الذي يبدو منقسماً ، فإن النصوص تصبح قليلة قليلة ، فبعد هذا الاستطراق العالمي لم يعد هناك أهمية لأدباء العشيرة ، وشعراء الأقاليم ، فالعالم يقدم فرصة مطلقة للاتصال لم تكن لأي عصر من قبل ، وأنبياء المرحلة الحاضرة لا يستطيعون أن يخاطبوا أقواماً محددين أو يقتصروا بركتهم على أخوانهم في اللسان أو التراب.
    لوحة القرن العشرين: أيعقل أن ترسم ملامح القرن الحالي في لوحة أدبية تخلقت في القرن السادس قبل الميلاد لنتأمل هذه الفصول من كتاب (التاو) تلك الفلسفة الصينية المنسوبة إلى (الأوتان) أو (لاوتز) خازن المكتبة الرسمية لإمارة (تشو) المولود في حدود 600 ق.م والذي جاءت فلسفته رداً على المونفوشيوسية بعد أن غدت ديناً جماعياً له قرابينه وطقوسه ، والتاوية فلسفة طبيعية ترتكز على وحدة الوجود ، وتقوم على البساطة و الجهد الأقل وتحرير الناس من الخوف والقمع وتقليص الأحكام والقوانين وتخفيف حضور الدولة إلى درجة التلاشي، ولم تخف التاوية مقاومتها للحضارة المتثملة في السلطة والتملك والحروب ، لقد شغلت التاوية الصين عشرات القرون. وغدت ، رغم تحولها فيما بعد إلى دين وطقوس ، مكوناً واضحاً من مكونات الوجدان الصيني.

    النصوص المخارة
    لماذا يجوع الشعب؟
    لأن الحكام يأكلون الأموال بالضرائب
    ولذلك يجوع الشعب
    لما يتمرد الشعب؟
    لأن الحكام يتدخلون أكثر من اللازم
    ولذلك يتمرد الشعب
    لماذا لا يعبأ الناس بالموت؟
    لأن الحكام يطلبون ثمناً باهظاً للحياة
    لذلك يتقبل الناس الموت بسهولة
    ***
    مع المزيد من الأوامر والنواهي
    يزداد الفقراء فقراً
    مع الأسلحة الأكثر فتكاً
    يكون المزيد من المشكلات في البلاد
    مع المزيد من الأحكام والتعليمات
    يكون المزيد من اللصوص والنهابين
    الأسلحة الجيدة آلات للخوف قمعتها كل الكائنات
    ولذلك لا يتسعملها أهل (التاو) قط
    الأسلحة آلات للخوف ، وليست أدوات العاقل الكلس
    فهو لا يستعملها إلا إذا لم يبق لديه خيار
    السلم والسكينة عزيزان على قلبه
    ليس النصر يسبب الفرح
    إن من يفرح بالنصر يفرح بالقتل
    وإن فرحت بالقتل فلن يمكنك استكمال ذاتك
    **
    عندما يقتل عدد كبير من الناس
    ينبغي النواح عليهم بمرارة
    ما الفرق ، إذا ، بين النصر و الجنازة ؟
    **
    حينما يدار البلد بلطف
    فالناس بسطاء
    وحين يدار بفظاظة
    تخبث نفوسهم ..
    **
    إن غابات القتاد تنمو أينما يمر الجيش
    والسنوات العجاف تعقب الحروب الطاحنة
    قم بما تدعو الحاجة إلى القيام به
    ولا تتخذ من القوة شعاراً
    **
    أنتج ولا تمتلك
    واشتغل ، لا لحسابك
    قد ولا تسيطر
    هذا هو الـ(تي) البديء
    الأخنوم الثاني بعد (التاو)
    وهو قريب من معنى الفضلة
    (القوة المركبة الفاعلة في الأشياء )
    **
    عندما يكتسي البلاط بالروعة
    تمتلئ الحقول بالأدغال
    وتصبح الأهراءات فارغة
    البعض يلبسون الثياب الفاخرة.
    ويحملون الصوارم
    إن لديهم أكثر مما يستطيعون استعماله
    أولئك هم السادة اللصوص
    كلا ليس هذا بدرب (التاو)
    **
    أن تموت دون أن تهلك
    يعني أن تكون أيدي الحضور
    **
    الدولة – التملك – القوانين – الأسلحة – الحرب – الجوع – الثورة – الموت – النهب – اللصوصية – الجيوش – البلاطات الفاخرة ...إلخ أليست هي مفردات لوحة القرن الحالي؟
    الدولة التي هي نتاج استعصاء التناقضات الطبقية الاجتماعية (تزداد وطأتها ، ويثقل جرمها فوق المجتمعات ، وتزداد انفصالاً يوماً بعد يوم عن هذه المجتمعات تتمظهر بشكل فظ في وسائل القمع المتطورة (جيش – شرطة – أصناف مختلفة من أجهزة سرية وعلنية ) أكداس تتعاظم من الأوامر والنواهي والقوانين والتشريعات الخافقة لجموع البشر وبدرجات متفاوتة..
    ورغم كل الوعود باختفاء الدولة أو تلاشيها أو تحولها من سيد إلى خادم ، فإنها ، حتى في البلدان المارهة لها والتي كانت تبشر باختفائها ، غدت لعنة البشر وسالبة الفرد كل شيء .. (من جيبه إلى قلبه).
    هذه الدولة: العملاقة ، والهزيلة ، والوسيطة ، ليست قرينة تناقض واقع فحسب ، بل هي وسيلة لقتل فردية الإنسان ، ولاجمة لنمو شخصيته ، وبدلاً من أن تكون الدولة في خدمته أصبح ، هو وسيلتها لكل نا من شأنه التآمر عليه والتراجع بدوره، والتقهقر بعالمه إلى درجة تهديده بالزوال والانطفاء..
