إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

العالم الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810-1861) - اعداد : د.محمود الحمزة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • العالم الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810-1861) - اعداد : د.محمود الحمزة

    الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810-1861)


    الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810-1861)
    اعداد : د.محمود الحمزة
    تخرج من الأزهر الشريف وهوأحد علماء الإسلام الذين يوصفون بالموسوعية. فقد جمع بين صفات علمية وأدبية ودينية متنوعة. فكان خبيراً في معرفة القرآن والفقه ومتبحر في اللغة العربية ويعرف جيداً دقائق الأدب العربي قديمه وحديثه. كما أنه جامع للمخطوطات وشاعر ويقرض الشعر العربي في نظام القصيدة، وكاتب مجموعة من الشروحات على أعمال علماء مسلمين. وقدر للشيخ الطنطاوي أن يعيش الطنطاوي حوالي نصف قرن قضى نصفه في وطنه الأم مصر وأكمل الباقي في روسيا، فجمعت حياته بين الفترتين لتكمل إحداهما الأخرى.
    نقطة البداية كانت في قرية صغيرة بالقرب من مدينة طنطا المصرية ثم استمرت في مركز العلوم الإسلامية في القاهرة – الأزهر ، وأخيراً في عاصمة روسيا القيصرية – سان بطرسبورغ وانتهت في مقبرة تترية في قرية فولكوفا في الثاني والعشرين من ربيع الثاني عام 1278 للهجرة الموافق للسابع والعشرين من شهر أكتوبر – تشرين الأول عام 1861.
    عمل الشيخ الجليل في التدريس في الأزهر واكتسب شهرة واسعة كعالم دين وكفقيه في اللغة. فتوافد عليه الأوروبيون المقيمون في مصر ليعلمهم اللغة العربية خارج العمل الجامعي، حيث كان يدرس علوم الدين لطلبة الأزهر. ثلاثة من طلبته الأوروبيين تركوا بصمات في حياة الشيخ الطنطاوي، وهم الفرنسي ف. فريستنيل والانجليزي ي. لين والروسي ن. موخين.
    أما ف. فريستنيل فكان دبلوماسياً ومستشرقاً وكتب في مقدمة كتابه "رسائل في تاريخ العرب" بأن الطنطاوي معلمي وكان تقريباً العالم الوحيد في مصر الذي عمل بحب وشغف على دراسة الآثار القديمة للثقافة العربية. وي. لين ، مؤلف كتب عن عادات وتقاليد المصريين، اعتبر الطنطاوي "أول لغوي في عصره". وأما تلميذه الروسي ن. موخين فكان معجباً اشد الإعجاب بمعلمه الشيخ الطنطاوي ن حيث تعلم على يديه الشعر العربي القديم. ومن عام 1835 عمل موخين مترجماً في القنصلية الروسية في مصر.
    ويصعب التكهن بما فكر به القنصل الروسي في مصر الكونت ميديم، عندما طلب منه وزير الخارجية الروسي آنذاك السيد ك.ف. نيسيلرودي ترشيح أستاذ للغة العربية والشريعة الإسلامية ليدرس في قسم اللغات الشرقية في الوزارة. ومن المؤكد أن الشيخ الطنطاوي تلقى دعوة من القنصل في عام 1839 للانتقال والعمل في خدمة القيصر الروسي. فقبل الطنطاوي هذه الدعوة وحصل على الموافقة السامية لحاكم مصر محمد علي. وغادر مصر متوجهاً إلى روسيا في ربيع 1840. ولم يزور "وطنه الحبيب – مصر" إلا مرة واحدة في عام 1844، حيث قضى إجازته الصيفية. لقد أصبحت روسيا وطنه الثاني.
    ففي مصر لم يكن الطنطاوي مرتبطاً بعمل في الدولة. وبعد أن قدم إلى روسيا بقي عقدين من الزمن وهو يفكر بالعودة إلى وطنه الأم، بالرغم من أن امكانياته العلمية عجلت بتعيينه في الثاني من يوليو- تموز عام 1840، أي بعد وصوله بشهر واحد فقط إلى العاصمة الروسية في عهد القيصر نيقولاي الأول (1825-1855)، بروفيسوراً في اللغة العربية في القسم التدريسي في الدائرة الآسيوية لوزارة الخارجية الروسية واختير أيضاً برتبة مستشار دولة وبوظيفة مشرف على الاحتفالات الملكية. وهكذا بدأ الشيخ المصري الذي ينتمي إلى طائفة علماء التنوير المسلمين بتأدية مهماته الكبيرة بصفته موظفاً في جهاز الدولة وعضواً في طبقة النبلاء وأحد المقربين من البلاط القيصري الروسي.
