إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الروائي ( محمد أرزوقة ) أديب أردني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الروائي ( محمد أرزوقة ) أديب أردني

    محمد أرزوقة

    ولد محمد أرزوقة في عمان عام 1942، حصل على بكالوريوس في التأمين والمحاسبة من جامعة دمشق عام 1965، عمل نائباً لمدير عام شركة الاستثمار الصناعية، ويعمل مساعداً لمدير عام شركة التأمين الأردنية. وهو عضو رابطة الكتاب الأردنيين، واتحاد الكتاب العرب.

    مؤلفاته:
    1. الثلج الأسود (رواية) بيروت: المؤؤسة العربية للدراسات والنشر، 1988.
    2. دقيقتان فوق تل أبيب (رأي سياسي) عمان: دار الجليل، 1990.
    3. والشتاء يلد الربيع (رواية) أمانة عمان الكبرى، عمان، 1998.


    فصل من رواية:

    والشتاء يلد الربيع
    محمد أزوقة

    في الأفق الغربي، حيث بدأت الشمس تميل، ظهرت سحابات داكنة ثقيلة كثيفة شكلت فوق خط الجبال المشرفة على الأغوار جداراً من الهيبة والوقار ووعد الخير، وأخذت الريح تدفعها إلى الشرق بثقة وثبات، ثم لامست أديم الأرض بطرف ثوبها، مثيرة الغبار حول بيت الشعر المتوسط سفح التلة. قامت صاحبته وأسدلت الرواقين الشمالي والغربي، ثم أدارات وجهها نحو الغرب جاعلة كفها أمام عينيها، فأدركت بالسليقة أن اللية ممطرة، وأخذت تجمع حوائجها المنتشرة حول البيت وفوقه، آملة ألا يتأخر زوجها في العودة بالقطيع حتى تتمكن من حلب النعاج قبل غياب الشمس وهطول المطر.
    ركضت الخراف إذ أجفلتها النسمة المفاجئة التي حركت الأعشاب الجافة وبقية حصيد سوق القمح، بينما زادت الأمهات سعيها لقضم أكبر كمية من الرعي، لأن هبوب الريح وميلان الشمس لا بد وأن تعقبها رحلة العودة.
    نظر الراعي إلى مصدر النسمة، سحب نفساً عميقاً بعث في روحه الأمل وفي جسده رعشة خفيفة منعشة، رفع كفيه إلى السماء داعياً: يا الله علينا يا رب.
    هبط حسون ذكر بالغ ضجّ في جنبيه الريش الأحمر والأصفر والأسود في تناقض محبب مع لونه الرمادي الأساس، على زهرة خرشوف يابسة، نبش بمنقاره البذرات المتحصنة تحت كريات مضغوطة من الوبر الناعم، أكب البذرات وترك الكريات للنسمة تذروها إلى الأرض حيث ظهر سرب من اللقالق، يحوِّم ويتحرك فوق وسادة الريح متأنياً في كبرياء، يعبر المدى إلى حيث الدفء، وتصرخ محذرة من شاهين أفرد جناحيه لبقية تيار دافئ، عيناه على الأرض تنتظران نأمة من فأر حقلي، أو ابتعاد فرخ دجاجة عن أمه.
    هبت الريح فاهتزت أشجار الفاكهة في البستان المتدرج مع انسياب تعرجات الجبل. تساقطت أوراق حمراء وصفراء وبنية تبعثرت في كل الأرجاء، اصطخب الحرش القريب المتآلفة أشجاره مع صخور الصوان الحادة، بأغاريد ونداءات البلابل والحجل والزرعي والقبَّر، تتغنى بالموسم القادم، تودع نهارها، وتستعد لاستقبال الليلة الباردة بنفش ريشها والبحث عن زاوية دافئة بين أغصان البلوط المزدانة بالأكواز الجديدة المتباهية بثمارها المائلة إلى الحمرة.
    رفعت الفرس الشقراء البدينة رأسها من معلفها ونظرت باتجاه الغرب، وسَّعت منخريها وتشممت محتوى الريح بقوة، رفعت ذيلها وقوَّست عنقها فانسدل الشعر الطويل وعبثت به النسمة، التفتت نحو فلوها الأدهم يطارد بقوائمه الرفيعة الطويلة ديكاً يعترض بصوت عالٍ على ذلك المزاح الثقيل، همهمت حين شعرت أنه ابتعد عنها أكثر مما يجب، توقف الأدهم ذو الوبر البادئ في الاستطالة تحسباً للشتاء القادم، صهل ثم استدار وأسلم قوائمه للريح وهو يرفس أعداءه الموهومين بساقيه الخلفيتين.
