Announcement

Collapse
No announcement yet.

في انتظار الزائر الكريم ............محمد محضار

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • في انتظار الزائر الكريم ............محمد محضار

    قصة قصيرة في انتظار الزائر الكريم
    عندما نزلت من سيارة الأجرة شعرت براحة كبيرة، فقد ظللت، طيلة الرحلة الممتدة من مدينة وادي زم حتى دوار "لعشاشكة"، أرزح تحت ثقل شيخ ستيني تكوم فوق رجلَيّ، وهو يدخن بنهم سجائر "كازا" الرخيصة، غيرَ آبه باحتجاجاتي. كان سائق السيارة يكتفي بلازمة تعودتُ عليها من جميع السائقين: "اسمحْ لينا ألفقيه، نحن مضطرون إلى حمل هذا العدد من الركاب لأننا خلال رحلة العودة لا نجد مسافرين"..
    قد يكون في كلامه بعض من الصحة، لكن محترفي مهنة الطباشير من أمثالي هم من يدفعون الثمن، لأنّ رحلة العذاب يومية.
    حرّكت رجلَيّ حتى يسري فيهما الدم من جديد ويذهب ذلك التنمل القوي الذي كنت أحس به. مسحت بعيني الفضاء. كانت بناية المدرسة تلوح من بعيد. بلونها الكالح وسورها الحجري المطلي بالطين، تبدو مثل أثر تاريخي ضارب في القِدَم. نطرت إلى ساعتي اليدوية. مازال أمامي ربع ساعة قبل بداية أولى حصص الدراسة. سرتُ بهدوء نحو بناية المدرسة. كان الطقس باردا، رغم أشعة الشمس المتسللة من بين السحاب المتمدد في السماء..
    عندما اجتزت بوابة المدرسة، اقترب مني "بّا ميلود" وقال بصوت أجش:
    -سي عبد السلام يقول لك.. هناك اجتماع مستعجل الآن في الإدارة..
    سألته، بصوت مستنكر:
    -والتلاميذ.. ماذا نفعل بهم؟!
    رد ضاحكا:
    -كالعادة، كّلفْ أحد التلاميذ بحراستهم وسأراقب أنا جميع الأقسام حتى ينتهي الاجتماع.
    هرولتُ نحو قاعة الدرس. طلبت من التلاميذ إخراج كتب القراءة ونقل أحد النصوص في دفتر الوسخ، ثم أسرعت نحو مكتب المدير. كان باقي الزّملاء قد سبقوني إلى احتلال أماكنهم. ألقيت التحية على الجميع ثم جلست. كان سي عبد السلام، مدير المدرسة، يجلس خلف مكتبه الصغير وهو يمسك سيجارة، فقد كان مدخنا نهما. قال، بلكنته الشمالية:
    -مرحبا بك، سّي بشار.
    ردَدْتُ، وأنا أبتسم:
    -اجتماع عاجل في بداية الحصص.. لا بد أن الأمر خطير، سيدي المدير..
    ضحك الجميع وتساءلت زميلتنا طامو:
    -هل يتعلق الأمر بمذكرة وزارية مستعجلة أم بحادث طارئ؟
    ضحك المدير، وجال بعينيه الضيقتين بيننا وهو ينفث دخان سيجارته، ثم قال:
    -لا هذا ولا ذاك.. تعلمون أنكم خلال هذه السنة في فترة تدريب، وطبعا تحتاجون إلى نقطة المفتش ونقطة عبد ربه حتى يجري ترسيمكم.
    قاطعه صديقي جمال:
    -ماذا يعني كل هذا، السيد المدير؟ كن واضحا، من فضلك..
    مطط المدير شفتيه وقال، بصوت متصنع:
    -ومتى كنت غامضا؟!... على كل حال، سيأتي المفتش لزيارة المؤسسة غدا، وعلينا أن نكون مُستعدّين لاستقباله.. بكل بساطة، علينا أن نساهم جميعا بمبلغ مالي لإعداد وجبة غداء محترمة، وتغطية مصاريف تنقله إلى المدرسة المركزية.. أظنّ أن مبلغ عشرين درهما مناسب وغير مكلف.. ما رأيكم؟
    نظرتُ إليه باستغراب وقلت:
    -السيد المفتش يحصل على تعويضات لأداء هذه المهمة.. ما سنقوم به يعَدّ رشوة!