    وقد نشرت صحيفة "أخبار بطرسبورغ" مقالة بعنوان "شارع نيفا". ورد فيها: "تسالونني من يكون ذلك الرجل الوسيم الذي يرتدي لباساً شرقياً وعمامة بيضاء وله لحية سوداء كالفحم وعيون متقدة يشع منها البريق ويعبر وجهه عن النباهة وهو المسمر البشرة – ولكن ليس من شمس سان بطرسبورغ الباهتة. لقد التقيتم به مراراً وهو يتمشى في شارع النيفا بكل زهو وفخار وخاصة عندما يكون الطقس لطيفاً" وبالطبع فأنتم تتشوقون لمعرفة ذلك الشخص الغريب. إنه الشيخ محمد عياد الطنطاوي" الذي وصل للتو "من شاطئ النيل" ليشغل مكان أستاذ اللغة العربية في معهد اللغات الشرقية في وزارة الخارجية الروسية. ويضيف الكاتب: "يمكنكم الآن تعلم اللغة العربية بدون مغادرة بطرسبورغ" . وكاتب المقالة هو الشاب حينها، ب. سافيلييف – تلميذ المستعرب سينكوفسكي- والذي أصبح فيما بعد عالماً في الآثار والمنمنات.
    وأصبحت فترة عمل الشيخ الطنطاوي في الدائرة الآسيوية مادة للروايات. ولكي نتعرف على سيرة حياته في تلك الفترة نعود إلى كتاب الأكاديمي إغناطيوس كراتشكوفسكي عن الطنطاوي. بالاضافة إلى مجموعة كبيرة من المقالات في المراجع والكتب المختلفة التي تمكننا من رسم صورة حية لتلك المرحلة الغنية من حياة الشيخ العالم القادم من ضفاف النيل إلى ضفاف النيفا.
    عاشت روسيا في تلك السنوات حقبة أحاطت بها أحداث دولية معقدة أفرزت "المسألة الشرقية" والوضع في شمال القوقاز وتركستان وخلقت أعباء هائلة على العاملين في الدائرة الآسيوية. فتكون الأجواء هادئة فيها عندما تهدأ أحوال الدولة وتنقلب إلى أحوال متوترة تبعاً للأحداث المحيطة بروسيا. ومن مهام الطنطاوي كمستشار دولة كانت أمور كثيرة ومتنوعة.
    فأول عمل له كان إلقاء المحاضرات للمتدربين الذين سيتخرجون قناصلة ومترجمين ميدانيين في بلدان المشرق. وقد ورد في سيرته الذاتية بأن مستشار الدولة الشيخ الطنطاوي قام بتدريس اللغة العربية وقواعدها ودرب طلبته على الترجمة من الروسية إلى العربية والمحادثة والخط العربي وقراءة المخطوطات القديمة.
    ويمكننا فقط أن نتخيل حجم الأعباء التدريسية والوظيفية التي كانت على عاتق الشيخ العالم. فكونه عربي وعالم إسلامي مكنه من التفنن في التدريس وجذب الطلبة وترغيبهم باللغة العربية وآدابها وبكنوز الثقافة الإسلامية. فكان المستمعون لمحاضراته يتمتعون بما يقدمه لهم من "قواعد اللغة العربية الجميلة" و يستشهد بمقتطفات من أمهات الكتب العربية والإسلامية مثل : كتب الزمخشري و"ألفية" ابن مالك و مؤلفات ابن هشام مثل "قطرالندى" وغيرها.
    كما تخللت محاضراته في القواعد ترجمات لمقاطع من اهم المؤلفات التاريخية لابن خلدون ومقامات الحريري والأمثال وعبارات التحية باللهجة المصرية. وكان على طلبته أن يقرأوا وثائق دبلوماسية أصلية ومعلقات الشعر الجاهلي لامرؤ القيس ومؤلفات الصوفيين وأشعار أبي العلاء.
