Announcement

Collapse
No announcement yet.

أبو الجود (رسائل عنا) -رواية

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • أبو الجود (رسائل عنا) -رواية

    ( أبو الجود)

    رسائل عنا




















    الاهداء
    أهدي عملي هذا الى الكادحين من أبناء أمتي النساء و الرجال
    أهديه أيضاً لروح أبي الحاضرة في وجداني لا تتركه أبداً
    أهديه لوالدتي التي اذا رأت الشيطان دعت الله أن يهديه
    لولديََ ناصر و يوسف
    لاخوتي و أخواتي
    و لامرأة تعرف نفسها جيداً





























    كلمة



    أبو الجود هو أحد أطراف المشكلة ! أبعث إليه برسائلي ليس لأنه يستحقها بل لكي يكون العنوان واضحاً إلى حيث نتجه بالإشارة ! ولا أريد للقارئ أن يعتقد أن أبا الجود هو شخص بعينه رغم أن بعض الرسائل حرضها أشخاص بالفعل لكن الذي أريد أن يعرفه القارئ أن أبا الجود هو وجه المشكلة من طرفنا بينما وجهها الآخر هو الأجنبي الذي ساهم في الأزمة التي يتحدث عنا كتاب "رسائل إلى أبو الجود" . يستطيع القارئ أن يعتبر أن أساس الرسائل هي تلك الأطول التي تروي قصة الشاب (كفاح) و أن الرسائل الأخرى مكملة بل ربما مقدمة لها ،لكن كتابي كله لم يكن ليخرج للعلن بدون هذه الرسائل ، فهي تتحدث عن معاناة إنسانية أعتقد أن قراءتها ربما تساهم في دفع العالم للتخفيف منها يوماً ما .
    أريد أن أشكر الذين قرؤوا هذا الجزء الأول من كتابي قبل نشره، و ساهموا و ساعدوا في نشره بأي شكل كان ،وأريد أن أسجل اعترافي الأول بقلة الشجاعة في شرح الكثير من التفاصيل ، فلم أستطع تقليد جان جاك روسو في مذهبه الاعترافي في هذه الرسائل ، ليس لأنني أصر على الابقاء على (التابو) بل لأن التابو نفسه لم ينضج لكي نخلصه من ثيابه بعد .
    أخيراً من يود كتابة أية رسالة لأبي الجود أو لي أرجو أن يكتب ذلك على ايميلي الشخصي و سأحوله إلى أبي الجود في جزئه الثاني :
    [email protected]
    أما ايميل أبي الجود فهو غير موجود . و شكراً

    د . محمد عبدالله الاحمد
    / صوفيا خلال زمن طويل









    رسالة يوم الأحد :

    هنا اللابتوب ،ليست هنا دمشق ،ولا أهلي !
    هنا اللابتوب
    على سكة ترام صوفيا تعولمت ابحث عن أركان الشوق الاربعة و جهات الحرف الاربع ،الحب يبدأ من صوب الجنوب و عن أربعة الاشياء أبحث. عن حمص و عن دمشق و عني
    . تركت وطني على الرصيف ، ينتظر الترام هو أيضا !

























    الاثنين أيام بعد سفرك :
    اذكر عزيزي أبو الجود أن أبي جمعنا مرة و قرأ علينا قائمة فيها أسماء الذين يدين لهم بمال لان اكتشاف وكر من أوكار الإخوان سمح له أن يعلم أن اسمه كان في طليعة المرشحين للاغتيال ! . لقد قلت لي مرة : كان أبوك اشتراكياً حقيقياً و ربما قلة من غنت معه : طلع البدر علينا .
    و قبل أن تظن و يظن احد أنني احتج على ذكرى أبي أسعف الكلمات لتقول: أبي رمز على جبيني حتى أموت و هو لم يرحل إلا و أبقاني الأغنى روحاً في العالم. صحيح أنني أقاسي يا أبا الجود و بالأمس كتبت لك (اس ام اس) على شكل (اس أو اس) لكي تعجل باجرة بعض مقالاتي التي تنشرها مجلتك قبل العيد حتى يعيد أولادي أيضاً و صحيح أنك طنشت و هاهو العيد يمر و أنا انظر في عيني يوسف الصغير دون أن استطيع ابتياع شيء له ! واكتفيت بدس شيء في جيبه و مسحت على وجهه الملائكي قبلة تمنيت أن يقبلها (عيدية) و قبل يوسف فما أطيبهم أولئك ا ليسموا بهذا الاسم منذ يوسف ذي السبع سنابل و السبع حبات و السموات السبع حتى ابني الذي صودر منه ...العيد .


















    الثلاثاء البحث للمرة الألف عن عمل:
    عزيزي أبا الجود
    الشيء الوحيد الايجابي في عدم وجود عيد هنا أنني استطيع البحث عن عمل ! حتى في أيام العيد ! افرح لي لقد وجدت عملاً ! لن يضطرني للسفر و ترك الأولاد وحدهم في بلد الغربة .




























    الأربعاء لا شيء سوى الكومبيوتر
    عزيزي أبو الجود
    آخ يا أبا الجود أنا محاصر من كل حدب و صوب و لم اعد املك من أمري الاهذا الكومبيوتر و برنامجه الذي وفره لي بيل غيتس العبقري و مساحة الانترنيت لكي اكتب إرهاصات رجل في العقد الرابع من العمر و هويرى كيف تسير كل القطارات إلى كل المحطات و لا يستطيع الصعود إلى واحد منها ! فرجاءاتي لهم أصبحت معلقات شعرية دون قواف
    و أنا أقول لهم : غيركم مالي ! و أنا قد تعب سيفي من قطع ألسنة تمتد لتهزأ من فقري و منكم و تقول :
    " هل رأيت لقد تركوك وحدك هل أعجبك طعم خذلانهم ؟ يريدون منك إخراج الزير من البير ! على أن تشلح كل ثيابك و تغزلها حبلاً كرمى
    لعيون (الزير في البير) ! و أنا يا أبا الجود أعيد ترانيم الأغنية التي لا زلت اسمعها من أبي حتى وهو في السماء ! / طلع البدر علينا
    من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا مرحباً يا خير داع / ....
    اعذرني هل سترتفع, أسهم نازداك ؟ لا عليك سترتفع, لا تقلق يا صديقي سترتفع !


















    الخميس الشام بتسلم عليك :
    عزيزي أبا الجود

    اليوم كنت أجلس أمام الكومب كعادتي (كومب يعني كومبيوتر بالحمصي) على فكرة أنا حمصي يا أبا الجود ، و كنت أتحدث مع إخوتي اللبنانيين على البالتوك* (المغتربون استفادوا من هذا الاختراع كثيرا) كان هناك في القائمة واحد لقبه /دمشق/ كم سعدت لاسمه – اشتقت لدمشق جداً – أرسل لي رسالة فيها وردة فقلت له : كيف الشام ؟ أنت تكتب من الشام ؟
    كتب : نعم ، الشام بتسلم عليك . أبكاني ابن الذين !!!
    كنت بحاجة لمن يقول لي : الشام بتسلم عليك .




    ---------------
    * البالتوك هو نظام غرف محادثة على الانترنيت يبقيك على اتصال دائم مع اناس تختارهم و تتناوبون على الحديث .
















    الجمعة رسالة اعتذار إلى صديقي الجحش :
    عزيزي أبو الجود
    لا تخف هذه الرسالة ليست لك كتبتها قبل رحيلي الأخير
    رسالة اعتذار إلى صديقي الجحش


    مرحبا صديقي الجحش :


    اليوم يا صديقي، قررت أن اكتب إليك رسالة اعتذار ، اعتذر لك عن أول شتيمة قذفتك بها يوم فتحت حفرة للهروب في جدار المدرسة ، و عن كل الأيام التي حاولت منعك فيها من الهروب قفزا على الجدار أو استغياباً لحارس الباب !
    اعتذر لك لآني كنت أهزأ منك لأنك لم تحفظ بعد قانون : ق= ك . تع و لا مربع الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمتين و لا معادلة مسار
    القطع المكافئ و لأنك لم تحفظ عن ظهر قلب معادلات الكيمياء العضوية و لا حتى قصائد الشعر العربي حتى انك دخلت الثانوية و لم تك بعد تعرف
    أن الفاعل مرفوع و أن ليت من أخوات إن تنصب المبتدأ و ترفع الخبر، و كنت أهجوك يا صديقي الجحش لأنك لم تحضر درساً من دروس النظام
    المنضم، و كنت تنتظر هذا الدرس لكي تشمع الخيط و تقول : (هات يا حيط ) ثم تقفز عنه كبهلوان متمرس، فترى نفسك في قلب المدينة (الفاسدة) تتعلم
    منها فن (الكشتبان) و نحن في نفس الوقت كنا نردد خلف الديك كالصيصان : أح ... تنين ...أح ....تنين .
    بعد المدرسة ذهبت أنا إلى الجامعة و ذهبت أنت إلى الشارع في نفس العمر كنا و نفس الطول و العرض و لكن أمي كانت تزغرد و أمك كانت
    توطئ الرأس لأن ابنها ... جحش ! قررت أنت دخول الأكاديمية العليا (للكشتبنجية) الوطنية و كنتَ طالباً مجداً فيها و بينما كنت انحت في صخر العلم كانت أخبارك تصلنا أولاً بأول ( ممسوك على الحدود يهرب


    الدخان) ، (علقان في مشاكل و إطلاق رصاص ) ، ( حوادث مع شرطة الآداب) .
    كانت أخبارك يا صديقي الجحش تصلني بينما كنت أمسح نظاراتي، و لا اعرف هل هي تعبت أم أنا من قراءة مقررات الجامعة الكبيرة التي تعد
    كل (مجد) أن تفتح له الحياة الكبيرة !
    أنهيتُ الجامعة و لم أعد أسمع أخبارك، قلت في نفسي لابد أنه تعقلن و اختار لنفسه مهنة شريفة و ذهبت أنا إلى أوروبا لتحضير الدكتوراه في
    اختصاصي و صرتَ أنت من الماضي، و ما هي إلا بضع سنوات حتى صاروا ينادونني دكتور... و صارت أمي تفرح لمجرد رؤيتها لي
    و الناس تخاطبني بهذا اللقب مع أن جيبي فارغ من (الفلس و الغرش و المتليك) و تلك الوريقات التي آخذها من الجامعة تطير سريعاً في بدايات
    الشهر أو مع أية (حركة كرم) أو (رد عزيمة) لأي أحد ، أي أحد (من ابن عمك المتطوع في الامن و الذي يعمل على الحدود لمكافحة أو تشجيع التهريب !وصولا الى عميد الجامعة الذي اختارك دوناً عن الغير ليعزمك في البيت مروراً بزملائك و اصدقاء الطفولة و اليفوعة و الجامعة كلنا نتبارى في فن العزائم ) حتى أن صديقاً حميماً تخرج معي من الدولة التي جئت منها قال : و الله ابوي باع شقفة ارظ /أرض/ مشان يعزم المحافظ و أمين الفرع ! بس لأنو جارنا أبو هليان (أبو الكابتاجون ) عزمهم من شهر!! و حين سألته و بعدين قال : كل حارتنا باعت أراظيها و عزموا المحافظ و أمين الفرع كل واحد بدوره و ما حدا أحسن من حدا !!! (في هكذا عزيمة يحضر مئات الأكيلة ) .
    في عزيمة مشابهة رأيتك ياصديقي وقعت عيناي عليك – بعد زمان – و لم أعرفك في البداية ثم تمكنت من تمييزك من الحواجب التي كنت
    أقول لجميع الزملاء أنها أكبر الدلائل على أنك جحش ! و صحت فيك : أههههلاااااا أهذا أنت ؟ و اقتربت مني بخطوات واثقة و ثقيلة مقبلاً و الكل
    ينظر الينا و يبتسم ! قال كبير القوم : شو بتعرفوا بعظكم ؟ و هممت بالاجابة لكي اذكر الحضور بأذنيك الطويلتين و لبطك الدائم و (فلطك) الذي كان دوماً يملأ المكان !! و لكن لا أعرف كيف سبقتني و كأنك تصر على اسكاتي : الدكتور أخونا و حبيبنا من زمان المدرسة لقد تخرجنا سوياً !!
    و غطت ابتسامات و ضحكات الحضور على تعجبي، و أنا الذي أعلم أنك جحش و ابن شارع و لست متخرجاً من مدرسة !



    آاخخخخ يا صديقي الجحش لن أطيل عليك رسالة اعتذاري هذه لكني أود ان أقول أنني منذ فترة و كنت أهم بالصعود الى الحافلة (السرفيس) التي تشبه علب السردين و هي تأخذني كل يوم الى عملي سمعت من راديو الحافلة اسمك في (هيئة النزاهة و التطوير) !، و بعد هلعي و اندهاشي و
    خوفي و احتباسي (احتباس النفس يشبه احتباس البول لانك تشعر انك تريد الضحك بكاءً ولا تستطيع) ضربت اخماسي باسداسي و قلت في نفسي و انا أناول جابي (السرفيس) نقوده اكتب ياولد رسالة الى صديقك الجحش
    لتهنئه فيها على منصبه الجديد حتى لا يصدر قراراً يسميك فيه أنت بما ليس فيك .
























    الاثنين الآخر الحديث لرجل أعمال عربي :
    عزيزي أبا الجود

    لم أقبل في العمل الذي حدثتك عنه لانني عربي أو لأني لا أثأثئ :
    تقول النكتة: أن مثأثئاً سمع بمسابقة للمذيعين في اذاعتنا فذهب اليها و رفض طلبه لأنه ليس حزبياً !! ..
    لا تكترث لقد قررت تأسيس مجلة أطفال عربية هنا و هاأنذا أعد دراسة لرجل أعمال عربي وافق على الاقتراح ... اعذرني ساستخدم الكومب من اجل ذلك ..سأتوقف عن رسائلي قليلاً اليك ..عندي أمل كبير في تحقيق شيء جميل ادع لي يا ابا الجود !























    الثلاثاء (استخارة):
    عزيزي أبا الجود
    اسرع لاقول لك ان مجلة الاطفال لن تكون لان صاحبنا عمل استخارة و ما ظبطت !






























    عزيزي أبا الجود هذه حكاية كفاح :
    هذا مشروع رواية لم تكتمل بسبب صياح زوجتي التي طلقتها للأسباب التالية :
    1- لم تكن تحب مسامير لحم القدم الموجودة في قدمي
    2- لم أكن لأقبل مسامير اللحم في تفكيرها
    3- لا أحب (الموساكا) و هي كلمة بلغارية حاولت ترجمة (المسقعة) العربية عبثاً طعماً و لغةً و هي الطبخة الوحيدة التي طبخها الفرن نيابةً عن زوجتي البلغارية .
    4- لكي أنهي روايتي .

    لكن بما أن الخبز لا يحتمل انتظار انتهاء الروايات لذا سأرسل لك صوراً من الرواية و عليك أنت أن تكملها كما تشاء ! ولا غرو فأنت أهم مؤلف لروايتي .



















    عزيزي أبا الجود ال مقدمة القصصية:

    وقف كفاح يتأمل في داخله هنيهة بعد قراره بالرحيل و الحزن يقتله ، و الفرح يدعوه الى المقامرة لتجريب حظه مع أية طائرة مغادرة أو قطار مطلق العنان أو حتى دابة تئن تحت حملها و لكنها لا تتوقف لأنها...دابة.
    حدثَ نفسه :
    -"نحن الراحلون أبداً...المغادرون إلى كل المحطات...أيه محطات نلتفح من برد أوروبا بلباس أبنائها الثقيل و قلبنا ملآن بالحرارة و الدفء و ذاكرتنا ملآنة حافلة بأشياء وأشياء! تذكر ميساء التي تمنى أن يتزوجها بكل الرومانسية التي وجدت على الأرض منذ أن أغرت حواء آدمها بدراقةٍ أو تينةٍ أو تفاحةٍ...لايهم.
    المشكلة فينا أن أطرافنا تبرد بسرعة و خاصة في البداية ، فنحن نأتي بأحذية من عندنا ، تنفع عندنا ، أما هنا فلاهي تعقد هدنةً مع الصقيعات ولاهي تتفاهم مع الثلوج الدائمة الانتشار في شوراع المدن الأوروبية ، وبما أن البدايات تكون عادة خارج المباني الفارهة المدفأة أو السيارات المعدة هي الأخرى لكي تمد لسانها للحرارة ماتحت الصفرية و تقول لها (طقي موتي )، فحتى يتسنى لك ركوب سيارة (طقي موتي ) عليك قضاء وقت ليس بالقليل و أنت تنتعل ما يعرفه الناس هنا بحذاء الموتى . (يدفن هنا الموتى بلباسهم و ينتعلون احذية سوداء كرتونية للمنظر فقط )
    المهم...المهم أن الدوران حول الذات لا ينتهي و البحث عنها لا ينتهي أيضاً و الهروب الأول الذي تمت ممارسته لا يرضي ولا يقنع إلا بهروبات أخرى تلحقه متتالية حتى إذا صار العمر هروباً متتابعاً و الذاكرة محطات تليها إذا شئتَ فقط محطات."
    أخونا كفاح هذا كتلة من التناقضات و المنولوجات الداخلية التي تحتاج كما يقال (لحلم الله ) حتى تفهمها و تهضمها ، ولوصفه بشكل جيد لابدمن أن تبدأ من طموحه ، فهو شديد الطموح ، ودائم البحث عن ذاته ، و اكتشاف محيطه و الناس أيضاً .
    حاول في المدرسة كتابة الشعر فكان شعره وسطياً مثله و دراسته نفسها كانت وسطية مثله ، ولكن من المهم القول أنه لم يتخلف في دراسته أبداً ولكنه لم يكن متفوقاَ و اذا سألته لماذا فربما أجابك بأنه ليس من الضروري


    أن يكون متفوقاً و لربما تفلسف عليك حول المنهاج التعليمي و أخرج أمامك نظرية نقدية لواقع التعليم عندنا معتقداً أنك من اليونيسكو.
    مسكين صديقنا ومسكين جيله كله معه فعندما كان تلميذاً في الابتدائية و كانت كفه صغيرة كان يكتب كلمة التلاميذ السنوية في عيد الاستقلال ويمسك بواسطة كفه الصغيرة العدو من أذنه و يشد يشد ،حتى يبكيه!!وينهال عليه صفعاً (وهم يصفقون)ويركله (وهم يصفقون)و يقسم أن يقوم بأشياء كثيرة (وهم يصفقون) وحين كبرت كفه قليلاً بدأ يعرف أن أذن عدوه بعيدة عنها ،(المقصود عن كفه) و أن و أن...
    حين أصبح طالباً في الثانوية قرر الثورة....فماذا فعل؟
    سب و شتم و انتسب (للمقاومة الحقيقية)!!و ذهب إلى المعسكرات و مع ذلك تعلم أن تدخين (المارلبورو) متعةَ مابعدها متعة!..وهو يناقش الشباب و يتشاجر معهم حول (عرفات )مثلاً أو لنقل ربما حول (الحبيب بورقيبه) فكل النقاشات تحلو و هو يستطيع حتى الآن تدبر ثلاث ليرات و نصف ثمن علبة (المارلبورو) و تأجيل وجبة الطعام لحين العودة إلى البيت.
    كان جزءاً لا يتجزأ من متناقضات المجتمع ذلك المجتمع المسكين الذي يستعد كل يوم للحرب ، أو للدفاع!!
    فهذا المجتمع يحرق كل يوم كميات هائلة من البنزين على (حساب الدفاع) ، يصرف رواتب على (حساب الدفاع) ، يشتري المعدات و المركبات السياحية و غير السياحية على (حساب الدفاع) و كان يبني أشياء جديدة متناقضة هي أيضاً ، يبني مثلاً قصوراً للرياضة بينما يبني أحياءً سكنية عشوائية...نعم عشوائية و كان اسم أحد هذه الاحياء يتأتى أيضاً من اللحظة! فالحي العشوائي الذي يعرفه كفاح جيداً يسمى حي ال (86) مثلاً لأنه ترعرع بقربه أو على مرمى حجر منه و جل رفاقه كانوا يعيشون فيه....
    تتشابك في ال 86 البيوت ببعضها مثلما تتشابك أسلاك معدنية تأتي اليه.وكان كفاح يسأل نفسه دائماً و يقسم لها الأيمان المعظمةأنه لايعرف ماذا تفعل هذه الاسلاك هناك فهل هي أسلاك هاتف أم أسلاك كهرباء...أم ماذا؟أم ربما ماذا؟أم بحق الله ماذا؟
    هل صحيح أن كل شيء في هذا المجتمع (المدافع) يسير بقدرة قادر؟
    كل شيء يسير كما قال ذلك المهندس الشيوعي الروماني لوزير الطاقة الروماني في بلده حين كتب يقوم العمل في مصفاة النفط عندنا
    أيها الرفيق الوزير:


    لقد آمنت بالله فأنا أشهد أن لا اله الا الله و أشهد أن محمداً رسول الله
    و أضاف ملاحظة صغيرة لرسالته بأن هذه المصفاة التي تؤدي عملها بشكل معقول تعمل بقدرة إلهية ليس إلا.
    ومع ذلك فإن كل شيء بالنسبة لكفاح كان يستاهل التضحية و أن أكبر تضحية يقدمها هذا المجتمع من أجل دفاعه و الذود عن حريته هو دماء أبنائه و....تطوره الطبيعي.
    لقد عرف كفاح لأول مرة أن العدو قوي (وليس كما كان يصفه عندما كان تلميذاً تصفق له المعلمات و يقمن بالثناء عليه عندما يلوح بقبضته الصغيرة صائحاً في (مكريفون )المدرسة أنه سيدمر هذا العدو الجبان) ، في الثانوية عندما رأى مدرس اللغة العربية يبكي في الصف أمام الطلبة جميعاً شعر بقوة العدو و ذلك لسبب لم يعرفه كفاح بل أسرّ به المدرس له فيما بعد ، فلقد كان أستاذ العربية هذا من النازحين من الجولان و لقد ترك وراءه عزّاً و جاهاً و كان قبل احتلالها مزارعاً و يمتلك مع أخوته و أبيه أرضاً كبيرة و قطعاناً من الماشية...الخ و لقد عانى هذا المدرس الأمرين بعد النزوح و تحول هو أيضاً إلى مكافح عبر قلمه حيث كان يكتب و يؤلف أدباً نضالياً رفيعاً....بكى هذا المعلم أمام طلابه مرةً نتيجة صفعةٍ تلقاها من عسكري !! في سوق الخضار..
    في ذلك اليوم شعر كفاح بقوة العدو و جبروته و سطوته و قدرته على الاستمرار في العدوان.
    (لازال همنغواي يبحث عمن له تقرع الأجراس !)












    عن التدخين و العشق و الفلسفة:
    على وجه التقريب في كل يوم كان يتكرر نفس المشهد مع كفاح كان يأخذ (السرفيس) و هو عبارة عن سيارة قديمة صفراء اللون من قرب بيتهم في المزة إلى منطقة الحجاز نهاراً و يكرر نفس العملية مساءً و ذلك للمرور على رابطة الشبيبة أو لزيارة سوق الكتب في الحجاز و البرامكة و ربما للتدخين بحرية بعيداً عن البيت ، حيث أن الربع ليرة أجرة (السرفيس) كان مقدوراً عليها بل و كان بإمكانه أن يأكل (سندويشة) فلافل من الحجاز يبكي لأجلها (جيمي كارتر) على حد تعبيره أمام أصدقائه.
    و في رحلة السرفيس هذه الكثير ، الكثير فهي الرحلة التي مكنته من اكتشاف روعة دمشق و سحرها و قدرتها على استمالة كل رومانسيي العالم لعشقها دون حساب و دون أن يستطيع راغب أو طالب بلمسها أو ضمها فدمشق لا يستطيع أن يطارحها أحد الغرام و لابد أنها ستبقى أكثر الفتيات في الكون شباباً و خلوداً في الشباب.
    من شباك السرفيس كان بإمكانه أن ينظر إلى المحال و إلى الناس و حركاتهم و نشاطاتهم على اختلافها و برغم أن كل شيء كان عادياً و روتينياً إلا أن كل رحلةٍ جديدة كانت تحمل شيئاً جديداً ،و الرحلة يختلف طعمها بحسب الأغنية ففي مساءات دمشق الصيفية كان يصدح صوت أم كلثوم بأجمل الأغنيات ، فصوت أم كلثوم كان جزءاً لا يتجزأ من كل شيء محيط ، من رائحة الفلافل المقلية و صوت الباعة هنا و هناك و اذا أردت من صوت القلي نفسه عندما تسقط قطعة الفلافل النيئة من القالب في الزيت الحار و تكرر هذه العملية أكثر من خمسين مرة على مدار الدقيقة.
    و في المرتبة الثانية تأتي نجاة الصغيرة فلا يعتقد أحد أن هناك شعب عربي مولع بهذه النجاة مثل الدمشقيين...
    في الحقيقة أن صاحبنا المتناقض هذا كان يشعر بسعادة غامرة عندما يسمع أم كلثوم من راديو السيارة الصفراء العتيقة و لكنه عندما يلجأ لنفسه ما كان ليسمع هذه الأغاني بل كان يستمع لأشرطة الشيخ امام و مارسيل خليفة و مصطفى الكرد و مغن اسمه (أبو عرب) غنى فلسطين بعفوية جميلة.



    كانت أغنية (أنت عمري اللي ابتدا بنورك صباحُه) هي سيدة الأغاني بالنسبة له و كان يكره اللحظة التي يصل فيها السرفيس لبداية الشارع الذي يسكنه لأن ذلك يعني أن عليه النزول من السيارة و انقطاع الأغنية...
    و ربما أن كفاح كان يعتقد أن سائق السرفيس الطويل القامة ذا الطاقية البيضاء المقلوسة والذي يدعى الحاج أبو أحمد لا يعرف من الأغاني إلا (أنت عمري) و كان ذلك يناسب كفاح كثيراً و عندما يتوجب عليه انتظار السرفيس كان يتمنى أن يكون حظه في الركوب في سيارة الحاج أبي أحمد برغم الازدحام الشديد الذي يتسبب به صغر حجم السيارة التي لا يمكن معرفة موديلها اطلاقاً و يمكن التأكيد أن صانعها لايعرف موديلها بسبب تدخل السوريين في تحسين قدراتها التاريخية و طاقاتها على العمل.
    و مع انت عمري يبدأ العشق الأول فليس من قلب شاب ليصمد أمام هذه المغريات : دمشق الفيحاء و مساؤها الصيفي و الحاج أبو أحمد صاحب السرفيس و أغنية أنت عمري و تلك الفتاة النحيفة ذات النظارة و البلوزة البيضاء الناعمة التي جلست بقرب كفاح برغم كل محاولات أبي أحمد الدائمة لإعادة ترتيب ركاب السيارة بحيث تخرج التركيبة شرعية و غير قابلة لاختراقات غير أخلاقية من شباب تلك الأيام الحافلة (بالخطورة) على أخلاقيات المجتمع .
    (الشرقيون في بعض هواهم يشتمون الجنس لكي يكون ألذ !)



















    أول ملامسة أبي الجود :

    يمكن القول أنها كانت هي المرة الأولى التي يحس فيها كفاح بملامسة الجنس الآخر و ذلك بسبب هذه الحالة الاضطرارية للجلوس المضغوط سيرفيسياً في حافلة أبي أحمد...
    و لقد جاءت الملامسة لطيفة أيما لطف فقد احتكت يده اليسرى بيدها اليمنى فكلاهما كان يرتدي كماً قصيراً و حين تلامسا أول مرة أبديا في آن معاً حركة اعتراضية تعففية أو لنقل تطبيقية يتجسد فيها كل ما تعلماه من أخلاقيات و توصيات و محرمات ، ولكن الحركة هذه كانت غير قابلة للتحقيق عملياً فعن يسار(ميساء) جلست امرأة بملاءتها السوداء (تزن طناً على الأقل) و جلست (ميساء) المسكينة في المنتصف و عن يمينها جلس كفاح الذي بدأ يستقطبه الكائن الجميل الذي يجلس بجانبه.
    سلّمت هي بالواقع القائم و سلم هو أيضاً و فيما يبدو أن هذا التسليم كان مرحباً به ضمنياً و لم يبقَ عليهما إلا الاسترسال مع الصوت القادم من المسجل المتهتك و الذي ربما كان يعمل بواسطة (الخبطة) المتعارف عليها اضافةً لبطارية السيارة طبعاً...!
    أغنية (أنت عمري) بالحقيقة شيء أكبر من أغنية ، هي عرس شعري و لحني يتزوج فيه الكلام مع النغمة و يعقد عليهما الصوت الصداح فيصير الابداع أكبر من أي وصف ، وللأسف يبقى الحزن قائماً على أبناء اللغات الأخرى والثقافات الأجنبية لأنهم لم و لن يصلوا إلى نشوة الاستماع للغناء العربي .
    هفا قلبها و هفا قلبه و غنيا سوية مع أم كلثوم و تصادف أن ينزلا سوية من السيارة على نفس المحطة و ابتديا بالمشي يلفهما الجبن و الخجل و الخوف
    على شيء غالٍ ربما...ربما ينقذانه قبل أن يضيع...أيمدُ يده ليتعارفا؟أتمد يدها لتقول له ما اسمك؟
    نعم...نعم كأنه شيء نفيس وقع أو يكاد يقع في البحر فيغرق ولايعود...لن يعود...
    ولكن صراعات كفاح انكسرت و خرج عن صمته و استعار شجاعة نادرة ليسأل :
    - مااسمكِ ؟
    - (مبتسمةً) ميساء
    - اسمك (حلو كتير)
    - صمت و ابتسامة جميلة
    - انت طالبة
    - نعم
    - أين
    - في ثانوية البنات
    - في الصف العاشر؟
    - نعم (و ركضت مبتعدة) ملوحةً بيدها
    وقف صامتاً ينظر اليها من بعيد يتابعها بلهفة وخوف و أخذ قلبه يزيد من دقاته.....
    - متى أراك ثانية (صاح) لكنها اختفت .
    حينها كان كفاح مولعاً بالتدخين و القراءة و كان يدخن سراً عن أهله بالطبع رغم أن والديه كانا متفهمين متحررين...إلا أنه وحده كان يشعر باقتراف الذنب.
    أشعل سيكارةً و هو يمشي و اتجه نحو بيت صديقه الفلسطيني (معتز) حيث كان الشباب يلتقون بسبب مناسبة المكان ووسعته لمثل هذه اللقاءات.

















    شبابنا :


    قرع الجرس و فتح له معتز و دخل مسلماً مقبلاً الجميع .
    في تلك السنة كانت قد مرت بضعة أشهر على زيارة أنور السادات للقدس و كان الجيش الاسرائيلي يغزو لبنان لضرب القوات المشتركة (اللبنانية-الفلسطينية) و كان الشباب متحمساً بأغلبيته للاشتراك في المعركة و التضحية بأغلى ما يملك و كان عنوان الأحاديث المشتركة هو تقصير الأنظمة العربية في المعركة و تخاذلها أمام العدو و اكتفائها باطلاق الشعارات الحماسية ليس إلا.
    وضمن هذه النقاشات كانت تطرح بالتداعي أفكار مختلفة متنوعة عن اليسار و اليمين و الدين و الله و الإلحاد و الماركسية و العروبة و فلسطين و الحب و كل شيء....كل شيء.
    كان صاحبنا متفلسفاً أيما فلسفة ، يقلب الفكرة من أولها لآخرها مفنداً و مستنتجاً و مستقرئاً محاولاً تقليد أحد أقاربه الذين يعملون في مجال الفكر من المعروفين في المجتمع.
    أما عن تحرير فلسطين فلقد كان الرأي غالباً ما ينتهي إلى ما يطرحه اليسار عن (فتمنة) المعركة أي تحويلها إلى معركة طويلة شعبية و عدم القبول بوقف اطلاق النار أبداً و تحت أي اعتبار حتى يتكبد العدو خسائر فادحة برغم أنها قد تساوي نصف خسائرنا و لكنه سوف يخشى عندها مصيره و مصير كيانه كله.ولكن الاتفاق على شعار فتمنة المعركة لم يعنِ أن أحداً من الحاضرين كان شيوعياً فالحركة الشيوعية في العالم العربي بقيت في أطر محدودة و لم تستطع تحقيق أهدافها ، وسبب عدم القبول بالفكرة الشيوعية برغم توفر المادة الثقافية لها بشدة كان في النهاية يعود لمجموعة من الأسباب أولها أن الفكرة القومية العربية كانت ذات فعل كبير و مؤثر في النفوس و أن الشيوعيين كانوا يتلقون الأوامر من السوفييت و مهما كان السوفييت أصدقاءا فالبنية لأكثرية الشباب إما أن يكون العرب عاصمة الفعل العربي أولاً لايكونوا أبداً.
    نعم لقد كانوا في هذا العمر و كانوا يفكرون هكذا وعلى هذا المستوى !
    تلك المرحلة كانت مرحلة صراع مع الاخوان المسلمين الذين زادوا الجماعات التقدمية لحمة مع بعضها البعض و زادوا أيضاً في عنصر الطاعة الوطنية لدى أولئك الراغبين بالتصدي لهم ، فكان التقارب القومي مع الشيوعيين و أفكارهم و اضحاً لدى أبناء الجيل.