    لقد غدونا بعد الحربين الكونيتين الأخيرتين ، وما تبعهما من حروب باردة وفاترة، في عالم مفزع نرتعد فرقا ًمن حرب ثالثة قد لا تسمح بعدها بأي تعقيب أو تأمل ، وإذا كان العالم قد تنفس الصعداء بعيد سقوط النازية ، فإنه قد شهد ، في الوقت نفسه ، بروز دولة عملاقة جديدة كانت تتطور بسرعة فائقة على مستوى الثروة والقوة ، في اللحظة التي ينهار عالم ، ويتخلف عالم آخر ، إن الظاهرة الأمريكية لها رقعة خاصة في خارطة عالم اليوم ، وقد غدت سيدة هذا العالم وتسلحت زعامته ، إنها الآن تملي إرادتها ، وتلغي إرادات العالم وحواراته ، ومع ذلك تخشى المنافسة وتخاف ضياع الامتيازات هنا ، وهناك .
    الثورة الصناعية و التكنولوجية ، هي الأخرى ، خلقت أمماً جديدة ، وأحدثت تغيرات صاعقة (اقتصادية واجتماعية وقيمية) وأعادت تضيف الدول والشعوب من جديد ، وحولت ، بسرعة كثيراً من المصطلحات السياسية والقانونية (استعمار .. تبعية .. استقلال .. قرارات وطنية) وهذا العالم ، رغم انقسامه إلى متقدم ومتخلف إلى شمال وجنوب ، مأزوم مخوف لا يطمئن للمستقبل الذي قد يتساوى فيه التخلف والتقدم ، لأن كل الأرقام (الصغيرة والكبيرة ) مهددة أن تضرب بصفر الخراب والعدم الكلي..
    لقد وضعنا (أوجانسكي : صاحب كتاب السياسة العالمية) على حافة الحذر وشرفة المخاطر.
    (لقد ولدنا في عالم ، وكتب علينا أن نموت في عالم آخر ، وحياتنا هي الطريق التي تصل بين هذين العالمين ، نحن نعيش على حافة هاوية عاصفة تفصل بين واديين هادئين ، فالرياح عنيفة قاسية ، ولكن المنظر هائل مروع) .
    لقد رفع الخوف من قيام حرب حديثة، إلى حد كبير ، الثمن الذي ترغب الدول أن تدفعه من أجل استتباب السلام ، لكن ليس هناك دولة واحدة تسعى إلى تحقيق السلام بأي ثمن كان.
    الدول الصغيرة والكبيرة ستحارب ، إذا قوبلت بتحديات في الثروة والمكانة والاستقلال والثقافة (هولندا تقاوم الألمان – والمجر تتمرد على السوفييت )
    وهكذا لم تنته احتمالات وقائع الحروب بعد سقوط النازية وموت هتلر . لقد حذر (آرثر كوستلر) عشية انتهاء الحرب الكونية الثانية من الفاشية ، ولعله كان يدرك أن يوصف بالنبي الذي لا يتكهن بغير الشر ، ورغم احتمال وصف صحته بالوعظية والاستعلائية أكد على دور النخبة المفكرة المتأدية.. هذه الأقلية التي رآها الثروة الوحيدة المتبقية لقارة مفلسة (يقصد أوربا ) ونبه ألا يضع هذه الأقلية بدمجها في أحزاب يسارية أو يمينة (وهذا كان رأي ستيفن سبندر أيضاً ) لأن هؤلاء الأفراد هم تلامذة التاريخ النجباء في استخلاص العبر من الدروس ، وتتلخص مخاوف كوستلر) في انتقال العالم إلى مراحل متتالية من عدم الحرية ، وهذا ما رآه ينطبق على مجموع الحضارة الغربية ، فالكوارث الكبرى في التاريخ كانحلال روما ، يمثل – لم تأت دفعة واحدة ، بل حدثت ،كما رأي على مراحل انحدارية غير ملحوظة..
    ويكثف نظرته إلى التنافر الحاصل حول (تغيير العالم) في ثنائية تقابلية واضحة ملخصة برمزين هما (الكوميسار واليوغي : الثوري والصوفي).
    (أود أن أتمثل أمامي آلة تمكننا من تفتيت جزئيات التصرف الاجتماعي بالطريقة نفسها ، التي يفتت فيها العالم الفيزيائي الأشعة الضوئية ، عندما ننظر من خلال هذا المرقب الطيفي الاجتماعي ، فإننا سنرى حتماً النوازع والتصرفات البشرية ، إن جميع ما كنا نراه مختلطاً مشوشاً سيبدو ساعتها واضحاً صافياً ومفهوماً .. كيف؟
    إننا سنرى في طرف من الأشعة ، ولابد أن يكون الطرف الأحمر ، الكوميسار إن الكوميسار يؤمن بالتغيير يأتي من الخارج ، إن الأوبئة البشرية ، بما فيها إمساك المعدة وعقدة أوديب يمكن أن تعالج عن طريق الثورة ، يغير عن طريق التغير المتطرف لنظام الإنتاج وتوزيع السلع ، وهذه الغاية تبرر الوسائل ، بما فيها استعمال العنف والخيانة والسم..