    وبالرغم من كثرة الواجبات الدراسية وصعوبتها فإن الشيخ الطنطاوي تميز بأسلوبه الشيق والجذاب وخاصة عندما يتحدث باللهجة المصرية، وشكل ذلك قاعدة لتأسيس معرفة عميقة عن ثقافة العرب وتاريخهم ودينهم الإسلامي. وما زالت الذكريتالطيبة عن مرحلة تدريس الشيخ - البروفيسور مسطرة بحروف من ذهب في تاريخ الاستعراب الروسي.
    وتفيد مذكراته وأوراقه المحفوظة والتي يزيد حجمها عن خمسمائة صفحة، بأنه كان يولي أهمية خاصة لمحاضراته والتي تظهر فيها الكتابات باللغة الروسية إلى جانب العربية لكي يقرب تلك الأفكار والمعارف إلى أذهان طلبته الروس. وقد قسمت محاضراته إلى تسعة وعشرين جزءاً بعدد المحاضرات وكلها مكرسة للقواعد وطريقة تدريسها للروس فأصبحت مرجعاً تعليمياً لا غنى عنه للمهتمين وخاصة المترجمين منهم على مدى مئات السنين.
    ومعظم الدارسين كانوا من أبناء القوقاز الذين ينتمون لعائلات راقية وكانوا يعرفون لغتهم الأم واللغة العربية فقط. وتعلموا على يد الشيخ مبادئ قواعد اللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة وغيرها. وتقديراً لجهوده التدريسية في تعليم القوقازيين حصل الشيخ الطنطاوي عام 1850 على أعلى تقدير "المكرمة العليا".
    ومن ضمن واجبات الشيخ بالاضافة إلى التدريس وغيره كان الإشراف على خزينة مكتبة القسم التعليمي. فكان يقوم بتصنيف الكتب والأوراق والوثائق والمخطوطات لكي توضع في خدمة الدائرة الآسيوية. وكان ذلك جهداً مضنياً بالرغم من الاعتقاد بسهولته. وخير مثال على ذلك كما يذكر كراتشكوفسكي كان عمل الشيخ على إعادة نسخ مخطوطتين يعودان إلى القرون الغابرة وهما مخطوطة مكرسة لتاريخ حكم خوارزم شاه جمال الدين وتعود للقرن السابع الميلادي والتي كتبها سكرتيره النسوي. بينما كانت المخطوطة الثانية التي نسخها الطنطاوي لكي توضع في خدمة الطلبة فمكرسة للأمور الحربية وتعود لمحمد النصيري من القرن الرابع عشر. وعمل لمدة سنتين كاملتين على نسخهما والتعليق عليهما وأنجز هذا العمل في 1843.
    ولا يفوتنا أن نذكر بأن الطنطاوي الذي قضى إجازته الوحيدة في مصر كرس معظم وقته للبحث عن المخطوطات فجلب معه العديد منها في التاريخ والأدب والشعر.
    وكان مكتب الشيخ المصري في المكتبة في شارع بولشايا مورسكايا، حيث يقع مبنى وزارة الخارجية، وهناك مارس نشاطه العلمي والعملي. فتحت إشرافه كانت تدقق التوجيهات والتعليمات الصادرة إلى القناصلة الروس والرحالة. والدليل هو ما كتبه المستعرب الكبير الأكاديمي خ.د. فرين الذي أراد إعادة نشر مرجع قديم فاعتمد إلى حد كبير على مساهمات الشيخ الطنطاوي. وقد نشر المرجع الجديد حينها أي في عام 1845 تحت عنوان "بعض الإرشادات المأخوذة في معظمها من المؤلفات التاريخية والجغرافية للعرب والفرس والترك لموظفينا في آسيا". وعبر فرين عن شكره العميق وتقديره العالي للتدقيقات والتصحيحات التي أجراها الطنطاوي في ذلك المرجع.
    ولطالما كلف الشيخ الطنطاوي مستشار الدولة في الدائرة الآسيوية بأعمال أخرى خاصة بالقيصر وعائلته. وأحدها كان متعلقاً بتصميم وتزيين الغرفة التركية في القصر الريفي للقيصر. فاستخدم الطنطاوي مخطوطات عربية قديمة وبعضها هدية من مكتبته الخاصة قدمها هدية للقيصر، بالاضافة إلى مؤلفاته الخاصة المكتوبة بخط عربي جميل. وكذلك أشرف على تجهيز المكتب الشرقي للأمير ابن القيصر مستخدماً التحف والمخطوطات والزخرفة العربية المتألقة. وبنتيجة ذلك العمل المتميز الذي حاز على إعجاب ولي العهد كُرُِّمَ الشيخ "بمنحة مالية لائقة من قبل الأمير شخصياً وكذلك منحه خاتماً من الماس".