    و عن الاخوان المسلمين كان المناقشون يتفقون على خطورتهم و عقمهم، و أنهم حركة رجعية مضرة بالمجتمع و كان البعض يتحدث عن الفساد المنتشر هنا و هناك و أنه سبب مباشر في اعطاء الاخوان الاكسجين اللازم للاستمرار وكان الجميع يتفقون على هذا . ولكن الملاحظ برأيهم أن الاخوان كانوا ينتقون الأنقياء و الشرفاء كأهداف للإغتيال و يتركون المفسدين و الهدف كان واضحاً و هو ابقاء الفاسدين لابقاء المعركة قائمة و ابقاء دافع المعركة الداخلية قائماً....
    اسرائيل و الاخوان و الشيوعية و الأمة العربية كانت هي المواد والعناوين الرئيسية للحديث بالسياسة و كان (علي) يقوم ساباً و شاتماً الجميع ليضع شريطاً في المسجل و كان غالباً ما يأتي بشريط (مناضل) كما كان يسميه و يبدأ الغناء و التدخين....
    حين أتى كفاح في تلك الأمسية إلى بيت معتز كان يرقص فرحاً حيث كان يبدو عليه الفرح ولاحظ ذلك خبير العشق في الشلة (المقصود علي)
    فسأل :
    - شو يــــــــــــا!!
    - نعم!؟ "قال كفاح متسائلاً"
    - تبدو فرحاً
    - "مبتسماً بقوة رد كفاح" ما خصك !!
    - إي تلحس....
    - هل تعرف أنك ستبقى حماراً حتى لو أصبحت أميراً....
    "ضحك شديد من الجميع "
    قال معتز معلقاً :
    - شيء طبيعي – في هذه الظروف - .
    - "رد علي " : و الله أنا لا أطمح أن أصير أميراً ولكن معروف من يطمح لهذا....
    - "رد كفاح" : ولكنك تطمح أن تصير حماراً أليس كذلك؟!
    "ضحك شديد جداً"
    وقام (علي) رافعاً مجلداً ضخماً كان أمامه و بدأ يضرب به محدثه الواقع على الأرض من الضحك وقام الشباب الآخرون بإبعادهما عن بعضهما.
    كانت في الجلسة تلك الليلة حديث عن مدرس جديد جاء ليدرس الكيمياء و حدث أن وجه سؤالاً في الصف لطالب لديه مشكلة الثأثأة التي تأتيه فقط اذا خاف من شيء ، و على مايبدو أن المدرس كان يمارس بطريقة ادارة الصف دور (الضابط المناوب) فأخاف نزار و لم تستطع الكلمات أن تخرج من فمه برغم أنه طالب ذكي .. استمر مدرس الكيمياء بالضغط صائحاً على عقل و أذني الطالب الذي بقي صامتاً و تلقى صفعة من المدرس أجبرت كفاح عندها للوقوف في مكانه قائلاً :
    - أستاذ ليس من حقك
    - نعم (صائحاً)
    - ليس من حقك ، نزار لديه مشكلة
    - أية مشكلة ... المشكلة أنه غبي و أنت غبي
    - لا يا أستاذ ... أنت المشكلة





















    عزيزي أبا الجود (أول الرغبة الجنسية):

    بالصدفة اكتشف كفاح فحولته ، كان يجهل كل شيء عنها ، و ما كان يعرفه لم يكن يكفي لتكوين فكرة كافية عن هذا الموضوع الذي مازال الشرق يضعه في (تابو) خاص ولا يزيل عنه الغشاوة لكي يتنور الشباب ولا يخطئون في التعامل مع أجسادهم.
    وبعد أن عرف كفاح ذكورته وتمكن وحده بالحصول على كتاب أو كتابين للدكتور (صبري القباني) والتهمهما بسرعة و خاصة الجزء المتعلق بالجنس لدى الجنسين و طريقة اللقاح و الجماع بدأ يصطدم مثله مثل أبناء جيله بالكبت الجنسي الهائل الذي يعاني منه مجتمعه.
    (لقد قام المجتمع الاسلامي الرسولي و مجتمع ظهر الاسلام هيكلية اجتماعية مقبولة الى حد كبير عندها بالنسبة للتشريع و ذلك بسبب ظهوره كناموس سهل.ولكن تطور المجتمع ودخول الأفكار المدنية مع بقاء المحافظة و المحافظة الشديدة في أغلب الأحيان و قوامها الفصل بين الجنسين أدى الى الكبت الجنسي المتعمق الجذور في أكثر الرجال و النساء تفتحاً و ثقافةً في المجتمع العربي.
    بدأ كفاح بممارسة العادة السرية للوصول إلى اللذة الجنسية حيث وجد فيها المتنفس الوحيد للخروج من كبته ، و لقد وصل بتفكيره إلى أن هذه هي أسلم طريقة لممارسة الجنس بالمقارنة مع أية مغامرة قد تسبب الكثير من المتاعب و المصائب أحياناً...المصائب لمن؟؟....له ولها ولعائلته ذات الصيت الجيد على مستوى المجتمع . ولقد تراكمت بذهنه هذه الأفكار بل و أحاط نفسه بهالة أخلاقية بهذا الخصوص حتى أنه عندما اصطدم بأول فتاة ترغب به مارس الجبن معها و تلقى صفعةً جميلة على خده منها...
    نعم صفعته(....) في باب بيتها حين جاء يسأل عن أبيها يطلبه فحاولت امساكه و تقبيله في باب البيت فما كان منه إلا أن جبن و خاف و ابتعد عنها سريعاً للوراء ، فتلقى صفعةً (من كعب الدست) يستأهلها و عاد أدراجه منكباً إلى البيت لكبته و لجبنه و لسريته.
    وكان منولوجه يعمل بوتيرة عالية :
    - أنا حمار
    - لا لست حماراً
    - لماذا؟
    - لأنني لا أحبها
    - وما المشكلة فهي لا تريد حبك

    ستطلب أن تتزوجني...لأن...
    - اسكت بالله عليك و بدون سخافات ، تتزوجك و هل الزواج هكذا من قبلة على الباب..
    - القبلة تجر موعد....و الموعد يجر كذا...
    - انت جبان و كفى
    - بل أنت سيء و تريد استغلال الفتيات لشهوتك ثم تتركهن...
    - أو لم تدعك هي لتقبيلها يا أحمق....ليس عليك ذنب الذنب سيكون كله ذنبها...
    - لا...لا أخلاقي لا تسمح لي فأنا لا أحبها
    - أخلاقك...هيا انصرف لعادتك السرية و قل لي أخلاقك...
    هنا ينتهي المنولوج الداخلي و يستمر الواقع بكل تناقضاته و يعمر كفاح مدماكاً جديداً في جدار نفسيته المتناقضة.
    وماالحل؟


















    (ميساء) هي الحل و الحلم و....الحب يا أبا الجود !

    أين أنتِ يا ميساء ؟
    لقد قالت أنها في الصف العاشر في ثانوية البنات المجاورة (فصل الجنسين مرة أخرى) حسناً...سيذهب اليها لينتظرها على باب المدرسة...ولكن...كيف يفعل ذلك و هو ابن العائلة المحترمة و هذه التصرفات يشتهربها الزعران والاأخلاقيون ووو....
    لن يفعل...فكر أن لا يذهب ويراها و أن لا يحبها و أن لا يفكر بأية فتاة بعد الآن...وقرر أيضاً أنه يستطيع العيش بدون فتاة و أن لديه من المسائل و القضايا المهمة و الحساسة في حياته ما يغنيه عن (ميساء) وعن غيرها لديه قضية القضايا لكي تشغله ولكي يكتب فيها أشعاره و شعوره ولديه المستقبل الذي يحلم به كل يوم ، يراه أمامه في كل يوم ، ماثلاً مبتسماً .
    في مرة استمع فيها إلى ابن الجيران و هو يتحدث ضاحكاً كيف تمكن من مضاجعة الخادمة و فكر بالموضوع ملياً و توصل إلى قناعة مفادها أن هذا الشخص لا يستحق بعدها أن يسلم عليه.


    ولقد كان الموضوع الأساسي المتداول في رفاق حارته (التي كما اتفقنا أنها حارة الميسورين نسبياً) هو الجنس و كانت أجمل هدية في جلساتهم هو الحصول على صور جنسية –أجنبية بالطبع- و التي كان يتم تهريبها الى سورية سراً حيث أنها ممنوعة بشدة .
    و كان فيلم الفيديو قد بدأ يغزو البيت العربي عندها ومع الفيديو تأتي أفلام الفيديو (الخاصة جداً) والتي كان أصحاب محلات الفيديو يؤجرونها بسعر (خاص جداً أيضاً) و ذلك للموثوقين من الأصحاب حيث كانت تدعى للتوريه بأسماء مختلفة فيها فكاهة مثل "فيلم كرتون" أو "فيلم حربي" و الفكاهة و الفطانة تحصل عندما تضيف للتسمية غمزة عين أو حركة خاصة بالوجه فيفهم الذكي القابع خلف الطاولة على السريع طلبكم و يلبيه اذا كنت من الموثوقين أو تأتي مع شاب معرفة .
    الحكومة كانت تفرض حصاراً على هذه المواد ولكن الحصار كان فاشلاً و غير مراقب و كانت المادة الفلمية سيئة بالفعل ، وكانت تستخدم رموزاً اجتماعية أخلاقية في العمل الجنسي لزيادته إثارة ولا تضع أمام ذلك أية حدود وكان فعلها هادماً بحق .
    كان من الواضح أن قيماً غربية و أوروبية إباحية اضافة للتكنولوجيا قد دخلت إلى مجتمع تقليدي محافظ و أن ملعب الصراع الأساسي كان ضمائر و عقول و قلوب أبناء الجيل الشاب الذي انتمى اليه كفاح ، فالمحافظة تقتضي بالضرورة حصول الاتصال الجنسي الشرعي بشكل مبكر نسبياً و لا نقول بالمقارنة مع ظهور الاسلام حيث كان الزواج يتم غالباً في العقد الثاني من الحياة بالنسبة للجنسين و كان هذا مستحيلاً بالنسبة لمجتمع أخذت فيه المادة موضعاً أيما موضع و صار فيه للزواج شروط تعجيزية تحيله إلى رفاهية لا يقدر عليها إلا أبناء الأمراء و من ساواهم أو من هم دون ذلك بقليل فالبيت بيت و المهر مهر و الذهب ذهب و العفش عفش و السيارة سيارة و العرس عرس و شهر العسل شهر عسل ......هكذا كان حال جيل كفاح.
    الزواج ترف القادرين و الحب جريمة الفقراء و الثوار .





















    الحب سرقة :



    في ذلك الزمن المستمر حتى كتابة هذه السطور صار الحب سرقة شبه مشروعة و صارت العلاقة بين الشاب و الفتاة قضية اجتماعية معلقة بدون حل إلا عند أولئك القادرين للتصدي بجرأة لأمراض المجتمع (و هم قلة) !
    و المهم يا أبا الجود أن تضع يدك معي على مفتاح القضية الأساسي
    (دعني أتفلسف) و هو أن المجتمع (المدافع) كما سميته أنا لم يكوِّن جماعاته الاقتصادية تكويناً ثقافياً و اجتماعياً كاملاً ، فلقد كان مجتمعا هلاميا غير واضح المعالم و التشكيل و كانت جماعاته الأقتصادية لم تصل الى مرحلة الطبقة الميسورة التي تكون لنفسها وعياً خاصاً بها و تعيش على نواميسه دون دخول أفكار غريبة عنها ، بل بالعكس فإن المجتمع ككل بأحيائه الفقيرة و الغنية كان يعيش خليطاً من المتناقضات في النظرة للكون و لنفسه ولقد كانت مصالح عدد غير قليل من الناس لا تتوافق حتى مع طريقة تفكيرهم هم ولا تحمي مواقعهم المادية و مع ذلك فقد استمروا بأفكارهم و كان الصراع الفكري قائماً في كل مكان ولا يزال : فالقومي ضد الأجنبي و القومي يشمل الغني و الفقير معاً ، و الديني ضد الملحد و الديني يشمل الغني و الفقير معاً ، وهكذا ترى معي بطلان القاعدة القائلة بأن الوعي أي وعي يتأتى مباشرةً نتيجة الوضع المادي , و هناك قواعد عكسية (صح أبو الجود؟)


















    هلالي يعشقُ صليبك يا ميساء


    لمح كفاح ميساء بالصدفة عند تقاطع شارعين في منطقة المزة الدمشقية حيث كانا يسكنان و كان برفقة (علي) يتحدثان و يتناولان الفلافل كما هي العادة و بسرعة البرق أعطى (كفاح) ما تبقى من (سندويشته) لعلي ماسحاً فمه بمنديل ورقي و اتجه نحوها ، أما علي فبدأ يصيح
    - إلى أين يا أهبل....هي....يا أجدب هيييي !!!
    انتبه السيارات ستصدمك يا غبي....
    و ابتعد كفاح باتجاه حلمه راكضاً و تلقى شتائم متعددة من السائقين الذين اضطروا للوقوف له و هو يجري عبر التقاطع المزدحم...
    - ميساء...ميساء (ناداها)
    التفتت نحوه و نظرت اليه ثم ابتسمت و اخفت ابتسامتها
    - نعم (قال بصوت خافت)
    - أعرفتني؟؟أنا الذي...
    - عرفتك....عرفتك
    - أنا اسمي (كفاح) نسيت أن أقول لك المرة الماضية
    - أهلين كفاح و انت اسمك جميل
    ابتسم بسعادة قائلاً..
    - إلى أين تذهبين؟
    - إلى بيت خالتي ، في باب توما
    - هل أوصلك؟؟
    - هكذا من البداية...لا..لا
    - انظري أنا طالب أيضاً في الثاني الثانوي و نحن جيران كما أرى...متلعثماً...أين تسكنين؟
    - في المزة.
    - و أنا في المزة أرأيتِ...نحن جيران
    قالت له مغادرة
    - هيا مع السلامة
    - أرجوكِ "قال متوسلاً" متى أراكِ؟؟
    أجابت....(مفكرة هنيهة) :


    هنا تماماً بعد المدرسة غداً...
    و طار فرحاً حتى أنه لم ينظر إليها هذه المرة حين ركبت السرفيس بل نظر إلى داخل نفسه مفكراً بجمال الموعد غداً كمن حطت في كفيه حمامةٌ بيضاء...
    بعد لحظات وصل إليه رفيقه (علي) قائلاً (بخبث) :
    - ما هذا يا أخانا...شو شقفة يا....
    ولم يكمل كلمته حتى أمسك كفاح برقبته ضاغطاً
    - اذا كررتها قتلتك....مفهوم
    ثم تركه...
    أجاب علي
    - شوف هذه المرة سامحتك احتراماً لعشقك الذي أظن أنه حقيقي و إلا إذا كررت معي هذه الحركة مرة أخرى...سألعن أباك...
    قال عبارته الأخيرة هذه و أنهزم راكضاً مبتعداً يضحك مقهقهاً.
    في البيت و على غير عادته قام كفاح بكيّ ملابسه بتأنٍ و اعتنى بانتقاء قميص مناسب لبذلة (الفتوة العسكرية) التي يلبسها جميع الفتيان عارفاً بأنه سيتلقى تأنيب ضابط الفتوة ولكنه لا يكترث فلن يلبس القميص الموحد هذه المرة بل سيلبس قميصاً أبيض من قمصان أبيه و سيضع ربطة العنق المخصصة للفتوة حيث أن هذه التركيبة سترفع مستوى الأناقة إلى حد جيد حسب ذوقه و اعتقاده . في ذلك المساء كان كفاح مثار تعليقات و تفكهات إخوانه و أخواته و أمه أيضاً .

    في اليوم التالي ذهب كفاح إلى مدرسته سعيداً يغني وكان المدرسون في وادٍ و هو في واد آخر و كانت تمشي دروس الرياضيات و الأدب و الفيزياء من أمامه كماتمشي الزفة من أمام الأطرش فيمارس الابتسام الوظيفي دون أن يسمع من الزفة شيئاً أبداً...
    ولقد كانت البهدلة التي تلقاها من أستاذ الرياضيات محاولةً فاشلة لتعكير مزاجه ليس إلا و الملاحظات المتكررة و التي انتهت بطرده من الصف إلى الساحة من قبل أستاذ الفيزياء لم تخرج عن نفس هذا التقويم الموضوعي للأشياء آخذاً بعين الاعتبار اللقاء الهام الذي ينتظره مع.......ميساء.
    حين انتهى دوام المدرسة و خرج أخونا راكضاً من المدرسة إلى مكان اللقاء استوقفه موجه المدرسة على الباب الخارجي قائلاً :

    - يا كفاح...لم أعهد بك هذه التصرفات فأنت من أحسن الطلبة تهذيباً...
    أطرق الرأس قائلاً :
    - صحيح أستاذ صحيح...انني اعتذر و هو يكاد ينفجر غيظاً
    - هذه آخر مرة..
    - نعم يا أستاذ...آخر مرة
    - هيا اذهب
    وذهب كفاح مشياً حتى تأكد من غياب الموجه التربوي حيث بدأ بالعدو بعد أن رأى بعض الفتيات من مدرسة البنات مما يعني أنها ربما قد خرجت هي أيضاً...
    وحين وصل إلى المكان المتفق عليه وجدها هناك فعلاً وسلم عليه بحرارة و سلمت عليه و قالت له
    - أراك أتيت سريعاً
    - لا أنت أسرع مني
    - لا أنا هنا منذ ساعة تقريباً فالحصة الأخيرة لم نأخذها بسبب غياب المعلمة....
    - آه فهمت و تابع
    - هل نذهب إلى الحديقة...
    - ممكن (أجابته)
    في الحديقة تعارفا بشكل أكبر و تحدثا عن أهليهما و عن الحياة بشكل عام ثم مرت بهما الذاكرة لأول لقاء في سيارة السرفيس و أم كلثوم وقالت هي مداعبة :
    - أتذكر الفيل السمين الذي كان يجلس بقربي –تقصد المرأة-
    - نعم أتذكر..(قال ضاحكاً)..
    - أتعرف أن يدي هذه كانت تحتها تماماً و أنا استحيت أن أقول لها قومي عنها..
    - ولماذا؟(سأل بين المستغرب و الضاحك)
    - اسمع بكل الأحوال لو كان المقعد قاسياً لكانت مأساة و أما أن المقعد مازال يحتفظ بطراوته فقد قررت أن لا أطلب من ذلك الفيل التحرك حتى لا أزعج هدوءه فيضرب خرطومه مثلاً بي أو يهز السيارة...أو...و بدأت تضحك...
    ونظر هو إليها متأملاً كم هي رائعة بضحكها و أدبها و حيائها و كياستها و قال :

    لو قلتِ لي حينها لكسرتُ رأسها
    أجابت
    - نعم يا أستاذ أقول لك و أنت كنت تزعجني أيضاً فلقد كنت أنا كالقشة بينكما
    - نعم...هل أنا فيل أيضاً؟؟
    - لا..لا...أنت حصان
    - لا بعد قليل ستقولين شيئاً آخر والله
    - مثل شو مثلاً (ضاحكة)
    سكت هو ناظراً لهذا الكائن الجميل ، بوجهه و شعره و عينيه....
    - كم أنت جميلة (قال لها)
    - اقتصر لوسمحت و خلنا بالحديث عن الفيل
    - أتعرفين
    - ماذا؟
    - أنا بطبعي خجول، و لكني أشعر أنني أعرفك منذ سنين
    - منذ متى مثلاً قبل مئة سنة (بخبث)
    - و هل أنت مولودة قبل مئة سنة ؟ ويجب أن نشتري لك عكازاً...و...
    قاطعته
    - عكازاً...أتعرف أنك تجلس مع بطلة سورية في ألعاب القوى على مستوى المدارس يا أستاذ...كفاح أفندي.
    - أوه..برافو و غيره
    - أعزف الكمان

    - ممتاز...ياالله و قام واقفاً
    - لماذا قمت
    - لأ ولكن نحن (يشير لنفسه) يبدو أننا (للرمي في الزبالة)
    قامت قائلة :
    - لا..لا معاذ الله ماشي الحال فأنت تجيد الفلسفة...وصمتت
    قال متسائلاً :
    وماذا أيضاً؟؟ماذا تعرفين عني؟
    قالت
    - آه...لا...نعم رأيتك مرة في الرابطة و أنت تناقش عن وضع المرأة
    في المجتمع ..و..

    قاطعها
    - مفهوم...مفهوم
    - مفهوم...مفهوم (قالت بحركة مقلدة) و ضحكت ثم قامت قائلة :
    - يجب أن أذهب إلى البيت
    - سأوصلك
    - هيا إلى آخر هذا الشارع ، و أشارت إلى شارع المزة الرئيسي..
    مد يده الى جيبه و أعطاها ورقة ، و قامت هي بفتحها و قرأت :
    أنت وردة

    قرأتها سعيدة ضاحكة و اختفت عنه ميساء.
    كفاح لمح الصليب في عنق (ميساء) و كتب في ذات الليلة على دفتره

















    (أترى يا أبا الجود؟) :

    فكر كفاح ملياً : ها هي قضيتي الخاصة تنزوج قضيتي العامة سألعن والده ذلك الذي سيقف عقبة في وجهنا أنا و حبيبتي...
    في اليوم التالي تقابل مع (علي) أقرب أصدقائه إليه و صرح له بحبها و قال له عن لقائه معها و بأن أباها لبناني و أمها سورية و سأله (علي) :
    - مسيحية؟
    - نعم
    - قضيتك صعبة يا صاحبي
    - دعك من السخافات
    - أحدثك بكل جدية..فأنت لا تعرف قصة أخي مروان ، لقد كاد أبوها و أخوها أن يذبحوها لأنها أحبت أخي و أرادته و لم يقم المجتمع بمساعدتهما رغم أننا نعيش في القرن العشرين
    - أخوك لا يفهم
    - انظر يا كفاح أنت مثالي و رومانسي و خيالي و اطلع من راسي الله يخليك ، بشرفي أمس لولا أنني شعرت بعشقك لرددت عليك الرد المناسب،قال أخي لا يفهم قال ..لا أنت فقط الذي يفهم.
    - يا غبي....الانسان في البداية يبدأ بالحسنى ثم يخطف اذا تطلب الأمر...ولكن عم أتحدث أنا..عن زواج (مضحك) أنا مازلت في السادسة عشرة ولم أتجاوزها بعد يا هذا و الموضوع عندما يأخذ وقته يختمر و يجب على الانسان أن يهيء نفسه و ظروفه...ولكن في كل الأحوال أنا أريد بناء علاقة طبيعية مع الصبية ......!
    - ايه دعنا نراك..
    في الايام التي ستأتي سيصبح كفاح أمام عشقه الجميل الصعب عاجزاً فلقد سد أبوها الطريق هو أيضاً و بكى العاشقان حبهما بأسىً كبير ...
    كان اللقاء يتم خلسة و بعد تأليفة من الكذبات من قبل ميساء تجاه أهلها و كان كفاح يربي التحدي داخله تجاه كل شيء حتى جاءت لحظات لم يعد بامكانه فيها ان لا يثور .
    كانا صغيرين و كانا عاشقين لكن تربيتهما وقفت امام حجم الالم الذي كان ينتظر العائلتين عند الدخول في المشكلة ، كان الاثنان يملؤهما الحب كل لأسرته فلقد تربى جيدا و كان ثمن التحدي قاسياً .







    حرمان و نسل يا أبا الجود :
    دخل علي الى المنزل بعد أن أدخل سبابته اليسرى في الفتحة التي صنعها تاريخ الباب الخشبي الطويل بين درفتيه اليمنى و اليسرى و انزل السقاطة
    راكلاً الباب بقدمه . كان المنزل الذي يقطنه علي مستأجراً منذ سنين تمكن فيها والده الشرطي القادم من قرى الساحل السوري من صنع شيئين رئيسيين الأول هو أن جعل زوجته تلد اثني عشر ولداً و بنتاً و الثاني هو كتابة بعض القصائد الجميلة و تعليقها على جدران المنزل .
    كان علي أصغر الشبان و كانت له أخت أصغر منه حيث كان عمر أخيه الاكبر يسمح نظرياً بأن يكون والده فبينهما عشرون عاماً توالت فيها الولادات من تلك الام الجميلة التي كانت تشتهر بقهوتها الطيبة في الحي الفقير الذي تتجمع فيه النساء العربيات كل يوم عند واحدة لكي يتذاكرن في نفس الاشياء ، حيث ليس بينهن من تستطيع تعليم الاخريات أي طريقة لمنع الحمل .
    صعد علي الى البيت مستخدماً الدرج الاسمنتي الذي يواجهك فور فتح الباب و سلم على أمه التي كانت تتحدث مع جارتها الباكية و استطاع علي الفضولي أن يكتشف بعض أطراف الحديث و يفهم أن ألجارة أم حسان قد أكلت (قتلة) من بعلها في ليلة الامس و أن على جارتها أن ترافقها الى مخفر الشرطة حيث لابد أن يرى الجميع الكدمات الموجودة في أنحاء جسمها و كانت بين لحظة و أخرى تصيح و هي تظهر أماكن الضرب :
    - لك شوفي يا زهرة شوفي و ين ضربني
    - طيب .. خلص اهدي
    - مابدي اهدا روحي معي ع المخفر زوجك شرطي
    - ما بيعملولك شي
    - ليش ؟ لك شوفي و اظهرت الضرب على ساقيها و كان علي يسترق النظر و برغم تعاطفه مع الجارة الى أنه لم يستطع منع عقله المراهق من التفكير بالساقين المكشوفتين أمامه
    - روح ولاك (صاحت أمه) انقلع كول بالمطبخ
    - حاضر يامووو
    ورفع صينية الرز و البامياء المطبوخة بماء البندورة و بعض اللحم و الدهن و ذهب متثاقلاً الى المطبخ و هو يلوك اللقمة
    - لك كيف بتعري ساقك قدام ابني
    - يوه .. ماكنت شايفتو بعدين ابنك صغير
    - كيف صغير يا حمارة صار بالحادي عشر بعمرو تزوجتي
    - ايه بس ابنك بيجنن قد مانو حلو
    - الله يبعتلك حمى

    انهى علي طعامه و صعد الى السطح حيث بنى بمساعدة اخيه غرفة صغيرة تشبه المغارة لا تتجاوز مساحتها الاربعة أمتار مربعة .. هناك كان يدعو أصدقاءه و يدخن سراً عن أهله و يضع بعض الكتب الممنوعة من التداول و مسجلة قديمة مع عدة مئات من أشرطة الكاسيت ... علي كان هاو حقيقي في جمع أشرطة الكاسيت و (سميعاً) ممتازاً للطرب الاصيل .
    كان فقره واضحاً تستطيع أن تلمحه بسهوله لأن القرد لا يستطيع أن يخفي لون قفاه الاحمر ... و كونك مولود فقير في الشرق لا يعني فقط أنك تعامل معاملة القرد لا بل قد يصر المجتمع على رؤيتك من استك الحمراء . و في المنطقة التي يتحدر منها علي يتم تقريد كل ماهو ذهولي فيقولون (قرد يا ميت قرد) أو (شحار القرود) أو (قرود اللي تاخدك) فالتقريد فيها شتم للواقع نقله الفلاحون الى ضحك استنتجوه من فلسفة (أكتر من القرد ما مسخ الله) فيقردون الاشياء السوداء ضاحكين ، ليس لأن الضحك ناتج سعادة بل لأن للبلية شر اذا لم تضحك عليه أو منه قتلك .

    ولج غرفته الصغيرة و أشعل سيكارة مارلبورو و سرح في ملكوت التبغ حتى ضبضبت غرفته الصغيرة بالدخان الابيض الذي يغادر الرئتين الصغيرتين في الغرفة الصغيرة في نقطة ما على خارطة دمشق العاصمة التي كان طير الحياة يراها من فوق تطبخ شيئاً لنفسها و يطبخ العالم القوي أشياء أخرى ليطعمها .
    استلقى على سريره الحديدي الذي استجره أخوه الضابط من ثكنته في سيارة الزيل الروسية قبل عدة شهور قائلاً :
    - علي هاك سريراً لك و كفاك نوماً على الارض !
    - هذه سرقة (قال علي)
    - في الشرعية الثورية يحق لي أن ألاقي لك سريراً تنام عليه من الثكنة و أنا من حمل دمه على كفه ... كف عن الهراء ، و رح أنزل السرير من السيارة يلا !
    فكر علي هنيهة فتوصل لقناعة بأن أخاه النقيب محمد على حق خصوصاً أنه لا يسرق (جملاً) و تذكر قصيدة قرأها في كتاب الادب العربي فيها :
    و اني لأستحي من الله أن أرى أجرجر حبلاً ليس فيه بعير

    كان علي يقرأ الفكر الماركسي و يتابع اصدارات دار التقدم (من موسكو) و كان ميالاً طبيعياً للشيوعية و مع أنه كان يملأ جدران كهفه بصور أورنيلا موتي الا أن صورة غيفارا كانت الاكبر .
    فكر علي في الشرعية الثورية التي تحدث عنها أخوه و قال في نفسه من أين سيعيش أهلي دون الشرعية الثورية فمرتب أبي التقاعدي بعد وفاته و ما يقدمه اخوتي لا يكفي سد رمق هذه الاسرة
    خبزاً و ثياباً و لوازم مدرسية و فواتير ماء و كهرباء و تدفئة ... مر بخاطره أخوه الذي يعمل مضيفاً في شركة الطيران و يستفيد من مروره على السوق الحرة في المطار كل يوم ليتاجر بالعطور و الدخان الاجنبي و كل شيء ممكن . هل يزعل منه غيفارا أم تزعل منه زوجته؟ هذا سؤال (تو بي أور نات تو بي – هاملت السوري) فكر بهذا و فكر بساقي الجارة الجميلتين برغم البقع الزرقاء نتيجة عضات زوجها .... و نام .












    في مخفر الشرطة أبو الجود :
    دخلت زهرة و جارتها المضروبة من قبل زوجها الى المخفر و سلمت بقوة و كأنها أرجل من عنترة :
    - السلام عليكم
    - أهلا ست زهرة أهلاً
    - شوف يا أبو حسين هاي أم حسان امبارح ضربها أبوحسان ضرب فظيع .. يا عمي حطولو حد لها الزلمة
    - لا حول و لا قوة الا بالله اقعدي اختي تفضلو
    جلست زهرة على الكرسي قرب منضدة المساعد أبو حسين و صاحت بأعلى صوتها
    - لك انتو الرجال مو رجال
    - نعم (بذهول)
    - أي مو رجال بتتشاطرو ع نسوانكن و هات يا ضرب
    - أي مو الكل ام محمد
    - ما فيكن آدمي و الله
    - (يضحك)
    - عم تضحك آخ لو الله يحكمني فيكم
    - شو بتسوي اختي
    - بلاها هلق بلاها افتح محضر لها المظلومة و جيب هالابن الكلب هددو
    - بس بدي اسمع منها أول
    - احكيلو ولي
    بدأت ام حسان بالحديث باكية
    - يا أبو حسين زوجي ما بيعرف الا الضرب معي و مع ولادو امبارح طلعت مرام بنتي مع رفيقتها في المدرسة
    مشوار بعد الظهر لما رجعت اشبعها ضرب و لما حميتها شوي هجم عليي كسرني
    - لا حول الله
    - عشرين سنة معو و هوي عنيف
    - طيب خلونا نصالحكم
    صاحت زهرة
    - لااااا هادا ما بيفهم الا بمحضر و شهود و تهديد
    - مصرين
    - نعم (أجابتا سوية)
    صاح أبو حسين
    - يا نزار
    دخل شرطي عليه
    - روح جيبلي أبو حسان نعمة من بيتو
    - حاضر سيدي
    - استعجل ها
    - حاضر سيدي
    - تكرمي أم محمد تكرمي و الله لحطو بالحبس هالتعيس
    صاحت أم حسان
    - لا أبو حسين أرجوك هادا أبو ولادي
    قالت زهرة
    - سدي بوزك و لي سدي بوزك خليه يخاف شوي
    - ما بدي حبس
    - ابو حسين بيعرف شغلو خليه يخوفو يا الله قومي معي ع البيت
    تركت المرأتان المخفر و ذهبتا الى بيت زهرة و أوصت زهرة المساعد بتدبر الامر على طريقته ...