    إن التفكير المنطقي هنا ، هو بمثابة بوصلة لا تخطئ ، وإن الكون هو نوع من الساعة الكبيرة التي فيها كميات وافرة من الإلكترون ، أطلقت في زمن ما ، ومازالت مستمرة إلى الأبد ، وكل من يؤمن بغير هذا التفكير متذبذب أما في الطرف الآخر – يتابع كوستلر – حيث أمواج الضوء تبدو قصيرة وكثرة الاهتزاز فإن العين لا تعود تتبين الأشياء بوضوح ، هناك يربض اليوغي (yogy) إنه لا ينظر إلى الكون كساعة ، ولكنه يعتقد أنه من الممكن أن نطلق على الكون وتكون على جاب من الحق – اسم صندوق الموسيقا أو حوض السمك، إنه يرى أن الغاية لا يمكن التنبؤ بها ، وأن الأهمية هي للوسيلة، إنه يأبى استعمال العنف في أي ظرف كان ، ويؤمن أن التفكير المنطقي يفقد قيمته الوصلية التي لا تخطئ ، وعندما يقترب من قطب الحقيقة والكمال الممغنط. إنه يعتقد أن لا شيء يمكن تحسينه بواسطة التنظيم الخارجي وإنما بالجهد الفردي من الداخل ، ومن يؤمن بغير ذلك فهو متهرب.
    بين هذين النقيضين تتوزع الرؤى متقاربة أو متباعدة .
    إنك تستطيع أن تدخل في جدل مع الفابيين والتحريين والإنسايين ، ولكنك لا تستطيع أن ترى إمكان نقاش بين الكوميسار و (اليوغي)
    والخلاف الحقيق هو بنيهما – بين مفهومي التغيير من الخارج و التغيير من الداخل .
    من السهل أن تقول : المطلوب هو التوحيد بين الصوفي والثوري ، لكن ، حتى الآن لم يتحقق شيء من ذلك .. الذي تحقق هو نوع من التسوية وليس التوحيد وقد يكون هذا من الأسباب التي جعلتنا – يقول كوستلر- تشوه تاريخنا ذلك لأن مجهود الكوميسار العاطفي مركز على العلاقة بين الفرد والمجتمع ، ومجهود (اليوغي ) على العلاقة بين الفرد والكون .. ومحاولة الوصول إلى جهد متبادل من المجال وتغلب على المجتمعات نتيجة هذا التنافر بين القطبين القيم السياسية ، ويتصاعد التطور العلمي إلى ذروة تركت الإنسان يلوب بحثاً عن فعل يوقف نشاطه الذي لا يضبطه موقف أخلاقي ، وتغدو المدن الفاضلة التي كان يخطط الفلاسفة لها ، أدنى إلى التحقق (كما يرى برديائيف) – حتى ليؤلمنا الآن أن نواجه هذا السؤال: كيف نستطيع أن نحول دون تحقق هذه المدن؟ الحياة تسير نحو المدن الفاضلة ، وربما كنا في بداية عصر جديد ن عصر يحلم فيه المفكرون وأبناء الطبقة المثقفة بالوسائل التي يتجنبون بها المدن الفاضلة ، والتي تعيد إليهم مجتمعاً لا يتسم بصفاتها ، مجتمعاً أقل (كمالاً) ولكن (أكثر حرية) ...
    وإذا كان برديائيف يتخوف من المدن الفاضلة الحديثة فإن (ألدوس هاكلي) يصورها روائياً ) مرعبة أكثر في كتابه the Brevener world) العالم الطريف، ففي الكتاب (الرواية الخيالية) يعتبر (هاكسلي) عن خوفه من سيطرة العلم على حياة الناس ، ويصور مدينة العلماء الفاضلة بكل ما فيها من مساوئ ورعب ، فالعالم الجديد عالم العقاقير والآلات تنتفي منه العاطفة والشعر والجمال ، وفي هذه المدينة كل شيء آلي ، وكل شيء مرسوم أو محفوظ في قوارير ومرصوصات ، ولا أثر للصفة الإنسانية على الأشياء ، يتنبأ (هاكسلي) في كتابه (العالم الظريف) أن العلم سوف يصل بنا إلى حد الاستغناء عن الزواج وتكوين الأجنة في القوارير (أطفال الأنبيب اليوم) ، والأطفال بحكم تركيبهم الكيميائي غمس ( أ- ب- ج – د- هـ) وكل طبفة تعد إعداداً نوعيا ًيلائم تكوينها الجسماني واستعدادها العقلي ، وهي مصممة ومؤهلة لعمل معين لا تغيره.
    ولا تجيد سواه ، وبين أبناء الطبقة الواحدة تشابه يصل إلى درجة التماثل التطابقي، في الخلق والخلق، وتنعدم في الفرد ذاتيته وشخصيته انعداماً كاملاً ، ويغدو شعار المدنية – الجماعة – التشابه – الاستقرار العالم الجديد تهمه السعادة المادية (أكثر مما تهمه المعرفة) وهي سعادة آلية محض لا توجهها الميول الشخصية ، وتفرض على النفوس فرضاً منهجياً.
    إنه عالم الأزرار والمقابض المبرمجة ، عالم الملل والسأم والجفاف . لا فنون ، لا مشاعر ، فالروح العلمية محرفة إلى اكتشاف أسرار الطبيعة فحسب ، المدينة الفاضلة (العلمية ) هي خيال فئة من العلماء امتلأت رؤوسهم بالتفكير المادي ، وفرغت قلوبهم من وقدة الروح ووهج الوجدان..
    الخطاب المضمر (لهاكسلي) في (عالمه الطريف) يمكن استغلاله سلباً:
    - العودة إلى البساطة القديمة
    - الاحتفاء بالأمومة الصحيحة
    - تقيد الريف الذي لا يلوث بالعلم والمادة والصناعة.
    - الفردية ونمو الشخصية.
    - الانتعاش الروحي والنمو الوجداني.
    وفي كتابه الآخر (الوسائل والغايات) يعرض للنظم السياسية وينقدها ، ويدعو إلى إصلاح وسائل الحكم ، ويصدم العالم بآلة الحرب الماثلة دائماً ، ويزين فكرة العدالة والمساوة ، ويلح على التعليم والدين والمعتقدات الأخلاقية.
