إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رحل حنظلة ( ناجي العلي ) بعد 38 يوماً من إصابته في 29 أغسطس (آب) 1987

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رحل حنظلة ( ناجي العلي ) بعد 38 يوماً من إصابته في 29 أغسطس (آب) 1987

    حنظلة حيّ وناجي العلي رحل





    القاهرة - صـلاح الإمـام


    كانت عقارب الساعة تجاوزت الخامسة بقليل من بعد ظهر الأربعاء 22 أغسطس (آب) عام 1987، حينما وصل ناجي العلي إلى شارع «إيفز» وسط لندن حيث يقع مكتب جريدة «القبس» الكويتية. بعد أن ركن سيارته في أول الشارع، توجه سيراً على الأقدام في اتجاه مبنى مكتب الصحيفة لمسافة لا تزيد على 30 متراً. روى أحد زملائه أنه رأى ناجي يسير باتجاه المبنى من نافذة غرفته المطلة على الشارع، حيث كان يتتبع خطاه شاب شعره أسود وكثيف يرتدي سترة زرقاء. بعد ذلك بثوان قليلة سمع دوي طلق ناري، نظر على إثره من النافذة فوجد ناجي على الأرض، فيما كان الشاب الذي تعقبه يلوذ بالفرار إلى جهة مجهولة.


    وفقاً لرواية رجال الشرطة البريطانية، سار ذلك الشاب المجهول الهوية بمحاذاة ناجي، ثم أطلق النار من قرب على وجهه، فاخترقت الرصاصة صدغه الأيمن وخرجت من الأيسر.


    بعد وصول رجال الشرطة «سكوتلانديارد» إلى مكان الحادث استدعيت سيارة إسعاف تأخر وصولها بسبب الزحام الخانق، ونُقل ناجي إلى مستشفى «سانت ستيفنز»، وقد تجمعت بقعة من الدماء تحت جسمه وما زالت في يده اليمنى مفاتيح سيارته وتحت ذراعه اليسرى رسوم يومه. أُدخل إلى غرفة العناية الفائقة فور وصوله إلى المستشفى وهو في حالة غيبوبة تامة، وفي اليوم التالي نُقل إلى مستشفى «تشارنغ كروس».

    ظل العلي في غيبوبة تامة، وفي 29 أغسطس (آب) 1987 وبعد 38 يوماً من إصابته، تناقلت وكالات الأنباء العربية والعالمية نبأ استشهاده متأثراً بجراحه في «تشارنغ كروس» في لندن بعد أن فشلت محاولات إنقاذه، بعدها بذلت عائلته جهداً لتحقيق وصيته الخاصة بدفنه إلى جانب والديه في مخيم عين الحلوة قرب مدينة صيدا اللبنانية، لكن تعذر تحقيقها، ودُفن في بريطانيا في 3 سبتمبر (أيلول) 1987 في مقبرة «بروك وود الإسلامية» الواقعة في منطقة وكنغ على بعد حوالي 30 ميلاً من العاصمة البريطانية لندن، ورُفع العلم الفلسطيني فوق قبره الذي حمل رقم 230190 موقتاً ريثما تتهيأ الظروف لنقل رفاته إلى عين الحلوة.
    أُقيمت الصلاة على جثمانه في الساعة الواحدة والنصف بعد صلاة الظهر في مسجد المركز الثقافي الإسلامي في منطقة ريغنتارك وسط لندن.   