    قاطعني المدير، بصوت مستنكر:
    -هذا نُسمّيه كرم الضيافة يا سيد بشار.. المغاربة جُبلوا على الكرم.
    علقت طامو، وهي تبتسم:
    -علينا إكرام السيد المفتش حتى يُكْرمَنا بنقطة الامتياز..
    وقال سليمان:
    -المسألة في غاية البساطة، هناك معادلة رياضية يكمن حلها في ذلك المبلغ الذي سنجمعه..
    تدخّلَ المدير من جديد، وهو يحملق في:
    -ها أنت ترى، يا سيد بشار، أن زملاءك متفقون مع فكرة الإدارة.
    صمت لحظة، ثم تابع، بصوت تَعمّد أن يطبعه الوقار:
    -أقترح مبلغ عشرين درهما.. نحن ستة أشخاص، المبلغ المحصل سيكون مائة وعشرين درهما.
    قاطعته مبتسما، وأنا أضع مبلغ المساهمة:
    -تَفضّل، أنا لا تهمني قيمة المبلغ، بل الفكرة..
    ضحك المدير وقال:
    -المبلغ أولا، ثمّ تفلسفْ كما تريد يا سيد بشار..
    وضع الزملاء مساهماتهم على مكتب المدير. خرجت عيناه من محجريهما وهما تحتضنان المبلغ قبل أن يمد يديه ليَعُدّه، بفرح طفل، ثم يتابع الكلام:
    -شكرا لكم أبنائي، سنكون جميعا في مستوى الحدث.
    واستطرد، بعد صمت قصير، وهو يحدق بي:
    -اسمع يا سيد بشار، ستتكلف بشراء لوازم إعداد وجبة الغداء.
    نظرت إليه مستغربا:
    -أنا! هل تمزح يا سيدي؟
    -أنا لا أمزح، سنُعدّ لائحة بمتطلبات الوجبة، وستتكفل أنت بالذهاب إلى مدينة وادي زم لشرائها، وهذا قرار إداري.
    ثم قهقه ضاحكا، وتابع:
    -طامو وحادة ستتكفلان بإعداد الوجبة، بمساعدة زوجة الحارس وابنته.
    ثم أردف، بعد لحظة صمت قصيرة:
    -سيد بشار ستكتفي بالعمل خلال الصباح، ثم تغادر لشراء اللوازم، على أن تبكر في الحضور يوم غد..
    أحسستُ بأنني أدخل دائرة التدجين رغم أنفي. بدا لي أن المشاركة في اللعبة أمر لا مناص منه، لتحقيق الغايات دون اهتمام بالوسائل، فقبلت المهمة دون قيد أوشرط وهرولت إلى قسمي. كان التلاميذ يمارسون شغبهم غير آبهين بميلود، حارس المدرسة التاريخي، الذي كان يتنقل بين الأقسام وهو يصرخ: "وا سكتوا ألعفاريتْ".. توقف التلاميذ عن إثارة الشغب عندما رأوني أدخل القسم. اتجهت نحو السبورة وكتبت تاريخ اليوم، ثم قلت بصوت جهوري:
    -انتبهوا إلى السبورة، سنتعرف اليوم على حرف جديد.. حرف الميم.
    ثم بدأت بكتابة جمل تتضمن الظاهرة اللغوية المراد تدريسها وتموقعات الحرف، سواء في بداية الكلمة أو وسطها أو آخرها. استعملت الطباشير الملون لتوضيح ذلك. قرأت الجمل بالترتيب، ثم انطلقت أشرح الدرس، كالعادة. وعندما أحسست بأنني أثرت انتباه الصغار، أتحت لهم فرصة التحاور والمشاركة وطلبت منهم جُمَلا تتضمن الظاهرة اللغوية. وكانت فرحتي كبيرة وأنا أرى الصغار مُتحمّسين، سعداءَ وهم يرفعون أيديهم ليشاركوا بجمل تتضمّن الحرف المقترح. أشرتُ إلى عُمَـر. قام إلى السبورة وكتب:
    "سيزور المفتش المدرسة ليفتش المعلم".
    نظرت إليه مبتسما، ثم أشرت إلى فتيحة، فأسرعتْ نحو السبورة وكتبت: "استقبل المدير المفتش مبتسما".
    حدّقت بها وأنا أضحك، ثم قلت: يبدو أن "بّا ميلود" أخبركم بزيارة المفتش لنا يوم غد، رجل ثرثار لا يحفظ سرا..
    محمد محضار يناير
Working...
X