    غادر فلاح داره إلى كرم الزيتون "مطرة واحدة جيدة تضمن الموسم" قطع حبة من أول شجرة، ضغطها بين أبهامه وسبابته وأخذ يحصي قطرات الزيت الأخضر العذري، وإذ زاد العدد عن ثلاث عشرة قطرة، ارتاحت قسماته لأول مؤشر خصب، ألقى بالحبة خلفه وانحنى فوق سكة الحراثة ليحملها إلى الحداد، فقد اشتاقت كفه إلى العود يشق الأرض فيخرج قلبها الأحمر الثري، يغمسه بالماء والهواء.
    هبت الريح على المدينة الفتية النامية بنبض حيوي لم تعد تكتفي معه بالسكنى في الوادي إلى جوار السيل، بل حملها طموحها إلى سفوح الجبال السبعة المحيطة بالسوق والمدرَّج، فاهتزت الأشجار في الحدائق واصطفقت الشبابيك محركة بما تحمله من بشائر، النشاط المتفائل في القلوب، قامت ربات البيوت إلى شبابيك الحمامات فأغلقتها، أشعلن النار تحت أوعية الماء وجهزن الصابون والليف، فسرعان ما يعود الأطفال من المدارس واللعب في الأزقة، وتنشب معركة حمام الخميس، فعبسن مشفقات، ثم ابتسمن لأنفسهم، لحمامهن التالي.
    نزلت الأنسام إلى السوق، فهرع تاجر الأقمشة إلى واجهة متجره والأرفف، أزاح عنها الصيفي والخفيف الزاهي وذهب به إلى المخزن، وأخرج الشتوي الثقيل الداكن ليعرضه وهو يمنِّي النفس برواج المخزون.
    توقف باعة المشروبات والعصائر المبردة بكسر الثلج عن تجهيز الليمون والتمر الهندي وعرق السوس، وتوجهوا إلى تجار الجملة لشراء السكر والحليب المجفف والبهارات، واستعدوا بمساعدة نسائهم لعمل السحلب والهيطلية والقينر والكراوية.
    تغير شكل الأرصفة أمام المحال، اختفت قمصان النوم الخفيفة الزاهية ألوانها من أيدي أصحاب البسطات المنادين بأعلى أصواتهم، لتحل محلها سترات صوفية مزينة بصور الطير والأزهار. جلبت الريح معها بواكير الخضار والفاكهة الشتوية إلى السوق المركزية، أطل البرتقال واليوسفي الحامض مع القرنبيط والملفوف بمزيج من الخجل لقلة الكمية وارتفاع سعرها، والفرح لكونها القادم الجديد ومعرفتها بشوق الناس إليها، وبقائها في هذا الظرف زينة للدكاكين ومفاجأة سارة للندرة القادرة على دفع ثمنها.
    انتشرت في الساحات المكشوفة التي آوت أكوام البطيخ صيفاً، أحمال من حط السنديان والبطم والبلوط، نشط الحطابون في تكسيرها إلى قطع تناسب المدافئ والمواقد بفؤوس حديثة التسنين تلتمع أنصالها تحت شعاع الشمس الخجولة، يبصق الحطاب في باطن كفيه رذاذاً، يفركها ويرفع الفأس فوق رأسه ثم يهوي بها مع زفرة شديدة مع صدره يسمع لها المارة: حِه، ويتكرر الصوت مع تطاير قطع الخشب حتى يتعب الرجل فيجلس على أقرب جذع، يخرج علبة سجائره المعدنية، يلف سيجارة بين أصابعه ولا ينسى أن ينادي على بضاعته مع سحب الأنفاس ونفثها، خاصة إذ يلمح عربة الكاز يجرها بغل متعب ينتهره فتى يحمل جرساً نحاسياً يقرعه برتابة تؤكد تناقص أيام الحطب.
    نشطت المكتبات في بيع القرطاسية للتلاميذ العائدين إلى المدارس، ولأمهات وآباء الصغار منهم، الأطفال فرحون بأدواتهم الجديدة، رائحة الممحاة، نظافة القراطيس، أستقامة حد المسطرة، ألوان أقلامهم، والآباء يحصون الدريهمات المتناقصة في جيوبهم وهم يعجبون لما ستؤول إليه الدنيا بعد أن أصبح ثمن الكراس الهزيل ذو الصفحات الاثنين والثلاثين قرشاً كاملاً! ويتوجسون من أضطرارهم للسهر حتى العاشرة وهم يجلدون كتباً وكراريس يعلمون جيداً أن أبناءهم سيمزقونها خلال أيام قليلة، لكنها أوامر المدراء، ولا مفر منها لتجنيب فلذات أكبادهم ضربات العصي الأربع والطرد لذلك اليوم.
