إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

اختلالات السير المسرحي في صورة المسرح العربي والأعطاب والمقترحات

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • اختلالات السير المسرحي في صورة المسرح العربي والأعطاب والمقترحات

    صورة المسرح العربي بين الاختلالات والأعطاب والمقترحات (4)

    عندما يصبح الكسل منهجا

    عبد الكريم برشيد
    اختلالات السير المسرحي كثيرة ومتنوعة بلا شك، ولكن ما يهمنا اليوم هو أهمها، وهو أخطرها، وهو أكثرها تأثيراً، والذي يمكن أن نجمله في النقاط الأساسية التالية:
    - النزعة المدرسية: وهي التي تجعل هذا المسرح ساكناً وراكداً و(مؤدباً) ومحتشماً، ولا تتوافر له الجرأة الأدبية، وتنقصه روح المبادأة وروح المشاكسة وروح المخاطرة العلمية والإبداعية، والتي هي - كلها - من أساسيات العمل المسرحي الحقيقي.
    ويمكن أن نتساءل الآن، بخصوص كل هذه الاختلالات التي صاحبت حركة المسرح العربي، وأن نقول ما يلي: من أين تسربت إلى مسرحنا وإلى مسرحيينا هذه النزعة المدرسية؟ وما هي الجهة/ الجهات التي كرستها في الواقع المسرحي، والتي يهمها ألا يجتهد المسرحيون، وأن يظلوا في حدود الدروس المسرحية الأولى؟