    في 9 سبتمبر أصدرت عائلة العلي في لندن بياناً إلى الجماهير العربية،  قالت فيه: «لقد ارتكبوا الجريمة الكبرى وهل ثمة في هذا العصر أكبر  من جريمة اغتيال رسام... اغتالوا ناجي الفنان الملتزم بقضية فلسطين، لأن ريشته أدّت دوراً هائلاً ومؤثراً في هذا الزمن العربي الرديء، ولأن فنه العظيم كان ينبع من الجماهير ويصبّ في بحر الجماهير. كان العلي ابناً باراً للجماهير البسيطة ولكل الناس الطيبين، من هنا شكلت رسوماته طاقة جبارة أزعجت كثيرين، لكنها كانت تمثل دائماً نبض الإنسان الفلسطيني المعذب وخلجات كل عربي مقهور... دفع العلي الثمن غالياً في حياته وقبل استشهاده ونحن عائلته دفعنا الثمن تشرداً وإبعاداً ونفياً، حملنا في الأخير إلى خارج الوطن العربي بأسره، إلى هنا، إلى لندن».
    البحث عن قبر!
    كان اغتيال العلي مأساة، لكن المأساة الكبرى التي كانت تقطر مرارة وتنضح علقماً، كانت البحث عن قبر له، فقد عاش بين الجماهير ويجب أن يبقى بعد استشهاده في حضنهم، والموقع الطبيعي لجثمانه قرية الشجرة الفلسطينية مسقط رأسه، لكن الشجرة وفلسطين كلها محتلتان ومغتصبتان، لذا تقرر دفنه في المخيم الذي نشأ فيه بين من أحبوه، «عين الحلوة».
    هكذا أجرت أسرته وذووه الاتصالات اللازمة، وحصلوا على التأشيرات المطلوبة وعلى تعهد مشكور ببذل كل مساعدة. لكنهم وجدوا صعوبة في تنفيذ رغبتهم، وأحاطت أجواء غامضة بالموضوع، وقالت شخصيات مسؤولة عدة إنها لا تستطيع ضمان أي شيء في هذا الأمر، فيما عبّر كثر عن خشيتهم من أن تستغل الجنازة لارتكاب مذبحة جديدة تضاف إلى سلسلة المذابح التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وما كان ناجي ليرضى بهذا ولا كان من حق أسرته القبول به. بعد إجراء اتصالات ومشاورات اتفقت الأسرة أخيراً على الدفن في المقبرة الإسلامية في بروك وود في لندن كدفن أمانة، أي دفن موقت ريثما تتهيأ الظروف الملائمة لنقل الرفات إلى عين الحلوة في أجواء أفضل كي تتحقق رغبة العلي وأسرته والجماهير في كل مكان، وكي يكون موكب الشهيد إلى مثواه الأخير مسيرة حضارية وثقافية تليق به وفنه وتراثه وروحه الطاهرة.
    سيرته
    ولد العلي، الملقب بـ «ضمير الثورة»، في قرية الشجرة عام 1936، التي تقع بين الناصرة وطبريا في الجليل الشمالي من فلسطين، ويُقال إنها أخذت هذا الاسم، لأن السيد المسيح عليه السلام، استظل في شجرة في أرضها.
    نزح العلي عام 1948 مع عائلته إلى جنوب لبنان، حيث استقر بهم المقام في مخيم عين الحلوة، وتلقى دروسه الابتدائية هناك، وكان يضطر إلى قطع الدراسة كي يعمل في بساتين الليمون، ثم حصل على دبلوم في الميكانيك من مدرسة مهنية في طرابلس شمال لبنان.
    في أواخر الخمسينات، التحق بأكاديمية الفنون في بيروت، ولاحقته المخابرات اللبنانية مراراً ودخل السجن مرات عدة، حالت دون إتمامه دراسته، فانتقل إلى صور، حيث عمل مدرساً للرسم في الكلية الجعفرية. عام 1963 سافر إلى الكويت، وعمل في مجلة «الطليعة»، ثم انتقل إلى جريدة «السياسة» حتى عام 1975، ومنها عاد إلى بيروت للعمل في جريدة «السفير».