    ما ان دخلت المرأتان الى البيت بعد جولة في سوق الخضرة و صنعت زهرة ركوة قهوتها التي تعرفها نساء الحي حتى سمعتا صياحاً و هياجاً تحت شباك البيت ، كان الصوت الحاد العصبي يصيح :
    - يا قحبة أنا بحاسبك ، لك بتروحي ع الشرطة تشتكيني أنا ، لك ما بتعرفي مين أنا ../ هذه الجملة و جملة (اعرف نفسك مع من تتكلم) أصبحت وقتها جملاً شهيرة في مجتمع يحتاج فيه كل شخص لصناعة قليل أو كثير من الوهم حوله /!
    حتى أن أخي – أنا كاتب الرواية- يتحدث عن صناعة الوهم بطريقة جميلة فيقول : لقد احتاج (أبو الزيك) و هو قريب لنا أعرج لصناعة بعض الوهم حوله بعد أن كانت طفولته مشبعة بالتهكم ، ففي حارتنا اما أن يتهكموا عليك أو أن يخافوا منك و لا حل ثالث !
    كان شجار شوارعي عنيف قد بدأ عندما نزل علي الى صاحب الشتائم لكي يؤدبه ، خصوصاً عندما سمح البعاق الشوارعي لنفسه بتناول السيدة زهرة بعبارات قبيحة لأنها تأوي زوجته ، و لم يكتف علي ببعض اللكمات التي يجيدها بل أرسل رفسة بين قدميه وصلت تماماً الى هدف لئيم قد يؤدي بالمضروب الى التنازل عن رجولته .
    صعد علي الى المنزل و على ساعديه بعض آثار الاظافر التي غرزها اليائس أبوحسان .
    - فوت ماما ... فوت صرلك شي
    - لا .. ما يهمك
    - ضربك هالكلب (قالت أم حسان)
    - ما بيطلعلو ... ماما في مي سخنة ؟ أنا جبت طاسة مازوت امبارح ...
    - اي ماما فوت القازان جاهز
    أخذ علي منشفته و دخل الى الحمام بينما أخذت أمه سماعة الهاتف و حاورت رئيس المخفر ...
    صعد علي بعد حمام لذيذ ساخن الى غرفته الصغيرة و كان المساء يحل على دمشق و أهلها الذين بدؤوا بالخروج من بيوتهم لمناجاة ليل دمشق .
    بعد منتصف تلك الليلة و الناس أغلبهم نيام شعر علي بلحم أنثوي يشاركه الفراش و لم يلحظ في نشوته البقع الزرقاء التي شاهدها ظهراً على ساقي الجارة ، لكنه أدرك مشكلتها في تلك الليلة ، خصوصاً عندما شاركته التدخين و هي تتحدث عن فارق السن الكبير بينها و بين زوجها .













    اليوم الكبير جاء يا ابا الجود :

    في لبنان و خلال أيام الألم ، أيام الحرب الأهلية ، صارت وعورة الأرض و قسوة الطبيعة في أيام الشتاء أرحم من قسوة ووعورة بني البشر . دخلت الحرب في مرحلة اقتتال الأخوة و بني العمومة و صارت الحواجز في كل مكان و بات القتل و الخطف و التنكيل و التعذيب أسياد الموقف.
    لقد كان لهذا الواقع ايجابية واحدة فلقد تأكد الجميع أن الحرب لم تكن أبداً بين الهلال و الصليب في لبنان ، بل بين المستقبل و الفوضى ، بين مخطط الدمار و التآمر الصهيوني و الوحدة الوطنية و السلام الذي ينشده كل أبناء الجلدة الواحدة ، أبناء لبنان و أشقاؤهم الذين كانوا هم أيضاً هدفاً لمخططات خارجية.
    في منتصف عام 1981 أصبح كفاح عضواً مقاتلاً في تنظيمات القوى الوطنية ، بلغت سعادته مبلغاً كبيراً بتعيينه قائداً لمجموعة من المقاتلين ، شارك عندها كفاح لأول مرة في قتال الانعزاليين و كان يخالجه شعور عميق بالأسف لأنه كان يؤمن أن هذا القتال يصب في النهاية في مصلحة اسرائيل ، فأولئك الذين يقاتلون في الطرف الآخر هم من العرب أيضاً وليس ذلك فقط بل إن الذين رفعوا لواء لبنان المسيحي يومها كانوا في بداية القرن العشرين (المقصود أجدادهم طبعاً) من حملة لواء القومية العربية ضد الاحتلال التركي و كانوا طلائع حركة النهضة و التنوير العربية ، لقد كان كفاح يقاتل دفاعاً عما يؤمن به وكان الأسف يملأ قلبه ، لشعوره بنجاح العدو في تغيير اتجاه البندقية المقاتلة .
    طلب كفاح من رئيسه المباشر تأمين إخراج قيد (هوية) لبناني له و ذلك تسهيلاً لتحركه في الأراضي اللبنانية ، ولقد حصل كفاح على ما أراد بسرعة نسبياً فأجهزة الدولة المنهارة تحت ضربات الفوضى أصبحت تعمل بدورها لحساب القوى المتحاربة ،و تحت اعتبارات النضال المفترض صار اعطاء الوثائق الرسمية أمراً ممكناً حتى ولو كان في واقعه تزويراً في الوقائع أو الأوراق نفسها . ولم يكن صعباً على كفاح تحدث اللهجة اللبنانية طبعاً ، فقريته حيث مسقط رأسهِ لا تبعد سوى عشرة كيلومترات عن الحدود اللبنانية و معروف قرب اللهجتين السورية و اللبنانية بالمقارنة مع اللهجات العربية الأخرى ! ومع ذلك كان كفاح يحرص حرصاً شديداً على عدم المرور في الأماكن التي أقيمت فيها حواجز غير صديقة لأن خطأً واحداً ربما يكلفه حياته فيما لو تمكن عناصر الحاجز من اكتشاف حقيقته ،

    وبالمناسبةفقد كانت مسألة الحواجز و القتل و الخطف على الهوية مسألة محسومة فإذا كنت شاباً في مقتبل العمر ووقعت في يد عناصر غير صديقة حتى و لو كنت لبنانياً فعلاً و لكن لست من حزب أو ملة توافق حزب أو ملة آسريك فعليك إعداد نفسك روحياً و عصبياً لاستقبال الاعدام ، وفي أحسن الظروف يمكنك توقع اعدام سهل أي بإطلاق الرصاص في مكان يزهق الروح فوراً .
    وكان مبعث خوف كفاح يأتي من تصوراته المختلفة عن موضوع الحواجز فقد سمع من رفاقه في القوى الوطنية حوادث مختلفة عن هذا الموضوع ، خلال سنوات الحرب و منذ بدايتها...
    وكانت أحاديث الشباب في زمن استراحة المحارب تدور في أغلبها حول نوادر وقصص مشابهة ، واكتشف كفاح كيف تصبح قصص القتل والخطف هذه قصصاً مسلية عندما يجتمع الرفاق حول بضعة من علب السردين و بعض الرؤوس الحمراء من ثمرة البندورة و أربعة حفنات من الملح البحري في أربعة زوايا الطاولة ، إضافةً لكثير من الخبز اللبناني الذي كان وحده مسند تلك البطون الجائعة.
    في واحدة من تلك القصص تحدث (جابر نشوان) وهو مقاتل عتيق في صفوف التقدميين عما أسماه (ساعات ما قبل الموت الأخيرة) و اصفاً حالته و هو ينتظر الحكم عليه بالإعدام في معسكر قديم من معسكرات الجيش اللبناني الذي تم احتلاله من قبل القوات الانعزالية و كان كلامه يختلط بنكات زملائه المستمعين إليه وهو يتحدث عن ساعات بقائه في المعتقل و أصوات الجلبة و الأحاديث الغير مفهومة التي كانت تدور في الغرفة المجاورة لغرفته بين امرأة و أربعة رجال مسلحين ، حيث كان يبدو أن هذه المرأة هي المسؤولة عن المعتقل ، وبينما كان جابر يتحدث واصفاً حالته و سارداً قصته من بدايتها سأله (وليد) وهو المزوح دائماً
    - ألم تتبول في سروالك...بشرفك
    - اخرس...(ولك)
    - طيب قلي بشرفك هل هي حلوة.
    - أوه....نعم حلوة جداً تلك (الانعزالية)!
    قاطعهم (حسين شلهب) وهو يضع لقمة في فمه
    - يخرب بيتك و بيته و لك كيف تفكران بهذا في هذه الحالة ، محكوم بالاعدام يفكر بالحلوة..هه مساطيل..مهابيل..حشاشون.
    قال وليد:

    تابع...تابع القصة و اترك الشيخ حسين لأفكاره و نظرياته...
    وتابع جابر قصته و كان (كفاح) وحده يستمع لكل هذا دون أن يهمس بشيء.. ( كانت قصة هروبه الى لبنان تمر على ذهنه من وقت لآخر عندما
    يتم ذكر الأنثى بشكل أو آخر أمامه ) ! . تابع الاستماع لجابر :
    تم ايقافنا و نحن في طريقنا من بيروت إلى بعلبك و كنت قد تركت سيارتي و قررت السفر بسيارة الأجرة (بالراكب) و جلست قرب السائق كان بيننا فتى في الثالثة عشرة و تحركت بنا السيارة من كراجات بيروت وفيها خمسة ركاب و السائق حيث احتلت المقعد الخلفي امرأة بدوية متشحة بخمار أبيض في محاولة منها لتغيير زيها ربما (لأن الامرأة البدوية تتشح بالخمار الأسود) وبجانبها رجل مسن في السبعينيات من عمره ومعه جلست بقربه بنت صغيرة يبدو أنه كانت حفيدته.
    ومن بداية الطريق قال السائق للجميع :
    - يا شباب يوجد حاجز على الطريق فمن معه شيء.....فليبقه في بيروت أو ليتخلص منه...
    هنا قاطع (حسين)، (جابر) قائلاً
    - هوية الحزب هل كانت معك؟
    - نعم (أجاب جابر)
    - حمار
    انتظر قليلاً لتعرف فلقد مزقتها و رميتها من شباك السيارة دون أن يلحظني أحد فأنا لم أكن أثق بالسائق نفسه ولا في الركاب الآخرين ، فأجبت بأنه معي كذا و كذا فلربما قام أحدهم بوشايتي لجماعة الحواجز

    وأكمل جابر روايته ليسجل واحدة من قصص الحرب الأهلية المؤلمة
    حيث نجا من الأسر بأعجوبة !





    قبل ذلك بأشهر الهروب الى لبنان يا ابا الجود:

    كانت التغيرات الكبيرة في حياة المنطقة قادمة و في حياة بطلنا كفاح الذي اختار لنفسه طريق الكفاح بالفعل و لم يصبر حتى يعرف نتيجة امتحان الشهادة الثانوية و غادر الى لبنان كي يصبح عضوا في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين .. كان هذا الطريق هو الاقرب الى شخصيته و ايمانه , و لم تكن الثورة التي قرر خوض غمارها فقط ثورة ضد عدو واحد ... لكنه ادرك رغم شبابه ان اسرائيل هي الاكثر لؤماً و هي مركز العدوان ...انها تسرق الامل . كل الواقع احتاج الى ثورته فقررالثورة !
    كان التسلل الى لبنان سهلا نسبيا و كان صديقه معتز جاهزا لمعاونته بالاتصال بالجبهة التي كان هو عضوا متدربا فيها ...
    في اليوم الاول اعطاه المسؤول المباشر عنه و قد عرف باسم (ابوعصام) بدلة عسكرية و بطانية و خمس علب من سمك الطون حيث رفض صاحبنا اخذ السمك فقال له ابو عصام بلهجته الفلسطينية :
    - ايش يابا بدكش توخذهم ليش رح توكول كبة نية و تبولة .. اسمع حبيبي احنا هون تا نوكل سوا و نموت سوا ... مد ايدك و خوذ العلب هاذا مخصصك يابا ... و لو في شي جديد انا بنادي عليك
    - طيب و ين الكلاشن ( سأل كفاح )
    - كثير مستعجل يا حبيبي .. بدك دورة تدريب
    - طيب انا جاهز
    - ماشي حبيبي من بكرة ابو ثائر عيسى بيستلمك
    - ... (صمت )
    - يالله رفيق اهلين فيك
    - اهلين
    و هكذا يا حبيبنا أبا الجود صار صاحبنا في قلب المعركة :

    خضع كفاح لدورة عسكرية مدة عشرة ايام حيث كان المدعو ابو ثائر عيسى هذا شخصية فريدة من نوعها .. فهو عدا عن كونه مدرب ممتاز فهو محارب مر و لقد استطاع كفاح بعد الحاح ان يرى وشم أبي ثائر عيسى بعد
    أن اصر عليه زملاؤه ان يطلب اليه ان يريه الوشم ...
    كان وشم الرجل في بطنه خلافالأاي وشم اخر و لم يكن الوشم الا علامات تشبه العمل الجراحي في البطن و عندما نظر كفاح مستفسرا قال ابو ثائر :
    - تسع طلقات من رشاش حربي اسرائيلي ... هذا هو الوشم
    نظر كفاح الى وجه الرجل الممتلئ و الى جتته العريضة لقد كان عيسى من حجوم الرجال الكبيرة و كان الجميع يعرف مسبقا انه لا يجب اغضاب عيسى الحمدان , فهو اذا غضب يأكل من يقف في طريقه حيا و عندما يحزن يبكي كطفل صغير ...
    في نهاية الدورة التدريبية قال المدرب :
    - وين تدربت ع السلاح من قبل
    - بسورية
    - روح يا ابني انت جاهز و رح اكتب في تقريري للقيادة انك ولد جدع و بتفهم ... بس بدي اسألك ليش ما كملت دراسة و جيتنا متعلم علام جامعي
    - قصة طويلة
    - طيب رح اكتب كمان في تقريري يساعدوك تسجل في جامعة بيروت العربية
    - ليش بيصير
    - طبعا بيصير و لازم
    - شكرا سيدي
    - قول رفيق
    - شكرا رفيق
    ادى كفاح التحية و انصرف



    كان كل شيء واضحا الا أن أبا ثائر عيسى هذا المقاتل المر كان يسمع كل يوم أغنية (الهوى هوايا) لعبدالحليم حافظ أكثر من مرة فقد سجل الاغنية متكررة على شريط كاسيت و كان كل يوم مساء يسمع الهوى هوايا
    و عندما سأله كفاح عن سبب عشقه للاغنية ..كان الجواب صمتا !!
    كان كفاح يذوب عشقا في نهاية الاغنية عندما يقول حليم :
    لكن و انا كلي حيرة
    مش بملك يا أميرة
    من أحلامي الكبيرة
    غير ضحكي و بكايا ...
    أنا الهوى هوايا .
    في نفس اليوم استلم بندقية كلاشن جديدة و كان ذلك مصدر فرح خاص و تذكر ميساء ..كتب على الكلاشن اسمها ، لم يحسن الرسم لكنه كان يرى عينيها مرسومة على حديد البندقية .
    سيبقى العالم تافهاً ان لم يأت وقت يعرف فيه أن الثوار هم جيوش من العشاق .




























    أما علي يا أبا الجود :
    كان علي يقرأ رسالة صديقه كفاح و هو جالس على كوم البحص و الرمل في مكبس الخفان الذي يعمل فيه في صيف العطلة و تدمع عيناه :
    صديقي علي :
    ذهبت الى لبنان كي أضع نفسي في مكانها الصحيح و هناك أراك .. اتصل بالرفيق أبي منير و هو سيوصلك عندنا.. اذا سألك أحد عني قل له لم يهرب بل بالعكس غيره هارب دائماً من المعركة .
    سلام يا علي للجميع و قبلاتي
    قرأ الرسالة عشرات المرات عساه يفهم أشياء أخرى غير أنه يحب رفيقه موتاً و بعد فترة قام مرة أخرى حاملاً رفشه و عاد لصب الخفان .
    صاح به محمود ريا العامل الاخر
    - علوش عندي شغلة مربحة كتير
    - شو هاي الله يخليك
    - تهريبة
    - تهريب ؟!
    - اي تهريب
    - افرقني لك عمي مو ناقصك أنا
    اقترب منه محمود و همس :
    - لك يا علوش مافي حل الا هيك أخي بيومين تلاتة عمل عشر آلاف ليرة
    - كيف
    - بتعرف تسوق موتور
    - اي
    - خلص تعا نسافر ع الضيعة
    - ضيعتكم
    - اي ع الحدود اللبنانية
    - شو بتهربو
    - تلفزيونات أكتر شي و دخان و مسجلات
    - ع الموتور
    - اي طبعاً
    - بفكر بالموضوع
    و استمر في عمله يرفع الصبة الى قالب المكبس و تطن في رأسه (الشرعية الثورية) .






    بعدك معي ابو الجود ؟! :

    كانت الجبهة الشعبية معروفة للاعلام باسم جماعة جورج حبش او الحكيم و كان كفاح يحب الحكيم الى حد بعيد ويعتبره رمزا وطنيا كبيرا ...لكن كفاح لم يكن يحب الانتساب لجماعة شخص بل للشعبية نفسها ...


    كانت كل المؤشرات تنبئ بقرب معركة فاصلة مع الاسرائيليين فلا يمر يوم من بداية 1982 دون مناوشة حدودية معهم و كانت الاحاديث تدور حول معركة تاريخية يدفع فيها الاسرائيليون خسائر باهظة لا قبل لهم بها , كان مسؤول التثقيف في الجبهة يتعب من تساؤلات كفاح :
    - هل نحن مستعدون لحرب تحرير شعبية ؟
    - هل باقي فصائل المقاومة مثلنا ؟
    - هل الجميع مستعد للاستشهاد ؟
    يجب أن نستعد للاستشهاد

    بعد ان قضى كفاح الستة اشهر الاولى في الجبهة زار دمشق عبر الجبال كما اتى الى لبنان و ذلك لان احتمال التوقيف و التحقيق معه كان واردا
    ( كانت دمشق تريد لكل شئ ان يمر عبرها اكان طاهرا ام عاهرا ) زار كفاح اهله لمدة قصيرة و تحاور مع أبيه حواراً خاصاً عن كل شيء :
    - كفاح انت ذهبت للبنان بعد عشق فاشل يا ولدي
    - المجتمع هو الفاشل يا ابي ! ثم ان آلام الشعب الفلسطيني في قلبي
    لا تظلم قضيتي هكذا نعم لقد حركتني قضية ميساء لكن الثورة في
    قلبي !
    - قبله أبوه و ودعه !

    الوالد هو المدرسة يا أبا الجود !
    نتابع يا ابا الجود !
    في أحد مساءات شهر أيار من هذا العام الذي تنقل فيه كفاح بين لبنان و سورية كان زميله علي يتنقل بالموتور هو أيضا بين البلدين و لكنه كان عندها قد أصبح مهرباً متمرساً و ذا قلب حديدي انقذ نفسه عدة مرات من دوريات الجمارك بألعابه البهلوانية على الموتور حتى صارت قصصه تروى دون أن يعرف اسمه الحقيقي في قرى الحدود .

    أما كفاح فقد عاد ادراجه مثلما جاء، و حين وصل الى مواقع الجبهة و كان هناك مسؤول كبير في الموقع ينفذ قرارًا بانتقال عدد كبير من عناصر الجبهة الى الجنوب اللبناني , كان هذا القائد هو ابوعلي مصطفى شخصيًا كانت هذه هي المرة الاولى التي يلتقي فيها كفاح معه وجها لوجه و لقد كانت للرجل علامات القائد الكبير من حكمة و حزم و تواضع .. كانت الاوامر واضحة وهي التموضع في الموقعة 52 التابعة للجبهة و توقع المعركة في اي وقت ....
    بعد تحضير الجماعة التي ستنتقل للجنوب قام ابو علي مصطفي بدعوة الجميع للقاء سياسي حيث تحدث اكثر من ساعة بالمقاتلين و كان اللقاء مفيدا و تبعه حوار اكثر فائدة ... كانت رائحة البارود في الافق .
    كان شهر حزيران يحمل معه ذكريات أليمة للكبار و حزنا دفينا للاصغر عمرا لقد كان حزيران ظالما مثل قيظه و هاهو يدخل مرة جديدة حارا كالمعتاد و الاخبار تشير الى ان مناحم بيغين قد جمع اكثر من مئة الف جندي على حدود فلسطين الشمالية بقيادة آرييل شارون ..
    استلم المقاتلون مواقعهم اما كفاح فلقد كان له دور خاص كان عليه القيام بمهام استطلاعية لصالح الجبهة و ذلك بأن يصبح سائق تاكسي في صيدا و بين اندهاشه و ذهوله عندما استلم التعليمات و جد نفسه في سيارة مرسيدس 180س و معه بطاقة لبنانية باسم خليل مهدي زيعور ومسدس كان عليه ان يخفيه تحت مقعد السائق ..... و ينطلق .
    لماذا اختاروني انا ؟ هل تكفي تلك النكات التي كنت اطلقها باللهجات اللبنانية المختلفة , طرابلسية و جنوبية و بيروتية ؟ هكذا كان يتساءل كفاح في سره و ينطلق بسيارته القديمة محاولا التعرف على صيدا المدينة البحرية الصغيرة .... كان يحن لرائحة الكلاشن و لوجه ميساء ..
    كان صوت المذيع الساحر انطوان بارود من راديو مونتي كارلو يصلح لاذاعة روايات مشاهير الادب العالمي و كان كفاح يكاد يعتقد حين يسمعه ان هذا الامر الذي يذاع هو جزء من رواية بوليسية يرويها انطوان بارود و تتولى الاذاعة الفرنسية الموجهة وضع الموسيقى المرافقة للامتاع ....


    كانت غارات الطائرات على لبنان و مشاهد القتلى و الجرحى تكذب الراديو الفرنسي الجميل .. لم تكن قصصاً ......انها الحرب .

    كانت اسئلة كفاح لقيادته عن طبيعة المهمة الموكلة اليه و الهدف الواجب رصده كثيرة و كانت الاجابات بسيطة و محددة ( لدينا معلومات عن اشخاص يقومون بالتجسس و ارشاد الجيش الاسرائيلي عن مواقع المقاومة و هم ليسوا من الجنوب , المطلوب الارشاد عن اي شخص غير جنوبي او جماعة يشك بأمرها و خصوصا اذا كانوا يحملون حقائب متوسطة الحجم فالجواسيس يستخدمون اللاسلكي البعيد المدى وهوجهازيوضع في حقيبة عادية اكبر من حجم الشنطة الديبلوماسية بقليل ..
    تلقى كفاح معلومة باللاسلكي من قائده المباشر عن وجود ثلاثة عناصر في جنوب صيدا المطلوب تحديد البناية التي يعملون منها فحصر كفاح عمله في جنوب المدينة و فكر بان هؤلاء لابد انهم استأجروا بيتا او شقة في عمارة .. و بقي يدور في الاحياء المجاورة حتى خطر له ان يسأل مكاتب السماسرة عن شقة للايجار فقد يستدل على شيء من الحوار و بالفعل كان الحظ حليفه فبعد عدة سماسرة لم يكونوا على علم بشيء قرر الموافقة على عرض لشرب الشاي من احد السماسرة و كان يسأله عن شقة و برغم ان دعوة الشاي كانت تشبه اللازمة المعبرة عن كرم صيداوي و انك لست مجبرا لتلبيتها الا ان كفاح بادر قائلا لابي مسعود بلهجة جنوبية :
    - بديش خجلك صب شاي
    - ع راسي ... لك محميد صب شاي للعينتين
    وجلس كفاح على كرسي من القش قائلا :
    - اليوم شوب كتير
    - 39 الحرارة ... قال محدثه
    وصل كأس الشاي بسرعة محمولا على صينية صغيرة فتناول (خليل) الكأس و رشف منه رشفة ثم قال :
    - شو يا عم بدي شقة .. دبرنا
    - شوف يا ابو الحبايب لو جيت من يومين راحت شقة ببناية عثمان هون ع طرف الشارع , استأجروها تلاتي من بيروت !
    - وين بالله وين
    - (بعفوية) هون ع بعد مية متر بناية عثمان ع آخر طابق


    اطرق خليل (كفاح) قليلا ثم اكمل شايه على عجل شاكرا الرجل و ركب سيارته مقلعا الى الموقع , هناك كان رئيسه ينتظر اية معلومة و يستمع الى نشرة الاخبار . كانت كلمات كفاح كافية لجعله يجري عدة اتصالات منها اتصال بالناصريين من جماعة معروف سعد الذين جاؤوا بالخبر اليقين عن هؤلاء الثلاثة حيث تبين انهم هم المطلوبون فعلاً...
    في نفس اليوم ليلا كانت حركة معروف سعد قد تمكنت من افراغ البناية من سكانها سرا و في الساعة العاشرة ليلا كان الحي كله على موعد مع حرب عنيفة استمرت ساعة و نصف ... كانت البداية مع صوت خرج من الميكروفون اليدوي يقول :
    - سكان الشقة 12 في الطابق الاخير معكم خمس دقائق للخروج من الشقة رافعي الايدي .. و كرر الرفيق علي حمادة ما قاله ثلاث مرات و بالانكليزية بعد دقيقة كان واضحا ان سكان الشقة يريدونها حربا حيث بدؤوا باطلاق النار الكثيف عشوائيا , لكن المجموعة المهاجمة كانت قد اتخذت مواقع ممتازة و كان عليها ان تستفز الهدف ليطق ما لديه من ذخائر ثم يبدأ الهجوم كان على صديقنا كفاح ان يحمل الار بي جي و يوجهه الى الهدف منتظرا امر النار و بعد حوالي ثلث ساعة من بدء الاقتحام اومئ اليه بقصف الهدف فاطلق القذيفة الاولى , ثم تناول القاذف الثاني المجهز من الارض و اطلق قذيفة ثانية كانت كافية لاسكات الهدف , اقتحمت بعدها المجموعة الطابق الاخير من البناية حيث الهدف ووجدوا ثلاثة اشخاص كان اثنان منهم مقتولين و الثالث جريح ....
    صادر المقتحمون جهاز اللاسلكي و بعض الاسلحة و المال.. كان واضحا ان الاسرائيليين قد عرفوا بكشف جماعتهم و ما كان من قائد المجموعة المقتحمة الا ان يمسك بسماعة اللاسلكي ليقول لهم :
    - مع تحيات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
    - ............................ (شتيمة)





    أما معتز يا أبا الجود :
    نشأ معتز صديق كفاح و هو فلسطيني لاجئ في سورية في بيئة متدينة ... و ترك أصدقاءه فجأة و لم يعد يسمع عنه خبراً واحداًمن قبلهم ... رحل مع أهله الى مدينة حلب حيث قرر والده تبديل مكان عيش العائلة دون سابق انذار و كانت حجته صلة الرحم فأخته تزوجت من رجل سوري من المدينة
    منذ بضعة شهور .
    بعد أن استوطنت العائلة بيتها الجديد أجلس الأب السبعة أولاد و بنات و أمهم من حوله قائلاً :
    - بسم الله الرحمن الرحيم اليوم هو أول يوم النا في حلب و من هذا اليوم بدنا نغير طريقة حياتنا ..
    - ايش يعني يابا ما فهمت ؟ سألت ابنته سلمى
    - لو انتظرتي أخلص كلامي فهمتي كل اشي ..
    - خلي أبوكي يحكي قال معتز زاجراً
    - الحي الي كنا عايشين فيه في الشام فاسد و الناس بتعرفش ربها و أنا بدي أولادي يتربوا ع الدين الحنيف و ع الطهارة و العفة
    قالت الأم :
    - ايش يعني اولادك فاسدين أبو معتز
    - (بعصبية) قلتلكو بدي أكمل كلامي .... اسمعوني مليح فيش مدارس لمعتز و سلمى و بيسجلوا بكالوريا حرة و أنا بدرسهم و بينجحوا أحسن من غيرهم، و الصغار بيروحوا لأنهم في الابتدائي فيش مشكلة ع الصغار .. بس معتز و أختو كبروا و صحيح سلمى محجبة بس كمان بديش مدارس ! مفهوم
    ساد الصمت و الوجوم على الجميع ... ثم نادى الأب ابنه معتز الى الغرفة الثانية ....
    دخلا الغرفة و أوصد الأب الباب و أجلس ولده قائلاً :
    - اسمع يابا لا تقطع صلاة اياك و راعي أمور دينك و كل يوم المسا بتروح معاي الجامع بتاخد دروس في الدين عند الشيخ ميسر و بعد الدروس بيعطوكم فيزياء و كيمياء و رياضيات و كل اشي ...
    - أمرك يابا
    - أختك ممنوع تطلع من البيت الا على بيت زوجها
    - أمرك يابا
    - جهز حالك اليوم المسا خالك رايح معانا
    - حاضر

    في مساء ذلك اليوم أدى الرجال صلاة العشاء و هم في جلاليبهم البيضاء ثم أحاطوا بشاب في العشرينات يدعى الشيخ ميسر ، و بعد القاء السلام عليه بدأ بالكلام :
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
    بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على سيد المرسلين
    أما بعد فقد تحدثنا بالأمس عن شروط الايمان ومن شروطه أن يقوم المؤمن بتطهير نفسه من الدنس و تطهير اخوانه اذا رأى على أحدهم دنس أو خروج عن طريق الحق ، الطريق السوي الذي أمرنا به الدين الحنيف . ثم انكم ترون انحلال هذا المجتمع ، ترون الاختلاط بين الرجال و النساء و عدم احترام العفة و السترة ، انظروا الى دور السينما و المشاهد الخلاعية التي تدعوا الشباب الى الانحلال و الفساد! انظروا الى النساء السافرات و المتبرجات في شوارع حلب و تساءلوا ماذا سننتظر من الشباب الا الميوعة و السخف و الانحلال .. ان المجتمع المسلم يا اخوتي ليست فيه ظواهر كهذه و لا حل لنا الا بالاسلام !
    هنا استأذن رجل خمسيني بالكلام فقال :
    يا شيخ ميسر نحن مع العفة و الطهارة لكن مانك شايف معي أنو النصيحة بتكفي و كل انسان منو لربو ؟
    - لا لا تكفي النصيحة بل نجاهد للوصول للهدف
    - كيف يا شيخ يعني بجاهد بشو رب العالمين في كتابه العزيز بيقول ادع الى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة و حضرتك عم تقول جاهد شو يعني جاهد ؟
    - (يضحك ميسر ضحكة صفراء) شو حاج حسن أثر فيك اتحاد العمال منيح ؟ بعرفك حجي ما بتقطع صلاة شو حكايتك ؟
    - الحمد لله يا الله السلام عليكم ... و ترك الحج حسن الجماعة مستأذناً
    تابع ميسر قائلاً :
    - هذا النموذج هو المشكلة فكيف نصل الى نتيجة اذا تركنا الحبل على الغارب .... ( بدأ يصيح متشنجاً ) الانحلال في كل مكان يا ناس .. في كل مكان ... الى جهنم و بئس المصير ... الى جهنم و بئس المصير ..
    كان هذا هو الدرس الأول الذي تلقاه معتز في المسجد لمجاور لبيته و كان ذلك في بداية صيف العام 1982 أي قبل أسابيع من غزو اسرائيل للبنان ...
    استمر معتز في حضور الدروس دورياً بتوجيه من والده و مراقبة لصيقة و ما ان مرت أيام حتى استفاق الحي في الفجر على صوت اطلاق نار .. كانت عدة طلقات كافية لقتل الحج حسن وردية عضو اتحاد نقابات عمال حلب و هو عائد الى بيته بعد أدائه لصلاة الصبح في المسجد .
    كان المشهد مؤلماً بالفعل فلقد كاد ولداه أن يموتا من البكاء و أرسلت زوجته في الاسعاف الى المستشفى ... كان معتز واقفاً الى جانب عمود الكهرباء يستمع الى حوارات الناس عن طيبة الرجل و ايمانه و مساعدته لأهل حارته على الدوام ...
    - من قتل الحج حسن (تساءل معتز في نفسه طويلاً)
    في مساء اليوم التالي جاء أبوه اليه و طلب منه الصلاة في مسجد آخر حيث انتقل الشيخ ميسر و انصاع معتز على الفور ..
    دخل معتز الى المسجد بعد أن توضأ في حرمه و أدى صلاة العشاء ثم جلس يتنظر الشيخ ميسر برهة من الزمن دون جدوى و ما ان هم بالخروج عائداً حتى جلس بقربه شخص همس في أذنه :
    - معتز ؟
    - نعم ( استدار بسرعة صوب المتحدث الملثم)
    - أنا من طرف الشيخ ميسر تعال ورائي
    و خرج الرجل من المسجد يلحقه معتز دون أن يدري الى أين يأخذه و بعد الدخول في عدد من الحارات الصغيرة ولج الرجل باباً خشبياً كان مفتوحاً و لحق به معتز .
    دخلا الى بهو دار عربية في منتصفه بركة ماء مصنوعة من الحجر الحلبي الأبيض ، أمسك الرجل بيد معتز و سحبه وراءه وأدخله في غرفة من غرف الدار ثم رفع اللثام عن وجهه فاذا به الشيخ ميسر نفسه .
    - السلام عليكم شيخي هذا أنت
    - السلام عليكم يا معتز
    - أهلاً
    - اجلس .. اجلس
    - شكراً
    - معتز أولاً أبوك يعلم بلقائنا هذا و أبوك رجل و لا كل الرجال
    - الحمد لله
    - نعم الشكر و الحمد أولاً لله .. اسمع يا معتز سأعترف لك بسر كبير
    و لو لم تكن جديراً به لما فعلت
    - تفضل (برهبة)
    - أنا قتلت حسن وردية
    - (صمت و رهبة)
    - رجل منافق كافر ... يتظاهر بالدين و هو مع السلطة .. و السلطة كافرة هي السبب في الانحلال ..
    استجمع معتز كل شجاعته بعد أن ترك لأذنيه و عينيه أن تسمع و تشاهد الرجل الذي صار معلمه لفترة من الزمن برغبة أبيه و سأله :
    - شيخ ميسر ممكن أسألك ؟
    - قول !
    - السلطة في هاي البلد ضد اسرائيل و هياها من أيام المدفعية السورية ضربت ألف قذيفة بساعة على الشريط الحدودي المحتل في جنوب لبنان ...
    - (صاح به مقاطعاً) انت مو فهمان شي بعدك صغير معتز هادا كلو تمثيلييات .
    - طيب لو تمثيليات ليش ما راحو مثل مصر ووقعوا اتفاقية و خلصو !
    - (نظر اليه بلؤم) يبدو اقناعك مو سهل و الله .. بكرة بتفهم ..
    - أنا بحترمك انت بتعرف بس ايش مطلوب مني
    - مطلوب منك تقسم ع القرآن انك تحفظ السر .. أبوك قال فينا نعتمد عليك ..
    هنا فهم معتز أنه أمام جماعة و ليس أمام شخص بعينه فقط و كادت معدته أن تفرغ ما بجوفها .. لكنه تمالك نفسه بينما كان ميسر يخرج المصحف من جيبه و يأمره :
    - ضع يدك على المصحف و اقسم ان تحفظ السر
    لم يجد الشاب بداً من الانصياع للأمر لأن العكس كان سيعني الكثير خصوصاً أنه أمام شخص يعترف بالقتل و استعداده للقتل ..
    (أقسم بالله العظيم أن أحفظ السر ) كانت هذه العبارة كافية لكي تنفرج أسارير ميسر و يضم معتز اليه ثم يقول :
    - ستتعلم ... ستتعلم منا الكثير فأبوك معنا و الابن سر أبيه
    كانت عبارة أبوك معنا مقصودة بالطبع و هي تعني أن لا مناص و لا هروب مما أنت فيه أيها الشاب فرأس أبيك في المشكلة !




