    بعد الحربين الكونيتين تعملقت الآلة وغدت تهدد كل ما هو جميل في العالم ، إنها آلة بأس وتخريب تسخر من الحياة وتخلق الموت وحده، وتعمم حضارة الموت ، ذلك لأن آلات الحضارة الحديثة تصنع الموت بكميات أكبر مما تضيع السلع الأخرى ، إنها تجابهنا بالموت كل لحظة ألا تراها تقذف بآلاف الجثث كل يوم هنا وهناك؟
    وقد وجد الأدب نفسه أمام الآلة يلهث ويهذي ، هذا (ما ثيو أرنولد) يحاول التقاط أنفاسه وتجميع آخر خيط نجاة ممكن بالحب والإخلاص..
    آه يا حبيبي ، لنكن مخلصين
    كلانا للآخر ، فالعالم الذي يلوح أمامنا ..
    كأرض من الأحلام .. متنوعا جميلاً جديداً
    ليس فيه ، في الحقيقة ، فرح أو حب أو نور
    ليس فيه طمأنينة أو سلام أو عون على الألم
    وها نحن كأنا في واد مظلم
    تكتسحنا أصوات النذير المختلطة داعية إلى النضال أو الهرب.
    حيث تتصادم جيوش عمياء في الليل..
    السلطة والإبداع: الدولة (أي دولة) تريد مواطنين صالحين (مهذبين) ، والصلاح والتهذيب ، في رأسها ، لا يكونان إلا في ذلك النموذج المعجب بالنظام الذي تقيمه ، وإنه لمن عجب (كما يقول برتراند راسل) (بينما تستهدف الحكومات جميعاً إنتاج رجال من هذا الطراز دون غيره ، ترى أن أبطالها الذينتمجد من رجال الماضي على وجه الدقة ، ليسوا كذلك ، وإنما من الطراز الذي تحاول (أي الحكومات ) أن تمنع ظهوره في الحاضر. فالأمريكيون يمجدون (جورج واشنطن ) و (جفرسون ) لكنهم يزجون في السجن أولئك الذين يشاطرونها آراءها السياسية ، الأمم الغربية كلها تمجد (المسيح) لكن لو أنه عاش اليوم لعومل كـ (اسكوتلانديارد) أي لكان موضع ريبة من رجال البوليس في انجلترا ولامتنعت عليه الجنسية الأمريكية على أساس نفوره من حمل السلاح.
    هذا يوضح الوجوه التي تجعل الولاء للوطن غير كاف وحده أن يكون مثلاُ أعلى ينطوي على انعدام قوة الإبداع ، وعلى الرغبة في الخنوع لأصحاب السلطات أياً كانوا ، وهذا اتجاه يناقض الطابع المميز لعظماء الرجال، ويميل ، إذا بولغ فيه إلى الحيلولة دون أوساط الناس أن يبلغوا العظمة إلى الحد الذي تمكنهم منها كفاياتهم)
    وعندما يعتمد النظام على طليعة (حزب واحد مثلاً ) فإن مصطلح المواطنة يصبح محددا أكثر ، فالمواطن الصالح هو (صراحة أو اتفاقاً صامتاً ) الرفيق المطبع الملتزم بقرارات المؤسسة المسترة والمستعد للتضحية في كل حين ، وبلا اعتراض أو مجادلة ، بكل ملكاته وقدراته واعتباراته إذا ما تطلبت الإرادة العليا ذلك ، وعندما يختصر النظام في زعيم (قائد) يصبح الصالح هو الموالي للسلطان صاحب البركة ، آنئذ لا يكون أي كاتب ، مهما تنازل أو تسامح مع فنه ، مواطناً مقبولاً في مثل هذه الدولة الشمولية (الواحدية) دولة الحقيقة المطلقة ، فلويس الرابع عشر (هو نموذج) صاح : أنا الدولة..!
    الدولة تنظيم وقوانين وقيود ، والأدب الحقيقي (الكوني) ارتجال وانسياب ولا تبتعد الفوضى أن تكون واحدة من ظروف حضانته (وإن تكن الفوضى الرائعة عند نقاد الأدب) ، الإبداع طاقة فردية ، روح الإنسان المنفلتة من القيود والمواصفات)
    السلطة في تكوينها تقوم على الدوافع التملكية ، في حين الإبداع وراءه دوافع إبداعية الفن (الأدب) يوجهه أمران رئيسيان : الحب والحرية والسلطة يوجهها أمران مقابلان: القوة والتملك..
    السلطة والإبداع من طبيعتين مختلفتين ، السلطة تمجد الجماعية ، لكنها الجماعية التي تحقق بارمجها ،لا أي جماعية أخرى تحاول أن تكون خارجها ، فهي (هذه الثانية) عندئذ جماعية خائنة حارفة مشبوهة ومادة ، تطلب مطاردتها وتصفيتها .. الإبداع يمجد الفردية التي لا تتعارض مع الجماعة، بل تثريها وتنعشها ، وتدخل الفرح إلى جوانبها لتضيء مسارب الأمل بعالم مفعم بالحب والطمأنينة والسلام.
    وراء الدولة غالباً نزعة قومية (ذاتية) تسوغ من أجل أهدافها البعيدة والقريبة وسائل العنف واستراتيجيات التآمر والوقيعة ، بينما المبدع (الأديب) ذو نزعة كونية لا تنجو من الاصطدام (أحيانا ً) بالقومية والوطنية كما تراها الدولة، فالفنانون إخوة الإنسان في كل مكان ، هوميروس والمعري ودانتي وغوته ونعيمة وشولوخوف وخبمينس وماركيز وجبران .. هؤلاء هم أبناء الإنسانية كلها ، وهل يكون الأديب أديباً ما لم يكن ابناً للإنسانية؟
    الإبداع يبحث عن الحقيقة بعمقها وطهرها ، والسلطة لا ترى غير حقيقتها التي صنعت بوسائل ليست بالضرورة دائما أخلاقية ، الدولة ليست دئاماص هي الوطن، وهي ليست أكثر من إيهام ميتافيزيغي ووهمية سياسية وقانونية للوطن، والجماهير الشعبية لكل البلدان حسب باكونين – تحب وطنها بعمق ولكنه حب حقيقي وطبيعي ، وهذه ليست فكرة مجردة ، إنها واقع .