    عام 1977 عاد إلى «السياسة» الكويتية، ثم ترك الكويت إلى بيروت عام 1983، ومنها كان يراسل جريدة «الوطن» الكويتية، ثم رجع إلى الكويت ليعمل في «القبس»، إلى أن أُبعد من الكويت، ويقال إن ذلك تم بطلب من ياسر عرفات عام 1985، فسافر إلى لندن ليعمل في مكتب «القبس»، وكان القاسم المشترك بين الصحف التي اشتغل فيها العلي أنها تُقرأ من الصفحة الأخيرة حيث رسوماته، على رغم من المعلومات الغنية التي تحفل بها الجريدة، وظل يعمل بها حتى اغتيل أمام مقرها في لندن.
    محطات
    حياة العلي حافلة بمواقف لا يستطيع إلا من اختبرها أن ينقلها بصدق، فهي رحلة حافلة بالآلام، عاشها ضيفاً على الأوطان.
    ننقل ما كتبه بنفسه في مذكراته عن حياته:
    «اسمي ناجي العلي... ولدت حيث ولد المسيح، بين طبرية والناصرة، في قرية الشجرة في الجليل الشمالي. أخرجوني من هناك بعد 10 سنوات في 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان. أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمري. أعرف العشب والحجر والظل والنور، لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفراً... لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك.
    أرسم... لا أكتب أحجبة، لا أحرق البخور، لكنني أرسم، وإذا قيل إن ريشتي مبضع جراح، أكون حققت ما حلمت طويلاً بتحقيقه. لست مهرجاً، ولست شاعر قبيلة، أي قبيلة، إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث دائماً أن تعود، ثقيلة لكنها تكفي لتمنحني مبرراً لأن أحيا.
    متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها. أنا لست محايداً، أنا منحاز لمن هم «تحت» الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات. أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم، ولمن يمضون لياليهم في لبنان شحذاً للسلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها... ولمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات».
    «عين الحلوة»
    تابع العلي: «كنت صبياً حين وصلنا زائغي الأعين وحفاة الأقدام إلى عين الحلوة. كنت صبياً وسمعت الكبار يتحدثون... الدول العربية، الإنكليز، المؤامرة. كذلك سمعت في ليالي المخيم المظلمة شهقات بكاء مكتوم، ورأيت من دنت لحظته يموت وهو ينطلق إلى الأفق في اتجاه الوطن المسروق، ألتقط الحزن بعيون أهلي، وشعرت برغبة جارفة في أن أرسمه خطوطاً عميقة على جدران المخيم، حيثما وجدته مساحة شاغرة... حفراً أو بالطباشير.
    ظللت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقاً في ذاكرتي عن الوطن، وما كنت أراه محبوساً في العيون، ثم انتقلت رسوماتي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني، حيث كنت أمضي في ضيافتها فترات دورية إجبارية، ثم إلى الأوراق، إلى أن جاء غسان كنفاني ذات يوم إلى المخيم وشاهد رسوماً لي، فأخذها ونشرها في مجلة {الحرية» وجاء أصدقائي بعد ذلك حاملين نسخاً من «الحرية» وفيها رسوماتي… شجعني هذا كثيراً.
    توجهت بعد ذلك إلى دراسة الفن أكاديمياً، فالتحقت بالأكاديمية اللبنانية مدة سنة. أذكر أنني لم أحاول خلالها إلا شهراً أو نحو ذلك، والباقي أمضيته كما العادة في ضيافة سجون الثكنات اللبنانية... كانوا يقبضون علينا بأية تهمة، وبهدف واحد دائماً: أن نخاف. كانوا يفرجون عنا حين يملون من وجودنا في السجن، أو حين يتوسط لديهم أحد الأهالي أو الأصدقاء.
    ولأن الأمور كانت على ما كانت عليه، فقد فكرت في أن أدرس الرسم في القاهرة، أو في روما، وكان هذا يستلزم بعض المال، فقررت أن أسافر إلى الكويت لأعمل، وأقتصد بعض المال، ثم أذهب لدراسة الرسم.