    هيت الريح فأغلق الحلاقون أبواب محالٍ يصرون على تسميتها بالصالونات ولو شغلوا بها جيزاً صغيراً يتسع لزبون واحد نحن درجات مدخل عمارة تجارية، تثرثر مقصاتهم وألسنتهم وتنزلق أمواسهم فوق المسنات الجلدية تجاوباً مع عدد الزبائن الفرحين بأمسية الخميس، ويصطحب بعضهم ولداً أو أكثر ويلح على الحلاق في التخفيف رغم اعتراض الولد المعني.
    أسرع صبيان المقاهي في تلبية الطلبات المتواصلة على أكواب الشاي الداكن المصحوبة بأطباق صغيرة تحتوي وريقات نعناع وشرائح ليمون، مع أكواب أصغر ملأى بسكر يزيد عن حاجة أعتى عشاق الطعم الحلو، وفناجين القهوة المترددة بين السكر الزائد والاسطمبولية المضبوطة والسكر القليل، وإذ لا يتمكن الخبثاء من تلبية هذه التشكيلة المعقدة، يلجأون إلى تحضير الفناجين فنجاناً يضعه أمام طالبه، يتذوق الزبون فنجانه، فيظن بعد فرار الصبي أنه أخطأ فناوله طلب شخص آخر، أو أن المعلم لا يفهم في عمل القهوة، أو، وهو المرجح، أنه لا يعرف طعم فمه لانشغاله بلعبة نرد أو ورق تراهن على نتيجتها مع صديق لعشاء وتذكرتي سينما، أو مبلغ نقدي عند الأكثر حماساً.
    هبت الريح فازدهر موسم الكنافة، وأمعن أصحاب المطاعم في إبراز الصواني الكبيرة عند مقدمة محالهم، بينما يصب أجراؤهم القطر عليها باستعراضية تفتح الشهية، وتفوح الرائحة العطرة، فلا يبقى في الشارع ألأنف إلاّ ويجبر حامله على التلفت، يميل من انهارات مقاومته ليطلب أوقية يتناولها بداخل المطعم، فتأتيه حارة يتصاعد بخارها في طبق من الصيني الأبيض مع ملعقة وكوب ماء يدلق النادل نصفه في عجلته، فيخرج من جيب مريلته خرقة وسخة يمسح بها الماء ومخلفات الزبون السابق عن الطاولة الصغيرة ويتلكأ حتى يقبض الدرهم، يلقي به بين أقرانه في الجيب إلى جانب الخرقة، يتوقف زبون آخر يتأمل المساحة الحمراء الشهية تتناقص أمام ضربات مجرود الأسطى المعدني، يقطعها إلى مربعات ويجعلها في علبة كرتونية فرش أرضيتها بورق أبيض خفيف لزبون ثالث يوفي شرطاً خسره أو يحتفل بمناسبة، أو مثقل بوليمة، يتأمل، يحاول أن يشبع نهمه إلى الكنافة الطازجة بمجرد النظر والشم، ينتبه الأسطى إلى وجوده فيسأله عما يأمر به، يتحسس الرجل القطعة النقدية الوحيدة في جيبه ويكاد يتراجع ليمضي، لكن هفَّة أخيرة من البخار المشبع بألف وعد تقتل تردده فيبتلع ريقه للمرة المئة ويتنحنح: بقرشين! وقد قرر أن يصعد إلى بيته في جبل الحسين سيراً على قدميه، يتناول الأسطى وريقة بيضاء يطويها في كفه مرتين ثم يضرب الصينية بمجروده ضربتين سريعتين تخرجان له شريحة سغيرة يسقطها فوق الوريقة ويناولها للرجل مستعجلاً انصرافه: الله معك.
    هبت الريح، فتكوَّر صراف العملات خلف صندوقه الصغير المحتوي على نقود سورية ولبنانية وعراقية ومصرية وتركية واسترلينية ملصقة عينات من بعضها على زجاج الصندوق إلى جانب جنيه فلسطيني، ينفخ في كفيه وينتظر مسافراً أو طالب علم أو عائداً من زيارة يود التخلص مما بقي معه.
    انطلق موسم الأفلام السينمائية الجديدة بعد ركود فرضته حرارة الصيف الماضي، تجددت محتويات المسطحات الإعلانية عند مقاهي السنترال والنجمة والجامعة وعلى مداخل الدور أنفسها وفي اللافتات المعلقة على كثير من أعمدة الكهرباء والهاتف الموزعة في أحياء المدينة، تعلن عن تحفة الموسم بديباجات مقبولة رغم تكرارها، فالحكم بالنتيجة للمشاهد، ويكفي أن يحضر العرض الأول تلميذ واحد، ليعلم بقيمة الشريط الحقيقية بقية أفراد فصله وبعضاً من أسرهم.