    وارتبطت التكليفات الأخرى للشيخ بتأليف الأناشيد والمرثيات لقراءتها في المناسبات الرسمية من حياة البلاط.
    وجلب له العام 1840 الشهرة بصفته شاعر البلاط القيصرين حيث نظم قصيدة مكونة من خمسة وعشرين بيتاً على وزن بحر الوفير بمناسبة قدوم الأمير ألكسندر نيكولاييفيتش مع خطيبته الأميرة المعظمة ماريا إلى سان بطرسبورغ وزواجه منها. فأعجبت الأمير ابن الامبراطور تلك القصيدة التي زينت فيما بعد بها جدران المكتب التركي في القرية القيصرية.
    وفي عام 1843 كتب الطنطاوي قصيدة بمناسبة ولادة ابن لألكسندر نيكولايفيتش. وبعد أثني عشرة سنة بمناسبة تتويجه امبراطوراً في روسيا كتب الشيخ قصيدة مؤلفة من 29 بيتاً على وزن بحر البسيط وبلغة عربية قديمة، واختتم القصيدة بعبارات توضيحية باللغة الروسية أشار فيها بأن القيمة العددية للحروف العربية للشطر تعبر عن العدد 1855 وهو عام تولي ألكسندر العرش في روسيا.
    وقد كنب الطنطاوي ثلاث قصائد بصفته مشرف على الاحتفالات الامبراطورية مكرسة للقيصر نيكولاي الأول. ومنها: نشيد بمناسبة مرور خمس وعشرين سنة على تتويجه قيصراً لروسيا والقصيدة مكونة من ستة وثلاثين بيتاً على وزن بحر الطويل، وقصيدة على شرف القيصر نيكولاي الأول مؤلفة من أربعة عشر بيتاً على وزن بحر الكامل، ومرثية حزينة بمناسبة وفاة القيصر نيكولاي الأول عام 1855 وهي مكونة من خمسة وعشرين بيتاً في بحر البسيط.
    وكتب قصيدتين واحدة مكرسة لمديح اللورد النبيل المعتمد لدى البلاط الروسي والذي أعجب به الامبراطور نيكولاي الأول وهو الدوق مكسيميليان ليختينبيرغ الذي وصل من مصر إلى سان بطرسبورغ وهي مكونة من بيتين في بحر الخفيف. والقصيدة الثانية كتبها بمناسبة وصول ملك فورتينبرغ الذي كان محط إعجاب الامبراطور الروسي واصفاً إياه ببعد النظر وتميزه بين حكام ألمانيا والقصيدة مؤلفة من تسعة عشر بيتاً على وزن الطويل.
    وكانت تلك الإهداءات الشعرية القيمة من ضمن الواجبات الحكومية للشيخ الطنطاوي. لأن وزير الخارجية آنذاك كان يكلفه بنظم القصائد ليهديها بمناسبات رسمية مختلفة تخص العائلة القيصرية. كما أن تلك الإهداءات الأدبية المتميزة كانت تحظى بالشكر والامتنان من قبل البلاط القيصري إما شفهياً أو كتابياً وتقترن بالهدايا الثمينة والجوائز. ويذكر أن القصيدة المكتوبة على طريقة الشعر العربي القديم والتي أهداها لملك فورتينبرغ الألماني دفعته لمنح الشيخ عام 1852 ميدالية ملكية يتمتع حاملها باعتبار رفيع في المجتمع.
    وكانت الأمور المتعلقة بالشرق تترك بصماتها على محتويات الوثائق المعدة في الدائرة الآسيوية. وكان الطنطاوي هو من يقوم بمراسلة القناصلة الروس في الخارج ويعد لهم اقتباسات من الأرشيف ويترجم الرسائل والمذكرات والمراسلات والأوراق الرسمية الموجهة إلى ملوك المشرق والردود المرسلة إلى وزارة الخارجية الروسية. وكانت تلك الوثائق تخضع لإشراف شخصي من الوزير ويكتب عليها عادة "أمور استثنائية وعاجلة جداً".