    وصلت إلى الكويت عام 1963، وعملت في مجلة «الطليعة» التي كانت تمثل التيار القومي العربي هناك آنذاك. كنت أقوم أحياناً بدور المحرر والمخرج الفني والرسام والمصمم في آن. وبدأت بنشر لوحة واحدة، ثم لوحتين... وهكذا. كانت الاستجابة طيبة، وشعرت أن جسراً يتكوّن بيني وبين الناس، وبدأت أرسم كالمحموم، حتى تمنيت أن أتحول إلى أحد آلهة الهند القدامى بعشرين يداً، وبكل يد ريشة ترسم وتحكي ما في القلب. عملت في صحف يومية، إضافة إلى عملي، ونشرت في أماكن متفرقة من العالم.
    كنت أعمل في الكويت حين صدرت جريدة «السفير» في بيروت، واتصل بي طلال سلمان وطلب مني أن أعود إلى لبنان كي أعمل فيها، وشعرت أن في الأمر خلاصاً فعدت، لكنني تألمت وتوجعت نفسي مما رأيت، فقد شعرت أن مخيم عين الحلوة كان أكثر ثورية قبل الثورة، كانت تتوافر له رؤية أوضح سياسياً، يعرف بالتحديد من عدوه ومن صديقه، كان هدفه محدداً فلسطين، كامل التراب الفلسطيني.
    عندما عدت كان المخيم غابة سلاح. صحيح، لكنه يفتقد إلى الوضوح السياسي، وجدته أصبح قبائل، وجدت الأنظمة غزته ودولارات النفط لوثت بعض شبابه. كان هذا المخيم رحماً يتشكل داخله مناضلون حقيقيون، لكن كانت المحاولات لوقف هذه العملية، وأنا أشير بإصبع الاتهام إلى أكثر من طرف. صحيح أن التفاوت واضح بين الخيانة والتقصير، لكنني لا أعفي أحداً من المسؤولية، الأنظمة العربية جنت علينا، والثورة الفلسطينية نفسها أيضاً.
    وهذا الوضع الذي أشير إليه يفسر كثيراً مما حدث أثناء غزو لبنان».
    غزو لبنان
    كتب العلي: «عندما بدأ الغزو كنت في صيدا. الفلسطينيون في المخيمات شعروا أنه ليس هناك من يقودهم، اجتاحتنا إسرائيل بقوتها العسكرية، انقضت علينا في محاولة لجعلنا ننسى شيئاً اسمه فلسطين، وكانت تعرف أن الوضع عموماً في صالحها، فلا الوضع العربي، ولا الوضع الدولي ولا وضع الثورة الفلسطينية يستطيع إلحاق الهزيمة بها، والأنظمة العربية حيدت نفسها بعد «كامب ديفيد».
    في الماضي كانت الثورة الفلسطينية تبشر بحرب الأغوار بالرجب الشعبية. جاء العدو باتجاهنا وقياداتنا العسكرية كانت تتوقع الغزو، وبتقديري وعلى رغم أنني لست رجلاً عسكرياً ولم أطلق رصاصة في حياتي، كان من الممكن أن تجتاح إسرائيل لبنان بخسائر أكبر بكثير، وهنا تشعر أن المؤامرة كانت واردة من الأنظمة ومن غيرها، أقصد مؤامرة تطهير الجنوب والقضاء على القوة العسكرية الفلسطينية وفرض الحلول «السلمية»، وتشعر أنه مقصود أن تقدم لنا هذه «الجزرة» كي نركض وراء الحل الأميركي.
    هذا هو الوضع العربي والوضع الفلسطيني جزء منه، بتقديري أنه كان يمكن أن نسدد ضربات موجعة إلى إسرائيل، لكن مخيماتنا ظلت بلا قيادة، وكيف لأهاليها أن يواجهوا الآلة العسكرية الإسرائيلية!