    الأزمة :
    كان الشاب الفلسطيني يحلم مع أصدقائه في دمشق على الدوام أن يكونوا مقاومين ... مقاومين ضد الصهيونية و هاهو أبوه يضعه في جبهة أخرى ... جبهة داخلية ! فكر ملياً أياماً عديدة و كان والده يراقبه و يحاوره أحياناً .. كان كلام الأب يؤدي الى حتمية الصراع الداخلي و معانيه تعني فيما تعنيه أن (كفاح) و (علي) و هم أصدقاء المدرسة و الطفولة و الذكريات هم مجرد كفار يجوز قتلهم !
    ولم يكن بمقدور الشاب اقناع أبيه بشيء ما فهو رجل عنيد و شديد التعصب ...
    وجد معتز نفسه يتدرب سراً على السلاح مع مجموعة من الرجال و استمر الأمر أسابيع عديدة حتى دخل شهر حزيران ...
    (آه من هذا الحزيران )
    في مساء السادس من حزيران كانت الجماعة التي ينتسب اليها معتز و أبوه قد نفذت عمليات تفجير عديدة في حلب جلس الرجال يناقشون الغزو الاسرائيلي :
    معتز : مش شايفين يا جماعة أنو لازم نروح لبنان
    ميسر : ليش هي المعركة الي نحنا فيها مو جهاد
    معتز : بس العدو بيقتل أهلنا في لبنان و احنا هون ايش منسوي بنضرب مؤسسات استهلاكية و نقتل ضباط و عسكر عرب سوريين يا عمي حرام و الله حرام ..
    (صمت و نظرات بين الحضور تعني أن شيئاً ما يجب فعله تجاه ما يقوله معتز )
    أحدهم : يا جماعة معتز اليوم عصبي شوي خلوه يروح على بيته
    معتز : بيتي ليش عاد الي بيت ؟ ما عنديش بيت
    ميسر : طيب .. طيب خلونا نغير الموضوع .... سأقرأ لكم منشور الجماعة الخاص بحرب لبنان .... و لم ينته من كلماته حتى انقلبت الدنيا فوق رؤوس الموجودين في الدار ....
    فجأة سمعت حركات على سطح الدار و خلال ثوان كان الدخان يملأ المكان ... حاول الموجودون الخروج من الباب لكن رشة طلقات من الخارج كانت كافية لاقتناع الجميع أن القبض عليهم صار مسألة دقائق لا أكثر ...
    كان ميسر أكثرهم هلعاً و انفعالاً و بدأ بالصراخ و كسر النافذة مخرجاً رشاشه منها و بدأ باطلاق النار عشوائياً ...
    استمرت المعركة نصف ساعة تقريباً ... انتهت عندما أصبح الموت سيد الموقف ..... مات معتز على جبهة مؤلمة ، بالضبط عندما كان جيش شارون يجتاح لبنان .
    (أيتها الصدف ... لا يصدقك الا الحمقى)





























    هل هي خمسة حزيران ثانية يا ابا الجود :

    في مكان آخر كان الخامس من حزيران 1982قبل الاجتياح بيوم واحد و كان على عناصر الجبهة الاحتفال حيث سمي كفاح معاونا لقائد المجموعة تقديرا لما قام به .رفض الرفاق الاحتفال فهو ذكرى يوم النكسة و كان البعض لديه نظرة اخرى ,
    أما كفاح فبرغم فرحته كان يأسف لان الجواسيس الذين قضي عليهم في صيدا لم يكونوا اسرائيليين بل ... عرب , كان المؤسف ان من هؤلاء عدداً سيقوم فيما بعد بارشاد آرييل شارون لكيفية دخول بيروت فيما بعد .
    كان نبأ وكالات الانباء الاول في المساء هو اكتشاف المقاومة الوطنية لخلية جواسيس في مدينة صيدا , كان صوت انطوان بارود مرة اخرى و كان كفاح يسمعه و يقول : ليتك كنت معنا يا انطوان !
    في هذه الليلة عرف كفاح ان الدكتور عبد السلام هو قائده المباشر و لقد كان طبيبا يعمل في مشفى صيدا ... كان الرفيق عبد السلام انسانا رائعا بمعنى الكلمة تمنى لو كان يعرفه من قبل ...















    انها المعركة يا بو الجود انت جاهز ماذا تفعل ! ؟

    بينما كان العالم كله يشاهد كأس العالم بكرة القدم و يستمتع اغنياؤه بالشواطئ و الحمامات الساخنة , كان الجيش الاسرائيلي يقتحم الحدود مع لبنان و طيرانه يقصف بيروت و صيدا و صور و طرابلس و العالم العربي يتابع الاخبار و كأنه .... يشاهد كرة القدم !!/كنت ايضاً تشاهد كرة القدم يا ابا الجود/ ...كان الفدائيون الفلسطينيون و انصارهم من العرب على موعد مع القدر , على موعد مع انفسهم التي أهلوها خلال السنين و الاشهر الماضية و هم يعدونها بالشهادة ...امتلأ الجو بالحماسة وزادت الاخبار الشباب ارادة و عزما فمن بداية القتال بدا و كأن القادم ملحمة صمود اسطوري .
    و المهربون تحول بعضهم الى مقاتلين و دخل علي الى لبنان
    محارباً و يبحث عن صديق العمر .
    كانت الانباء تحكي عن تقدم صعب للمئة الف عسكري في وجه بضعة آلاف من المقاتلين في الجنوب ... وحدها اذاعة اسرائيل كانت تتحدث عن انتصارات . كان كفاح و رفاقه يتلقون اوامرا بمغادرة الموقع و الاشتباك مع العدو في حرب عصابات و كانت التعليمات واضحة : كل واحد منكم يمكنه ايقاف تقدم العدو في حي من احياء المدينة لو وصلوا اليها ...
    و بالفعل احتل الاسرائيليون صور وكان الصمود رائعا فيها و هاهم يتقدمون نحو صيدا , تلقى كفاح تعليمات بالصعود الى سيارة التاكسي و استعادة شخصية خليل زيعور .. كاد ان يحتج
    - نفذ ... نحن بحاجة الى من ينقل التعليمات ماعاد للاسلكي جدوى الان انه خطر علينا , اذهب و تقمص شخصيتك هذه و انتظر التعليمات .. هاك !
    و اعطاه قائد المجموعة مئة دولار و خمسين الف ليرة لبنانية .. قائلا :
    - سنحتاج اليك .. ابق بعيدا و بين فترة و اخرى احضر لنا خبزا !
    عانق كفاح قائد المجموعة و فهم نصف المطلوب منه و صعد الى المرسيدس و انطلق ...
    كان الطيران يقصف في كل مكان و الراديو يقول : جيش شارون على ابواب صيدا .


    مضت عدة أيام على الاجتياح الاسرائيلي و سطر مقاتلو قلعة شقيف ملحمة بطولية , كانت طائرات اسرائيل تلقي مناشير تحض المقاتلين على الاستسلام :
    ايها المقاتل ارفع الراية البيضاء حتى لا تقتل



    ارفع اي شيء ابيض .. جيش الدفاع الاسرائيلي لا يريد قتلك
    انت تستطيع البقاء حيا اذا استسلمت و سلمت سلاحك
    قرأ كفاح واحدة من هذه المناشير بينما كان يوصل الخبز الى رفاقه ..
    تلقى تعليمات جديدة بالقتال حتى الموت و المقاومة بمحاولة قتل اكبر عدد من جنود المحتل ..
    ركب السيارة و انطلق في مساء ذاك اليوم كادت شظية قنبلة جوية ان تقضي عليه ... كل ما شعر به كان فقدان السمع و الوعي لفترة لا يعرف طولها وعندما عاد الى وعيه اكتشف ان السيارة بلا زجاج و ان ثيابه تلمع من القطع الزجاجية الصغيرة و ان شعر رأسه ممتلئ بالزجاج ... لم يعرف كفاح كيف حمى عينيه .... ان الله اقوى .
    نزل من السيارة و بدأ ينفض الزجاج عن جسمه و ثيابه ثم اخذ من تحت مقعد السائق مسدسه ووضعه على خصره تاركا السيارة ماشيا الى حيث لم يعد يعلم .
    كانت الشوارع خالية تماما من المارة و كان كفاح في القسم الشمالي من المدينة كانت تسمع اصوات الانفجارات في كل مكان و أزيز الرصاص
    كان كفاح يأسف لانه ليس بين رفاقه , كان عليه ان يقاتل وحده و بطريقته اما الرفاق فقد اتجهوا جنوبا للدفاع عن المدينة ..
    كان قرار كفاح واضحا يجب ان التحق بهم , و ما كان امامه من وسيلة سوى الانتقال مشيا على الاقدام عبر شوارع صيدا الفارغة الا من هذا السوري الشاب الذي قرر الاستشهاد على طريقته .
    هبط الليل فقرر كفاح الدخول الى احدى العمارات المهجورة للنوم فقد كان منهكا الى حد بعيد , و دخل الى عمارة مجاورة حيث حالفه الحظ بأن وجد سريرا خشبيا في مدخل العمارة , يبدو انه لبواب العمارة الذي هجرها مع ساكنيها , و تمدد على السرير معانقا اياه و ذهب في خياله الى ميساء حتى نام و كأنها غنت له حتى ينام برغم الحرب .
    بعد ساعتين و نصف الساعة فقط كان صوت قذيفة صاروخ بحري كفيلا بايقاظه , فتحسس مسدسه على الفور و استعاد بعض نشاطه و انطلق مرة اخرى باتجاه جنوب المدينة .. كانت الساعة هي الخامسة صباحا عندما اصابت شظايا صلية رشاش ساق كفاح ووقع أرضا ..
    مرت عدة ثوان تحسس فيها كفاح جسمه و موضع الالم و الدم فعرف ان ساقه اليسرى مصابة و بدأ يزحف باتجاه البناء المجاور ..



    كان يسمع بين اصوات القذائف اصوات سيارات الاسعاف و النجدة و ما ان مرت عدة دقائق حتى ادرك انه قريب من مشفى صيدا .
    وصل كفاح زاحفا الى قرب المشفى و قد فقد جزءا من دمه هناك وجد من يساعده فقد وضعه عدد من شباب الهلال الاحمر على نقالة و غاب هو عن الوعي .



















    صاحبنا جريح و أسير :


    لا يعرف كفاح المدة التي قضاها في المشفى بالضبط حتى استعاد وعيه ليجد الدكتور عبد السلام فوق رأسه بوجهه الاسمر يقول : الحمدلله على السلامة ثم ليعطيه ورقة صغيرة كتب فيها :
    اقرأ هذه الورقة بسرعة ثم ضعها تحت المخدة , اسمك خليل زيعور لاتنسى
    ذلك و انت سائق تاكسي ... اذا استطعت ان تبلع الورقة افعل ..و عد الى التظاهر بالنوم و فقدان الوعي ...
    لم يكن في فمه لعاب يكفي لبلعها فوضعها تحت المخدة .
    كانت ساقه تؤلمه و كان بحاجة لان يعرف ما الذي حصل الا انه ادرك تماما ان المدينة قد سقطت , كان الان امامه فقط ان ينفذ التعليمات .. و هي تؤخذ من قائده المباشر الطبيب الدكتور عبد السلام ..
    عاد صاحبنا الى وضعية النائم او فاقد الوعي مدة يوم اخر كان خلاله يحاول مراقبة ما يجري , كان واضحا ان العمليات القتالية لازالت على اشدها فالاصوات قوية في الخارج و كادر المشفى في حالة استنفار دائم .
    استجمع كفاح كمية كافية من اللعاب ووضع الورقة في فمه و بلعها ..
    بعد نصف ساعة دخل عدد من الجنود يركلون كل شيء امامهم و يتحدثون عربية مكسرة ( يالله خبيبي .. قوم خبيبي .. تعال ابن كلب ...)
    كانت اشارة الضابط المرافق نحو كفاح واضحة : هاتوه !!
    وقف عبد السلام من بعيد يراقب الوضع وهو نادم لانه نزع السيروم من يد كفاح ...الذي وجد نفسه في سيارة الجيب الاسرائيلية .
    كان يشعر بوهن فظيع و لا يقوى حتى على رفع يديه و مع ذلك وضعوه في السيارة و انطلقوا به الى موقع عسكري تجمعت فيه الدبابات الاسرائيلية و

    بقربه اقام الاسرائيليون ما يشبه الثكنة المؤقتة التي تضمنت سجنا عسكريا امتلأ بالمعتقلين ... هناك القي بكفاح بين المعتقلين حيث اشتم بينهم رائحة وجوده التي طالما احب ... و هناك تذكر وجه أمه .


    في اليوم التالي استيقظ صباحا على صوت اقفال الزنزانة . حيث دخل عدد من العسكر و امسكوا به مكررين عليه :
    - تحرك ولاه .. يالله خبيبي (كانت كلمة حبيبي الحلوة تأتي منهم بشعة للغاية) حتى ود لو انه قال : مين حبيبك يا ابن القحبة ؟
    كان عليه ان يقدم نفسه كسائق تاكسي لبناني ابن المنطقة و لذلك كان عليه ممارسة دور اخر غير دور المحارب الاسير !!
    ادخله العسكري الى قاعة مثل قاعة الامتحانات فيها ستة او سبعة اشخاص يحملون اقلاما و يكتبون , اجلسوه على مقعد وقربه طاولة ومد اليه الضابط بورقتين و قلم وكان عليه املاؤهما ..
    الاسم :.....................
    اسم الاب :........................
    اسم الام :..............................
    مكان و تاريخ الميلاد :...............................
    س1: اكتب قصة حياتك منذ الطفولة حتى الان ؟
    .................................................. .................................................. .................................................. .................................................. .................................................. .................................................. .................................................. .................................................. .................................................. .........
    كتب كفاح المعلومات التي كان يحفظها عن ظهر قلب عن خليل زيعور المولود في بيروت من اسرة جنوبية .... الخ
    في الصفحة التالية كان عليه ان يجيب على الاسئلة التالية :
    - هل تحب ابوك ؟ (هكذا بالضبط بالخطأ اللغوي )
    - هل تحب امك ؟
    - من تحب اكثر امك ام ابوك ؟
    - هل مارست الجنس ؟
    - مع من مارست الجنس ؟


    هل لديك اخوة ؟
    - هل لديك اخوات بنات ؟
    - هل تقبل ان يكون لاختك صديق ؟
    - هل تحب الوطن ؟
    - هل وطنك لبنان ام الوطن العربي ؟
    - هل تحب جمال عبدالناصر ؟
    - هل تحب كميل شمعون ؟
    - هل تحب نجوى فؤاد ؟
    - هل تريد ان تكون غنيا ؟
    - كم من المال تحتاج لتكون سعيدا ؟


    كان عقل كفاح يعمل باتجاهين مضطرا فهو يحلل المقاصد من هذه الاسئلة و بنفس الوقت عليه ان يجيب ليس ككفاح المتابع السياسي الجيد بل كسائق التاكسي نصف المتعلم ... و فشل كفاح في تمثيل شخصية نصف المتعلم حيث كان واضع الاسئلة شديد الذكاء ....و كان على الضابط ان يستنتج انه ليس امام سائق نصف متعلم بل هو شخص آخر ...
    ادخل الضابط ذو الملامح الاوروبية كفاح الى غرفة خاصة و قال له بعربية مكسرة :
    - شوف ... بدك تهكي كول شي .. مين انت بيكون ؟
    - انا خليل زيعور
    - طيب ولاه انا بيخليك تهكي
    لن ينسى كفاح بعد ذلك وجه هذا الضابط الاسرائيلي ابدا و سيرافق خياله هذا الوجه الخالي من الملامح طويلا ..
    لم يستطع الاسرائيلي الحصول على شيء من كفاح مع انه استخدم الكهرباء الصاعقة لحرق اطرافه و كان احقر ما فعله الاسرائيلي هو الوقوف على جرح كفاح في ساقه و سكب الماء المغلي على الجرح .. اتبع الضابط كل أساليب التعذيب مع كفاح و كان التعذيب على ما يبدو مهنة هذا الضابط الاساسية و كان الاستلذاذ بادياً على وجهه و هو يعذب ضحاياه .
    اعيد كفاح الى الزنزانة شبه ميت هناك تلقفه زملاؤه و بدؤوا بمحاولة علاجه و كان يهذي :
    - اي بحب عبد الناصر ... اي بحب عبد الناصر
    - قال له شاب اخر .. بس خيي بس مش لازم تحكي هون شي

    رد اخر
    - شو بدك فيه خليه يحكي
    - يا عمي خلص مش وقت خلاف يا شباب
    امضى كفاح الليلة الاصعب في حياته حينها وكان جرحه ينز و يؤلمه
    كان محيط الجرح مزرقا و ملتهبا .. و الكدمات تملأ جسده .
    في اليوم التالي انبرى احد المساجين مقتربا من كفاح متفحصا الجرح صائحا :
    - غرغرينا ... غرغرينا و بدأ يضرب باب الزنزانة بكلتا يديه
    فتح العسكر باب الزنزانة و صاح احدهم
    - ايش في ؟
    - غرغرينا ... مشيرا لساق كفاح
    ضربه العسكري بأخمص البارودة و خرج مغلقا الباب بعنف غير مكترث.
    بعد نصف ساعة دخل العسكر ثانية ووامسكوا بكفاح يجرونه ليذهب معهم
    وخلال خروجه وقعت عيناه على عيني الرجل الذي صاح غرغرينا فوجده يبتسم و يرفع له حواجبه ممومئا له بان الامر عادي و ان لا يخاف ..
    في الخارج و اثناء وضعه في السيارة فهم كفاح بضعة كلمات بالعبرية تتحدث عن وجود دكتور في الزنزانة ..كان المقصود السجين الذي استدعاهم مدعيا وجود الغرغرينا في ساق كفاح ...
    و سمع من العسكر أن الضابط يريد هذا الاسير حياً ! ألقى العسكر بكفاح امام مشفى صيدا و اقلعوا بسرعة ...
    و بعد وقت قصير وجد كفاح نفسه ثانية في السرير و الدكتور عبد السلام فوق رأسه مبتسما , كانت ابتسامته كفيلة بتخفيف الالم المبرح الذي يعاني منه .
    بدأ الدكتور بتنظيف الجرح دون مخدر , حيث افتقرت المستشفى للمواد الطبية و كان الالم لا يوصف لدى كفاح و كان يعض لسانه حتى الادماء .
    في اليوم التالي اعطاه عبد السلام الورقة التالية :
    انتبه هناك عناصر اسرائيلية في المشفى , بيروت تحت الحصار , الاسرائيليون يتكبدون خسائر فادحة , سأخطط لتهريبك من هنا اصبر ابلع الورقة .
    كان طعم الورقة الثانية مختلفا قليلا عن الورقة تلك لكن كفاح كان يشعر بضرورة الهرب من المشفى تحت اي اعتبار ...
    تمكن الدكتور عبد السلام من تأمين مخدر لكفاح ووضع السيروم في الوريد
    حيث نام صاحبنا مثل طفل صغير ..


    بعد عدة ايام سأل كفاح الدكتور عن وضع ساقه و هل صحيح ان فيها غرغرينا و كان الجواب النفي فتذكر كفاح نظرات زميله في الزنزانة ..
    اكل كفاح اخيرا صحنا من الشوربة و الخبز و شعر بعزة الحياة .
    تسلم ورقة جديدة من طبيبه فيها :
    سنهرب هذه الليلة سأكون معك , قد اتدبر الهروب الى قبرص !
    ابق جاهزا و لا تنم .. سنخرج من نافذة المشفى الخلفية .
    و بالفعل في الساعة العاشرة ليلا ساعد عبد السلام كفاحا للقفز من النافذة الخلفية للمشفى و انطلقا يعبران شوارع صيدا و كان عرج كفاح واضحا !
    وبعيدا عن المشفى قريبا من البحر صعدا الى شقة صغيرة في احدى العمارات و دخلاها , كان كفاح حينها يدخل لاول مرة مركز عمليات الجبهة الشعبية في الجنوب اللبناني .
    - سنشغل جهاز اللاسلكي مرة واحدة فقط عند الهروب ... انتبه لا تضغط على اي مفتاح في الجهاز .. سينكشف أمرنا لو فعلت !
    - تمام .. ارجوك اخبرني عن تطور العمليات العسكرية
    - بيروت تحت الحصار ... توجد داخلها كل القوات المشتركة و لواء سوري .
    - طبعا من الجهة الشرقية يحاصرها العملاء
    - اكيد
    - ايش التعليمات
    - الصمود
    - ابو عمار شو بيسوي
    - الرجال بيحارب بس ممكن يفاوض
    - المفروض انروح بيروت
    - لا ... لا تخاف في مقاتلين كتار .. بعدين مافيش طريقة تدخل نملة ع بيروت
    - شو بنسوي
    - في سفن صيد بتمر بالمياه الدولية .. بدنا نطلع بوحدة منها
    - لوين
    - قبرص
    - هذا امر عسكري
    - لا

    طيب انا لازم ابقى
    - احتمال عندك غرغرينا !!
    - ....................... صمت ... ليش ما قلتلي بالمشفى
    - لازم تغادر هون مافيش غير البتر
    - ابترها
    - منشوف لو اضطرينا مافيش حل و انا معك .. بس خلينا نسافر احسن
    - كيف بدنا نوصل سفن الصيد الاجنبية
    - قارب صغير
    - ممكن
    - ممكن
    مرت عدة ساعات استحم فيها الرفيقان و خرج عبد السلام الى الشرفة حيث شاهد ضوءاً خافتاً آتياً من البحر فاشار الى كفاح ان يجهز نفسه للسفر
    نزل الاثنان مرتديين ملابس غامقة الالوان وسارا باتجاه البحر حتى و صلا الى الشاطئ كان كفاح بالكاد يخفي عرجه ... و هناك استطاعا تمييز ضوء خافت على بعد مئة متر في داخل مياه صيدا و كان عليهما السباحة اليه , و بالفعل رميا بنفسيهما في الماء و بدأا السباحة الى الهدف حيث وصلا اليه بعد قليل و كان عبارة عن مركب صيد صغيرة خشبية كان على متنها رجلان بدأا من فورهما بالتجذيف في عمق البحر



















    بعدك معي ابو الجود ؟!:

    بعد ساعتين من التجذيف في الظلمة هربا من البوارج الاسرائيلية كان عليهما الانتظار أكثر من ست ساعات حتى مرت السفينة القبرصية التي
    انتظروها .. كانت السفينة قادمة من الموانئ الفلسطينية (اسرائيل) الامر الذي فسر السماح لها بالابحار . كان المبلغ الذي دفعه عبدالسلام باسكات
    قبطان السفينة الذي قال بالانكليزية :
    - اوكي لكن عليكما القاء نفسيكما في البحر عند الوصول الى نيقوسيا

    - اوكي ... اجاب عبد السلام .... ثم سأل كفاح فجأة
    - هل تعرف السباحة ؟
    كان على السفينة الابحار اكثر من عشر ساعات باتجاه الشمال الغربي حيث
    قبرص تلك الجزيرة التي تشبه بيروت هي الاخرى لكن الله رحمها من أن تكون على حدود .............. اسرائيل !
    خلال الابحار كان الرفيقان يتعرفان على بعضهما أكثر و كان كفاح يقتنع أكثر فأكثر بأن الرفيق عبدالسلام انسان رائع .
    كفاح تحدث عن ماضيه و عن حبه لصديق السفر و روى له ما كان و كأن الله اسكت المدافع من أجل ان يدور هذا الحوار بينهما . كان الحوار دائراً في عرض المتوسط بالطبع و لكن المدافع على الضفة العربية منه كانت تهدر و تهمذر رصاصها في مختلف الاتجاهات ... و لكن صوت عبد السلام الخافت الراوي كان مسموعاً .
    حدثه عن معرفته بالقبارصة فلقد كان مسؤولا عن مكتب الشعبية في ليماسول فترة غير قصيرة ثم مسؤولا عن مكتب الجبهة في صوفيا , هناك حيث درس الطب في جمهورية بلغاريا الشعبية .
    كان عبد السلام مضطرا لاخبار كفاح بحقيقة مرضه :
    - يجب أن تسافر الى صوفيا خلال ساعات انا لا أعلم كيف تحتمل الالم
    - بسيطة .. عندما تقتنع أنه لا مناص منه
    - طيب سنفعل شيئا
    - كان كفاح يشعر بالالم فعلا بين فترة و اخرى لكنه سأل
    - كيف سأتلقى العلاج
    - لا تقلق ستسافر الى بلغاريا من نيقوسيا
    - كيف
    - سنكلم أصدقاءنا

    توقفت السفينة قبالة شاطئ نيقوسيا و رمت البحارة المرساة على بعد من الميناء و جاء القبطان الى عبدالسلام يقول له :
    - عليكما الانتظار قليلا ثم انزلا الى الماء فسلطات الجمارك قد تأتي اليوم للتفتيش و ليس في صالحكما البقاء و ليس في صالحي انها الان العاشرة صباحا اختارا وقت ما بعد الظهر ثم انزلا الى الماء
    - أومأ الطبيب الفلسطيني رأسه علامة الموافقة ثم قال له باليونانية
    - لا تخش شيئا

    نظر اليه رئيس السفينة مبتسما و أدار له ظهره و دخل الى حجرته .
    مضت عدة ساعات على ظهر السفينة قضاها الرفيقان في الحديث و المراقبة بين الحين و الاخر و قام عبد السلام ببعض العلاجات الفيزيائية
    لساق كفاح و أعطاه دواءً مسكناً للألم ...
    في الرابعة بعد الظهر كان الرفيقان في الماء المالح مرة أخرى يسبحان باتجاه الشاطئ و كان على القبطان ان يشير اليهما ان يقفزا في الماء من الطرف الخلفي للسفينة حتى لا يلحظهما أحد ثم يسبحان الى الميناء ...
    أخذت سباحة المسافة منهما خمس عشرة دقيقة كان عبد السلام يسبح فيها في الخلف و يتبع كفاح الذي يجاهد و الالم في ساقه كبير ...
    - يعني ما قتلني جيش شارون بموت غرق ... ها
    - فشر شو تعبت
    - لا ... عم أمزح
    وصل الصديقان الى شاطئ صخري ثم امسك كفاح بصخرة كبيرة مستندا اليها محاولا الاستراحة من عناء كل شيء ...
    كانت كلمات الدكتور واضحة :
    - لا ترتح الان لدينا ايضا الكثير من الجهد حتى نجد مكانا آمنا .. لا تدع عرقك يبرد .... اذا وجدنا (أناستاسيا) سنكون في مأمن
    - من (أناستاسيا) هذه ... حب يوناني قديم ؟
    - تمام هيك !
    كان عليهما عصر ثيابهما من الماء ثم لبسها من جديد و اثناء العصر لمح عبد السلام كيسا من البلاستيك مرميا على الشاطئ فأخذه و قال :
    - كفاح ابق عاري الصدر و هات قميصك
    فهم كفاح ان صديقه يريد الظهور و كأنهما مصطافان اختارا السباحة في هذا المكان و كان لهما ذلك .......
    وقف الصديقان على ناصية الشارع العام ينتظران تاكسي و ماهي الا دقائق
    حتى جاءت سيارة تاكسي و صعدا اليها و كأنهما من أهل البلد
    بعد ساعة كانا أمام عمارة في وسط المدينة , دخلاها و صعدا الى الطابق الثاني كان الدكتور يقول متمتما :
    - اما ان تكون هنا أو ان المفتاح في مكانه
    قرع الجرس و انتظر دون ان يجيب أحد و بعد دقيقة رفع مساحة الارجل حيث شاهد تحتها المفتاح و رفعه قائلا باللهجة الفلسطينية :
    - عيني ربها ... ما شالتهوش من يوم ما انا حطيتو هان

    اخذ المفتاح و فتح باب الشقة داخلا و صديقه الجريح اليها .............
    كانت شقة اناستاسيا هي المكان الذي يرتاح فيه الدكتور عبد السلام و يشعر بأنه من لحم ودم وأن هناك أما بعد أمه الغزاوية التي رحلت الى بارئها , أما حنونا تريد له الخير و كأنه طفلها ..........
    كانت صورة عبد السلام هي صورة الرجل الوحيدة بين صور كثيرة جلها لنساء من عائلة انستاسيا الجدة للوالد و الجدة للوالدة و الام و أخواتها الثلاث و كل هؤلاء النسوة يضعن النظارات على أنوفهن و كأنهن لا يكتفين باسم باباديرس الذي يجمعهن كعائلة بل كان على العدسات أيضا أن تؤكد هذا الرابط العائلي . كانت صورة عبد السلام بالكلاشنكوف و البذلة العسكرية تتوسط الحائط ..
    - هذه صورتي اثناء عملية لارنكا !
    - ........ ينظر الى رفيقه باندهاش قائلا (أنت)
    - نعم أنا
    - لكنك تغيرت
    - .... سبحان من لا يتغير ! بعض العمليات الجراحية كفيلة بأن يصبح
    محمد هايش عزام , عبدالسلام الحريري و يدرس الطب في بلغاريا و هكذا!....
    ........... صمت كفاح و نظر الى صاحبه بتمعن
    - هيا اذهب الى الحمام حتى اجد لك ملابس مناسبة , اتمنى ان اجد ملابس
    رجالية حتى لا تضطر للبس احد فساتين انستاسيا !
    وقف كفاح برهة ناظرا الى رفيقه ثم قال :
    اولا : ليس عندي غرغرينا
    ثانيا : نحن مكلفان بعملية
    ثالثا ( بنرفزة ) : من حقي أن اعرف !!!!!
    - كنت متأكدا رفيق كفاح و كل القيادة انك شديد الذكاء
    - اخبرني ارجوك
    - كفاح العدو قوي عسكريا و الطريقة الوحيدة لهزيمته ايقاظ هذا العالم الحقير الذي يشاهد كرة القدم بينما يموت اطفالنا
    - رفيق انا لا احتاج لمن يقنعني بذلك انا احتاج ان اشعر اني اهل ثقة !
    - سيأتي الوقت المناسب .. يجب اولا ان نعالج جرحك جيدا
    ذهب كفاح (يعرج) الى الحمام و لكن قبل ان يدخل سأل عبد السلام :
    - دكتور اناستاسيا زوجتك و هذا بيتك صحيح

    - صحيح
    دخل كفاح الى الحمام و فتح الماء الساخن ووقف تحت الدش شاعرا بأنها من أكثر اللحظات متعة في حياته , انه الحمام الثاني منذ عدة اشهر لابد ان رائحة جسده كانت مزعجة للاخرين و لكن من يفكر بهذا في حمام الدم الشرق اوسطي الذي اتى منه (سباحة) قبل سويعات ..
    خرج من الحمام تحت ضغط و صياح صديقه الذي قال
    - ثخنتها .. يابا شو بدك تخلص مية نيقوسيا .. اطلع يابا !
    دخل صاحبه الى الحمام و خرج كفاح ليجد امامه فستانا قد وضع على الكرسي المجاور و سمع الدكتور يصيح من الداخل :
    - البس الفستان ما تخافش ... مش رح اخربط فيك
    - بيطلعلكش
    - (من داخل الحمام) شو بقيت تحكي فلسطيني يا ابن حمص العدية !
    - .......... (ضحكات)





    سمعان ابو الجود الفلسطينية عم ينكتو ع الحماصنة !