    وتشهد السجلات والوثائق الرسمية الموجودة في أرشيف الدائرة الآسيوية في أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر، وهي فترة وصول الشيخ الطنطاوي، على أن مواضيع العلاقات الروسية التركية والروسية المصرية كانت طاغية في مجال الاهتمام السياسي.
    في تلك الفترة وضعت وزارة الخارجية التي يرأسها الكونت نيسيلرود، بناء على توجيه من الامبراطور نيكولاي الأول، هدفاً محدداً وهو منع إرساء سفن السلطان التركي الذي كان في حالة حرب منذ 1839 مع محمد علي باشا في مصر، في الموانئ الكبرى. لأن إمبراطور روسيا كان قلقاً من الانتصارات العسكرية للباشا المصري، وخاصة في حال توليه العرش بدلاً من السلطان عبد المجيد، حيث سيكون قادراً حينها على بث روح جديدة في جسم الامبراطورية العثمانية التي أنهكتها الاضطرابات والمشاكل الداخلية المستمرة.
    كما أن هناك عوامل اقتصادية دفعت روسيا للتعامل مع مصر محمد علي باشا وخاصة لحاجة روسيا إلى القطن المصري ذي الصفات العالية. علماً أن القطن الأمريكي المعروف برخصه حينها لم يستطع أن ينافس القطن المصري لجودته المتميزة. وجاء التأكيد على شراء القطن المصلري في قرار لجنة حكومية درست هذا الموضوع بما فيه عدم جدوى استخدام الكتان بدلاً من القطن، لصعوبة استخدام الكتان الروسي في المصانع ولكونه يجب أن يعالج يدوياً مما يسبب غلاء كلفته و سعر بيعه.
    ومع زيادة تدفق البريد الدبلوماسي والقنصلي إلى الدائرة الآسيوية بين القسطنطينية والقاهرة وسان بطرسبورغ ارتفع حجم المواد المطلوب ترجمتها وكذلك الدقة العالية التي يشترط فيها. وهنا فالشيخ الطنطاوي كان مسؤولاً عن دقة وصحة تلك الترجمات بأن يضع توقيعه في أسفل كل ترجمة، ويشاركه في المسؤولية مدير الدائرة الآسيوية.
    وبناء على ما ذكر فإن الدائرة الآسيوية كانت محظوظة بوجود موظف رفيع المستوى وعالي المؤهلات فيها كالشيخ الطنطاوي. فهو لم يكن فقط متمكناً في اللغة العربية وهي لغته الأم – وهذا بحد ذاته في غاية الأهمية، بل كان يعرف جيداً كل الجوانب الحساسة التي تميز المراسلات مع الشرقيين وخاصة مع الجهات العثمانية. فصياغته كانت تضفي صبغة مقبولة على المكاتبات باللغة العربية، سواء منها السياسية أم التجارية أم المالية. وكان لدى الشيخ الطنطاوي مساعداً وهو تلميذه نافروتسكي، لكنه كان يحمل على أكتافه مسؤولية الترجمة والصياغة النهائية كما أسلفنا.
    وتقديراً لجهوده الكبيرة وإخلاصه في عمله "الذي لايقبل أية أخطاء أو هفوات" قدم الشيخ الطنطاوي لنيل وسام حكومي. وبناء على ترشيح وزارة الخارجية صدر مرسوم امبراطوري بمنح مستشار الدولة الشيخ الطنطاوي وسام القديسة آنا من الدرجة الثالثة مع السيوف والأقواس. وكلفت أكاديمية الفنون الجميلة بتلك المناسبة بتجسيد صورة شخصية للشيخ نفذها الرسام مارتينوف.
    وبهذه المناسبة كتب الشيخ أبياتاً من الشعر قال فيها: Поистине я видел чудо в Петербурге: там шейх из мусульман прижимает к груди своей Анну.
    ومن متابعة جدول أعماله اليومي يندهش المرأ كيف استطاع الشيخ أن يوفق بين واجباته المختلفة من عمله في الدائرة الأسيوية في الترجمة والتدقيق والمراسلات وكذلك عمله في البلاط القيصري إلى قراءة المحاضرات في الجامعة والالتقاء بطلبته لمناقشة مشاريعهم العلمية وأخيراً إلى تأليف الكتب والمراجع ونظم الشعر. كل ذلك لم يمر مرور الكرام بل ترك بصمة واضحة على صحة الشيخ الذي كان أصلاً يعاني من بعض الأمراض منذ ولادته كما أشارت التقارير الطبية التي كتبها الأطباء الروس. واتضح من تلك التقارير أيضاً بأن الشيخ الطنطاوي يعاني من شلل في الأطراف السفلية منذ سبتمبر – ايلول 1955.