    ومن هنا يصطدم قارئ الشعر الحديث بما يبدو له مفارقة للوهلة الأولى الشعر يهجوا الوطن والبلد ، أو يلعن الرموز التي تحمل مدلول الوطن ، لكن هل الشاعر يهجو الوطن حقاً (حقق سيبيون الإفريقي لروما انتصارها على هانيبال ، لكنه لأمور السياسة منع من الدفن في بلاده واتهم بالخيانة ألا يحق له أن يقول : أيها الوطن الجاحد ، أنت لا تستحق عظامي ؟؟
    وفي أشعار محمد الماغوط تبكيت واضح بالوطن وتنكر له يضمر عتاباً شفيفاً يعكس حباً عنيفاً مكتماً بحجبة فظاظات نالت الشاعر وهو يتلمس إنسانيته في حواري وطنه وأزقته الضيقة وأروقة دواوينه الوطنة.

    مختارات من أشعار الماغوط
    بعد تفكير طويل

    قولوا لوطني الصغير والجارح كالنسر
    إنني أرفع سبابتي كتلميذ
    طالباً الموت أو الرحيل
    ولكن
    لي بذمته بضعة أناشيد عتيقة
    من أيام الطفولة
    وأريدها الآن
    لن أصعد قطاراً
    ولن أقول وداعاً
    مالم يعدها إلي حرفاً حرفاً
    ونقطة .. نقطة
    وإذا كان يأنف من مجادلتي أمام المارة
    فليخاطبني من وراء جدار
    ليضعها في صرة عتيقة أمام عتبة
    أو وراء شجرة ما ..
    وأنا أهرع لالتقاطها كالكلب
    مادامت كلمة الحرية في لغتي
    على هيئة كرسي صغير للإعدام
    **
    قولوا لهذا التابوت المدد حتى شواطئ الأطلسي :
    إنني لا أملك ثمن المنديل لأرثيه
    من ساحات الرجم في مكة
    إلى قاعات الرقص في غرناطة
    جراح مكسورة بشعر الصدر
    وأوسمة لم يبق منها سوى الخطافات
    الصحارى خالية من الغربان
    البساتين خالية من الأزهار
    السجون خالية من الاستغاثات
    الأزقة خالية من المارة
    لاشيء غير الغبار
    يعلو ويهبط كذي المصارع
    فاهربي أيتها الغيوم
    فأرصفة الوطن
    لم تعد جديرة ، حتى بالوصل..
    من العتبة إلى السماء
    الآن
    والمطر الحزين ، يغمر وجهي الحزين
    أحلم بسلم من الغبار
    من الظهور المحدودبة
    والراحات المضغوطة على الركب
    لأصعد إلى أعالي السماء
    وأعرف
    أين تذهب آهاتنا وصلواتنا!
    آه يا حبيبتي
    لابد أن تكون كل الآهات والصلوات
    كل التنهدات والاشتغاثات
    المنطلقة من ملايين الأفواه والصدور
    وعبر آلاف السنين والقرون
    متجمعة في مكان ما من السماء كالغيوم
    ولربما
    كانت كلماتي الآن
    قرب كلمات المسيح
    فننتظر بكاء السماء
    يا حبيبتي!


    الأدب والجغرافيا :
    وبمعايير الوطنية المنهجية هل كان (سارتر) وهو يرفض جائزة نوبل مالم تقترن بكتابه الصغير (عارنا في الجزائر) فرنسياً طيباً في الخمسينات. وألبير كامو ، هو الآخر ، يتبرأ من وطنية وفرنسيته إذا كانتا تعنيان قبول احتلال الجزائر ( ) ..
    النزوع الكوني عند الأدباء يصطدم بالمصطلحات: الوطنية – القومية – العزة اوطنية – الشؤف القومي .. والأديب لا يؤخذ بلفظية المصطلحات .. لأنه يتعامل مع الجوهر ، مع الحقيقة ، وأي نظام تاريخي ، حتى الآن ، لم يستطع أن يتقبل أديباً حقيقاً كونياً ،حتى في(يوثوبيا) أفلاطون لم يؤذن للشاعر أن يدخلها ، وعندما نسامح صاحب الجمهورية سمح ، فقط بمناقشة لون واحد من شأنه الإفادة للدولة والحياة..