    اشتد التنافس وتقاربت الأسعار حيث تزاحمت الأقدام في شارع المهاجرين واستبشر تجار الجملة بدفعات الخميسية من الموزعين وصغار الباعة، خرج باعة الأدوات المنزلية إلى الأرصفة يدقونها بأكواب شاي غير قابلة للكسر، ارتفعت وتيرة النداءات على الألبسة المستعملة والآت تقشير البطاطا إلى جانب البيض البلدي الطازج.
    هبت الريح، فانتشرت رائحة الفلافل الطازجة من عشرات المقالي، اقترب الناس، كل يخرج قرشه، قسم يرغب في شطيرة، وآخر يأخذ الحبات الساخنة في قرطاس ليتقاسم متعة أكلها مع أهل بيته.
    انزوى رواد الحانات القليلة المعتمة من المدمنين والفاشلين والمغامرين والمتمردين ومن يخشون الشرب في بيوتهم، لاذوا بأضيق الزوايا يجترون ألآمهم، يندبون حظوظهم، يروون مغامراتهم أيام زمان حين كانت الدنيا تختلف، ويبالغ بعضهم فيرسم بمساعدة الكحول عالماً يملأه بالبطولات، ويهربون كلهم من صراعات حياتهم ومن مجتمع محافظ يحكم بالعزل والاستهجان، ويعاقبهم أطفاله بالتشهير والإيذاء والسخرية لدى ظهور أول بادرة سكر على أحدهم.
    هبت الريح، فغدّ المصلون الخطى إلى الجامع الحسيني الكبير، توضأوا بنشاط حفزته برودة الماء، صلوا تحية المسجد وبعض النوافل ثم توزعوا في حلقات صغيرة ينصتون فيها إلى الفقيه يثقفهم في أمور دينهم ريثما يحين موعد صلاة المغرب، ويستمعون من قادتهم ومفكريهم إلى شروح لآخر المستجدات التطورات المحلية والعربية والدولية، وتحليلات تنظيماتهم لمعانيها ومراميها.
    اتسعت الحلقات في ساحة المسجد الخارجية، قلب المدينة النابض ومركز ثقلها الديني والتجاري والسياسي، تحولت إلى تجمعات تضم كامل الطيف السياسي: احتدت النقاشات الحذرة وكثر التلفت، وبدأ الناس يوصون بعضهم بخفض الصوت أو الصمت إزاء قادم جديد غير معروف الهوية، أو مخبر لم يحسن التنكر فجاء بلباس مدني، لكنه نسي أن يستبدل الشماغ العسكري الأحمر المهذب والقميص الخاكي. تبادلت الأيدي المتلهفة بسرعة وحذر آخر المنشورات عن مشروع جونستون وآخر المؤتمرات الاستعمارية المشبعة بالخوف من الشيوعية، الساعية إلى تحييد المنطقة المهمة نفطياً وجغرافياً وصهيونياً، التهمت الأعين المتوترة الآراء المدروسة والمواقف الفكرية المحذرة من التورط في الأحلاف الغربية المشبوهة، تورمت الحلقات وصخب الناس، ألقوا بالحذر إلى الريح، تعالى التوتر، اضطربت الأنفاس والأنفس، توحد النبض وخرج الصوت الواحد: نرفض!
    تحركت الجموع المؤتلفة من رافضي الأرهاب الديني والاستعمار الأجنبي وضحايا الحقد الشعوبي وورثة الثورة العربية، المختلفين في ألفٍ من التفاصيل، الملتقين على حب هذه الشجرة الوارفة المعطاء، التائقين إلى محو العار وتوحيد الأمة وتحقيق العدالة، وقفوا صفاً واحداً بالصدر العاري والذراع المفتوح، بالإيمان المطلق بحتمية انتصار الشعوب، والكثير الكثير من الشجاعة، اتسقت حركتهم حيناً، وتنافرت حيناً آخر، لتصبح مظاهرة، سيلاً هادراً من الحناجر والقلوب المنددة بالمتعاونين والمتساهلين، الداعية إلى الأمل الكبير الذي فطرت عليه الأمة وعشش في صدور أبنائها، فنذرها للوحدة، ولا حياة حقيقية بغير ذلك النذر.
    وهبت الريح.......

    *فصل من رواية "والشتاء يلد الربيع"
يعمل...
X