    حنان أناستاسيا يا أبا الجود :

    كان حنان اناستاسيا لا يصدق ضمت زوجها و بكت كانت ترطم باليونانية اشياء لم يكن كفاح يفهمها لكنه كان يفهم و يدرك قيمة المحبة التي تعمر قلب هذه المرأة ... كانت اناستاسيا امرأة ممتلئة قليلا و تضع نظارات على عينيها و كانت من ذاك النوع من النساء اللواتي خلقن لكي ينجبن عشرة اولاد و مع ذلك لم تكن هذه المرأة أما ابدا ...
    سألتهما عن المعركة و ماالذي يحصل في لبنان سألت عن بعض الاصدقاء
    و كانت وهي تسأل تضع ما توفر لديها من طعام على الطاولة .
    - تفضلا

    - تقدم الرجلان الى طاولة الطعام بين التصديق و عدمه و بدأا بالاكل بشراهة
    - افتحي الراديو آنا من فضلك
    - ال بي بي سي ؟
    - نعم
    فتحت الراديو على اذاعة لندن بالعربية كان كل شيء يوحي ان بيروت ستنهد على الرؤوس , رؤوس الجميع و كان ابطال المقاومة صامدين
    كان كفاح لا يزال يحس بالالم في ساقه , كتب عبد السلام لزوجته وصفة طبية لاحضارها من الصيدلية و طلب الى كفاح الاستلقاء على السرير
    و عندما عادت آنا مع المستحضرات المطلوبة كان كفاح على موعد مع عمل جراحي بدأ بابرة مخدر موضعي بدأ الدكتور عبد السلام بعدها بمساعدة زوجته بالعملية الجراحية قائلا :
    - اعتقد ان شظية لا تزال موجودة في ساقه لم نكن في المشفى قادرين على تقديم العلاج الكامل ... علي اخراج الشظية


    في مساء ذلك اليوم استيقظ كفاح ليجد نفسه نائما في غرفة مجاورة وساقه ملفوفة بالشاش الابيض , كان لا يزال يشعر بتأثير المخدر بعض الشيء وجد بقربه كأسا من الماء فشرب منه قليلا و حاول العودة الى النوم عبثا فبدأ يستعرض شريط الاحداث في عامه المنصرم .........( أهله ، قلبه ، رفاقه ، الجرح ، العدو ، الأسر ) لم يكن يتوقع ابدا ان يقع في اسر الجيش الاسرائيلي يوما ما و تذكر سحنة الضابط الاشقر الذي حقق معه و عذبه , كان هذا الوجه الاوروبي الملامح لا يغيب عن بال كفاح دون ان يجد تفسيرا لذلك !
    كانت أسرته في باله و كانت ميساء في باله أيضا كان يقول في سره ( هل تفهم ميساء خروجي الى لبنان مقاتلا ؟ )
    كانت افكاره تدور حول ما يجري في بيروت الان و كانت الافكار تتوزعه بين نشوة لصمود المقاتلين و نقمة على الحكام العرب ...
    في اليوم التالي استيقظ كفاح على صوت نقاش حام بالعربية في الغرفة المجاورة :
    - يا أخي خلي يموت عند كل عمارة ف بيروت عسكري اسرائيلي
    عندك عشر الاف عمارة يا صبحي .. بتنهزم اسرائيل

    - بنشوف ... بنشوف دكتور يعني هاي الامة العربية بدها ضرب صرامي .... يلعن ابوهم كلاب .. فيش شرف عندهم ؟
    - صبحي انا موافق انو هيك بس هادا أمر واقع و المعركة اليوم بتتكثف كلها ف معركة بيروت ..... يعني كل الصراع هو معركة بيروت و لازم نكون كدها ... و معنا شرفاء العالم
    - ................... (يشتم بعنف )
    دخل كفاح مترنحا الى غرفة الجلوس و نهض عبد السلام مسرعا لمساعدته صائحا :
    - ليش كمت من سريرك
    - بكدرش نام اكتر
    - شو هياك بتحكي فلسطيني معاي بتبطلش ها العادة , هسع صبحي بيفكرك خلايلي و بيبطل ياخد راحتو
    - لا.. لا خليه ياخد راحتو
    - عشنو عم يسب ع العرب
    - بدو مساعدة ....
    - نسيت اعرفكو ببعض الرفيق كفاح من رفاقنا في الجبهة , الاخ صبحي
    حركة فتح
    - تشرفنا ... قال الاثنان في وقت واحد و أكمل كفاح
    - خيو عايش مع الفلسطينية سنة بلا انقطاع و بدكش احكي فلسطيني بعدين ليش خلايلي لاني حمصي و الاتنين بتنكتو عليهم
    - هيك شي
    - اي و الله ربحنا
    دخلت آنا تحمل صينية عليها كؤوس القهوة و هي تقول بعربية مكسرة :
    - همدالله أسلامتك
    - شكرا .. الله يسلمك
    - How do you feel now ?
    - It is oky thank you
    قال عبدالسلام :
    - بدك تشوف ايش كان في رجلك ؟
    - طبعا
    قام عبدالسلام الى غرفته و احضر له قطعة صغيرة معدنية بحجم رصاصة الكلاشنكوف و اعطاه اياها قائلا

    - احمد ربك ما فاتت في العظم
    - بسيطة
    - شوف يابا معك ثلاثة ايام لتشفى و الا ننفذ العملية انا و صبحي فقط
    (صبحي معنا و من غير أمر قيادة فتح لازم تعرف )!!
    - انا مستعد تحت اي ظرف
    - لا لازم تكون معافى الحكاية مش سهلة
    - ماشي ماشي ايش العملية
    - خطف طيارة
    - اسرائيلية
    - يا ليت بس رح تكون اميركية هالمرة
    - نفس الشي
    - طبعا نفس الشي
    - تفاصيل
    - مافيش اي تفاصيل


    ( أبو الجود يقول مظفر النواب : سأبحث في فم طفلي عن سن تجرح من
    أجل قضية ) !




    على الطريق يا ابا الجود :


    كانت كافية رسالة من حرفين وصلت لعبدالسلام لكي تنهي العملية وصلته قصاصة ورق كتب عليها فقط (لا) بتوقيع الرفيق أبوعلي مصطفى فهم


    منها عبدالسلام ان العملية الغيت و ان المطلوب فقط التصرف الذاتي الكيفي. (ألغيت ألعملية) !!!




    كان عبدالسلام قد اتصل بالسفير البلغاري في قبرص و شرح له الموقف و اعطاه السفير كل المطلوب لكي يؤمن له و لرفيقه الجريح سفرا للعلاج الفيزيائي في بلغاريا و كان عبد السلام قد اتصل ايضا بالرفيق (دوبري جوروف) وزير الجيش الشعبي البلغاري الذي اصدر اوامره بالمساعدة الفورية , و لم تكن المساعدة هذه سوى جوازي سفر ديبلوماسيين بلغاريين و بطاقتي سفر الى صوفيا و بعض المال .
    كان الصاعدون الى الطائرة المتجهة الى صوفيا ثلاثة , (آنا ) الشيوعية اليونانية و عبدالسلام و كفاح و هما حاليا ديبلوماسيان من بلغاريا تعلم
    احدهما و هو كفاح فقط أن يقول اذا سئل :( دوبر دن اسام بولغارسكي
    ديبلومات ! كازفام سي مارين مارينوف !) مرحباً أنا ديبلوماسي بلغاري
    أدعى مارين مارينوف .










    هل انتهت ثورة كفاح الاعرج يا ابا الجود و بدأت أيامك ؟




    وهكذا يا ابا الجود وصل صاحبنا بقدرة قادر الى بلغاريا و اصبح اعرج عربيا بنظر البعض اما انا فكنت اراه الجميل الجريح ذا الطلعة البهية الذي و كأنه خسر على جبهة الحب و الحرب لكنه لازال يقاتل ! و مرت سنوات
    و سنوات سيدرس و سيتزوج فيها و يعيش هناك بعيداً و يشهد سقوط الاشتراكية و يبدو شخصاً عادياً و كأنه ليس ذاك الفتى الذي ذهب ليغير العالم من جنوب لبنان بل و سيعتني كفاح بتغيير حفاضات ابنه الصغير و هو يساعد تلك التي ستصيرزوجته البلغارية . حيث صارت ميساء ذكرى. درس كفاح الصحافة و عمل في مجالات عدة و لكنه كان يشعر و كأنه وضع رأسه تحت الماء و لم يعد يسمع شيئاً !!
    تعال معي لترى (ان الحياة اليومية مقبرة لاصحاب القلوب الشجاعة)

















    المفارقة الكبرى هنا أن الرسائل بدأت تصل منك يا أبا الجود فقد قرأت خلال سنين التنظير التالي :
    المرسل أبو الجود
    رسالة رقم 1
    مرحباً عزيزي
    طمئنونا عنكم
    نحن بحمد الله بخير و أعمالنا تسير بخطا ثابتة لن أحدثك يا صديقي عن حسابي في المصرف لأن الأهم هو أن المصرف يثق بي و باسمي و يقف و رائي في كل مشروع أدخله .
    لقد شعرت من رسائلك يا صديقي بعض الحسد و الغيرة و اعلم أني لا أكترث فالعالم الذي لم تدرك أنت معانيه هو عالم الذئاب الضالة و ان لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب .
    صحيح أنك تشك في مصدر قوتي و ثروتي لأننا أصلاً نعرف بعضنا جيداً الا أنك لم تنتبه يوماً لذكائي عندما كنا في المدرسة و كنت تتعالى علي .
    بكل حال فلقد قررت أن أبني مسجداً .



    المرسل أبو الجود
    الرسالة رقم 2
    مرحباً
    لماذا تحقد علي ، انتم منذ أول التاريخ حاقدون على من ينجح
    نعم انت محق أن طبقة جديدة تتشكل عندنا و ان لنا صداقات و اعمال مع الرأسمال الوطني ... ما المشكلة ؟
    هم يحتاجونا و نحن نحتاجهم ، فما المشكلة ؟ هل على الفلاحين أن يبقوا كذلك على الدوام ، ثم أنا لست فلاحاً يا عزيزي ، جدي كان مزارعاً هذا صحيح و قد فلح أبي الارض قبل أن يتدرج في الحكومة و لقد ولدت أنا في المدينة و لم أكن فلاحاً في يوم من الايام ، أنا أحببت التجارة و الاعمال و هذا العالم يليق بي فهل رأيت يدي يوماً الا ناعمتين فهل تريدني أن أعود لفلاحة الارض حتى لا تتهمني بالفساد ؟



    المرسل أبو الجود
    الرسالة رقم 3
    مرحباً
    أعتذر لأني لم أراسلك مدة طويلة فلقد تعصبت عليك في المدة الفائتة و كنت قد قررت أن ألغيك من حياتي ، لكنني بالامس تذكرتك لا أعرف لماذا ، فقط تذكرتك
    ايه كيف الحال ؟ الاولاد و الزوجة ؟
    اظن أنك هدأت و لم تعد حاقداً علي ... ها ؟
    بالامس مر من عندي سعد صديقنا القديم فتذكرتك ، جاء يطلب وظيفة مسكين حاله بالويل ! مع أنه كان متفوقاً أتذكر؟
    كنتما متفوقين و الان أوظفه أنا عندي .
    على فكرة انتهيت من بناء المسجد و اسميته على اسم والدي !
    ها .. ابي يقرئك السلام الحمدلله كان مطلوباً في قضية و مرت بسلام .


    المرسل أبو الجود
    الرسالة رقم 4
    مرحباً
    ما هي أخباركم هل يعجبك ميخايل غورباتشوف بصراحة أنا معجب به بصرف النظر عن رأيك ، يعني كفى تزمتاً و انغلاقاً ثم انظر كم يعاني الشعب عندكم ها ؟ ما رأيك ؟ ارسل لي .




    المرسل أبو الجود
    الرسالة رقم 5
    مرحباً
    لم تعجبني تحليلاتلك لقد توقعت أن تقول ما قلت أنت تتهمني بأني خنت الفقراء و أن غورباتشوف يشرعن فعلي فقط و يفلسف انحراف الهدف ! لكن قل لي لو سمحت أليس الحل البديل هو المال و الاعمال و التجارة و الرأسمالية ... ها ؟
    ماذا فعلت اشتراكيتكم ؟ حتى والدي الذي كان أحد مناضلي الفكر الاشتراكي آمن الان بعجزها ! تعال و انظر انه لا يفارق التجار الان و يبني معهم البلد ... كن واقعياً و كفاك هراءً . لقد فوتنا الكثير في بلدنا و كان يمكن أن نكون في واقع أفضل بكثير و كان يمكن أن نتمتع بالحرية .
    انصحك بالوقوف مع غورباتشوف و ان حركته الاصلاحية ممتازة و سوف ترى .


    المرسل أبو الجود
    الرسالة رقم 6
    مرحباً
    لقد أسست مجلة سأسميها (بون شانس) و أنت مرحب بك لكي تكتب فيها ، و اكتب ما شئت فأنا أعشق الحرية و حتى لو خالفتني سأنشر لك .




















    النظام الشيوعي يحتضر أبا الجود :
    كانت حياة كفاح في بلغاريا تبدو شبيهة الى حد ما بحياة أي طالب اجنبي في البلد . و لكنه كان مختلفا يراقب كل شيء ..و امتدت السنون حتى نهاية عقد الثمانينات التي كان ضجيج غورباتشوف يملأ بها العالم و كانت الاشارات القادمة من موسكو (البيروسترويكا) تملأ نفسه بشعور متناقض ، و بتوجس و كأنه كان يحس أن أحدا يصر على كتابة (نعوة) لموسكو و الخلاف على صورة المنعي ليس الا ! و من ناحية أخرى كان يعاني كفاح و يرى ايضا سوء الواقع الخدمي في المدن الاشتراكية التي لا تستطيع كلها انتاج صحن (شاورما) واحد !!! كان يفهم المخاوف و كان يرى الاحتجاج في العيون و لكنه كان يتمنى أن يسمعه المحتجون قائلا : احذروا و انتم تصلحون بلادكم من قتلها !!! فهناك أشياء جميلة بل رائعة الجمال أسسها هذا النظام .
    كان كفاح يذهب دوريا الى مشفى (غورنا بانيا) في صوفيا لاجراء جلسات علاج فيزيائي لساقه التي ماعادت كما كانت من قبل و كان يذهب للجامعة لحضور المحاضرات و كان مكتب الطلبة الاجانب يعطيه (مئة و عشرين) ليفا بلغارية كل شهر منحة ليعيش بها و غرفة في مدينة الطلاب يشاركه فيها طالب من فيتنام حولها الى مكتب لتصريف العملة !
    (بينما القديس يصلي يتعب الشقي في الحفر وراءه)
    .















    مشاهد احتضار (مبسوط أبو الجود ):
    عاش اثناء دراسته مع صديقة بلغارية مدة من الزمن و كان ينوي الزواج منها و لكنها كانت تحلم بالهجرة الى الغرب .
    في يوم عطلة كان كفاح مع (ماريا) في منزلها الصغير و استيقظا ليجدا أن أرض الشقة قد غرقت بالماء الآسن و كانت الرائحة لا تحتمل . بدأ الشابان البحث عن (سمكري) عبر الهاتف و باءت محاولاتهما بالفشل الا أن جاراً لهما أعطاهما رقماً هاتفياً و اشار بامكانية الاتصال به و أنه يعمل خارج الدوام ! و لكنه (غالي) !! و قال (كفاح) : لا مشكلة سنتصل .
    و اتصل كفاح بالرجل :
    - مرحبا
    - مرحبا
    - السيد كوليو
    - نعم أنا هو
    - أنت سمكري
    - نعم .. ماذا تريد
    - سيد كوليو عندي مشكلة طافت أرض المنزل و احتاجك و سأدفع لك
    - طبعاً ستدفع لي .. لهجتك أجنبية ؟
    - نعم أنا سوري
    - العنوان
    - بناء 225 بوروفو الطابق الثامن
    - ربع ساعة أكون عندك
    خرج كفاح الى الشرفة لكي يتخلص من الرائحة و لكي يستشرف قدوم صاحب السعادة السمكري و بعد فترة دخلت سيارة مرسيدس 220س الى الحي – أغلب سيارات البلد كانت روسية و هذه السيارة دليل غنى فاحش عندها – آخر ما كان يتوقعه كفاح أن يكون صاحب المرسيدس هو مسلك البلاليع المطلوب ! لكن الأمر كان كذلك بالفعل . توقفت المرسيدس بكامل قيافتها و هيبتها أمام البناء العالي تتمختر على نظيراتها بنات روسيا و تشيكوسلوفاكيا و ألمانيا الشرقية من اللادا و السكودا و الترابندا ، و نزل منها رجل ثلاثيني نحيف يرتدي طقم سموكن و ربطة عنق و يحمل حقيبة ديبلوماسية (شبه برنار كوشنير وزير خارجية فرنسا بعد عشرين عاما الخالق الناطق) بعد دقائق قرع سعادة السمكري باب الشقة و دخل و كأنه طاووس بذيل كبير و بدأ يعالج بلوعة المرحاض بحب شديد و نجح في تسليكها بعد ربع ساعة من العمل و سلخ عشرين دولاراً كان قد شارط كفاح عليها قبل قدومه و رحل (عندها كان هذا المبلغ يساوي مرتب شهري لاستاذ جامعي) !
    هذا كان يحصل يومياً ياأبا الجود
    ترك كفاح صديقته التي هربت للغرب و عاد الى العيش مع زميله الفيتنامي و كان يدعى (هونغ تشين)وكان كفاح محتارا بين محبته ل (هونغ) و رغبته بأن يكف هذا الشيوعي الذي حارب امريكا عن تصريف الدولارات و العمل مخالفا للقوانين بهذه الطريقة ... أما (هونغ) فكان لا يأبه و يبتسم لملاحظات كفاح الذي كان الجميع يظنونه فلسطينيا و لم يعرف الا القليلين أنه سوري و من مدينة حمص .
    في عام 1989 و في ليلة ظلماء قرع باب الغرفة410 بشدة في المدينة الجامعية و لم يكن هونغ في الغرفة ، كان كفاح وحده نائما بعد يوم متعب . قام كفاح ليفتح الباب مستهجنا الطرق غير المؤدب و عندما فتح الباب وجد الشرطة (الميليتسيا) على الباب و دون استئذان دخلوا الغرفة و فتشوها بسرعة و كأنهم يبحثون عن شيء محدد ووجدوا مبالغ مالية تتعلق بهونغ الفيتنامي و سألوا كفاح عنه فقال :
    - هو ليس هنا و لابد سيأتي
    - يجب أن تأتي معنا !
    - أنا !؟ (باستغراب)
    - نعم انت هيا
    لبس كفاح ثيابه و خرج مع الشرطة التي اخذته الى المركز القريب ، كان كفاح يعلم جيدا انهم يعلمون من هو و انهم يعلمون انه نظيف و ان هونغ هو المطلوب لكنه كان يتوجس لانه ايضا يدرك ان بلغاريا لم تعد بلغاريا و ان الفوضى سيدة الموقف و ان كل شيء محتمل ! كان يريد الاتصال برفاقه لكنهم منعوا عنه حتى هذه و كان الضابط فظا الى حد بعيد !









    كفاح في السجن ثانية يا ابا الجود !

    رمي بكفاح في السجن مع المجرمين العاديين و كان صاحبنا على موعد مع قدر جديد (تهمة كاذبة بالاتجار في السوق السوداء و تصريف العملة) و برغم ان الشرطة احضرت هونغ في اليوم التالي الا ان نفي كفاح الحاد و اعترافات هونغ بانه هو المعني و ان كفاح بريء لم تقنع المحقق الذي اصر ان كفاح شريك في الموضوع و ان براءته لا يمكن اثباتها الا بمبلغ (خمسة الاف دولار) !! كان صاحبنا عاجزا عن ايجادها بالطبع .......
    حوكم كفاح و هونغ محاكمة سريعة و حكم على هونغ بالسجن مدة سنتين بسبب الاتجار بالسوق السوداء و حكم على كفاح بالسجن لمدة ستة أشهر لعدم التبليغ عن نشاط شريكه في السكن ، و هكذا كان كفاح على موعد مع قدر من نوع اخر و ضعه مع المجرمين و هو الشاب الجامعي المحترم الذي بدأ حتى بالتحول الى التدريس في الجامعة في قسم اللغة العربية و كان يتهيأ لتقديم أوراقه لتحضير رسالة الدكتوراه في الصحافة !
    في السجن تعلم كفاح دروسا حياتية جديدة فرأى بأم عينه صورا عن انسحاق الهيبة الادمية تحت اقدام سطوة الاقوياء على الضعفاء و سيادة


    العنف و القسوة و الشذوذ الجنسي ... و تذكر ذاك الضابط الاسرائيلي بالطبع .
    كان للاجانب مهجع خاص و عندما أرسل كفاح اليه بعد عدة أيام من تحويله الى سجن صوفيا المركزي و دخل الى مهجع الاجانب ذهل ذهولا شديد و سرت القشعريرة في بدنه عندما رأى شخصا يعرفه جيدا في السجن
    أمام علي وجها لوجه يا بو الجود !
    تسمر كفاح في مكانه و هو يدخل الزنزانة الكبيرة التي تضم عددا كبيرا من الاسرة و المساجين فلقد رأى أحد اصدقاء المدرسة و الطفولة معه يشاركه حبسه رأى (علي) صديقه القديم في الزنزانة يلبس لباس المساجين !!
    التقت العيون الاربعة مع بعضها دون تصديق و التجمت الافواه و لم تخرج الكلمات الا بعد وقت :
    - علي ...
    - كفاح ..
    تعانقا و بكيا بشدة
    كانت رواية علي مؤلمة لما حدث معه فلقد كان يتاجر بالشنطة عبر تركيا و بلغاريا و رومانيا فوضع له تاجر حلبي كما قال حشيشاً في بضاعته هكذا بكل بساطة و استغراب ...
    كان السجن مؤلما و لكن فرصة لقاء سعيد تحققت فيه (هذه حقيقة)
    علي لم يدخل الجامعة حسبما روى لصديقه فلم تكن اسرته قادرة على انتظاره ليدرس و يساعدها ! كان عليه أن يعمل
    هو أيضاً حاول الدخول في معركة ال 82 لكن القوات السورية أعادته الى سورية لأنه غير جاهز للقتال .
    حدث كفاح عن كل ما جرى معه منذ افترقا ، حدثه عن سجله كمهرب محترف و عن أنه جمع بعض المال و تزوج و له بيت و ولدان في دمشق و لديه محل صغير أجره قبل مغامرته الاخيرة في محاولة الكسب عن طريق تجارة الشنطة الى رومانيا و بلغاريا و روسيا .
    سأله كفاح :
    - لك علي لتكون شغلة الحشيش شغلتك ولاه ؟
    - (صمت)
    - لك شو وصلك لهون
    - انت بتعرف
    - لا بدك تشرح لي
    - كفاح الدنيا صراع ذئاب عم تنهش بعضها
    - و أنت نهشت مين ؟
    - لا تنبش جروحي !
    - قديش حكموك
    - خمس سنين
    - صرلك قديش
    - سنة
    - ضيعت حالك وولادك








    مرت عدة أيام و كان كفاح يريد في كل يوم أن يسأل علي ان كان يعرف شيئا عن ميساء و كان شيء مجهول يمنعه .. لا يعرف ما هو ! ثم سأله:
    - علي أتعرف شيئاً عن ميساء ؟
    - ميساء تزوجت يا كفاح
    - هل أنت متأكد ؟
    - نعم يا صديقي عرفنا كلنا ذلك ، لقد تزوجت من مهندس قريب لها يعمل في كندا و سافرت معه الى هناك
    كان على كفاح الذي تعود الألم أن يعيشه وقتها للمرة الألف لكن هذه المرة تختلف ، ما الذي يعن على بالك عندما لا يتبقى لك شيء .. أي شيء حتى الحلم ! قال المغني وقتها :
    خسرت حلما جميلا
    خسرت لسع الزنابق

    لقد تعود كفي على جراح الاماني
    و ما خسرت السبيل
    و ما
    خسرت السبيلا















    الخروج من السجن قبل مرور الوقت :
    هل لأنه حسن السير و السلوك ؟
    هل لقضائه ثلثي المدة ؟
    أم لماذا أخرج كفاح من السجن ؟
    الجواب كان بأن الشيوعية سقطت و أن هذه التهمة سقطت رسميا عن كفاح و هونغ (صار كفاح يدعوه هونغ اللعين في السجن) ...
    تبلغ كفاح قراراً من مدير السجن بضرورة الاستعداد للخروج من السجن خلال ساعة و بسرعة و بين المذهول و اللا مصدق و جد نفسه خارج اسوار السجن و لم يستطع حتى توديع (علي) كما يجب و اكتفيا بالاتفاق على موعد زيارة و و ابلاغ اهله انه بخير .
    خرج كفاح من السجن ووجد نفسه في شوارع المدينة القلقة و الحركة فيها غريبة ايما غرابة !
    انه العاشر من نوفمبر تشرين ثاني 1989م اليوم اعلن عن استقالة تودور جيفكوف و تغيير اسم الحزب الشيوعي الى الحزب الاشتراكي و خروج كفاح من السجن .
    كان صاحبنا يبلع علقم المتناقضات أنقذني الشيوعيون و ساعدوني ثم سجنوني و هاهم أعداؤهم يساعدونني و يطلقون سراحي فماذا هم فاعلون ببلادهم و المستقبل .... و معي !
    من السجن اتجه كفاح ماشيا في قلب المظاهرات عبر شوارع صوفيا كانت المظاهرات من الطرفين زرقاء و حمراء أي ضد الشيوعية و معها و مر كفاح بالاثنتين ... كان الزرق يصيحون : من لا يقفز في مكانه فهو أحمر (أي شيوعي) لأنهم كانوا يقولون ان مخابرات الحمر بيننا !!! و مر كفاح المذهول من كل شيئ بين جموع بعشرات الالاف تقفز في المكان مثل الاطفال و ما قفز مثلهم رغم نظرات الانتقاد (كان نصف غائب عن الوعي)
    وقفت بوجهه فتاة تسأله :

    - زاشتو ني سكاتشاتي (لم لا تقفز)
    قفز كفاح في مكانه عدة قفزات برغم عرجه فانتبهت الفتاة لعرجه فقالت
    - أنا آسفة جدا و أحاطت به بذراعيها و قبلته في شفتيه
    ( القبل عندهم مثل المطر يأتي صدفة أحياناً) لكن العربي لا يقبل أن تقبله
    امرأة لا يعرفها ... بل قد ...........................يتزوجها !
    عندما يحن شيء أو أحد على أحد بعطشنا الازلي قد نظنه الهاً و قد يكون هو مزاجياً أو قد تكون تلك القبلة لشي الشفاه فقط ... هذه الفقط لا تنفع مع الجريح السابق الجميل السجين الباحث عن ...... (ماذا)! هذه الفتاة اصبحت زوجة كفاح ..... يا بو الجود !
    ساعد كفاح رفيقه علي لاخراجه من السجن و نجح بعد عام من خروجه هو و كان أول طلبات صديقه العودة الى سورية و لمم أسماله و جراحه و قفل عائداً الى دمشق .




























    في صوفيا بعد سنين يا أبا الجود :


    دخل كفاح إلى بهو المشفى الذي كانت تعمل به زوجته..ووقف كالمسمار في مدخل المشفى أكثر من عشرة دقائق و هو يحاول قراءة اللوحة المعلقة حديثاً على الجدار الرئيسي في المدخل . قطعت صمته ممرضة الاستقبال التي كان يعرفها جيداً قائلة :
    - أهلاً دكتور كفاح هل تريد (فيرا)
    - لا...نعم، نعم أين هي؟
    - خرجت قبل دقائق
    و استدار كفاح عائداً و خرج من باب المشفى مذهولاً ، لأنه اكتشف أن الأقاويل حول المشفى لم تكن تخلو من الصحة ، فاللوحة الجديدة المعلقة على جدار المشفى كتبت باللغتين البلغارية و.....العبرية !!.
    كان على عقل كفاح أن يعمل بسرعة و عليه أن يتصرف بسرعة و لكن قبل كل شيء عليه أن يلتقي زوجته!!
    وصل إلى أقرب هاتف و بدأ يطلب رقمها تلك المرأة التي لم يهنأ بيوم واحد معها في حياته أبداً. رن جرس هاتفها النقال و سمع الصوت على الطرف الآخر
    - مرحباً فيرا
    - مرحباً (بجفاف كما العادة)
    - هناك لوحة مكتوبة بالعبرية في مشفاكم
    - نعم أعلم ذلك... وماذا بإمكاني أن أفعل
    - لماذا لم تقولي لي
    - كنت سأقول لك
    - متي بعد سنة!؟
    - كنت سأقول لك لم يكن عندي مناسبة
    - طيب...يجب أن تتركي المشفى...و أغلق الهاتف ، ثم بدأ يسير باتجاه محطة الترام يحث الخطا حتى لا يتأخر على طفله الصغير الذي عليه أخذه من روضة الأطفال...



    أثناء السير بالترام فكر بمحتوى اللوحة المعلقة في المشفى التي كانت تقول:"على الراغبين بالعمل في مجال البناء في اسرائيل أن يتقدموا بالأوراق والوثائق التالية : 1- شهادة ميلاد 2-شهادة حرفة و خبرة 3- أربع صور شمسية و يعلن المشفى أنه هو الذي يمنح الشهادات الصحية لهذا الغرض...

    اللقاء المنزلي مع فيرا كان مشحوناً و عصبياً للغاية ، فلقد جاءت هذه المشكلة لكي تتوج حياة عائلية مضطربة لعدة سنين بين هذا العربي و زوجه البلغارية و كان الحوار :
    - لماذا لم تقولي لي عن هذا الإعلان في مشفاكم؟
    - كنت سأقول لك
    (يعرف من عينيها أنها تكذب)
    - طيب ولما لم تفعلي ، ماذا يعني هذا ، بعض الناس يقولون بأن مشفاكم كله اسرائيلي "بغضب"
    - المشفى يوناني و أنت تعلم ذلك و قد تعرفت على بابادوبولوس مدير المشفى منذ زمن..
    على فكرة ما قالته فيه صحة فلقد تعرف كفاح بالفعل منذ سنة على السيد بابادوبولوس مدير المشفى و هو يوناني مقيم في بلغاريا ولقد رأى فيه مجرد شخص يبحث عن النجاح في عمله...و قال له أن مشفاهم يعود لشركة يونانية و أن لديهم أجهزة غسيل كلى صناعية للبيع و عرض التعاون في هذا المجال...
    - اسمعي لديكِ أربع و عشرون ساعة لترك العمل!
    - صاحت (بهياج شديد) يا ويلي..كيف أترك عملي و هل ستؤمن لي أنت عملاً؟ كيف سأترك عملي
    - سأؤمن لك عملاً
    - متى؟كيف؟لماذا؟أين؟ أنا مرتاحة في هذا العمل..هل ستؤمن لي عملاً في مشفى آخر و بهذا المستوى و راتبه جيد و يعطوني عمولة عشرة بالمئة من كل مريض جديد يوقع عقداً مع المشفى عن طريقي...
    - لا حول ولا قوة الا بالله..أربع و عشرون ساعة ، وترك المنزل خارجاً و هو يتعوذ...