    (نحن مستعدون للاعتراف بأن هوميروس هو أعظم الشعراء، وطليعة كتاب التراجيديا ، غير أننا نظل ثابتين على اعتقادنا بأن الأناشيد الدينية للآلهة ومدائح مشاهير الرجال هي الشعر الوحيد الذي يسمح بقبوله في دولتنا ،لأننا إذا تعدينا هذا الحد وسمحنا بدخول عروس الشعر المعسول سواء في الملاحم أم في الشعر الغنائي ، فحينئذ تحكم دولتنا اللذات والآلام بدلاً من القانون والعقل )
    وهكذا عندما اتجه أفلاطون اتجاهاص سلطوياً حتى في تصوراته ،لم يتساهل مع فعل فيه جانب هدمي مؤكد للسلطة ، فقبل الجمهورية (390 ق.م) كان أفلاطون يثمن الشعر ويجعله إلهياً :
    الله يجرد الشعراء من عقولهم ويستخدمهم كرسل مثلما يفعل مع كهنته وأنبيائه المقدسين ، حتى ندرك ، عندما نصغي إليهم ، وهم ينطقون بهذه الدرر الثمينة في حالة شعورية أن الناطقين ليسوا هم الشعراء أنفسهم
    لكن ، مهما كان رأي الأديب في الدولة ، أي دولة ، فهو مطالب مثل سواه، بالخضوع للقوانين (قوانين بلاده) فسوف مثل غيره ، للتعامل مع برامجها ، حتى ولو لم يشتهر بتصميمها ومراميها مرض ، شأن الآخرين ، للتجنيد العسكري ، أحياناً وتنفيذ القرارات الكبرى ، لكنه لا يستطيع أن يكون مطبقاً للأوامر طاعة عمياء ومحتفظاً ببطاقة الأديب ، يمكن أن يجبر على خوض حرب جائرة ، لكنه لا يقدر أن يسكت على وقائعها ، أن يحتفل بانتصاراتها.
    حتى في دولة مثل إسرائيل ، وهي كيان ضعي مطالب بالتماسك لم تمر التجربة من غير أن يعترض عليها الأدب ، من غير أن يهتك انحطاطيتها الأخلاقية ..
    مع بداية السطو الصهيوني على الأرض الفلسطينية ، كان ضابط الاستخبارات (زهار سيملانسكي) يرصد وقائع الوحشية والإبادة والطرد والإجلاء ، في رواتيه (خربة خزعة) ، لم يتسطع (سيملانسكي) ، وهو ضابط تنفيذي ، قام بواجبه العسكري بدون تحايل ، أن يخرس صوت الأديب في داخله ، لقد قدم من خلال روايته وثيقة دامغة للسطو والعدوانية الصارخة لم نحن ، نحن ، استمثارها ، وما زلنا نتعامل معها بحذر شديد يصل إلى درجة تحريم الملامسة).
    وتقدم تجربة (فيلتسيا لانغر) المحامية الإسرائيلية اطمئناناً لا يقبل التحفظ على قدرة الأدب أن يحدث انقلاباً في الوعي ، ويشارك في صياغة وجدان جديد لعالم قادم ، إن لا نفر قد لا تكون كاتبة إلا في الموضوع الفلسطينين بالإضافة لممارستها العملية للمرافعة في قضايا المعتقلين الفلسطينين أمام المحاكم الإسرائيلية
    يحسن أن نعرض لمشهدين قصيرين (المشهد عمل كامل لم يتعرض للتلخيص أو الحذف) ولدي كونتاكونتي: (وهو لم يأت إلينا مكبلاً بالسلاسل ، قيد جسده في وطنه أولئك الذين أتو من بعيد ، وسلبوه منه ، أرادوا أن يمحوا انتماءه وهويته ، كما حدث لأخيه الإفريقي ، ومالبثوا أن اكتشفوا أن كونتاكونتي الفلسطيني عنيد ومتمسك بهويته كأخيه الذين يعجبون ، هم ، منه ، عندما يظهر على الشاشة الصغيرة)
    العلم والمدفع: (على التلة المحاذية لمبنى الحاكم العسكري في الخليل ، ينتصب مدفع يلمع بلونه الطري ، ويبدو جديد الصنع ، انتصب في الساحة المرصوفة حيث يرتفع ويرفرف علم اسرائيل على السارية
    هذا المدفع ليس لإطلاق القذائف ، وضعناه ، هنا للزينة (قال جندي شاب) قبل أشهر معدودة كانت هناك عريشة ، تفيأ في ظلها أبناء عائلات المعتقلين الذين يحضرون هنا للمحاكمة ، أزيحت العريشة ، وانتصب مكانها المدفع والعلم هبت نسمة ، رفرف العلم ، وظل المدفع إلى جانبه).
    وفي أثناء الحرب الجزارية التحريرية ، لم يتواطأ الفكر الفرنسي والأدب ، كذلك، مع تيار الحرب وإبادة الجزائريين ، لقد عبر المفكرون والأدباء الكونيون الفرنسيون ، بأساليب مختلفة ، عن مقاومة البربرية وشراسة التمسك الاستعماري بالجزائر .. لقد كان (ج – سرفان ، شربر) مدير جريدة (الأكسبريس) في الخمسينات جندياً فرنسياً على أرض الجزائر الملتهبة ، ولم يستطع أن يسكت طويلاً ، لقد أحدث كتابه (جندي في الجزائر) ذو الطابع شبه التوثيقي ، انقساماً حاداً في الداخل الفرنسي.
    لكنه عزز ، حتى من قبل عدد من زملائه العسكريين ، عبر (شريبر) عن فهمه للعزة الفرنسية بطريقة الأدب لا بالطريقة العسكرية (إن في تحرير الجزائر صيانة لحرية فرنسا).
    وهنا في الوسط العربي ، ما زلنا نضيف أن يتناول أديب عربي الصراع العربي مع الصهيونية بذهنية منفتحة ، هل مسرحية سعد الله ونوس ، المكتوبة منذ ثلاث سنوات ، أقصد مسرحية (الاغتصاب) خشبة عربية تتقبلها رغم كل ماحدث على مستوى الحوار السياسي؟
    لقد أصبح العالم كله متأكداً أن شن الحروب أسهل بكثير من (إفشاء الشلام) وإدمته وإن الجهود التي يقدمها الإنسان لإقامة السلام ، عدا عن أنها ستكون باهظة ، ستطرح عليه أساليب جديدة وطرائق تفكير ، لم يكن ، ولقرون طويلة خلت ، يستخدمها ، لقد أصبح حتى الساسة الرسميون يفكرون بطريقة قريبة من طموحات الفن والأدب .. ( في خطاب البيروتريكا الروسية التي انبثقت من أحشاء أصلب نظام حديث كان مبنياً على الإيمان المطلق بالتغيير من الخارج ، ما يقترب من خطاب الأدب المتمثل في الالتفات لجوانية البشر والاهتمام بعالمهم الداخل ي، ونزع الإديولوجيا عن برامج الدولة.