    يمكن أن نقول إن هذه الآفات والاختلالات قد جاءت عبر القنوات الأساسية التالية:
    الكسل الإبداعي: إن الإبداع الحق مرادف للاجتهاد، أما الكسل المعرفي والجمالي فإنه لا يمكن أن يكون من أساسيات المسرح الحقيقي، والذي هو معاناة ومكابدة، وهو تخيل وتأمل، وهو سفر وترحال، وهو الجديد والتجديد دائماً، ومن سوء حظ المسرح العربي اليوم، أن كثيراً من المشتغلين في ميدانه، لا يعرفون هذه الحقيقة القديمة - الجديدة، والتي هي حقيقة أساسية وأولية وحيوية وجوهرية، وبهذا نراهم يركبون المركب السهل، ونجدهم يبتعدون عن الأسئلة المقلقة، ويتجنبون المسائل والإشكالات الشائكة، ولعل هذا هو ما يفسر أن نجد تجاربهم المسرحية تتشابه في كل شيء، ولا تختلف عن بعضها البعض في أي شيء، لأنها - كلها - تخرج من قالب واحد، ونخرج من قسم دراسي واحد، ومن إملاءات وتعليمات وتوصيات معلم واحد، أو من محاكاة أو استلهام نموذج مسرحي واحد، مع أن الأصل في المسرحيات الحقيقية أنها ولادات جديدة، وأنها بهذا لا يمكن أن تتكرر مرتين أو أكثر، هي أساساً كائنات حية، وليس هناك كائن حي يمكن أن يولد مرتين، أو أن يعيش مرتين، وذلك بالروح نفسها، والجسد نفسه، وبنفس الملامح النفسية والذهنية والوجدانية والروحية.
    ومن خلال هذا الكسل، يمكن أن ننظر إلى ظاهرة الاقتباس في المسرح العربي، وليس اقتباس النصوص المسرحية وحدها، ولكن اقتباس كل العناصر المسرحية الأخرى، واقتباس التجارب المسرحية العالمية، والعمل على نقلها كما هي، وذلك بكل تفاصيلها وجزئياتها الصغيرة والدقيقة.
    ومن تداعيات هذا الكسل أيضاً، أن نجد فعل التأليف المسرحي في العالم العربي ضعيفاً جداً، وأن نجد خزانة النصوص فقيرة جداً لحد البؤس الشديد، وأن نجد كثيراً من المخرجين (يؤلفون) وأن نجد لفعل هذا الاقتباس أسماء كثيرة جداً، فهو مرة إعداد، وهو مرة أخرى ترجمة بتصرف، وهو أيضاً كتابة أخرى، أو هو تمصير أو هو “لبننة” أو هو “تونسة” أو هو “تكوّيت” أو هو “مغربة” أو “تعريق”، وتتعدد الأسماء والمسمى واحد، وهو دائماً هذا الكسل الذي يدفع باتجاه الوجبات المسرحية الجاهزة، ويضاف إلى هذا الكسل شيء آخر أيضاً، وهو الاعتداء على الحقوق الأدبية والمادية لكثير من المؤلفين العالميين، والذين تغيب أسماؤهم عن كثير من الملصقات وعن كتيبات المسرحيات.
    وهذا اللجوء إلى الاقتباس، قد لا يكون دائماً ناتجاً عن الكسل، وقد يكون نوعاً من الهروب من الرقابة المحلية إلى النصوص العالمية، أو قد يكون تقية، أو يكون محاولة لأن تظهر المسرحيات العربية بأقنعة غير عربية.
    طبيعة النظام التعليمي: شيء مؤكد أن النظام التعليمي العربي له دور كبير وخطير في كثير من الاختلالات التي يعرفها مشهدنا المسرحي، والتي تعرفها كثير من مظاهر الحياة اليومية أيضاً، فمدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا تهتم بالمعلومات أكثر مما تهتم بالعلم، وتحرص على أن يكون نظامها التعليمي قائماً على التلقين وعلى الحفظ وعلى الاستظهار الآلي والميكانيكي، وتحرص على إعطاء المعنى الجاهز إلى الطالب، بدل أن تجعله يكتشف هذا المعنى، وأن يبحث عنه، وأن يكون شريكاً كاملاً في تأسيس ديوان المعاني الجديد والمتجددة، وبهذا يحضر الفعل والانفعال في هذا النظام التعليمي، ويغيب - أو يغيب - التفاعل الإيجابي، كما يحضر اليقين ويغيب الشك، ويحضر الإملاء ويغيب الحوار، كما يغيب في المناهج التعليمية الدرس المسرحي، وتغيب النصوص المسرحية، وبهذا يكون هذا النظام التعليمي كله في حاجة إلى مراجعة جذرية حقيقية.
    الإعلام السمعي البصري: لقد كان المفروض في هذا الإعلام، بكل ما لديه من إذاعات ومن تلفزيونات ومن قنوات أرضية وفضائية، أن يسهم بقسط كبير في ترسيخ الظاهرة المسرحية، وفي تجذير التقليد المسرحي، وفي تأسيس جمهور مسرحي حقيقي، وفي بلورة الذوق المسرحي لدى هذا الجمهور، وأن يكون له دور كبير في إيجاد مناخ مسرحي عام وشامل، مناخ يغطي المدن والقرى، ويكون بإمكانه أن يصل إلى أقصى مكان، وأن يصل إلى أبعد مدى في هذه الأوطان العربية الكثيرة، والتي تبعدها عن بعضها المسافات المكانية، ولكن اللغة توحد بينها، تماماً كما يوحد بينها وحدة القضايا ووحدة الطريق ووحدة الهموم والاهتمامات المشتركة.
    النقد المسرحي: والأصل في النقل المسرحي - كما نعرف - أن يكون جزءا أساسياً وحيوياً في أي حركة مسرحية، كيفما كانت وأينما كانت هذه الحركة، وأن يكون له دور إيجابي في التعريف، وفي المواكبة والمصاحبة أيضاً، وأن يكون قيمة مضافة إلى جانب الإبداع الأدبي والمسرحي، وأن يشتغل أساساً بالتحليل والتفسير، وأن يبتعد بالقدر الذي يستطيع عن الإسقاط، وعن التأويل السياسي والمزاجي، وأن ينطلق من السؤال النقدي دائماً، وأن يبدأ في مقارباته النقدية من قراءة عاشقة للإبداع الجمالي، وأن يستخرج الأفكار والمعنى من النصوص والعروض، بدل أن يسقطها عليها من السماوات العالية والبعيدة جداً، هكذا إذن، هو النقد المسرحي في حقيقته وطبيعته الحقيقية، فهل كان نقدنا العربي وفياً لروح هذا النقد؟