    اللقاء بمريم بنت البلد يا بو الجود:

    في أحد أجمل أيام صوفيا الصيفية جلس كفاح وحده في حديقة عامة قرب المكتبة البلغارية الوطنية و كان مهموماً يغالب الغربة و الوحدة ، أشعل سيكارة ثم نظر الى المقعد الخشبي المقابل فرأى فتاة ثلاثينية تضع نظارات و تقرأ كتاباً عربياً عرف من المكتوب على الجلدة الخارجية أنه مجموعة شعرية لغادة السمان و جعل ينظر في القارئة (العربية) متمعناً و شعر بسعادة من يلقى قريباً له (في الغربة يكفي أن يتكلم أحد ما لغتك حتى تتمنى عناقه) و استمر تمعنه عدة دقائق حتى ازدوج النظر من كلا الشابين أحدهما الى الآخر ثواني معدودات فبادر كفاح قائلاً :
    - مرحبا
    - أهلين (بحرارة)
    - انت سورية
    - نعم
    - من دمشق
    - من طرطوس
    - جارتي !
    - بالله
    - نعم أنا من حمص
    - أهلين
    - أتدرسين في صوفيا
    - دراسات عليا احضر دكتوراه في علم الاجتماع
    - ممتاز
    - أين تسكنين
    - في الحي هنا استأجرت منزلاً مع زميلة أفغانية
    - أوه .. جيد هذا الحي جميل
    - نعم لكن المعاناة كبيرة ! أنت تعلم بعد انهيار الدولة نحن نعاني لقد أوقفوا المنحة الشهرية و يطالبوننا بمبالغ ...
    - نعم أعرف كل الموضوع كنت نشطاً في أيام الشيوعية و اقترب منها مسلماً اسمي (كفاح) الدكتور كفاح.. هل أستطيع مساعدتك ؟
    - بصراحة أنا في ورطة
    - ما هي ؟
    - هذه التي حدثتك عنها حتى مشرفي العلمي لم يساعدني انهم في تخبط و لا ينفذون الاتفاقية الثقافية !
    - ألم تلجئي للسفارة ؟
    - فعلت لكنهم لا بالعير و لا بالنفير و ليس لدينا ملحق ثقافي .. أشعر أنهم يعتقدون أنهم في نزهة آخر الاسبوع طوال الأسبوع !!
    - ههههههههههه ضحك كفاح من قلبه
    - أتضحك ؟
    - وصفك للمشكلة رائع
    - ربما لديهم أعذار ... أخ لا أعلم البلد كان شيوعي و صار ... رأسمالي
    - (مقاطعاً) صار فوضى يا ستي
    - صح .. و الله صح
    - بكل حال أستطيع الحديث الى رادكوف فهو صاحبي
    - رادكوف ؟!!
    - نعم بعينه
    - أرجوك كل الأمر بيده
    - من عيوني بنت البلد و لا يهمك
    - شكراً
    - بس عندي طلب
    - تكرم بس أقدر لبيه
    - بدي أقرأ غادة السمان بس تخلصيه
    - أوه ..طبعاً و مدت يدها تعطيه الكتاب
    - لا لما تنتهين منه
    - لا .. لقد قرأته و ما عندي شيء آخر أقرأه و هو ممتع فأنزل دائماً الى الحديقة و هو معي و الراديو الصغير
    - ما اسمك
    - مريم
    - جميل
    - أهلاً
    - ما رأيك غداً في التاسعة نذهب من هنا الى رادكوف
    - موافقة
    توادعا و ذهب (كفاح) الى المنزل حيث زوجه و صغيره

    "فيرا" هي الشخص المأزوم الأول في هذا العالم حسبما يظن كفاح ، بل هي الشخص الذي يستحق براءات اختراع للامنطق ولانسداد الأذن وللأزموية و لتعبير نهاية العالم الشائع على لسانها و هي الكائن الوحيد الذي قرر أن يكون خريفاً و شتاءً و صيفاً و ربيعاً في يوم واحد
    (يتزوج الرجل فتسعده زوجه أو يصبح فيلسوفاً....كفاح أحب الفلسفة)

    وحيداً جلس في غرفة الجلوس يقرأ غادة السمان و وبعيداً كان يجالس نفسه ليكتشف أن غادة السمان لو كانت تصف نفسها في كل حرف تكتبه لاستحقت لقب أنبه و أحلى أنثى عربية ... تورط في هذا الاستنتاج ثم قال في نفسه : و يحنا نحن الشرقيين الرجال لا ننسى أبداً أن العالم جيشان ، جيش من النساء و جيش من الرجال و القسمة دائماً على اثنين . وبخ نفسه ثم تذكر أن العالم جيشان فعلاً لكنه بنسائه و رجاله ينقسم الى حمقى و أقل حماقة و الناجون من النار (أي الحماقة) .

    في اليوم التالي كان الجو ماطراً برغم الصيف و في التاسعة كان اللقاء مع مريم في الحديقة و بعد سلام قصير توجها الى موقف الترام القريب و انتظراه دقائق ثم صعدا اليه بعد أن نالا بعض البلل المطري البلقاني ..
    - معقول مطر في عز الصيف
    - هي ما فيني احكيلك مع رادكوف مشانها
    - هههههههههه مع مين فيك تحكي
    - بتعرفي الاسرائيليين رموا مراراً نترات الفضة في الجو حتى يسرقوا المطر من أجوائنا الى أجوائهم
    - نترات الفضة !؟
    - نعم تجذب على ما يبدو جزيئات بخار الماء فيذهب الغيم عندهم
    - خرجنا منستاهل
    - كيف
    - يا عمي اليهود أذكياء و نحنا بعدنا ورا الشمس
    - مين نحنا
    - نحنا العرب
    - شوفي أولي الأمر منا يا رعاهم الله عمروا البلاد سقفا واطي مشان ماحدا يقدر (يتمطمط) فهمتي
    - فهمت
    - عندك أحد حلين يا بتنحني طول حياتك و بيصير معك انحداب (حردبة بالعامية) يا بتقرفصي طول العمر و بتصيري بطة !
    - بطة (تضحك)
    - اي بطة شو مش عاجبتك البطة
    - لأ عاجبتني البطة أبي كا يربي بط بطرطوس
    - بالله
    - اي و بكره صوت البط و الوز لأنو الوز اذا وز فصوته يأز أزيزاً
    - بل يوز وزيزيزاً
    - بتعرف باعتباري أدرس علم الاجتماع و هو قريب من علم النفس قال في واحد مفكر حالو (حبة حنطة) و أخذوه الى طبيب نفسي ليقنعه أنه آدمي و ليس (حبة حنطة) و بعد لأي و جهد أقنعه و ما ان خرج من العيادة حتى عاد يلهث بسرعة صائحاً دكتور في قطيع دجاج برة ! فقال له الدكتور
    - نعم و أين المشكلة أياك أنك لا زلت تظن أنك (حبة حنطة) فقال المريض :
    - لااااااااا أنا بني آدام بس غير ربك بيقنع الجيجات أني ماني (حبة حنطة )
    - (ضحك كفاح من قلبه) حتى نظر اليه بنو بلغار نظرة ذات خصوصية تعني أنه زاد في نغم الضحك في وقت لا تضحك فيه صوفيا أبداً ....
    - وصلنا
    - هيا ننزل
    - زوجتك بلغارية (سألته)
    - نعم
    - عندك أطفال
    - كريم
    - الله يخليه
    - شكراً ... أنت عزباء
    - نعم
    توجها الى مبنى وزارة التعليم العالي (قسم الأجانب) و دخل كفاح الى الرفيق رادكوف الذي كان يعد عده العكسي لمغادرة منصب مكنه من صنع (ثروة) لا بأس بها من بيع المنح للأجانب ، حيث كانت الدولة تخصص منحاً لطلاب العالم الثالث و كان أمثال رادكوف يبنون بها عالمهم الخاص الذي أسقط الشيوعية ...
    همست مريم بصوت منخفض
    - قد يطلب مني مالاً و أنا آسفة لا أملك ...
    - (مقاطعاً) سأزعل منك ، هو صحيح فاسد و ابن ......... بس مش معي
    - شكراً
    انتهيا من المهمة بنجاح و وقع رادكوف أمراً بتفعيل مباشرة الطالبة السورية مريم العلي بناءً على الاتفاقية الثقافية بين البلدين و صرف منحها كافة و كادت مريم تطير من الفرح و قالت :
    - دكتور لا أعرف كيف أشكرك
    - بدي آكل كوسا محشي
    - من عيوني اليوم المسا
    - لا أنا أمزح
    - لا و الله ... و تبولة و ورق عنب كله عندي
    - عم تمزحي
    - اذا ما بتجي بزعل انت و زوجتك
    - لا ... زوجتي دعك منها
    - لماذا
    - نحن في حالة خصام
    - أصالحكما أنا هيا
    - سآتي مع كريم (ولدي)
    - طيب كما تشاء في الثامنة
    - بل السابعة
    - رائع
    - سلام
    صدق أو لا تصدق أبا الجود أن أغبى ما قيل عن الأكل أنه بروتينات و نشويات و دهنيات و سكريات و أن الحقيقة أن الأكل : ذكريات !
    كان النقاش مع فيرا لأخذ كريم الى دعوة عشاء عند أصدقاء عرب سريعاً و كان كريم يحب الخروج مع والده كثيراً و ما ان دارت بعض الجمل البلغارية المفهومة أمامه حتى جعل الصغير ينتعل صندله الجلدي صائحاً :
    - أريد الذهاب مع بابا
    انتظر كفاح في الشارع عشرة دقائق كاملة ليجد سيارة تاكسي و جلس قرب كريم على المقعد الخلفي و أعطى ورقة العنوان للسائق الذي وصل اليه بسهولة ..
    قرع كفاح جرس الشقة ففتحت له الطالبة الأفغانية (سعيدة) و كان يعرفها و سلما بسرعة فلقد كانت سعيدة تستعد للمغادرة الى المدينة الجامعية في حين لم تفلح اصرارات مريم على ابقائها على العشاء السوري اللذيذ ..
    و ذهبت مريم أولاً لكي تسلم و تأخذ الصغير بين ذراعيها مقبلة اياه ثم و ضعته
    على الأريكة حيث حضرت له بعض اللعب و الحلوى ...
    كانت الرائحة لذيذة و معروفة لكفاح جيداً و كان يحادث مريم و هي في المطبخ
    و يطالع عناوين بعض الكتب التي تتربع في مكتبتها ..
    - عندك عبد الرحمن منيف و ماركيز و ممدوح عدوان و بتقولي ما عندي كتب
    - أبي مدرس في طرطوس و مكتبته زاخرة بالكتب و ما شفت شي
    - ذكرتيني بواحد بدوي سألوه (بتعرف الكنافة ، قال : اي طيبة كثير ، ذقتها ؟ قال : لا ابن عمي ذاقها )
    سمع كفاح صوت ارتطام ملعقة على الأرض و نوبة ضحك هائلة في المطبخ فدخل اليه واجداً مريم تضحك بشدة و تسأله :
    - كيف فيك تقلد اللهجات
    - ما بعرف بس الله عطاني موهبتين بقلد لهجات و بساعد بالمطبخ ممكن ساعدك ...
    - اعمل السلطة بس
    - حاضر سيدي
    - خدمت الجيش
    - في لبنان
    - متى
    - 1982
    - في الحرب
    - هناك عطبت ساقي
    - صحيح كنت أود سؤالك لكني شعرت ببعض الحرج
    - صيدا ... رصاص ... شظية .. باوباو ... سجن اسرائيلي ... مستشفى .. هروب .. قبرص ... بلغاريا !! واي واي
    - (باندهاش) لم تكن في الجيش السوري !؟
    - الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
    - رائع أنت بطل
    - لا لست كذلك
    تركت الطبخ و سألته :
    - على فكرة أنا أسمع عنك ، لكن ألست فلسطينياً ؟
    - ما الفرق يا دكتورة ؟
    - صحيح ... لا فرق .. على فكرة عرج ساقك بسيط غير ملاحظ تقريباً
    - الشكر للأعمام البلغار
    - عالجوك ؟
    - عالجوني و كرموني و درسوني و لن أنسى فضلهم
    - أنت شيوعي
    - ليس بالضبط
    - أنا بعثية
    - جيد
    - لم لم تأت بزوجتك
    - (متجاهلاً السؤال) على فكرة لو رأتك زوجتي تقبلين ولدها لأحضرت الشرطة !
    -
    - و الله
    - أنت تبالغ
    - تقبيل الأطفال يؤدي لنقل الجراثيم اليهم و نظر المرأة العزباء الزائد يجلب الحسد الى وجه الطفل و ..............
    - (مقاطعة) لا تكمل ... خيو لا تجيب مرتك معك الله الغني
    - هههههههههههه فهمتي
    - فهمت الله يعينكم تتزوجون أول أجنبية تغازلكم و يالله
    - صحيح في هبل بالقصة
    - هبل و هوبل , أنصاب و أزلام و الميتة و الدم و لحم الخنزير هههههه
    - لا كل شي الا هذا الأخير
    - ألم تأكله
    - أبداً
    - و لا حتى بغير علمك
    - و كيف أعرف ؟
    - صح هيا اذهب الى غرفة الجلوس كل شيء جاهز
    - بل أساعدك
    - ممكن
    قاما سوية بوضع الصحون على المائدة و جلسا و بينهما كريم و تناولا طعام العشاء و أكل كفاح و كأنه لم يأكل قبلها أبداً
    (المرأة الشرقية شجرة)























    مرت شهور يا أبا الجود :
    مرت عدة شهور على تعارف كفاح و مريم و كان كفاح يرى فيها كل ما ينقصه في زوجه البلغارية و بدأت هي تحبه حباً صادقاً ... تحابا و تعاهدا أن يبقى حباً عفيفاً ، و رغم بكاء مريم على كتفه مراراً لغربتها و شوقها لسورية و أهلها و تعبيرها عن الألم لحاجتها الى الحب الا أن حبهما بقي نظيفاً ... قال لها كفاح مرة:
    - كم أتمنى لو كنت زوجتي و لكني لن أمسك و سآخذك بنفسي الى دفاع الأطروحة و من ثم الى الطائرة لتعودي الى سورية و تصبحي أستاذة جامعية و لابد أنك ستجدين شريك حياة محترم
    - لكني أحبك
    - ستضيعين معي و ربما لا أعود
    - ربما تكون محقاً لكن تزوجني و سأنتظر هناك
    - هذا عبث
    - أقبل أن أكون زوجة ثانية
    - لست أنانياً ... بكل حال سافري أنت و ربما أزور سورية بعد ستة أشهر
    - صحيح !
    - نعم
    كانت قصة مريم واحدة من محطات حياته التي انتظر فيها القطار الذي لا يأتي ...













    القتل خطأً يا أبا الجود :

    في احدى ليالي صوفيا الباردة و في حصارات العمر المتعددة ارتكب كفاح خطيئته الثانية ... لقد قتل زوجته !
    دخل الى المنزل يلتف بمعطف روسي سميك و هو يلهث لأنه سمع صوت (كريم) من الشارع يصيح (بابا ... بابا) و ركض داخلاً في مدخل البناية ثم السلالم و لم يعرف كيف قفز الى الطابق الثالث برغم رجله المعطوبة ، فتح الباب ليجد الأم و الابن في مشهد فظيع ...
    كانت فيرا تحمل سكيناً تهدد فيه ولدها و تقول :
    - تريد أباك ها ؟ تريد العربي الأعرج ها ؟ أين هو أبوك ؟
    - بابا .... بابا أريد بابا برعب شديد
    - (تضحك كمجنونة)
    دخل كفاح و أمسك بيدها و خلصها السكين ثم دفعها بعيداً عن كريم و أخذه بين ذراعيه يهدئه ..
    - بابا حبيبي ... اهدا حبيبي
    - مرة أخرى هذه اللغة الغريبة ... لغة الغجر ... اترك ابني (تصيح بشدة) ثم تهجم عليه و هو يدير ظهره لها ..
    بصعوبة خرج كفاح مع كريم خارج المنزل و ذهبا الى منزل الجيران في الطابق السابع هناك كان يعيش رجل بلغاري مسن وحده شديد الطيبة هو العم (ترايشيف) .. رن كفاح جرس الشقة ففتح له المهندس الشيوعي الذي قضى جل عمره في اليمن و يقسم قلبه بالتساوي بين عدن و صوفيا و موسكو
    - كفاح أهلاً ... تفضل .. مابال كريم يبكي
    - سأحكي لك
    - تفضلا
    دخل كفاح الى غرفة الجلوس و وضع كريماً على الاريكة
    أحضر (ترايشيف) دثاراً لكريم ثم جرى ليعطيه تفاحة و قطعة حلوى من صنعه مهدئاً اياه ..
    جلس كفاح واضعاً رأسه بين يديه عدة دقائق
    - (ترايشيف) لم أعد أحتمل
    - (فيرا) أليس كذلك
    - احتملتها عدة سنوات من أجل الطفل و عندما فهمت أنه نقطة ضعفي بدأت تستخدمه لقهري ... انها تضربه بعنف كل يوم هذه المجنونة
    - أفهمك يا عزيزي انها ترث أمها .. أمها كانت كذلك
    - ماذا سأفعل لا أعلم
    - اليوم اترك كريماً ينام عندي
    - المشكلة صارت معضلة
    - هون عليك
    دام الحوار نصف ساعة انتهت بانتظام تنفس الطفل الذي دخل في حالة نوم مابعد البكاء الشديد و شعوره أنه أخيراً بسلام ...
    ترك كفاح ولده عند (ترايشيف) و نزل الى شقته ليجد (فيرا) تشرب و هي في حالة هيجان شديد ...
    - عدت الى الكحول ؟ سألها
    - هل تريد تحريم الكحول في بلغاريا يا تسيغان ! ( تسيغان شتيمة عنصرية بلغارية اصطلاحاً و لكنها لغة تعني الغجري )
    - اجلسي لنتكلم
    - نتكلم !! ..
    و هجمت تحمل زجاجة فارغة باتجاه زوجها الذي ابتعد عنها ثم امسك بها و بدأ يصفعها صائحاً
    - استيقظي .. استيقظي دمرت نفسك و العائلة
    - دعني يا حقير
    و هجمت باتجاهه ممزقة كنزته الصوفية بعنف و هو مذهول لا يدري من أين تأتي بكل هذه العصبية و العنف .. تركها قليلاً ثم دفعها الى الوراء فسقطت على طرف الطاولة و اصطدم رأسها بعنف ثم فقدت وعيها ...نظر كفاح اليها مذهولاً من هول ما يجري ثم اقترب منها محاولاً ايقاظها
    - فيرا ... فيرا !
    باءت كل محاولاته لايقاظها بالفشل فاتصل بالاسعاف ..
    بعد فترة شعر بأنها دهر طويل وصلت سيارة الاسعاف و دخل الطاقم الطبي ليعلن موت المرأة بعد أن فحصها الطبيب .
    صعد كفاح مذهولاً مرعوباً بسرعة الى (ترايشيف) شرح له المأساة بكلمتين أوصاه خيراً بكريم ، أعطاه كل المال الذي لديه و بعض أرقام الهواتف و العناوين و هو يرتجف أعطاه (ترايشيف) عقاراً مهدئاً و دس في جيبه علبة (الليكسوتان) كلها متمنياً له التوفيق و ضمه بحنان الأب ثم ذهب كفاح بنفسه الى قسم الشرطة .
    في قسم الشرطة واجه مرة أخرى بعض العنصرية و استمر التحقيق معه عدة ساعات ثم ألقي به في السجن .
    لم يكن السجن جديداً على كفاح لكن الجديد المؤلم المأساوي كان يضج كل يوم في رأسه عندما يتذكر المشاجرة العنيفة مع (فيرا) و هو الذي تعود على شجاراتها و لم يظن أن أحد تلك الشجارات سيوصله الى ارتكاب القتل الخطأ بهذه الطريقة .
    بعد يومين دخل اليه شرطي و ساقه الى المحقق مرة أخرى ..
    دخل الى غرفة صغيرة دافئة فاكتشف طعم الدفء الذي يحتاج اليه في زنزانته المنفردة و كان القيد الحديدي يؤلم معصميه ..
    - اجلس (قال له المحقق)
    - شكراً
    - هل كنت تكره زوجتك ؟
    - لا أبداً
    - سيد كفاح أمها تقول أنك تكرهها و أنك خططت لقتلها
    - مستحيل
    - لماذا؟
    - لقد سقطت على طرف الطاولة الحاد أثناء الشجار ، لقد كانت تضربني و تمزق ثيابي فدفعتها قليلاً فسقطت
    - لا دليل على ما تقول
    - دليل ! أي دليل تحتاج ؟ هل يسلم نفسه القاتل المتعمد و المخطط ؟!
    هل يقتل بهذه الطريقة ؟ أنا طلبت الاسعاف بنفسي !
    - طيب سنرى
    - ماذا نرى أريد أن أخرج بكفالة و أحول للمحاكمة
    - لا نستطيع اخراجك
    - لماذا الطفل كريم بحاجتي
    - (مد المحقق لكفاح جريدة مطوية قائلاً ) اقرأ الجريدة !
    تصفح كفاح جريدة (ترود) التي كتبت في المانشيت العريض
    عربي يقتل زوجته البلغارية
    البلغاريات المتزوجات من أجانب في خطر
    مشاركة العربي سريره الى أين تؤدي ؟
    و استغرق كفاح في قراءة مقال عنصري فظيع كتبه صحفي ذو ميول معادية للعرب ذاكراً و مستشهداً بحكاية كفاح محمد مع فيرا
    عندما انتهى من القراءة رمى الجريدة و قال :
    - افتراء و كذب ، طمئنوني عن ولدي قبل كل شيء
    - ابنك بخير و هو عند جدته . قضيتك صارت قضية رأي عام
    - ..... (صمت) من مقالة واحدة صارت قضية رأي عام؟
    - بل التليفزيون تحدث و الراديو و عدد من الصحف
    - بالطريقة نفسها تحدثوا ؟
    - نعم
    - آخ ... العنصريون مرة أخرى و للأسف صحافة عنصرية
    - أنت تتهم البلغار بالعنصرية اذاً؟!
    - ليس الكل .. انظر أنا انسان متعب و محطم و لا طاقة عندي لشرح ما أريد ، أنا أحب بلغاريا ، لكن بلغاريا الان تعاني من فقدان التوازن بعد سقوط الشيوعية و لا تعرف طريقها ...
    - هل تحاضر علي !
    - لا .. لا أفعل أريد الانصاف .. هل ولدي بخير
    - طبعاَ (بتهكم) بعد أن قتلت أمه !
    - كان حادثاً غير مقصود
    - مرة أخرى
    - ألف مرة
    - طيب ، أنا أحولك للمحاكمة و ستعود للسجن
    - أريد محامياً
    - طبعاً سيكون لك محام
    - خذوه الى الزنزانة
    عاد كفاح الى زنزانته و ارتمى على السرير الحديدي .
    بعد عدة أيام زاره محاميه و تحاورا حول المحاكمة و ظروفها و اتفقا على أن أصعب مواجهة ستكون ذات طابع غير حقوقي و هي تتعلق بجنسية المتهم و اثارة الصحافة لفكرة أن عربياً قتل زوجته البلغارية و الضغط على القضاء بهذه الطريقة للاقتصاص عنصرياً منه .
    طلب كفاح من محاميه أولاً أن يطمئنه عن ولده دائماً عندما يزوره ثم طلب أن يدحض هذه الفكرة بشدة و أن يتحدث عن حبه لبلغاريا البلد الذي عاش فيه ردحاً من الزمن و كتب بلغته و له فيه أصدقاء و اتفقا على استقدام بعضهم للشهادة من أجل القاء الضوء على شخصية المتهم الحقيقية و ربما احضار بعض طلبة الجامعة الذين درسوا على يده لكي يشهدوا أيضاً .
    كان المحامي يقول لكفاح لدينا أدلة كافية لاثبات القتل الخطأ فهناك تقرير الطبيب الشرعي و اثبات المشاجرة الزوجية و هنا تدخل كفاح قائلاً :
    - هناك ما كنت أخفيه و سأقوله الان
    - ما هو
    - لقد أدخلت (فيرا) الى مصح نفسي لعلاجها من الهستيريا و لم أكن أذيع ذلك من أجلها
    - قد لا يفيد هذا الموضوع
    - و قد نثبت أنها تدخل دورياً في هستيريا
    - ربما سأفكر في المسألة ، هل لديك عنوان الطبيبب النفسي
    - طبعاً، هي الطبيبة الأرمنية (هاتشاكيان) انها معروفة
    - نعم معروفة و مشهورة .. سأزورها في الاكاديمية الطبية
    - أرجو أن تقبل بأن تشهد
    - طيب سأودعك الان
    - مع السلامة
    - قبل كل شيء لقد صنعت شيئاً لكريم خذه معك و ناوله سبحة زرقاء صنعها بيده في السجن
    - هيهات أن أستطيع زيارته ، أنت لا تعلم لقد اتصلت مرة بالهاتف لأسأل عنه فتلقيت شتائم فظيعة
    - طبعاً فهم هكذا أنا أعرف كيف يتصرفون ، هذه الأم مصيبة بكل معنى الكلمة و انا اخشى على كريم منها
    ذهب المحامي تاركاً كفاحاً وحده ليعيده الحارس الى زنزانته ، بعد عدة أيام زاره العم (ترايشيف) و أحضر له طعاماً و كنزة سميكة و تبغاً و أشياء أخرى
    ( العم أسين ترايشيف كان يثبت أن في الامة البلغارية من بقي متوازناً برغم كل شيء)
    - سأشهد في المحكمة (قال ترايشيف)
    - لا أريد اجهادك
    - بل سأفعل
    - شكراً من قلبي
    - الله و العذراء معك يا بني
    - شكراً

    في المحكمة يا أبا الجود :
    في صباح يوم المحاكمة سيق كفاح بسيارة مغلقة و بها نافذه صغيرة ، من النافذة استطاع تمييز شوارع المدينة واحداً تلو الاخر و كان يتذكر أغنية بلغارية تتحدث عن البطل المقدوني (ياني) الذي قتل بعد أن ترك وحده يحارب ..
    لكن حتى الاغاني كانت تخون كفاحاً في حياته .
    أدخل الى قاعة المحكمة من باب خلفي و بعد دقائق وجد نفسه في القفص و خلال برهة صغيرة ميز في الحضور من الجمهور أعداء و أصدقاء ... كان البعض يلوح له بالسلام و كان أعداؤه (شخص واحد) يهدده بلؤم و كانت الصحافة من باب المحكمة الرئيسي تفتعل الضجيج فسمع :
    - هذه بلد صار فيها حرية نريد الدخول و التصوير
    - دعونا ندخل
    - لا يحق لك منعنا
    و دخل عدد من المصورين و الصحفيين و خلال ثوان ضربت أنوار الكاميرات الكثيفة في عيني كفاح ففقد الرؤية لمدة ثوان
    دخل ضابط شرطة الى المحكمة و صاح :
    - اخرجوا فوراً لا حق لكم بتصويره ضمن القاعة
    صاح صحفي
    - صحيح أنك تعلمت القتل عندما كنت ارهابياً مع عرفات ؟
    - أين تعلمت فنون القتال ؟
    - هل تكره الاوروبيين الى هذه الدرجة ؟
    - هل قتلتها لأنها عملت في مشفى اسرائيلي ؟
    كانت هذه الاسئلة كافية لكي يعرف كفاح غريمه المنتقم جيداً
    اخرج الشرطة الصحفيين بصعوبة و دخل القضاة ، صاح منادي المحكمة
    - محكمة ، الكل يقف
    جلس القضاة على المنصة و كان القاضي الرئيسي امرأة بدأت بالكلام موجهة الحديث الى ضاربة الالة الكاتبة :
    - اكتبي القضية رقم 242 لعام 1998م صوفيا ثم اتجهت الى الجمهور طالبة الهدوء و قالت :
    - سيخرج من القاعة أي شخص يتحدث دون اذن ، القضية جريمة قتل المواطنة (فيرا كوستانوفا) و المتهم فيها المواطن السوري الجنسية
    (كيفاخ موخاماد) و سألت :
    - هل ألفظ اسمك صحيحاً ؟
    - بالبلغارية نعم (أجابها كفاح)
    - هل لديك محام
    - نعم (أشار الى محاميه)
    - طيب .. أنت متهم بالتخطيط و التنفيذ لقتل زوجتك المواطنة البلغارية (فيرا كوستانوفا) ماذا تقول ؟
    - كانت حادثة شجار عائلي
    - هل تعترف أم لا ؟
    هنا تدخل محاميه قائلاً :
    - سيادة القاضية المحترمة السؤال ليس دقيقاً موكلي يريد القول أنه بريء من التخطيط و التنفيذ لأن الموت جاء بالخطأ
    - سنرى .. سنرى ان كان ذلك صحيحاً
    رفع هنا محامي الادعاء صوته ليقول :
    - سيادة القاضية أرجو تثبيت اعتراف المتهم أولاً
    - أي اعتراف يا زميل (قال محامي كفاح)
    - لقد اعترف الان بالقتل .. قال حادثة
    - لم يعترف بشيء هذا هراء
    - بل اعترف
    تدخلت القاضية
    - اسكتا رجاءً ... أوف بداية غير موفقة اجلسا في مكانكما
    اكتبي :
    - يدعي المتهم أن موت الضحية تم بغير قصد على أثر شجار عائلي .
    محامي الادعاء تفضل !
    - القاضية الجليلة المستشارون الاجلاء ، لا يعلم أحدنا عندما تتزوج ابنته من أجنبي أي حياة تنتظرها ، أية معاناة ، ان القصة التي أمامكم اليوم ليست فقط قصة المغدورة (فيرا) بل هي قصة آلاف السيدات المعذبات اللواتي عشقن بسذاجة شخصاً من غير جلدتهن و قمن بالفعل الادمي البيولوجي معه لينجبن أطفالاً لا يعلم أحد أي مستقبل ينتظرهن .....
    - (صاح محامي الدفاع) أنا أعترض هذه قضية جنائية و ليست سياسية نحن لسنا في البرلمان (الوليد) و اذا كان الزميل و أنا أعلم كم مرة رشح نفسه ! يظن أنه في الجمعية الشعبية فهو مخطئ !
    القاضية : قالت و هي تطلب هدوء الجمهور .. ابق في محتوى القضية السيد محامي المغدورة القضية في البداية و لديك مرافعة فيما بعد .
    محامي الادعاء : أريد القول أن المغدورة ظلمت مرتين و توضيح دافع الجرم فالمتهم و أشار اليه ، برغم أنه مثقف معروف عندنا الا أنه قتل زوجته لدوافع معروفة و هي أنها كانت تعمل في مشفى يموله اليهود (الاصدقاء اليهود) و هو الذي كان ارهابياً في لبنان مدعوماً من حكوماتنا الدكتاتورية الشيوعية السابقة و أنا أدعو الشاهدة (ليلي كاتس) للشهادة
    القاضية : نادوا على الشاهدة
    المنادي : الشاهدة ليلي كاتس ....... الشاهدة ليلي كاتس
    دخلت امرأة نحيفة بأنف متطاول تمشي بهدوء عابرة ممر المحكمة
    القاضية : اسمك
    الشاهدة : ليلي هيتساك كاتس
    القاضية : عمرك
    الشاهدة : أربعون عاماً
    القاضية : هل تقسمين على قول الحقيقة
    الشاهدة : أقسم بذلك
    القاضية : محام الادعاء الشاهدة لك
    المحامي : سيدة كاتس ماذا تعرفين عن القضية؟
    ليلي: كانت المرحومة الصديقة فيرا زميلتي في مشفى (بيو تشيك)
    و اشتكت لي من زوجها العربي و أنه هددها ان لم تترك العمل عندما علم أن التمويل في المشفى يأتي من اسرائيل
    المحامي : هددها بالقتل طبعاً
    ليلي: شيء كهذا
    محامي الدفاع : انه يلقنها الشهادة
    القاضية : اعتراض مقبول
    محامي الدفاع : أرجو سيدتي عدم تسجيل ذلك في محضر المحاكمة و اعادة السؤال جيداً
    محامي الادعاء : بم هددها سيدة كاتس
    ليلي : اذكر أنها قالت لي أنه عصبي و أنه يريدها أن تترك العمل و ان لم تفعل سوف ..........
    الحامي : سوف ... ماذا ؟
    ليلي : ربما ... ربما يقتلها
    (ضجة في القاعة)
    القاضية : لا يوجد ربما هل قالت لك هددني بالقتل
    ليلي : بالطلاق مرة و ضربها قالت لي ضربني ، عن القتل لا أذكر تماماً ، لكنها كانت خائفة
    القاضية : محامي الدفاع الشاهدة لك
    اتجه محامي الدفاع الى الشاهدة قائلاً :
    المحامي : أين تعملين سيدة كاتس ؟
    الشاهدة : ممرضة في المشفى
    المحامي : هل لديك نشاط آخر؟
    الشاهدة : لا أفهم
    المحامي : ألست عضوة في نادي أصدقاء صهيون البلغاري و لديك جنسيتان واحدة بلغارية و الثانية اسرائيلية
    (ضجة في القاعة )
    الشاهدة : و ما دخل نشاطي و البلد فيها حرية
    محامي الدفاع : لا .. فقط نوري المحكمة و لا اعتراض على نشاطك
    الشاهدة : أنا ... نشطة نعم و هذا حقي
    المحامي : أرجو تسجيل أن شهادة ليلي كاتس محكومة بعواطف ثأرية و ربما كاذبة لأنهما هي و المتهم أعداء بالضرورة و كلكم يعرف لماذا و المتهم لديه نشاط اعلامي معروف لدعم شعبه العربي ضد اسرائيل
    القاضية : سيدة كاتس تستطيعين المغادرة شكراً
    محامي الادعاء : يبدو سيدتي القاضية أننا اليوم أمام قضية من نوع خاص نود فيها أن نثبت دافع الجريمة الحقيقي و الزميل محامي الدفاع لا يعطي الفرصة للعدالة أن تعرف دافع الجريمة الحقيقي .
    القاضية : سنعرف كل شيء
    محامي الادعاء : أريد شهادة الأم أم المتهمة السيدة (كاتيا باليفا كوستانوفا)
    القاضية تشير الى الجمهور بيدها : تفضلي سيدة (كوستانوفا) الى منصة الشهود
    قامت من بين الجمهور سيدة تلبس الاسود و تحركت بهدوء شديد الى كرسي الشهادة و خلال مشيها وقعت على الارض بطريقة تمثيلية يعرفها كفاح جيداً ( كانت هذه المرأة فنانة في طريقة استدرار العطف خصوصاً عندما تريد شيئاً ما ) وصلت بمساعدة الشرطي الى كرسي الشهود و قالت اسمها و أقسمت على قول الحقيقة ..
    محامي الاعاء : سيدتي تقبلي عزاءنا جميعاً بمصابك الاليم و لكن شهادتك ستساعدنا في فهم الحقيقة ... قاطعه محامي الدفاع قائلاً :
    - القانون يجيز شهادة المدعي فقط لشرح أحداث يعرفها و ليس للمرافعة و اعادة الاتهام فهو المدعي أي أنه طرف أرجو الملاحظة
    محامي الاعاء : المادة 115 الفقرة الثانية زميلي محق و نحن سنحترم القانون .. و تابع :
    هل هدد صهرك ابنتك يوماً بالقتل :
    - نعم
    (ضجة في القاعة )
    القاضية : هدوءاً .... هدوءاً في القاعة
    تابعت : انه مجرم ارهابي سفاح العرب ارهابيون قتلة
    محامي الدفاع : اعتراض
    القاضية : اعتراض مقبول
    كاتيا : (صائحة بهياج و تقوم من مقعدها لتختلف لغة جسدها عن حالها الضعيفة قبل قليل و تدور في قاعة المحكمة ) اعتراض مقبول اعتراض مقبول ... ما هو المقبول أن تموت ابنتي على يد المجرمين، و توجهت الى القاضية بعد أن جحظت عيناها قائلة :
    أنت بلغارية مثلي كيف تقبلين أن لا تشنقي هذا العربي فوراً و دون تلكؤ ؟ اقتلوه اشنقوه هيا !
    (ضجيج في القاعة)
    القاضية تضرب على المنصة بمطرقتها : هدوءاً من الجميع .. هدوءاً
    سيدة كاتيا سنأخذ حق ابنتك بالقانون و نحن هنا لأجل ذلك ارجوك الهدوء و أن لا تتحدثي عن شعب بكامله فنحن أمام قضية جنائية و لدي شخصياً عشرات القضايا المشابهة بين البلغار .. الجريمة الجنائية لها مواصفاتها و أنا لا أقبل بهذا ..
    ظهرت ابتسامة على وجه محامي كفاح الذي وقف في القفص رافعاً يده فجأة طالباً الاذن بالكلام .. فتوجه اليه محاميه يسأله :
    - ماذا تفعل ؟
    - أريد الكلام
    - لم نتفق على هذا
    - أريد الكلام
    القاضية : اني اسمح للمتهم بالكلام
    كفاح : السيدة القاضية القضاة الاجلاء الجمهور ... نعم أنا قاتل
    (ضجة في القاعة . تطلب القاضية الهدوء كالعادة) نعم قتلت لكنني عندما فعلت لم أكن أريد القتل ، لقد أنقذت زوجتي المرحومة من ثلاث محاولات انتحار و أمها تعرف ذلك و احدى هذه المحاولات كانت أمها السبب فيها و لدي الدلائل و الشهود ... أنا يا سادتي قتلت اثناء محاولتي دفع زوجتي عن عدوانيتها ... لقد دخلت الى البيت في ذاك اليوم المشؤوم فرأيت أظافر فيرا مغروزة في يد ابننا الصغير و معها سكين تهدده بها و لم المسها ، صعدت بالولد الى بيت العم (ترايشف) و هو هنا في القاعة و يشهد و ابقيت الطفل عنده ثم عدت لكي أحاول للمرة المئة أن أهدئ من روعها و هي المريضة النفسانية و طبيبتها هنا و كنت أعطيها الدواء بنفسي و لكني رأيت في وجهها ذاك اليوم وحشاً بشرياً يريد أن ينتهي من أكل ضحيته و ضحية (فيرا) كانت (فيرا) نفسها ذاك النهار المشؤوم ... و دعكم عن الحديث العنصري و جعل القضية قضية صراع بين شعبين فهذا سخيف ! ان علاقتي بالعم (أسين ترايشيف ) تشبه علاقة ابن بوالده و لدي الكثير من الاصدقاء البلغار فما هذا الهراء الذي أسمعه ؟ أرجو أخيراً أن أعاقب أن أحكم فلا أريد البراءة ، فأنا مذنب بشكل ما ! أنا مذنب أني لم أطلقها منذ زمن و كفى .... (أطرق) لقد ذهبت مرارا الى المحامي و هو هنا و يعرف أريد الانفصال و كانت هي تتصل به و بي و ترجو أن لا يحدث ذلك ، كانت تقول لي : لا تتركني أرجوك ! أنت لست زوجي أنا لا أصلح أن أكون زوجة ! أنت أبي أنا ليس لي أب !
    رحمها الله كانت مريضة و لا تعرف كيف تعيش بسلام و لا أريد الان أن أقول من هم السبب ..
    هنا قالت الام كاتيا بصوت كسير :
    - بل نحن السبب ... أنا و أبوها السبب، علي الآن أن أعترف ، أن أقول كل شيء ! .................. و انهارت باكية بحرقة شديدة
    سامحوه ... سامحوه .. أنا القاتلة الحقيقية ! أنا !
    القاضية : ترفع الجلسة الى يوم الثلاثاء القادم
    (الضمير يصحو أحياناً أبا الجود)
    استمرت محاكمة كفاح عدة جلسات أخرى شهد فيها أصدقاء المتهم و طلابه و الطبيبة النفسية أفضل شهادات بحقه و شهد الطبيب الشرعي عن طريقة وفاة (فيرا) و تأكدت القاضية أن القتل لم يكن متعمداً أبداً و حكم كفاح بخمس سنوات مع الشغل قضى منها ثلاثاً في نفس سجن صوفيا المركزي الذي زاره من قبل .