    كتب شاخنازاروف العضو المراسل في أكاديمية العلوم في موسكو ، وهو منظر سابق ومنتج لعدد غير قليل من الكتب النظرية الماركسية الهامة
    (إن أفضل وسيلة للتعامل مع العدو تكمن في محاولة تحويله إلى صديق ، أو على الأقل ، إلى جار طيب ، وإن مثل هذا المنحى ليضحي في عالمنا الواحد الذي توجهه التحديات النووية والإيكولوجية وغيرها ، ليس مجرد أمر مرغوب فيه ، بل هو الشرط اللازم للبقاء والتطور..
    إن الفنانين والرياضيين وغيرهم يمكن ويجب ، أن يتنافسوا ، وإن المنافسة ، هنا ، يمكن أن تكون وراء اختيار أفضل أشكال تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية ، لكن في رأيي ، يقول شاخنازاروف: من الضروري التغلب على الفكرة الثابتة القائلة بأن الصراع بين المنظومتين بشكل محور التطور الاجتماعي).

    مهمة الأدب واستعادة براءة العالم:
    الحرية ، هي القيمة الكبرى التي ينوع عليها الأدب نصوصه ، ولقد تأكد أن الحرية هي المسألة التي لا يستطيع الإنسان أن يفرط بها ، ولا يقبل أن تتعرض للمساومة والمقايضة بأي حاجة أخرى من حاجاته الأساسية، عندما يسلب البشر حرياتهم وفردياتهم ، فهم يسلبون أخطر الشروط الإنسانية ، وعندئذ ، لو حدثت هذه الخسارة ، فإن القيم الأخرى ستتحول وتتقنع فاقدة أسماءها الأصلية ، حتى الوطن ، وقد سلب الفرد فيه شخصيته ، لا يبقى تلك اللحظة وطنا ً، وحتى الحب لا يغدو حباً ..
    ماريانا ، ما الإنسان دون حرية؟
    دون هذا النور يتألق نسجما ثابتاً .
    قولي أأستطيع أن أحبك إن لم أكن حراً ؟
    (من مسرحية ماريا بنبيدا لغارسيا لوركا)
    والأديب في مثل حالة فقدان الحرية يدخل في صبغة نهلسيتة (فوضوية هدمية) محاولاً أن يعيد تسمية الأشياء أو يخلع عليها تسميات جديدة.
    وما الرومانسيات والسرياليات المختلفة ، والاتجاهات الرعوية والوحشية والصوفية ، وحتى أدب الجيل المنهك (اليتلز) مثلاً إلا احتجاج على الحضارة الحديثة ، وانحياز للبساطة الآمنة والصفاء الطبيعي الحنون ،وهروب رومنتيكي من اضطراب هذا العالم المأنون الملوث .. إنه احتجاج على النظم والقيم المنتمية لها ، والحضارة الصناعية والاستلاب الذي خلفته ، والفراغ الوجداني الذي خلقته ، احتجاج على عالم التملك والقوة والسيطرة وتنافس الأنانيات الصغرى والكبرى.
    ولأن الفن رؤية خيالية ، فهو لا يتأطر بالواقع ، بل ربما كان الواقع ، أحياناً قبيحاً، ومن أجل أن ينتج الأديب الجمال ينبغي الابتعاد عنه (أندريه بريتون والسرياليون مثلاً).
    وفي الشعر ، على الأقل الصورة الشعرية ليست نسخة منحطة للواقع ، ولا علاقة مجازية أو تماثلية بين المحسوس والمعقول ، ولا تخصيصاً تجريبياً لرسم خيالي أنتجته ذاتية استعلائية ، إن الصورة ترينا العالم البوجي ، ولكنه يرى غريباً ، ترينا اللامرئي ، أي الغرابة (المدهش ) ، ونفر الحضور في قلب المرئي ، الأشد بساطة والأكثر وضوحاً ، إنها تخفي في صورة المألوف ما يتخلص من العالم الاعتيادي ، إنها التخمينات اللامرئية للغريب في مظهر المألوف والغريب ليس هو فط ، المحير والشاغل للفكر ، لكنه هو الشيء الآخر تماماً ، غنه انسحاب الكائن والمقدس.
    ومن هنا يقول (ميشيل هار) : لا يأتي الشاعر بالخلاص ، غير أنه يحتفظ بعسر كامل هو عسر عصره ، وليس عسر حياته الخاصة ، وانفعاله عندئذ يكون ناجعاً مفيداً ، ذلك لأن حزنه ومنفاه وتمرده وعذابه أو قل فرحة بالمعنى العميق للكلمة ، مثل هذه الأحاسيس تنزل إلى أعماق عصره ، وتتغذى من ينابيعه ، وهي التدفق الجديد للتاريخ.
    إن الساسة يصدرون الأوامر ، وتفعل مثل ذلك التربية أحياناً والقساوسة والشيوخ مصدرو أوامر متتابعة ، لكن الأديب (وكل فنان) يسير أغوار نفسه ويتعمقها ليكون أقرب إلى نفوس البشر مقترباً أكثر ما يمكن من مشاعرهم ، فيغدو العمل الفني (الأدبي ) مشاركة صوفية في العالم لذي ينتمي إليه ، ومن هنا لا يلتزم الأديب الكوني برأي أو فكرة أو إيديولوجيا مملاة عليه من الخارج ، ولا يستطيع حتى لو تورط حيناً، أن ينتمي إلى أي حزب من الأحزاب ، إلا حزب الحياة، ويكفي الفنان أن يلتزم بالإصغاء إلى داخله بصدق ، ليجد الآخرون ذواتهم فيه فينتقون به أمام قوى الشر والاستلاب والموت.