    الطيران والقصف اليومي من البر والبحر والجو، إضافة إلى أن الوضع كان عملياً مهترئاً، قيادة هرمت، ومخيمات من زنك وطين اجتاحها الإسرائيليون وجعلوها كملعب كرة قدم، وعلى ذلك وصل الإسرائيليون إلى بيروت وحدود صوفر، والمقاومة لم تنقطع من داخل المخيمات، وبشهادات عسكريين إسرائيليين وبشهادتي الشخصية اعتقلت أنا وأسرتي كما اعتقلت صيدا كلها وأمضينا ثلاثة إلى أربعة أيام على البحر .
    بعد أن تم الاحتلال، كان همي أن أتفقد المخيم لأعرف طبيعة المقاومة والمقاومين. أخذت معي ابني، وكان عمره 15 عاماً وذهبنا في النهار. كانت جثث الشهداء ما زالت في الشوارع والدبابات الإسرائيلية المحروقة على حالها على أبواب المخيم لم يسحبها الإسرائيليون بعد، تقصيت عن طبيعة المقاومين فعرفت أنهم 40 أو 50 شاباً لا أكثر. كان الإسرائيليون قد أحرقوا المخيم، والأطفال والنساء كانوا ما زالوا في الملاجئ، وكانت القذائف الإسرائيلية تنفذ إلى الأعماق، وسقط الضحايا من الأطفال في المخيم وفي صيدا، وتلقائياً عاهد هؤلاء الشباب أنفسهم أنهم لن يستسلموا وأنها الشهادة أو الموت، وفعلاً لم تستطع إسرائيل أن تأسر أي واحد منهم. في النهار، في ضوء الشمس كانت تنقض عليهم ، وفي الليل يخرجون هم بالأر بي جي فحسب .
    هذه صورة مما حدث في مخيم عين الحلوة وأنا شاهد، لكنني أعرف أن هناك صوراً أخرى في مخيمات صور والبرج الشمالي والبص والرشيدية.
    كان الناس في الملجأ وفي الشارع يدعون لله ويسبون الأنظمة والقيادات ويلعنون الواقع، ويشعرون أنه ليس لهم إلا الله ويتحملون مصيرهم.
    جماهير الجنوب بما فيها جماهيرنا الفلسطينية المعترة (الفقيرة) هي التي قاتلت وهي التي حملت السلاح ووفاء لهذا الشعب العظيم الذي أعطانا أكثر مما أعطانا أي طرف آخر،  وعانى وتهدم بيته، لا بد من أن يقول المرء هنا إن مقاومي الحركة الوطنية اللبنانية جسدوا روح المقاومة بما يقارب الأسطورة، وفي رأيي أن الإعلام العربي مقصر في عملية توضيح روح المقاومة الحقيقية».
    دور النساء
    أضاف العلي:«في عين الحلوة تبعثر الناس بين البساتين مع أطفالهم، أما إسرائيل فلمت كل الشباب (أنا مثلاً انفرزت أربع أو خمس مرات)، ثم اعتقلت معظمهم إلى أماكن أخرى.
    وهنا بدأ دور النساء، ولا أعتقد أن بإمكان أي فنان أن يجسد ذلك الوضع الذي عاش في ظله أهالي الجنوب. فوراً، بدأت النساء والجثث ما زالت في الشوارع تعود إلى بيوت الزنك الذي انصهر وتعمل مع أطفالها على إصلاح البيت، بالأحجار، وبالخشب، تظلل أولادها من الشمس، تعمل كالنمل تعيد بناء عششها التي تهدمت، وكان شاغل إسرائيل والسلطة اللبنانية أيضاً أن تختفي هذه المخيمات لأنها هي بؤرة الثورة الحقيقية، لكن النساء والأطفال في غيبة الرجال في معسكرات الاعتقال أو المختفين من الرصد الإسرائيلي، أعادو بناء مخيم عين الحلوة.