    الحرية مرة أخرى أبو الجود :
    خرج كفاح بعد أن أمضى ثلاث سنوات في السجن استطاع فيها اقناع والدة (فيرا) التي أصبحت انساناً كسيراً و صارت خادمة في كنيسة القديسة صوفيا ، استطاع اقناعها بارسال كريم الى سورية حيث هناك سيلقى تربية صالحة و رعاية جيدة عند أهله ، و بالفعل ذهبت خادمة الكنيسة (كاتيا) بنفسها الى سورية و تركت كريماً هناك و عادت الى كنيستها حيث وجدت سلام روحها عند عتبات الله .
    كانت هذه المرأة وحشاً حقيقياً و صارت شيئاً آخر صارت قليلة الكلام تأكل الخبز الناشف و تشرب الماء و تجمع الشموع لتعيد اذابتها و تكنس أرض الكنيسة ، كانت تريد من المسيح أن يسامحها و من مريم أن تضمها بذراعيها .
    ( البحث عن الام يوصلك الى الله في النهاية )
    خرج كفاح من سجنه فلم يعرف العالم الذي يحيط به و لم يتذكر أحداً الا سورية و أهله ....

















    إلى الوطن أخيراً يا ابا الجود أعرف أنك لم تشتق !:

    مر زمن طويل منذ أن غادر كفاح وطنه و بيئته التي تربى بها ، تمتلكه (النوستالجيا) و الحنين . الغربة (وهذا الكلام لك يا ابا الجود) لها قواعدها و نظم تعامل خاصة ، ففيها قلما يستطيع المرء أن يكون وسطياً في المزج بين المكانين اللذين عاش فيهما : مكان النشأة الأولى ووطن الاغتراب ، خصوصاً عند ذلك النوع من (مغتربي الأزمات) و غالباً المغترب هو رجل أزمة حاول حل أزمته بالاغتراب…
    سيدنا محمد (ص) هو أول مغترب نعرفه و قرأنا عن تاريخ اغترابه و تعلمنا من التاريخ عن كثير من العظماء علماء و فلاسفة و فنانين و غيرهم لم يجدوا بداً من الاغتراب عن مكان النشأة (الوطن الأول) لسبب أو لأسباب مجتمعة أولها السياسي طبعاً و الاقتصادي و الاجتماعي…و نادراً ، نادراً يغير أوطانهم أولئك الذين ليست لديهم أية…أزمة!!
    المهم أن كفاح (الرجل المغترب و السجين الاعرج و متقوس الظهر ذا اللحية الطويلة ) قرر العودة و استعد لها .
    ركب الباص من محطته في صوفيا إلى مدينة استانبول التركية..و معه بعض الحوائج الخاصة التي لا تدل على اغتراب طويل على قلتها ....
    كان على كفاح أن يصل استانبول في الرابعة صباحاً حيث لم يجد في محطة الباصات الضخمة إلا بضعة أشخاص منظرهم لا يسر العين و كان عليه أن يحتاط فهو يسمع كثيراً عن حوادث السطو على المسافرين..فجأة فاجأه صوت رجل تخين :
    - تكسي
    - نعم إيفت إيفت تاكسي
    (استغل كفاح سجنه فتعلم التركية و الروسية اضافة للانكليزية و الفرنسية و لم ينس العربية طبعاً)
    صعد إلى السيارة من الخلف تاركاً للسائق ممارسة مهمة تدليله بوضع الحقيبة في صندوق السيارة الخلفي ، فهو يسمع أن ميزة الخدمة الجيدة موجودة لدى الأتراك ، بينما هي غائبة تماماً في البلاد الاشتراكية السابقة ، لأن سائق التاكسي كان أهم من وزير أيام الاشتراكية و هم لازالوا يحملون بعضاً من ذكريات عزهم ومنهم من لازال يعتقد (بأن الوزارة التي يشغل بها حقيبة سائق تكسي) لم تحل بعد ، أما الأتراك فهم يشعرونك بأنك بيك و باشا بمعنى الكلمة و يجعلونك تدفع الأجرة و البقشيش سعيداً راضياً...
    المهم صعد كفاح السيارة قائلاً للسائق :
    - هوتيل من فضلك
    و انطلق السائق عبر اوتوسترادات استانبول شبه النائمة ، و هو يظن أن زبونه ضيف مهم على استانبول حيث لم يشارط كفاح على أخذه إلى فندق رخيص وهذا ما يفعله عادة المسافرون..
    السر يكمن في أن كفاحاً حسبها بأنه لو ذهب إلى فندق رخيص في هذا الليل البهيم فقد يأخذه السائق إلى مكان أبهم و يصبح كل شيء بهيماً و أن يترك السائق يختار فندقا محترما ،ليطمع ببقشيش جيد فيعامله كما يشتهي!هكذا ظن كفاح بأن الحكمة تملي عليه أن يفعل..
    توقف السائق أمام فندق كبير بوسط المدينة العملاقة و أنزل السائق و خادم الفندق حقيبة كفاح و حين دخلوا إلى بهو الفندق سأل كفاح موظف الاستقبال عن أسعارهم ففي تركيا يجب أن تسأل و إلا فأنك ستدفع ضعفاً أو ضعفين مما هو متعارف عليه و بعد (مبارزة) بسيطة اتفق الطرفان على مبلغ أربعين دولاراً لقضاء الليلة في هذا الفندق الاستانبولي ذو النجوم الأربع ، ووافق كفاح ناقداً السائق أجرته و بقشيشه و صعد مع خادم الفندق الذي قال على الفور بالانكليزية :
    - Do you want girl sir؟
    - No !!
    ( العاهرة تبيع أجمل الحياة )



    كان كفاح يبحث عن إغفاءة بعد هذه السفرة من صوفيا إلى استانبول فالباص كان قديماً مزعجاً و الوصول في هذه الساعة أفظع و الانتظار في محطة الباصات اثنتي عشر ساعة أفظع و أفظع
    فلتذهب الأربعون دولار الى الجحيم و ليحصل الجسم على كفايته من الراحة ، ثم أن الفرصة ستسنح بذلك لزيارة طالما تمناها لاستانبول مدينة القارتين و عاصمة الامبراطوريتين الراحلتين...
    عندما استيقظ في العاشرة صباحاً نظر يمنة ويسرة فتذكر أين هو ثم قرر أن يرفع السماعة و يطلب أهله في سورية و يقول لهم أنه اقترب من حدود الوطن بعد غياب طال ، فليس عليه أن يفاجئهم ، فالقلوب تحملت الكثير من الآلام و ليوفر هو عليها هول المفاجأة...
    - ماما...صباح الخير
    - أهلين عيوني يا قلبي..أتتكلم من صوفيا (تبكي)
    - لا يا أمي من استانبول
    - نعم أعندك عمل هناك ... أرجوك تعال الينا
    - نعم عندي عمل و باعتباري قريب منكم سآتي
    - (صاحت الأم من الفرح) أنا لا أصدق...بالله عليك ، يا منى عيني يا ماما..تعال...تعال بسرعة...قلبي مشتاق لك وصاحت لمن حولها : أخوكم سيأتي.
    (الكراهية تخاف من حب الأمهات)
    انهى المكالمة بسرعة و قال لهم أن ينتظروه و أن لا يذهب أحد لمحطة الباص فلا يعرف متى يصل بالظبط ، وسوف يأخذ سيارة أجرة و يأتي بنفسه اليهم...
    تجول كفاح في استانبول مستمتعاً بما يرى فهذه المدينة لها طعم خاص و جميل...
    أول انطباع ذاقه هو ذلك الشعور الداخلي بأن مدن العالم الاسلامي كلها دون استئذان تخضع لقوانين غير أرضية ، هذه مسألة صعبة الفهم على الأجانب إلا من عاش منهم طويلاً في الشرق المسلم...
    أصوات المآذن و هي تعلن الدعوة للصلاة عملياً تعلن أشياء أخرى أيضاً ، فهي تعلن بالصوت أن هذه المدن و القرى خاضعة مباشرة لله و أن الناس الذين يعيشون بين ظهرانيها هم محبو الله و ربما أن ما يفعلونه يكون بأوامر مباشرة منه...!!


    لكنه كان يلاحظ بسبب عشرته الطويلة للمسلمين غير العرب بأن هؤلاء يمنعهم الحاجز اللغوي (عدم قراءة القرآن بالعربية) عن الوصول مباشرة لكتاب الله و غالباً ما يضطرون للقبول بما تقدمه لهم نخبة (الخوجات) و المشايخ على أنه مطلق الصحة...
    (الخوجة) في تركيا سلطة إلهية ما بعدها سلطة فالبركة تنام تحت طربوشه و تقبيل يده هدية كبرى لمن ينحني ليفعلها ، و تركيا التي حكمت العالم الاسلامي و أقامت خلافة اسلامية لمدة خمسمئة عام صنعت إسلاماً تناسب عملياً مع حقيقة أن الأتراك يحتاجون لواسطة لغوية مع القرآن أي إلى مترجمين و بالتالي حكمت السلطنة الدولة عبر اسلام مترجم..!.
    العربي الذي يزور استانبول أو أنقرة يشعر بأن شيئاً ما يميز الاسلام هناك فالتركي يقدس ماهو إلهي دون أن يفهمه بالكامل و هنا تكمن المشكلة..!!
    هذه الأشياء و متعة الاستطلاع و السفر كانت تملأ رأس كفاح وهو يتجول في منطقة (تقسيم) في وسط استانبول و يضيع (قصداً) في أسواقها المسقوفة حيث تنتشر روائح الشاي و التوابل و أصوات الباعة و التجار و الطرق على النحاسيات و حيث تصبح الفوضى المنظمة هي نظام الحياة الممكن الوحيد.
    قضى كفاح وقته و هو يمشي في المدينة و كان قبله يفرح لسماع آذان المساجد يصيح
    الله أكبر الله أكبر
    أشهد أن لا اله الا الله
    سحر ما يكمن في هذه الكلمات و يجد طريقه إلى القلوب التي تعتبر أن الحب المطلق هو الله و كفاح من هؤلاء...
    كان عليه أن يكون في محطة الباص الرئيسية في الرابعة بعد الظهر ، حيث عندها تنطلق الباصات المسافرة إلى سورية التركية أي انطاكية و اسكندرونة ، من هناك سوف يبدل باصه بآخر متجه إلى حلب المدينة التي لا تبعد عن انطاكية أكثر من مئة و عشرين كيلو متراً...
    تحرك الباص ممتلئاً بالركاب المسافرين إلى الجنوب حيث تعتبر تركيا من البلدان الممتدة و الواسعة و سيسافر الباص أكثر من ألف كيلو متر ضمن الحدود التركية..
    قد يكون الله سبحانه قد منح تركيا أجمل طقس على الأرض فهي بالفعل البلد الواقع بين المناطق الباردة و تلك الحارة و يستطيع الأتراك أن يتفاخروا


    بأنهم في منتصف هذه المسافة و بأن (الوسط الذهبي) الطقسي موجود عندهم...
    قطع الباص التركي حارقاً وقوده لكي يعمل محركه الألماني وصوت المطرب المشهور ابراهيم طاطلاسيس كوقود يبقي عيني السائق مفتوحتين مسافة الألف كيلو متر ، كان السفر الطويل مناسبةً دائمة لاسترجاع ما كان و كان شوقه لكريم و أهله لا يقاوم !
    وصل في صباح اليوم التالي إلى مدينة انطاكية العربية بأهلها العرب الذين يتكلمون العربية ، اضافة للغة التركية و التي خرّجت العديد من الأدباء و المفكرين العرب في القرن العشرين...
    برغم الارهاق الذي بات واضحاً على كفاح فإنه لم يدع فرصة التجول في انطاكية تفوته فإن كفاحاً يأكل الأمكنة بعينيه و يحب التجوال و السفر..
    انطاكية لم تكن تختلف عن أية مدينة سورية بالفعل فلقد اعتقد عندما كان يتجول في أسواقها القديمة أنه في حمص أو حلب فهذا أبو علي ينادي على أبو سليم و يسرع لدعوته إلى فنجان القهوة الصباحي ، وهؤلاء هم الباعة و المغادرون ينادون بالعربية على السحلب و الكعك و الشاي و غيره...
    الحوار بالعربية يتوقف أحياناً عندما يشعر ابن المدينة بأنك غريب و يبدأ يحدثك بالتركية.....!!!وكأنك تحمل في فمك شيئاً ما خطيراً على المكان !
    (للمخبر حظه عند مظفر النواب)
    كان كفاح يحلم هنا أيضاً أن يتفاهم السوريون و الأتراك على النظر في وضع المنطقة التاريخي و السياسي دون شجار ربما بالتفاهم و الحوار...كان يحلم بعودة لواء اسكندرونة لسورية و كان السفر الطويل قدعلّم كفاح أن الانسانية يمكنها أن تحل أزماتها بالحوار عندما تتوفر النية لذلك...
    كل شيء في تركيا كان يدلل على أن الشعب التركي شعب شقيق بالمعنى الثقافي للعرب و أن العداء مع تركيا ليس في مصلحة أحد إلا اسرائيل...
    من انطاكية إلى الحدود احتاج الباص لساعة و نصف فقط وما إن وصل الباص إلى الحدود السورية ، حتى بدأ شعور غريب يخالج صاحبنا ، شعور يمتزج فيه الشوق و الحنين و التساؤل عما حل ببلده في الفترة التي غاب فيها عنه...




    في سورية بعد غياب طويل يا ابا الجود :

    نظر الشرطي إلى كفاح وقال :
    - اسمك كفاح محمد
    - نعم
    - انتظر لحظة
    دخل الشرطي إلى غرفة صغيرة و عاد بعد عدة دقائق حاملاً ورقة بيضاء و بدأ يقرأ محتوياتها بعينيه ثم عاد كفاح قائلاً
    - عندك مراجعة
    - مراجعة إيش
    - مراجعة أمنية!
    - أمنية؟؟!باستغراب
    - سأعطيك ورقة المراجعة و عليك خلال ثلاثة أيام أن تراجع أمن الدولة و بدون موافقة أمن الدولة لا يمكنك المغادرة...!!
    ثم كتب الشرطي ورقة المراجعة و أعطاها لكفاح (الصامت) قائلاً:
    - ثلاثة أيام ...هه!! ............................
    بتفهم ما و بعض الاستغراب مرت دقائق تفكير على صاحبنا ثم بدأ
    ينظرالى داخل غرفة الشرطي يحاول ملاحظة كل شيء فكل شيء في بلده الذي غادره منذ مدة طويلة يهمه و لديه قيمة ما في قلبه ، أراد أن يعاين الأشياء قبل البشر ، لذلك استوقفه تيلفزيون (السيرونيكس) القديم و المدفأة النفطية في غرفة الشرطي إضافة لأبريق الشاي و الكؤوس الصغيرة الثلاث الممتلئة بالشاي ، لقد كان يعلم كفاح أنه ليس هناك أطيب من شاي الحرّاس و العمّال لأنهم يضعون في كأس شايهم عصارة خبرتهم الطويلة في صنع الشاي و يحاولون تحويل هذه المتعة و الكيف الوحيد المتوفر



    خلال فترة مناوبتهم إلى متعة فريدة و هي تصبح بالفعل كذلك بسحرٍ ما لا يتقنه إلا العسكر و خصوصاً عسكرنا نحن...!!
    جرّب كفاح مراراً أن يحاول في الغربة صنع كأسٍ من شاي العسكر و الحراس و لكنه فشل إذ لا بد من وجود الأشياء الأخرى (ربما) حتى تقبل الشاي أن تعطي طيبها كله و الأشياء الأخرى هي أسرة العسكر و خوذهم و خيمتهم أو غرفتهم و قليل من الأمتعة المحصورة في حقائب الكتف و عدد لحلاقة الذقن ولابد أن تكون شفرات الحلاقة من نوع (التمساح) ولابد لابد من قنينة الكولونيا التي يشتريها العسكري من دكان الحلاق الذي يتفنن في خلطة الكولونيا الخاصة و الفريدة برائحتها إلا إذا نسي ولم ينظف بقايا البيرة جيداً من القنينة المتطاولة التي يشتهر بها معمل بيرة الشرق في دمشق...
    هكذا فقط يكون الشاي طيباً و ذا رغوة و خمير و يتبقى فقط أن ترتشفه ببطء وبلذة
    - شششفف
    ثم تخرج سيكارة (حمرا) و تنظر خارج خيمتك حيث تستطيع فقط عند اشعال سيكارة (الحمرا) أن ترى كل العالم من باب خيمتك!!نعم..نعم صدقوني فالعسكري السوري وحده يرى (كل العالم) من باب خيمته المفتوح على نصفه فقط إذا توفر له على كأس الشاي و سيكارة الحمرا...
    كل هذا خطر في بال كفاح و هو ينظر في غرفة الشرطي عندما كان ينتظره ليدقق في الأرشيف باحثاً عن حرف الكاف عن اسم (كفاح محمد)
    لم تكن هذه فقط أول مشاهداته فلقد اتفقنا إذن على أن أول ما استقبل به هو دعوة لمراجعة مخابرات أمن الدولة و شرطي حريص يوصيه أن لا يتأخر عن الأيام الثلاثة و مشهد المدفأة (الصوبيا) و ابريق الشاي و نضيف لكل المشهد ، تيلفزيون (السيرونيكس) و هو تجميع سوري و كان التيلفزيون في غرفة الشرطي بالأسود و الأبيض و كانت الصورة تتقلب باستمرار و مع ذلك فلم يقدم أحد من زملاء الشرطي على مساعدتها في الاستقرار و عدم التقلب ، ربما كان السبب لأن القناة الأولى و هي الوحيدة ممكنة المشاهدة في هذه المنطقة الحدودية ، كانت تعرض للمرة المئة تمثيلية معروفة و لأن الشرطة كانوا يحفظونها عن ظهر قلب فلم يقدم أحد على ضرب سقف التيلفزيون بقبضته حتى تتسمر الصورة في مكانها و يصبح بالامكان المشاهدة بشكل طبيعي...


    خرج كفاح من غرفة الشرطة (الحدودية) متجهاً إلى الباص حيث كانت نظرات الركاب الآخرين تجاهه تحمل علامات الاستفهام فلقد كان كفاح هو الراكب الوحيد الذي استغرق فحص جواز سفره أطول وقت...
    (إنها الحدود مرة أخرى)
    عندما دارت عجلات الحافلة داخل الوطن أول أمتارها هبت في نفس كفاح موجة عشق و شوق لسورية...
    كفاح كان من أولئك الذين لا يعرفون في أي مقام يضعون (من يحبون) بالمقارنة مع (من يحبون) ، كان لا يعلم هل يحب سورية كأمه أم أمه كسورية...
    جاشت عواطفه و هو يمر بالقرى و المدن التي لم يرها زمناً طويلاً ، المشهد هو هو و كأنه لم يحدث شيئ في العالم الآخر ، نفس الطريق الضيّقة التي تمر في التجمعات السكنية و نفس المشهد تماماً ، أولاد لا يجدون مكاناً يلعبون به فيشتهون ألا تمر أية سيارة على الطريق الصالحة لكي تتحول لمكان للعب كرة قدم..
    مر الباص بكل هذا قاطعاً طريقه إلى حلب هناك حيث كان عليه أن يغير الباص إلى مدينته...
    كان لقاء كريم و الاهل حميمياً فيه فرح و ألم فيه جوع للبكاء السري و العلني ، ضم ولده بحرقة و كان الولد يعانق أباه بين المصدق و غير المصدق و كانت لغته العربية جميلة ساحرة ( شاب صغير بين يدي كفاح هو كنزه الحقيقي هكذا كان كريم )
    بقي في البيت يومين ثم ذهب الى العنوان الذي كتبه الشرطي على الورقة للمراجعة الامنية.
    دخل كفاح الى مكتب صغير فيه رجلان أعطاه أحدهما مجموعة أوراق بيضاء قائلاً :
    - اكتب قصة حياتك !
    - قصة حياتي ؟
    - اي نعم بس مختصرة يعني وين درست و لوين سافرت و شو بتشتغل و انتماءك السياسي يعني اكتب شي خمس صفحات .
    - نظر كفاح للرجل مبتسماً و أمسك القلم و شرع يكتب .
    كتب بحسب ما قاله الرجل اهم الاشياء و عندما سلم الاوراق اخذها الشرطي منه و ترك الغرفة و مرت نصف ساعة وجد كفاح نفسه بعدها في مكتب شديد الاناقة .
    - اهلا دكتور اتفضل
    - شكرا
    - سيكارة
    - ممكن
    - قهوة
    - وسط
    طلب الرجل القهوة مشعلاً لنفسه سيكارة أيضاً و تابع القول :
    - نحن نعرف أغلب ما كتبت في شيء ما كتبته
    - أكيد فيه بس تفاصيل
    - شوف انت لازم تتكرم انت مناضل و نحن نعرف سبب سجنك في بلغاريا ، كان يمكن لحياتك أن تكون أخرى !
    - لماذا المراجعة أمنية ، هل أنا متهم بشيء ؟
    - آه عندك مشكلة تشرب قهوة عندنا ؟ اذهب و عش حياتك و لا تقلق من شيء
    - لا أبداً ما هيك أقصد
    - فهمت .. فهمت
    - أنا بفهم القضية الامنية كويس و ضروراتها بس كان ممكن أسلوب آخر معي
    - كيف ؟
    - انتو بتعرفوا اني صرت ببلدي و قهوتي كمان طيبة بصراحة أمي خافت كتير و الاهل .. و أنا بعرف حالي منيح ... بس !
    هنا وقف الضابط مصافحاً مودعاً :
    - شرفت أهلا و سهلا فيك .. دايماً فيك تشرب قهوتي دكتور .
    - شكراً
    خرج كفاح من المبنى و هو مرتاح .
    (الامن كلمة تشبه سكر الشاي فلا زيادة و لا نقصان )


    مر كفاح على ابي الجود أيضاً فاكتشف هول المسافة التي صنعها الزمن بينهما و بعد نقاشات طويلة قرر السفر ثانية الهجرة مرة أخرى ، العيشة معك فظيعة أبو الجود ! و مع أنه لا يحب نصائح أبو الجود الا أنه سمع منه هذه المرة في ضرورة السفر الى الغرب عساه يجد هناك نجاحاً مادياً ، كانت الهزيمة المادية تلاحقه و ولده يكبر و كان عليه مساعدة الاهل أيضاً




















    الى الغرب مهاجراً يا ابا الجود :

    أصبحت المدن العربية أمكنة للفوضى و الفساد و العذاب و الفقر و...الدم عندما يكون الحديث فلسطينياً أو عراقياً خاصة و لا تعفى باقي أرض العرب من حصص تقل هنا و تكثر هناك من شراب القهر الذي نقصده .
    برغم هذا فان كفاحاً الذي وصل جنيف السويسرية لم يكن يحسد جنيف و أهلها على نمط حياتهم ، فالجنيفيون لم يبدوا عندما كان كفاح عندهم بنظره فرحين و مبتسمين بل كانوا يشبهون معسكراً للجيش متوازع الأدوار و يعمل بصمت و الفرق الرئيسي بين جنيف و كل ما هو عسكري هو الألوان....فأهل جنيف يستيقظون باكراً مثل العسكر و يتصرفون كل يوم بنمطية واحدة صاعدين إلى الحافلات أو الى سياراتهم و يذهبون إلى عملهم في الصباح متبعين لتعليمات صارمة ، لا يخالفها أحد.
    يرتاحون لغداء سريع بين الواحدة و الثانية بعد الظهر و يعودون لأعمالهم حتى الخامسة حيث تعود طوابير السيارات و الناس للظهور قوافل في شوارع المدينة المنظمة ثم لتختفي في مرآباتها و كراجاتها و أمام البنايات و يغط الجنيفيون في نمط حياتهم المسائي بصمت شديد لا يقطعه إلا كلمة (بونجور) أو (بونسوار) مهذبة يلقيها أحدهم عليك في الشارع.
    الألوان...الألوان هي التي تختلف فلا ريب أن جنيف لم تترك وسيلة لتزين بها نفسها ولا لوناً حلواً إلا و استخدمته لكي تظهر نفسها بحلة أحلى ...ولكن!؟؟،
    برأي كفاح ليس هناك ما يحسد عليه أهل هذه المدينة....إلا ذكاءً أكسبهم المال و اللعنة ، حيث يزيد عدد البنوك على عدد الدكاكين فيها و حيث تسكن رزم كبيرة من الأموال التي وَجَدَت في جنيف منجاةً لها من النور ، فهذا المال الذي نتحدث عنه هو مال الظلام ، الظلام دون تشديد اللام ولا مانع من تشديدها إذا أراد القارئ الاستدلال على أصحاب هذه المال!!...
    هكذا كان كفاح يفكر و هو العربي الذي سحقته مطحنة الظلم الآدمي فلم يستطع أن يرى حتى ذلك الوجه الذي لم يَظلِم أحداً في عاصمة الكانتون الفرنسي السويسرية و قرر (أي الكانتون) أن يشتغل مصرفياً و حامياً (للنفائس) عند باقي الأمم ، و ربما نقول ربما ، أنه اقتنع بأنه لن يستطيع ممارسة دور القاضي العالمي في وقت تمارس فيه الدول الكبرى ماهو أبشع من تخبئة المال و اختراع الأقفال المعدنية و الالكترونية و الرقمية و حتى...السياسية.
    عندما كان كفاح في المدرسة الابتدائية كان يحتار في زميله عمّار الذي تعلم من أمه الأجنبية كيف يرتب كل شيء بعناية فائقة إلى حد لا يطاق ، فلقد كان عمّار ساعةً تمشي على قدمين فلقد استطاعت أمه الروسية برغم عجينة ابنها العربية –أبوه سوري- أن تجعل ابنها يرقم حتى أقلامه واحداً واحداً و كانت دفاتره مثار اعجاب المعلمات في المدرسة ، حتى أن (وظائفه) كانت تأخذ أنظارهن بزينتها ، فكن قليلاً ما يعطين اعتباراً للمحتوى ، و برغم أن عماراً القادم من صقيع روسيا كان يقول اسمه (أمّار) بدلاً من عمار و قد احتاج لوقت غير قليل لتحسين الفعل و الفاعل و المبتدأ إلا أنه بتنظيمه و ترتيبه حاز بسرعة على مكانة و حظوة مثلى لدى الطاقم التعليمي...
    ثمن (السيستم) العماري بالطبع كان باهظاً برأي كفاح لأن عماراً هذا كان غريباً بسلوكه عن أقرانهِ ، فحين تحين الفرصة و يُخرجُ عمار وجبته الدسمة (سندويشة+موزة+تفاحة+شوكولاته) لم يكن يسرع مثل الجميع لتضييف لقمة (عضّة) للآخرين ، مثلما كان يفعل أغلب التلاميذ..!
    يقر كفاح داخلياً بنوع من الغيرة الداخلية من (أمّار) هذا برغم أن لفافة (المكدوس) التي كان يأكلها ، كانت أطيب من خاروف محشي ، ولكن منبع الغيرة هو أن (أمّار) كان يأكل و كأنه يخبّئ شيئاً عن الآخرين و كان الجميع يتمنى أن يكتشفه...
    بعد سنوات أصبح (أمّار) عْمّاراً بكل معنى الكلمة و رغم بقاء نزعة أجنبية بسيطة فيه إلا أنه تكيف و اندمج بقوة مع محيطه و لم يعد يلحس الموزة قبل
    أكلها بل وصلت عروبته إلى حد بلعها بسرعة و الانخراط في ألعاب التلاميذ الممتعة من مصارعة و مباطحة...وكرة قدم....
    وجه المقارنة كان صحيحاً لدى كفاح بين هذه المدينة السويسرية شديدة الترتيب و التنظيم و ذاك ال (أمّار) النصف روسي الذي صار فيما بعد صديقاً عزيزاً سافر دون عودة إلى الولايات المتحدة و لم يخطر ولا مرّة على باله أن يتذكر طعم الخبز و السكر...عفواً الخبز و الملح ، الذي أكله مع أحد في المدرسة و لا حتى في الحي الذي اشتركا فيه مع صاحبنا كفاح...
    جنيف تلحس موزتها وحدها يا ابو الجود !