    ولهذا ، يمكن أن ينظر إلى الفن (والأدب خاصة) على أنه دين وسياسة وتربية ، لكن بأسلوبه الخاص الذي قد يراه الديني كفراً والسياسي خيانة والتربوي مضيعة وعبثاً ، والفن العظيم ديني دائماً ، لأن طبيعة الفن العظيم هي إيصال الحقائق الروحية ، ولهذا يراه (ألكسندر اليوت) كتاباً مقدساً ، والمفارقة أن الفن العظيم لم يكن يوماً في خدمة التنظيم الديني ، غير أنه كان باستمرار انهماراً من النور الروحي.
    ولا كان الأدب معنياً ببناء الإنسان وبناء مدنيته فهو سياسة ، على الرغم من أنه ليس مؤسسة وظيفية ، لكنه بحكم كونه نظرة دائمة إلى العالم فهو فاعلية فنية لها خصوصياتها.
    ولا يقصد الأدب التعليم ، لكن المسرح يقدم مثلاً على الوظيفة التعليمية الضمنية للأدب ، ومسرح برتولدبريشت لا يمكن حصر وظيفته في المتعة والفرحة وحدهما. (لو كان من غير الممكن جعل التعليم شائعاً لكان المسرح بطبيعته غير قادر على التعليم – بريشت).
    ولأن الأديب يختصر المنور والمصلح والمعلم فإن لوحة العالم تصدم وعيه وتنسرب إلى وجدانه الجواني العجيب ، ولأنه واع فهو يهدي بالفاجع ويرسم الواقع الآخر البديل الذي تخيله الطفولة والبراءة والرؤى المدهشة الخلاقة.
    أنا أعرف أن الموقف الذي ألتمسه من الأديب سيفقره ، وسيعرضه للمساءلة ، والمتابعة ، وسيبعده عن المناصب ومتع السلطة ، لكن هذه الحال ليست جديدة على المصلحين ودعاة التغيير والباحثين عن عالم الصفاء والحب والأمن..
    (أرسل أحد ملوك الصين مبعوثين إلى تشوانغ تر التاوي يطلب إليه أن يلتحث ببلاطه فرد : أغربوا عني لا تدنسوني .. أنا أفضل التمتع بإرادتي الحرة )
    ولابد للمفكر والفنان أن يتقبلا ، في سبيل أن تكون أعمالهما تراثاً للجنس البشري، ارتداء تاج الشوك راضيين ، منتظرين ذلك اليوم البعيد الذي يتفتح فيه ذلك التاج إلى إكليل من الغار ) .
    إنني لم أحاول أن أتقنع بخطابات الفن لأوسس فلسفة أو أبشر بإيديولوجيا جديدة ، أو أتشيع لمذهبية مضمرة ، لقد حاوت ، فقط ، أن أقرأ ميثاق الفن في أولاحه الأبدية ،وأتهجى خطابه الداخلي الهامس ، وألتقط نبرته الجوانية الضاحة من غير أن أملي عليه دوراً أو أقوله كلمات متلعثمة أتولى تفسيرها بنفسي.
    ولا أعتقد أن تساؤلاتي يمكن أن تفهم على أنها صدى لتلك الدعوات لصياغة نظام دولي جديد ، فهذا شأن الدول ، والأدب ليس نظاماً ولا يتفق مع الأنظمة الجديدة أو العتيقة ، ما أحلم به أ يصبح الأدب طريقة حياة للكائن البشري يضع الإنسان – العالم من جديد في علاقة توافقية مع ذاته ومع الكون ترشد إبداعاته واستذهاناته لمزيد من التوغل في إنسانيته وصولاً إلى الكائن الإنساني الواحد الكلي..
    ما أحلم به أن تسري تلك التربية الأدبية عميقاً في النفس لتصوغ إنساناً شاعراً لا بمعنى أنه يكتب الشعر ، وإنما ، وهذا هو الأبعد أن يحيا الشعر ويسلكه ) لتصبح تلك الظواهر الوحشية التي نحياها الآن ، تاريخاً للتنذر في مخطوطات يقرؤها الإنسان القادم الجديد (إنسان المستقبل)
    لست أطمح إلى أقل مما طمح فيكتور هو غو ، وهو يتحدث في البرلمان الفرنسي عام 1850 عن حرية الصحافة المصادرة يومئذ:
    (إن مجتمع المستقبل هذا سيكون بديعاً وهادئاً ، فالاختراعات ستحل محل الحروب، والشعوب لن تقوم بالفتوحات ، بل تنمو وتستنير ، لن يكون الناس محاربين ، وإنما سيصبحون عاملين ، نكتشف ونبني ونخترع ، أما الإبادة فلن تكون مفخرة ، سيحتل المبدعون مكان القتلة ، والحضارة العامة ستكون مؤلفة من دراسة الحق وخلق الجمال ، ستحل الروائع محل الحوادث ، سنتأثر بمؤلف كالإلياذة أكثر مما نتأثر بمعركة كارشتر ليتر والحدود ستمحى تحت ضوء العقول).
    ألا يحق لنا أن نحلم بعالم ذلك السلغي الذي صور عالم الخلاص بعد قيام القائم هكذا :
    (لو قام قائمنا لأرسلت السماء مطرها ، ولأخرجت الأرض نباتها ، وذهبت الشحناء من قلوب العباد ، حتى تمشي المرأة بين العراق والشام لا تضع قدميها إلا على نبات ، وعلى رأسها زنبيلها لا يهيجها سبع ولا تخافه)
يعمل...
X