    وفي عام 1857 طلب إجازة للذهاب إلى الاستجمام والعلاج في المياه الدافئة في بوهيميا لمدة 28 يوماً وهي إجازته المستحقة سنوياً. لكن تلك المعالجة لم تفيده إلى مؤقتاً، فقد اثقل كاهله وحرق أعصابه العمل الكبير والمتواصل في الدائرة الآسيوية. ومنذ عام 1855 لم يعد يعمل فيها واقتصر على التدريس الجامعي، علماً أنه يستحق التقاعد من الخدمة الحكومية بعد خمس سنوات.وتقديراً لجهوده المثمرة ودوره الفاعل في الخدمة في وزارة الخارجية لم تستعجل الوزارة بالبحث عن بديل له لكي لا يخسر مرتبات التقاعد والامتيازات التي يتسحقها نتيجة خدمته حوالي عشرين سنة في مؤسسات الدولة. وفقط في عام 1860 وبعد تفاقم مرض الشيخ الطنطاوي أعلن عن حاجة الوزارة لبديل عنه. وفي نفس العام احتل مكانه الأستاذ سليم نوفل (وهو من سورية) ليصبح أستاذ اللغة العربية والفقه الإسلامي في القسم التعليمي في الدائرة الآسيوية في وزارة الخارجية الروسية.
    لقد تناقل الناس الحكايات عن الشيخ المسلم العربي الذي عمل في القرن التاسع عشر في تعليم اللغة العربية للدبلوماسيين الروس. ومنها يحكى أن الشيخ قبل سفره إلى روسيا خطب فتاة مصرية وأرسلها إلى باريس للدراسة وبعد ذلك تزوج منها. وفي هذا الإطار نشير إلى أن الطنطاوي قدم إلى روسيا وهو في مقتبل العمر في الثلاثين وكان متزوجاً وتدعى زوجته أم حسن ورزق بولد سماه أحمد . ويقال أن ولده أحمد استمر في العيش في روسيا ولم يغادرها. كما أن حفيدة الشيخ يلينا حصلت على لقب النبيلة تقديراً لجهود جدها.
    ومن أهم أعماله كتاب يحمل اسم : "هدية لذوي الألباب مع أخبار من روسيا" ويقال أنه مكرس للسلطان عبد المجيد، لكنه عرض فيه تفاصيل رحلته من القاهرة إلى بطرسبورغ وعن انطباعاته عن روسيا والروس. وقد كتبه بلغة عربية فصحى ولم يخلى من الفكاهات والطرائف. ويحسب له أنه أول من ألف كتاباً في قواعد اللغة العربية للروس وباللغة الروسية.
    وفي بطرسبورغ التقى الشيخ بكبار المثقفين التتار الذي كانوا يقيمون في بطرسبورغ أو يأتوا لزيارتها. وتكريماً للطنطاوي صدر في قازان كتابه باللغة التترية بعنوان: "اثنتان وخمسون جوهرة".
    كما يذكر عنه المختصون في جامعة سان بطرسبورغ في كلية اللغات الشرقية بان الطنطاوي – رحمه الله – كان عالماً واسع العلم والإطلاع ويتقن عدة لغات : الروسية والفرنسية والألمانية والفارسية والتركية. ومن بين طلابه كان مستشرقون أوروبيون معروفون مثل فريسنيل وبيرون ووايل. كما درس على يديه المستعرب الفنلندي المشهور والرحالة إلى الجزيرة العربية غيورغ أوغست والين (ت 1852). وكان المستعرب ي. غوتفالد (ت 1897) خريج جامعة بريسلاف.
    و في المقبرة التترية في سان بطرسبورغ يمكن قراءة العبارة التالية، باللغتين العربية والروسية، على ضريحه: "البروفيسور ذو كرسي في جامعة سان بطرسبورغ ومستشار الدولة وقد توفي رحمه الله في 27 أكتوبر – تشرين الأول 1861 وهو يناهز الخمسين من عمره". واليوم يدخل ضريح الشيخ الجليل والعلامة الطنطاوي في عداد الآثار التاريخية والثقافية في روسيا والتي تعتبر مصانة من قبل الدولة.
    اعداد : د.محمود الحمزة
يعمل...
X