    شاهدت كيف كان الجنود الإسرائيليون يخشون من الأطفال، فالشبل ابن العاشرة أو الحادية عشرة كان لديه القدر الكافي من التدريب الذي يمكنه من حمل مدفع الأر بي جي، والمسألة ليست معقدة، دباباتهم أمامك وسلاحك في يدك، كان الإسرائيليون يخشون من دخول المخيم وإن دخلوه فلا يكون ذلك إلا في النهار.
    مر وقت ظن فيه الناس أني مت، إلى أن مرت إحدى الصديقات في صيدا واكتشفت أني موجود فأعطيتها رسومات لي كي يطمئنوا  في «السفير» ويتأكدوا أنني ما زلت حياً.
    كنت طوال الوقت أفكر: ماذا أفعل؟ وانتهى بي تفكيري إلى ضرورة الذهاب إلى بيروت، فودعت زوجتي وأولادي وذهبت. كان من الصعب أن أصل ليس بسبب الإسرائيليين، لكن أيضاً بسبب الكتائب الذين كانت معرفتهم بأني فلسطيني سبباً كافياً لقتلي.
    بدأت رحلتي ذات صباح باكر في سيارة، ثم نزلت بين أشجار الزيتون في منطقة اسمها الشويفات واتجهت إلى بيروت مشياً، ويومها التقيت بالكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس الذي كان طالعاً باتجاه دمشق وكان يعتقد أنني ميت، ثم وصلت «السفير».
    في بيروت التقيت بالكاتبين الفلسطينيين  حنا مقبل  (رحمه الله)  ورشاد أبو شاور، وكانا يصدران مجلة اسمها «المعركة» فصرت أرسم الأخيرة وفي «السفير»، وأتساءل ما الذي بإمكان المرء أن يفعله في مواجهة هذا القصف من الجهات الست (من الأربع جهات ومن الجو والسيارات المفخخة)، وكما يقول الفلسطينيون «هنا يكون الموت موجب كثير». كان المواطن منا يشعر بالتقصير والعجز ويرحب بالموت.
    كانت تجربة خاصة وحميمة وكان شغلنا رفع معنويات الناس بالكلمة، وبالمانشيت، بالرسم. كانت المسألة قدرية، القذائف تصل الأطفال في الملاجئ... وهكذا يشعر الإنسان أن بقاءه حياً محض صدفة، إذا جاءت القذيفة جاءت وإن لم تأتِ فذلك مجرد صدفة، لم تكن هناك الفرصة أمام أحد ليحزن أو ليبكي، وأنا بكيت مرة بعد خروج المقاومة ومجزرة صبرا وشاتيلا، ولم يكن بكائي قهراً بقدر ما كان إعلاناً أنني فلسطيني وأنني أبكي الشهداء  وأبكي الوضع. كنت أشعر بالوحشة، أصدقائي كانوا قد ذهبوا وكنت أشعر أن البيوت من حولي فارغة، قبل ذلك كنت تلتقي في تلك الشوارع نفسها بالمناضل المصري مع المناضل اللبناني مع المناضل الفلسطيني مع المناضل العراقي، والمرء يشعر بوجودهم ويتحامى فيهم ويستظل بهم، وعلى رغم ذلك صار لبيروت بعد خروج المقاومة تقدير خاص في نفسي.
    وكنت أسأل نفسي كيف أعبر؟ كنت أشعر بالعجز وأتصور أنه لا يوجد أي شاعر يقدر على تجسيد أي مشهد أو لحظة واحدة من لحظات بيروت، وعلى رغم ذلك كنت أرسم.
    عندما بدأ الرحيل، وبالمناسبة لم أستطع رؤية هذا المشهد الذي ربما يكون فيه مقتلي، لم أستطع الخروج لتوديع المقاومة ورؤية الناس وهي ترش الزهور والأرز على المقاتلين، أقول عندما بدأ الرحيل ومع أول سفينة غادرت الميناء، رسمت فدائياً يترك السفينة الراحلة ويسبح عائداً إلى الشاطئ، وهو يقول: «اشتقت لبيروت»}.
يعمل...
X