    لقد عانى المسرح العربي في الستينيات والسبعينيات من داء النقد الأيديولوجي، وتم القفز على الجانب الجمالي في كثير من الأعمال المسرحية، وذلك انتصاراً لـ (لشرف) الموضوع ولنبل المضمون، وعانى هذا المسرح أيضاً - وما زال - من النقد المدرسي، والذي لا علاقة له إطلاقاً بالنقد الأكاديمي، والمطلوب اليوم - في ظل ترشيد المسرح العربي، أن نعمل على تخليص هذا النقد من أمراضه، وأن نجعله نقداً علمياً، ينتسب أساساً إلى علم الجمال، وأن نعرف أن علم الجمال له خصوصيته، وعليه، فإنه لا يمكن أن يكون هو الكيمياء أو الفيزياء أو الميكانيكا، ومن كان يفتقر إلى الحس الجمالي وإلى الحس الأخلاقي، فإنه لا يمكن أن تكون له أي علاقة بالنقد الفني.
    ومن أعطاب هذا النقد أيضاً، أنه يقرأ المتغير ولا يقرأ الثابت، ويسأل عن المعنى في العرض المتحرك، ولا يسأل عنه في النص الثابت والمقيم، ويتحدث عن المسرحية - كل المسرحية - وهو يقصد حالة عابرة من حالاتها فقط، وهو بهذا يراهن على النسبي والجزئي، وينص على أن يسحب معنى العرض المسرحي على معنى المسرحية كلها، وهو ينسى أن (المسرح حدث وكل حدث متحرك. إن النهر موجود أبداً، فقد تتغير مياهه المتحركة وتتجدد، ولكنه باق أبداً، وكذلك الأمر بالنسبة للمسرح، العروض تتعاقب باستمرار، الشيء الذي يكسب الحدث تلوينات مختلفة ومتنوعة، وكما يبقى النهر، رغم جريان مياهه، فإن المسرحية أيضاً تبقى، بالرغم من حركية الحدث وتحولاته المستمرة).
    المسرح التجاري: ومن اختلالات المسرح العربي أيضاً، أن نجد به شيئاً يسمى المسرح التجاري، وأن يحسب هذا الشيء على فن المسرح، وأن يصبح لدى كل الناس - بحكم رواجه بينهم - هو المسرح الذي لا مسرح إلا هو، ففي فرنسا هناك اليوم مسرح يسمى مسرح البولفار، والذي هو مسرح حقيقي بكل تأكيد، مسرح له كتابه وكتابته، وله جمهوره ورواده، وله مواضيعه ومضامينه، وله صيغته الفنية والتقنية المميزة الخاصة به، وفي نيويورك بأميركا هناك مسرح برودواي، والذي له أيضاً مقوماته الأدبية المسرحية الخاصة، وله ربرتواره العالمي المعروف والمعترف به، والذي أرز بدوره مسرحاً شعبياً مخالفاً ومضاداً يسمى مسرح الأوف برودواي، أما في مصر، فقد تأسس مسرح مشابه يسمى مسرح القطاع الخاص، وهو مسرح لا علاقة له بالمسرح الحر، ولا بالمسرح المستقل، وذلك لأنه غير حر ولا مستقل، وذلك بحكم أنه جزء من المنظومة المالية والتجارية في البلاد، أكثر منه جزء من المنظومة الفكرية والجمالية والأخلاقية في المجتمع، وهو مسرح لا يستثمر في الرأسمال الرمزي الذي يمثله الإنسان، ولكنه يستثمر في رأس المال المادي والمالي، وبحلول الفن إلى تجارة، ويجعل من المسرحية بضاعة، ويتعامل مع الجمهور باعتباره زبوناً، وفي علاقته به نجده يحتكم إلى منطق السوق وإلى القانون البراغماتي، والذي هو قانون العرض والطلب، والذي يقوم أساساً على تلك المقولة القديمة - الجديدة التي تقول (الزبون دائماً على حق) والتي وجدنا لها في الثقافة المصرية اليومية الترجمة التالية (الجمهور عايز كده).
    إن أول الهموم والاهتمامات، في هذا المسرح اللامسرحي، هو صناعة فرجة مثيرة، وذلك انطلاقاً مما يلي:
    - بالاعتماد على الممثل النجم، والذي يصبح وجهه بديلاً عن روعة النص المسرحي، وعن جمالية الإخراج، وعن غنى المضمون، وعن هرمونية العناصر المكونة للمسرحية.
    - الرهان على الإعلان وعلى الدعاية وعلى الإشهار، سواء في الصحف اليومية أو في المجلات الفنية أو في الإذاعات أو في القنوات التليفزيونية.
    - الإكثار في العروض المسرحية من المحسنات اللفظية والمشهدية، والتوابل الحلوة والحارة، والمفرقعات الكلامية، والتلميحات الجنسية الفاقعة، والنكات الساخرة، و المفارقات والمواقف الضاحكة.
    وتبدأ عملية استدراج الزبون المسرحي وإغراؤه وغوايته انطلاقاً من عنوان المسرحية الغريب، والذي يكون عادة قريباً من اللغة اليومية الشعبية، وقد وصل بعض هذه العناوين إلى درجة السوقية.
    في هذا المسرح لا وجود لشيء يسمى النص المسرحي، وإذا كان هناك ما يشبه هذا النص، فهو بالتأكيد مقتبس، أو مختلس عن المسرحيات العالمية الناجحة، وقد يكون هذا (النص) - في حالات كثيرة - مجرد حجة فقط، أو مجرد مشجب يعلق عليه الممثل النجم (عبقريته) ويستعرض من خلاله مهاراته في الارتجال، ويبقى الأساس - في أداء وإلقاء هذا الممثل - الظاهرة - هو الخروج عن روح ومنطوق ومناخ هذا النص الحقيقي.
    عطب هذا المسرح، أنه أراد أن يكون شعبياً، فكانت النتيجة أنه أصبح شعبوياً، وفي هذا يقول بول شاوول (مسرح بلا قضية، قضية بلا مسرح، ومسرح بلا مسرح، جمهور بلا جمهور، جمهور بلا مسرح، مسرح بلا جمهور، هذه هي العلاقة الراهنة في المسارح التي يسمونها شعبية، وهي لا علاقة لها بهموم الشعب ولا بقضاياه وإنما بجيوبه).
يعمل...
X