    ابو الجود بعدك معي كم بناية اشترى لك ابوك ؟

    لم تكن جنيف هي المدينة الوحيدة التي التجأ اليها كفاح هارباً من كل شيء ، بل في الحقيقة كانت جنيف محطة من محطاته الكثيرة و من تنقلاته التي لا تنتهي ، حتى وكأنه صار المسافر الدائم و الهارب بلا توقف من مكان إلى آخر و كأن محطته الحقيقية صارت هي (السفر) نفسه ، وصار يشعر بوجوده في المطارات و الباصات و القطارات و كأن أشياءه هي الحقائب فقط و أسرته و أصدقاؤه هم أولئك المسافرون معه ، هذه المسألة أعطته قدرة فائقة على سرعة التعرف على زملاء السفر ، و فتح الأحاديث معهم وكأنه يعرفهم منذ سنين ، مع أنه كان يعلم أنه من النادر أن يحصل الاتصال بعد انتهاء السفر و مع ذلك فلقد كان صاحب استعداد ساذج للحديث عن أخص خصوصياته مع زميل السفر...أو زميلة السفر.
    فمنذ شهر تقريباً جلست بقربه في الباص رسامة بلغارية تدعى (آنْا) تعمل في مدينة (غرونوبل) الفرنسية في شركة لتنظيم الأفراح يمتلكها أرمني ، هذه الآنا كانت بسيطة للغاية و لكنها تمتلك ضحكة رائعة و غريبة لعبت دوراً مهماً في قتل ملل الإثنتي عشرة ساعة من السفر الليلي عبر النمسا وايطاليا ، حيث لا يستطيع المرء أن يرى شيئاً عبر زجاج النافذة ، ولكن كفاحاً وجد منظره المفقود في وجه (آنا) و شعرها الملموم بطريقة الرسامين





    الفوضوية و ضحكتها الغريبة الجميلة ، وبدأ و آنّا يتسابقان كل منهما في الحديث لكسر ملل الليل المسافر الطويل بينما كان المسافرون الآخرون نائمين ، وكان بعضهم يحاور بعضهم بلغة (الشخير) التي كانت هي مفتاح أول جملة قالها كفاح لآنا بالانكليزية معلقاً على (شخرة) متميزة من الراكب النائم في المقعد الأمامي :
    - اسمعي !
    - خرررر
    - كيف.....يا سلام "ألفيس بريسلي"
    صعق كفاح لردة فعل الصبية فلقد فقعت ضحكة أيقظت نصف النائمين....
    وضع كفاح رأسه بين كفيه ضاحكاً هو أيضاً محاولاً التمويه عن نفسه تجاه نظرات الركاب (الغبية) المتسائلة عما جرى بينه و بين هذه الشقراء البلغارية فجأة و جعلها تضحك هكذا دون استئذان...
    قال لها :
    - خففي ضحكتك لو سمحتِ..لو علمت أنك ستنفجرين هكذا...ما تكلمت عن الشخير قال بهمس !
    - نعم و لكنني منذ نصف ساعة أكتم ضحكي مما يحصل في هذا الباص من سؤال و جواب (بالشخير) فليم يبق لي إلا تعليقك..لأفعلها..
    مد يده مصافحاً و معرفاً عن نفسه :
    - كفاح
    - آنّا
    - أهلاً..إلى أين تسافرين؟
    - إلى \غرونوبل\ و أنت؟
    - جنيف
    وكانت رفقة سفر جميلة ، لم يكدرها سوى ذلك الثمل السلوفيني الذي كان في تلك الليلة الباردة نسبياً يحرس وحده حدود سلوفينيا و كرواتيا...ووحده ، ووحده كان يؤكد موت يوغسلافيا السابقة و يتحدى كل آمال (جوزيف بروس تيتو) الميتة التي عقدها على شعبه بالبقاء واحداً موحداً قبل أن يموت هو.
    صعد سائق الباص (الاحتياطي) قائلاً:



    رجاءً...انزلوا من الحافلة مع جوازات سفركم فالشرطي يريد أن يراكم فرداً فرداً..
    في الحقيقة توجس كفاح شرّاً فلم يحصل هذا في الحدود التي قطعوها قادمين من صوفيا عبر صربيا و كرواتيا فقط كان يجرب تدقيق روتيني على جوازات السفر و توضع أختام الدخول و تستمر الرحلة...اما هذا السلوفيني الذي بات يشعر بأوروبيته أكثر من الفرنسيين و الألمان فلقد قرر لسبب ما إنزال الأربعين راكب و تفحص وجوههم فرداً فرداً...
    تساءل في نفسه : هل أن اسمي المسلم هو المشكلة؟خاصة و أن ما يحدث في العالم و (مصنع) الاعلام العالمي بات يستبدل كلمة "سيد" أو "سر" أو "مسيو" بكلمة "الارهابي" إذا كان الشخص المراد التعريف به عربياً أو مسلماً...
    لقد جاء حدسُ كفاح في مكانه فعندما جاء دوره و قدّم لذلك الشرطي جواز سفرهِ نظر اليه بغرابة!!ولم يستطع كفاح معرفة شعوره عن طريق قراءة العينين :
    ثم سأله بفظاظة :
    - إلى أين تسافر؟
    - إلى جنيف
    - وماذا ستفعل في جنيف
    - زيارة...في كل سنة أزور جنيف و هذا جوازي معك يمكنك التأكد...
    نظر الشرطي في الجواز و قلب صفحاته و هو يقلب شفتيه إلى الداخل و يهمهم ...
    في الحقيقة قبل أن أكمل ما حصل أريد أن أسرق عنايتك أبا الجود لأقول أن كفاحاً قد احتاط في صوفيا لمسألة تعوّد عليها من خلال السفرات السابقة ، ففي السنة التي سبقت سأله حرس الحدود (الطليان) إن كان يحمل مالاً ، ثم فهم بعد ذلك أنهم يريدون التأكد أن المسافر ليس شحاذاً (شرق أوسطي) يأتي لكي يقيم سراً في أوروبا و يعمل بشكل غير نظامي أو يطلب اللجوء...
    وبما أن كفاحاً أخرج لهم حينها مبلغ الثمانمئة يورو الذي كان يحمله و مع ذلك فأنهم ختموا جواز سفره على مضض ، وعليه فلقد قرر صاحبنا أن يتحصل على "فيزا كارد" و قرر أن يضعه بين أوراقه الشخصية ، كنوع من أنواع (الفيزا) المالية ، التي تثبت (لأبناء العالم الغني) بأنك لست شحّاذاً (شرق أوسطي) ، و بالفعل جمع كفاح ما تيسر له من مال ، حيث كان

    يكتب في عدة صحف و يمارس مهنة التدريس و ذهب إلى مصرف قريب حيث أودع ألف دولار طالباً أن يمنح مقابله "ديبيت كارد" و ليكن من نوع "فيزا" كارد..
    و بالفعل أتم كفاح مسألته خلال يومين مع المصرف و صار من أصحاب الإيداعات المصرفية و في الحقيقة –كما يفهم القارئ- فقد كان هدف كفاح (الخبيث) واضحاً و هو أنه عندما يعبر الحدود أن يبرزه بدلاً من أن يعد نقوده أمامهم ، فيكفوا هم عن ممارسة سفالة الأغنياء مع (شرق أوسطي) مسلم و فقير يزور جنيف كل سنة مرة ليطمئن على (أخته) المكافحة التي تعمل في احدى منظمات هيئة الأمم المتحدة في جنيف.


    أترى يا أبا الجود تركنا الحرامي و هو ما تركنا :
    نعود الى الشرطي السلوفيني
    نظر الشرطي مرة أخرى إلى كفاح و سأله
    - هل معك نقود؟
    - هنا
    - أخرج كفاح بطاقة الفيزا التي يحملها و أبرزها بوجه الشرطي السلوفيني و لم يستطع كتم ابتسامة سخرية أمام هذه الممارسة الفظة منه ، فما كان من الشرطي إلا أن رمى الجواز على الطاولة و صرخ :
    - اذهب و انتظر هناك..مشيراً إلى الجهة الأخرى من القاعة
    ساعتان و نيف كانتا كافيتين لكي يبدي الشرطي السلوفيني كل حقده على هذا العربي المسافر الى الغرب ثم ليتركه يكمل طريقه ...

    تحرك (الباص) الذي يقل المسافرين و جلس كفاح في مقعده يحاول تهدئة نفسه من تراكم الغضب و التعب و الجوع ألم تكف ذاك السلوفيني التعيس ساعتان و نصف من التعذيب و الانتظار حتى سمح للمسافرين بالاستمرار برحلتهم ، لقد كان هذا الشرطي يعتقد بحماقه بأنه ينتقم لشيء ما في داخله بتعذيب انسان لقبه (محمد) ، لقد مارس كل أنواع النقص النفسي معه بطريقة الحوار و الصياح غير المبرر و بإجباره و الجميع على الانتظار ساعتين في ذاك البرد الحدودي المظلم.
    انقلبت ضحكات (آنا) الرسامة ، إلى دمعات و قالت :

    كم أنا حزينة على الانسانية؟
    قال لها :
    - لا تحزني كثيراً ، لأنها موجودة فيكِ...
    ومرَّ صمت لبرهة من الزمن...وقت احتاجه كفاح ليحاول استعادة بعض من مزاج ضروري يحتاجه المسافر الذي لا يستطيع النوم و الشخير فالمسافر الحقيقي و عاشق السفر لا يقوى على النوم فتفوته بقعة من جغرافيا الله فيخسر رؤيتها....فناموس المسافرين الدائمين يتلخص في عبارة لإحدى الأدباء الصرب :"أجمل مافي السفر هو أن أشياء كثيرة تحدث لك، مع أنك لا تفعل شيئاً"!!

    في جنيف :

    بقي كفاح في جنيف مدة بعيداً عن أهله و عن ولده و عمل في كل شيء
    من تنظيف الشوارع (حامل درجة الدكتوراه في الصحافة) الى غسل
    الاطباق في المطاعم ... /كان يفكر فيك أحياناً يا ابا الجود/ خاصة أن
    غسل الاطباق يعطي الذهن فترة تأمل و راحة ، كان يفكر فيك و بكل
    شيء و تمر الذكريات متتابعة من ميساء التي منع عنها و ذهابه الى لبنان
    ثم الحرب و الاسر – على فكرة رجله تؤلمه من وقت لاخر- ثم وجه الضابط الاسرائيلي الذي حقق معه و عذبه و كان يقف و يدعس على مكان الجرح و يطفئ السجارة بجسده ثم الابحار هرباً برفقة عبدالسلام الذي اشتاق اليه ثم زواجه من فيرا الممرضة البلغارية ثم موتها بهذه الطريقة و كريم و الفقر و الدراسة ثم كل شيء

    و كل شيء ....
    في مساء أحد الايام دعاه الصديق التونسي (محمد بن عيشة) لحضور سهرة في قبو المكتبة التي كان يملكها في قلب المدينة و جاء كفاح الى السهرة التي استمرت حتى الصباح . كان المدعوون عرباً من العراق و السودان و مصر و لبنان و تونس و المغرب و البحرين و فلسطين و كان هو السوري الوحيد .
    كان (بن عيشة) شاباً عالي الثقافة و رئيساً لنادي الصداقة السويسري التونسي و ناشطاً في جماعات مناهضي العولمة و ذو منهج يساري و العرب الباقين مثله تقريباً و كل منهم ترك وراءه تاريخاً يرويه ، أدار بن عيشة بعض كؤوس النبيذ على ضيوفه مع مثلثات البيتزا الساخنة حيث قامت فتاة تونسية ذات جمال مخيف بتقطيع البيتزا و هي تقول بعربية ممزوجة بالفرنسية : (احنا نعملوها البيتزا في البيت ، ما تفكغوش نشتغيها ) (كانت تلثغ بالراء على الطريقة الباريسية) و ما ان انتهت مع دورها الانثوي الشرقي حتى جلست على كرسي يقابل كفاحاً تسطو على عينيه بكل وقاحة خصوصاً و أن ساقيها النصف بيضاوين كانتا تلعبان بحرية بالغة لا تمنعهما تلك التنورة القصيرة عن اللعب و الطيران خارج أي سرب .
    مرت النصف ساعة الاولى من السهرة العربية تلك بتبادل النكات السياسية و كانت أحلاها (جزائرية) ربما لأنه لا جزائري في السهرة ! فروى أحد الحضور أن الشاذلي بن جديد كان يتبول في كل جمعة و هو ذاهب الى قريته على قبر معلمه لأن ذاك (أي المعلم) كان يقول له على الدوام : يا ولد اذا شي يوم بيطلع منك شي رجل عليه القيمة تعال بول على قبري !
    و كانت الضحكات العربية تقتل صمت المدينة الغنية الهادئة و تصل الى أفخم فنادقها المشغولة بعرب تناولتهم النكات عينها ...
    أما العراقي فلقد نافس الجميع تنكيتاً فالنكتة الأحلى بنت القهر الأسوء فروى بلهجته العراقية : تشان واحد عراقي يريد يشتري تشلب (كلب) راح سوق التشلاب و باوع (نظر) باليمين و بالشمال و شاف واحد عنده تشلاب زينة و سأله :
    - أخوي هذا التشلب شيسوا ؟
    - خمس و عشرين ألف
    - (مندهشاً) ليش حيل غالي !
    - أخوي هذا تشلب مدرب لمن يجيك حرامي ع البيت يظل يعوي لمن تمسكون الحرامي
    - زين ... و الي بجنبه شقد يسوا ؟
    - خمسين ألف
    - أوه ... ليش شيسوي ؟
    - هذا لمن يجيك حرامي يظل يعوي لمن تمسكون الحرامي و زود يعظ (يعض) معاكم أخوي !
    - طيب ... و ذاك المزيون الصغير شيسوا ؟
    - نص مليون يسوا
    - أخ .. أخ .. نص مليون شيسوي ؟
    - ترى معرف شيسوي بس هذاك الثني نالي عجبوك ينادوله (يصيحون عليه ) يا أستاذ !
    (اضحكي يا جنيف أو استفيقي على بكائهم)
    بعد مدة أمسك (بن عيشة) بزجاجة نبيذ فارغة ووضعها على الطاولة على بطنها ثم أدارها بقوة فدارت عدة دورات ليتوقف فمها عند جهة (خالد) العراقي و قال المضيف : هيا يا صديقي الدور عليك . كانت هذه لعبة مسلية تدور فيها الزجاجة لتقف مشيرة الى أحد الحضور فيحدث عن نفسه شيئاً .
    قال خالد : ها أغني لو أحشي
    الجميع : الاثنتان
    خالد : أحشي بالأول ، أول شي لعنة الله على الظلم و الظلام .. زين ؟
    الجميع : زين
    خالد : آني عراقي من بغداد اتذكر لم تشنت صغير تشان أبويا عندا سيارة فولس فاجن صغيرة شباب (التشبه السلحفاة) و تشان ياخذنا و يا العائلة ع دجلة كل يوم جمعة و تشنا كلش نفرح و نلعب و ناكل سيمتش (سمك) مسقوف .. لحد هساع زين
    الجميع : زين
    خالد : بعد فترة تشنت أشوف الفولس فاجن البيضا تناديلي أطلع بيها بس مدا أشوف أبويا ، أسأل أمي : أمي و ين أبويا و أمي تبتشي !
    و كان لازم أصير بالثالث متوسط حتى افتهمت ان أبويا سحله النظام ، قتله النظام ... نظام صدام حسين ! و اليوم راح صدام اجا الاسوأ صار السحل و القتل ( بروغريسيف) يعني الاحتلال الامريكي دعم صدام يقتل العراق و اليوم يقتلنا بنفسه ...
    و بهالمناسبة كاس العرب ال ............ و بدأ يغني بصوت شجي :
    حييت سفحك عن بعد فحييني
    يا دجلة الخير يا أم البساتين
    حييت سفحك ظمآنا ألوذ به
    لوذ الحمائم بين الماء و الطين
    يا دجلة الخير أدري بالذي طفحت
    به مجاريك من فوق و من دون
    لعل يوماً عاصفاً عرما يأتي
    فترضيك عقباه و ترضيني
    و مع أن (بن عيشة) و (كفاح) و (بلال) و الجميع لم يغالبوا دموعهم الا أن الزجاجة كانت تدور لتقف عند البنت التونسية التي عرف كفاح أن اسمها
    (سرُُة) فقالت :
    أولا ما نقدغوش نغني مثل (خالد) طبعاً بس نقدغو نبكي معاهو و مع حظغاتكم مطاغيد الأنظمة العغبية الأجلاء الكغام (اكسكوزيموا بوغ مون آغاب سيه تغرية تغرية ضعيفة !!!!! تضحك )
    أبويا تونسي أمي سويسغية التقيا في حفلة غاقصة كيفاش ديا (مثل هذي ترجم بعض التوانسة) و كانت ليلة ليلاء ........ بوم بوم للصباح فحملتني أمي في بطنها( عجالة) دون زواج و خغجت من بطنها الى الدنيا الساحغة الجميلة حتى جا أبويا و أخذني معه لتونس تغبيت في بيته مع زوجته التونسية الأولى و كانت حنونة عليا بس أنا بقيتو مجنونة كيفاش تعرفوني ( هههههههههها ) تضحك بعنف ، طبعاً أمي ماتت من الكحول لأنها كانت مدمنة (أطلب لها الغحمة- الرحمة) أصعب شي اني تغبيت في ملجأ أيتام قبلها و لما كبغت غحت أدوغ على أهلي و لقيتهم و خدني أبويا لتونس ، تونس الخضغا ، تونس ، تونس ............ (تبكي)
    و بهالمناسبة أغقص لكم غقصة عغربية ... و رقصت سرُُة بطريقة ساحرة و تمايلت على أنغام الموسيقى العربية التي صدحت من مسجل صغير ، كانت الموسيقى في الحقيقة هي أنغام موشح حلبي يدعى (ملأ الكاسات) : يقول :
    أمان ... أمان .. أمان و يعيدها صباح فخري بطريقة مذهلة حتى يجن الليل
    و تغني الجدران مع الأرواح
    (العرب أغنية )
    دارت الزجاجة ثانية بيد المضيف و هو يقول (يا رب تجي عند السوري )
    و لكنها لم تفعل بل وقفت عند تونسي يلقبونه (بيرم التونسي) و لم يكن بالطبع هو بيرم نفسه بل رجل في العقد الخامس من العمر يدخن الحشيشة علناً أمام الحضور و قال (بيرم) كلاماً غير مفهوم أحتاج الى ترجمة (بن عيشة) ليس لأنه لا يتكلم العربية بل لأنه يتكلم (الحشيشية) ... فهم كفاح عن بيرم أنه سجين سياسي سابق في أقبية النظام التونسي و أنه تعرض للتعذيب الشديد و أن له خمسة أولاد لم يرهم منذ سنين !
    دارت الزجاجة لتقف عند كفاح هذه المرة فحدث قصته للسهارى الحاضرين
    و بعد أن انتهى و قف (بن عيشة) رافعاً كأساً يقول :
    أهلاً بالقادم العربي الجديد الينا ، أهلاً بك في سلة المحذوفات العربية الساكنة في مدن البرد ...و ضحك الجميع من ذكاء التعبير المأخوذ من نظام مايكروسوفت الكومبيوتري ..
    دارت الزجاجة لتقف عند شاب فلسطيني يدعى كمال فقال :
    كمال : خرج أهلي من القدس في 1967م و رحلنا الى عمان ثم بعد ثلاث سنوات خرجنا الى لبنان بعد أحداث أيلول الأسود و كبرت في لبنان اختلف أبي مع ياسر عرفات و جماعته ، حتى الثوري مصاب بعقدة الدكتاتور يا شباب ! فجاء أبي بنا الى هنا و الان كلكم تعرفون أبي و من يريد منكم سندويشة فلافل يستطيع أن يأكلها غداً من تحت ايدين أبو عزمي (الجميع كانوا يعرفون محل أبو عزمي الفلسطيني) صار أبوي يعمل فول و فلافل في سويسرة و بطل ثورة ، لأنو حس أنو استمراره بالثورة بيعني أنو يثور كمان على اخوانه مش بس ضد العدو ....
    دارت الزجاجة مرة أخرى لتقف عند (بلال) التونسي و كان هذا الشاب من النوع العصبي جداً و لكنه نشمي و رجل بمعنى الكلمة فقال :
    بلال : شحالك توقفي عندي ، ما عندي حتى نقولو شي غير
    ................... أم الانظمة العربية
    و كاس مظفر النواب و هاني أصدر أمر عسكري لمحمد يسمعنا مظفر النواب ...
    محمد : ايش تسمعون
    بلال : حتى أي شي لمظفر
    قام بن عيشة الى المكتبة فهو كان يدير مكتبة تشبه الارشيف العربي الكامل لكل الكتب و الاشرطة السمعية و البصرية العربية في الادب و التاريخ و العلم و التحليل السياسي و الفلسفي ، كانت مكتبته غنية بحق ...
    عاد ليضع شريطاً مظفرياً و لكنه قبل أن يضعه قال للجميع :
    غداً مساءً هناك ندوة حول نشطاء السلام العالميين أدعوكم جميعأ للحضور في مدرج جامعة جنيف ... تعالوا ها ...
    و كانت السهرة المظفرية حتى الصباح و قد بدأت
    عبدالله و الليل أقارب
    عبدالله و الليل أقارب
    هو أول من يعرف في الجذف
    و لا يملك قارب
    ثم دارت الزجاجة لتقف عند سمير اللبناني الذي بدأ بسرد أشياء من حياته و حياة أهله قائلاً :
    يا عمي كل شي سهل الا لما بتخاف من جارك ، من أهل حارتك ، أبشع شي الحرب الأهلية ، أنا عندي وليد صغار و امون ، مرتي مسيحية و أنا مسلم بعرفش فرق ، نحنا بشر لبنانية و عرب و فجأة كلو صار يضرب ع كلو معادش في أمن ، تركت ورايي مصالحي و تجارتي و بيتي و هربت ع سويسرة ، كانت تجيني رسايل تهديد من الطرفين لأنو أنا من دين و مرتي من دين ولك أيا دين هيدا اللي بيدبح و بيقتل يا عمي ... صرت بدي قلو لوديع الصافي كذاب انت يا بوفادي بس برجع بقول لأ مش كذاب وديع : و بدأ يغني رح حلفك بالغصن يا عصفور ... بالورق بالفي بالنبعات
    و لبنان يا أخضر حلو .... و زاد في شربه .. حتى ثمل !



    أما المصري فقد أمسك عوده و بدأ يغني دون أن تصل عنده الزجاجة غنى المصري لامام :
    سايس حصانك ع القنا و تعالا
    تلقى القوليلة مدورة و ملانة
    الصدر مرمر و النهود عريانة
    مديتا يدي ع النهود اتفرج
    نترت دراعي يا دراعي يانا

    سايس حصانك بعد غيبة طويلة
    يا عاقد الطربوش مع النرجيلة
    العمر طول و السعادة ليلة
    العمر طول و السعادة ليلة

    ( حتى آخر الأغنية )
    توحد العرب الأغاني الباكية ، و يجدون أنفسهم سويةً لكن خارج الوطن !





    الندوة أبا الجود :


    في اليوم التالي و كان يوم عطلة ذهب الجميع الى جامعة جنيف و كان العنوان (ندوة عن السلام في الشرق الاوسط) جلس كفاح بين الحضور ... تحدثت أولاً صحفية سويسرية اسمها " سيلفيا كاتوري" كانت تذهب الى غزة مضحية دون خوف لتساعد الفلسطينيين و كادت تموت أكثر من مرة , تحت جرافات الاحتلال مثل راشيل كوري، و تناوب البعض على الحديث حتى جاء دور داعية سلام اسرائيلي ليتحدث وقف (الداعية) ليقول بالانكلزية : علينا ان نعيش سوياً مع العرب أنا أكره الحرب أريد العيش بسلام ,أتمنى أن أقود سيارتي في دمشق و بيروت بأمان و استرسل في حديثه .... و اثناء كلامه تمعن كفاح في وجهه جيداً ، هل هذا هو؟ نعم انه نفس الرجل ! انه ... انه !!! ثم وقف ليصيح بأعلى صوته بشكل ارعب الحاضرين .... ( لا , لا هذا الرجل كذاب !! لا تصدقوه !)

    و مشى كفاح باتجاه المنبر و هو يعرج و ينظر في عيني الرجل و اطبق على القاعة صمت مذهل غلفته الاثارة و نظرات الجميع ....
    امسك كفاح المايكرفون و قال : اسمي كفاح محمد ، أنا مقاتل سابق في صفوف الجبهة الشعبية و جرحت في الحرب
    قبل أن أتحدث عن هذا الرجل أريد أن أروي لكم حكاية العقرب و الضفدع فلقد حدث أن هطل مطر شديد في أحد الحقول و تحاصر عقرب في منطقة صغيرة و الماء يزيد ارتفاعه فمر به ضفدع و ركض يهرب منه فصاح العقرب :
    - الا تنقلني للضفة الاخرى
    - أنا
    - نعم أنت تجيد السباحة
    - ألن تعقصني
    - ويحك أأعقصك و أنا بحاجة اليك ؟
    فكر الضفدع ملياً ثم قال :
    - كلامك منطقي لن تعقصني فأنت بحاجة الي بالفعل و الا سيطمرك الماء و تموت
    - اذن هيا
    فحمل الضفدع العقرب على ظهره و سبح به و في منتصف المسافة عقص العقرب الذي يركب ظهر الضفدع حامله فصاح الضفدع متألماً
    - لم فعلتها سنموت سوياً؟
    - أعرف سنموت سوياً أنت من سمي و أنا غرقاً لكن هل أغير نفسي !!!
    همهم الحضور و صمتوا و بعد صمت قصير تابع كفاح حديثه :

    هذا الرجل الذي يتحدث هنا عن السلام هو الضابط الاسرائيلي الذي كان يعذبني في المعتقل 1982م لا تصدقوه لا تصدقوا كلمة واحدة مما يقولها ... نعم السلام جميل و نحن نريد السلام لكن ما يريده هذا ليس سلاما انه يريد شرعنة السرقة فقط ، الاسرائيليون الأوائل لا يعرفون ماذا تركوا لأحفادهم ! أيها الاوروبيون أنا أخاطبكم لكي تشهدوا أن الاسرائيليين تركوا لأولادهم العدم و الكراهية و أن المشروع ... كل المشروع ضد مصلحة أحفادهم اذا أرادوا السلام و الا فستركونهم عرضة لحياة العدم التي بدأ أكثرهم يحس بها من الآن ! .
    ووسط ذهول الحاضرين رفع كفاح عن ساقه مظهرا علامات جرحه و صاح بالرجل : كنت تعذبني بالكهرباء و تقف على جرح ساقي بكل ثقلك ! و تطفئ سيكارتك في جرحي ، أي انسان أنت ؟ تريدون استعطاف الأوروبيين و البكاء من أجل السلام !
    لامشكلة أعيدوا لنا بيوتنا و أرضنا أعيدوا المهجرين الى بيوتهم و قراهم و مدنهم و تعالوا نؤسس دولة ديموقراطية كبيرة استغنوا عن فكرة المشروع العدواني ، تعالوا نؤسس كياناً دولة ديموقراطية لمن يريد أن يعيش بحرية و كرامة و خير ، ثم على أن أستطيع محاكمتك فيها و محاكمة كل المجرمين بحق الانسانية !أن نحاكم كل من تسبب في آلام فلسطين و شعبها و قتلهم و شردهم و حتى أن نحاكم من غرر باليهود و أقنعهم أن يأتوا الى بلادنا ليقتلوا مستقبلنا . هل تعرفون ماذا سرق هؤلاء مع الارض يا سادتي
    هل تعرفون ماذا سرق هؤلاء مع الارض يا سادتي ؟
    لقد سرقوا تطورنا الطبيعي !
    لقد سرقوا تطورنا الطبيعي !
    أنا أشبه أمتي فأنا أعرج و سجين عدة مرات و لا أفق مادياً عندي و أغسل الصحون عند السويسريين و أنا دكتور في الصحافة ...
    لقد سرق هذا تطوري كانسان
    لقد سرق هذا تطوري كانسان
    هنا صاح صوت من القاعة بالفرنسية :
    - نحن نحاكمه هنا
    - نعم ... نعم نحاكمه (صاح كثيرون)
    قال الاسرائيلي :
    - العقرب قرصني أيضاً ...لقد قرصنا هتلر .. العقرب قرصنا
    - ماذنبنا نحن لكي تسرقوا مستقبلنا و أرضنا و تقتلوا أولادنا لقد كان هتلر محرقة لكل البشرية ... كفوا عن استغلال جرائمه لترتكبوا جرائم أخرى !
    أجاب الاسرائيلي :
    - لقد كنا يوماً في أرض اسرائيل و قد عدنا
    - صاح كفاح : اشهدوا كلكم أي سلام يريد ! يريد السلام و الكذب يريد أن يكون عقرباً صدقوني .. يريد أن ننقله الى الضفة الأخرى فقط !!
    و توجه بعض الشباب من اصل تونسي تجاه المنصة و رمى (بلال التونسي) بكأس قهوة في يده في وجه الاسرائيلي و هو يصيح في وجهه بالفرنسية :
    - انت عدو الانسانية و مدعي اخرج من هنا فوراً، أنتم أعداء الانسانية بالامس قتلتم (راشيل كوري) دهساً بجرافة و من ستقتلون أيضاً مع الفلسطينيين الذين تذبحونهم كل يوم ، حتى الزيتون تقلعونه من الارض الفلسطينية ، كنتم في فلسطين ! و الفلسطينيون كانوا في المريخ ؟!
    تدخل كفاح بصوت متهدج و بعد صمت :
    - علينا محاكمته فعلاً لكن المحاكمة الحقيقة هي لأي انسان صامت ،
    أيتها البشرية لا تصمتي !


























    أخيراً يا ابا الجود !

    هذه آخر رسائلي اليك يا ابا الجود و اتمنى ان تصلك و انت بخير و قد
    زادت اسهمك في البورصة العالمية و اشتريت نصف ابنية الشام و بعضاً
    من أبنية دبي ! اذكر يا عزيزي عندما كان أهلونا يجمعوننا صغاراً كي
    نلعب سوياً و كنت تلبس الشورت الانكليزي أما أنا فكانت عمتي أم جابر
    أطال الله عمرها تخيط لي و لاخوتي بدلاً من الكاكي الاشتراكي و كان
    ابي يحب منظرنا و كان جدي المتدين يقول : انا مع اشتراكية أبي ذر
    الغفاري !
    و هكذا يا ابا الجود نقلتنا الحياة كل الى موقعه و من موقعي ابعث اليك
    بالسلام ! و اتحدى ان تنشر في مجلتك روايتي !
    تمت –
    صوفيا خلال زمن طويل

  • #2
    رد: أبو الجود (رسائل عنا) -رواية

    (فدمشق لا يستطيع أن يطارحها أحد الغرام و لابد أنها ستبقى أكثر الفتيات في الكون شباباً و خلوداً في الشباب)
    اختياري لهذه العبارة لا يعني أنني لست معجبة بغيرها من العبارات ولكنني وجدت فيها شيئاً ما يهمني جداً
    أما عن باقي ما قرأت لا يسعني إلا أن أقف ومن ثم اصفق ومن ثم انحني احتراماً لكل كلمة مكتوبة في هذه الصفحة
    لا أريد أن أكثر في الكلام كي لا انزع جمال الموضوع ورونقه
    أضعف فأناديك ..
    فأزداد ضعفاً فأخفيك !!!

    Comment

    Working...
    X